التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بصفة ثانية فقال : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

والمراد بالحق المعلوم : ما أوجبوه على أنفسهم من دفع جزء من أموالهم للمحتاجين ، على سبيل التقرب إلى الله ـ تعالى ـ وشكره على نعمه ، ويدخل في هذا الحق المعلوم دخولا أوليا ما فرضه ـ سبحانه ـ عليهم من زكاة أموالهم.

قالوا : ولا يمنع ذلك من أن تكون السورة مكية ، فقد يكون أصل مشروعية الزكاة بمكة ، ثم أتى تفصيل أحكامها بالمدينة ، عن طريق السنة النبوية المطهرة.

والسائل : هو الذي يسأل غيره الصدقة ، والمحروم : هو الذي لا يسأل غيره تعففا ، وإن كان في حاجة إلى العون والمساعدة.

أى : ومن الذين استثناهم ـ سبحانه ـ من صفة الهلع : أولئك المؤمنون الصادقون الذين جعلوا في أموالهم حقا معينا ، يخرجونه عن إخلاص وطيب خاطر ، لمن يستحقونه من السائلين والمحرومين .. على سبيل الشكر لخالقهم على ما أنعم عليهم من نعم.

ووصف ـ سبحانه ـ ما يعطونه من أموالهم بأنه (حَقٌ) للاشارة إلى أنهم ـ لصفاء أنفسهم ـ قد جعلوا السائل والمحروم ، كأنه شريك لهم في أموالهم ، وكأن ما يعطونه له إنما هو بمثابة الحق الثابت عندهم له.

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بصفات كريمة أخرى فقال : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) والتصديق بيوم الدين معناه : الإيمان الجازم باليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء.

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أى : أن من صفاتهم : أنهم مع قوة إيمانهم ، وكثرة أعمالهم الصالحة ، لا يجزمون بنجاتهم من عذاب الله ـ تعالى ـ وإنما دائما أحوالهم مبنية على الخوف والرجاء ، إذ الإشفاق توقع حصول المكروه وأخذ الحذر منه.

وجملة (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) تعليلية ، ومقررة لمضمون ما قبلها ، أى : إنهم مشفقون من عذاب ربهم .. لأن العاقل لا يأمن عذابه ـ عزوجل ـ مهما أتى من طاعات ، وقدم من أعمال صالحة.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ سبحانه ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (١).

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٦٠.

١٠١

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ).

أى : أن من صفاتهم ـ أيضا ـ أنهم أعفاء ، ممسكون لشهواتهم ، لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم اللائي أحلهن ـ سبحانه ـ لهم أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسراري.

وجملة (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) تعليل للاستثناء. أى : هم حافظون لفروجهم ، فلا يستعملون شهواتهم إلا مع أزواجهم. أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير مؤاخذين على ذلك ، لأن معاشرة الأزواج وما ملكت الأيمان مما أحله الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أى : فمن طلب خلاف ذلك الذي أحله ـ سبحانه ـ. (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أى : فأولئك هم المعتدون المتجاوزون حدود خالقهم ، الوالغون في الحرام الذي نهى الله ـ تعالى ـ عنه.

يقال : عدا فلان الشيء يعدوه عدوا ، إذا جاوزه وتركه. أى : أنهم تجاوزوا الحلال وتركوه خلف ظهورهم ، واتجهوا ناحية الحرام فولغوا فيه.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين إذا مسهم الشر لا يجزعون ، وإذا مسهم الخير لا يمنعون .. أنهم لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها ، ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعاهدون غيرهم عليها ، وإنما هم يراعون ذلك ويحفظونه حفظا تاما.

فقوله (راعُونَ) جمع راع ، وهو الذي يرعى الحقوق والأمانات والعهود ويحفظها ويحرسها ، كما يحرس الراعي غنمه وإبله حراسة تامة.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أى : والذين هم من صفاتهم أنهم يؤدون الشهادة على وجهها الحق ، فلا يشهدون بالزور أو الباطل ، ولا يكتمون الشهادة إذا طلب منهم أن يؤدوها ، عملا بقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

فالشهادات : جمع شهادة. والمراد بالقيام بها : أداؤها على أتم وجه وأكمله وأعدله ، إذ القيام بها يشمل الاهتمام بشأنها ، وحفظها إلى أن يؤديها صاحبها على الوجه الذي يحبه ـ سبحانه ـ.

وكما افتتح ـ سبحانه ـ هذه الصفات الكريمة بمدح الذين هم على صلاتهم دائمون ، فقد

١٠٢

ختمها بمدح الذين يحافظون عليها فقال : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أى : يؤدونها كاملة غير منقوصة. لا في خشوعها ، ولا في القراءة فيها ، ولا في شيء من أركانها وسننها.

وهذا الافتتاح والختام ، يدل على شرفها وعلو قدرها ، واهتمام الشارع بشأنها.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قال : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) ثم (عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)؟. قلت : معنى دوامهم عليها ، أن يواظبوا على أدائها ، لا يخلون بها ، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل.

ومحافظتهم عليها : أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ، ومواقيتها ، وسننها ، وآدابها .. فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة ، والمحافظة تعود إلى أحوالها (١).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين حماهم ـ سبحانه ـ من صفة الهلع .. وصفهم بثماني صفات كريمة ، منها : المداومة على الصلاة ، والمحافظة على الإنفاق في وجوه الخير ، والتصديق بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب ، والحفظ لفروجهم ، وأداء الأمانات والشهادات.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهم من عطاء جزيل فقال : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أى : أولئك المتصفون بذلك في جنات عظيمة ، يستقبلون فيها بالتعظيم والحفاوة .. حيث تقول لهم الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

وبعد هذه الصورة المشرقة لهؤلاء المكرمين .. أخذت السورة في تصوير موقف المشركين من دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم إلى الحق ، وفي تسليته عما لحقه منهم من أذى ، وفي بيان أحوالهم السيئة عند ما يعرضون للحساب .. فقال ـ تعالى ـ.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦١٢.

١٠٣

وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) للتعجيب من حال هؤلاء الذين كفروا ، ومن تصرفاتهم التي تدل على منتهى الغفلة والجهل. و «ما» مبتدأ. و «الذين كفروا» خبره.

وقوله (مُهْطِعِينَ) من الإهطاع ، وهو السير بسرعة ، مع مد العنق ، واتجاه البصر نحو شيء معين.

و (عِزِينَ) جمع عزة ـ كفئة ـ وهي الجماعة. وأصلها عزوة ـ بكسر العين ـ من العزو ، لأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ، فلامها واو ، وقيل : لامها هاء ، والأصل عزهة.

قال القرطبي : والعزين : جماعات متفرقة. ومنه الحديث الذي خرجه مسلم وغيره ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه يوما فرآهم حلقا فقال : مالي أراكم عزين : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال : يتمون الصفوف الأول ، ويتراصون في الصف (١).

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات ، أن المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستمعون إليه ، ثم يكذبونه ويستهزئون به وبالمؤمنين ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلندخلنها قبلهم ، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم (٢).

والمعنى : ما بال هؤلاء الكافرين مسرعين نحوك ـ أيها الرسول الكريم ـ وناظرين إليك بعيون لا تكاد تفارقك ، وملتفين من حولك عن يمينك وعن شمالك ، جماعات متعددة ، ومظهرين التهكم والاستهزاء بك وبأصحابك؟

ما بالهم يفعلون ذلك مع علمهم في قرارة أنفسهم بأنك أنت الصادق الأمين»

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٢٩٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٦٤.

١٠٤

وقدم ـ سبحانه ـ الظرف (قِبَلَكَ) الذي بمعنى جهتك ، على قوله (مُهْطِعِينَ) للاهتمام ، حيث إن مقصدهم الأساسى من الإسراع هو الاتجاه نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للاستهزاء به وبأصحابه.

والمراد بقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) : جميع الجهات ، إلا أنه عبر بهاتين الجهتين ، لأنهما الجهتان اللتان يغلب الجلوس فيهما حول الشخص.

وقوله : (عِزِينَ) تصوير بديع لالتفافهم من حوله جماعات متفرقة في مشاربها ، وفي مآربها ، وفي طباعها.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) للنفي والإنكار.

أى : أيطمع كل واحد من هؤلاء الكافرين أن يدخل الجنة التي هي محل نعيمنا وكرامتنا بدون إيمان صادق ، وبدون عمل نافع ..؟

وقوله ـ سبحانه ـ (كَلَّا) ردع لهم وزجر عن هذا الطمع ، أى : كلا ليس الأمر كما يزعمون من أنهم سيدخلون الجنة قبل المؤمنين أو معهم أو بعدهم .. وإنما هم سيكون مأواهم جهنم وبئس المصير.

وقال ـ سبحانه ـ : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) ولم يقل : أيطمعون أن يدخلوا الجنة ، للإشعار بأن كل واحد من هؤلاء الكافرين كان طامعا في دخولها ، لاستيلاء الغرور والجهالة على قلبه.

وجملة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) تأكيد لهذا الردع والزجر ، وتهوين من شأنهم ، وإبطال لغرورهم ، وتنكيس لخيلائهم بأسلوب بديع مهذب .. لأنه مما لا شك فيه أنهم يعلمون أنهم قد خلقوا من ماء مهين ، ومن كان كذلك فلا يليق به ـ متى كان عاقلا ـ أن يغتر أو يتطاول.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : ويجوز أن يراد بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أى : من النطفة المذرة ، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه. ولذلك أبهم وأخفى : إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ، ويقولون : لندخلن الجنة قبلهم.

وقيل : معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة ، إلا بالإيمان والعمل الصالح ، فكيف يطمع في دخولها من ليس له إيمان وعمل (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦١٤.

١٠٥

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، وعلى زيادة التهوين من شأن هؤلاء الكافرين ، والتحقير من أمرهم فقال : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

وجمع ـ سبحانه ـ هنا المشارق والمغارب ، باعتبار أن لها في كل يوم من أيام السنة مشرقا معينا تشرق منه ، ومغربا معينا تغرب فيه.

وقال في سورة الرحمن (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أى : مشرق ومغرب الشتاء والصيف.

وقال في سورة المزمل : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) والمراد بهما هنا : جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس ، وعلى كل مغرب من مغاربها.

وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجيء هذه الألفاظ تارة مفردة ، وتارة بصيغة المثنى ، وتارة بصيغة الجمع.

وجملة (إِنَّا لَقادِرُونَ) : جواب القسم. أى : أقسم بالله ـ تعالى ـ الذي هو رب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها .. إنا لقادرون قدرة تامة (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أى : على أن نخلق خلقا آخر خيرا منهم ونهلك هؤلاء المجرمين إهلاكا تاما .. أو على أن نبدل ذواتهم ، فنخلقهم خلقا جديدا يكون خيرا من خلقهم الذي هم عليه .. فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.

وقوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) معطوف على جواب القسم ومؤكد له. أى : إنا لقادرون على ذلك ، وما نحن بمغلوبين أو عاجزين عن أن نأتى بقوم آخرين خير منهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (.. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٢) ، والمقصود بهذه الآيات الكريمة تهديد المشركين وبيان أن قدرته ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء.

والفاء في قوله : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ..) للتفريع على ما تقدم. والخوض يطلق على السير في الماء ، والمراد به هنا : الكلام الكثير الذي لا نفع فيه.

واللعب : اشتغال الإنسان بشيء لا فائدة من ورائه. والمراد به هنا : استهزاؤهم بالحق الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سورة فاطر الآيات ١٥ ـ ١٧.

(٢) سورة محمد الآية ٣٨.

١٠٦

أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ فاترك هؤلاء الكافرين ، ليخوضوا في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم ، ولا تلتفت إليهم.

ودعهم في هزلهم ولهوهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة الذي لا شك في إتيانه ووقوعه.

وقوله (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) بدل من (يَوْمَهُمُ). والأجداث جمع جدث ـ بفتح الجيم والدال ـ وهو القبر. أى : اتركهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم المحتوم. وهو اليوم الذي يخرجون فيه من قبورهم مسرعين إلى الداعي.

(كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) والنصب ـ بضمتين ـ حجارة كانوا يعظمونها. وقيل : هي الأصنام ، وسميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ويقيمونها للعبادة.

(يُوفِضُونَ) أى : يسرعون. يقال : وفض فلان يفض وفضا ـ كوعد ـ إذا أسرع في سيره. أى : يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي ، مستبقين إليه ، كما كانوا في الدنيا يسرعون نحو أصنامهم وآلهتهم لكي يستلموها ، ويلتمسوا منها الشفاعة.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أى : يخرجون من قبورهم ، حالة كونهم ذليلة خاضعة أبصارهم ، لا يرفعونها لما هم فيه من الخزي والهوان.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أى : تغشاهم ذلة شديدة ، وهوان عظيم. يقال : رهقه الأمر يرهقه رهقا ، إذا غشيه بقهر وغلبة لا يمكن له دفعها.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أى : ذلك الذي ذكرناه من الأهوال ، هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل ، والذي كانوا ينكرون وقوعه ، وها هو ذا في حكم الواقع ، لأن كل ما أخبر الله ـ تعالى ـ عنه ، فهو متحقق الوقوع. كما قال ـ سبحانه ـ في أول السورة : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

وهكذا افتتحت السورة بإثبات أن يوم القيامة حق ، واختتمت كذلك بإثبات أن يوم القيامة حق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٠٧
١٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة نوح

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «نوح» ـ عليه‌السلام ـ من السور المكية الخالصة ، وسميت بهذا الاسم لاشتمالها على دعوته ـ عليه‌السلام ـ وعلى مجادلته لقومه ، وعلى موقفهم منه ، وعلى دعائه عليهم.

وكان نزولها بعد سورة «النحل» وقبل سورة «إبراهيم».

وعدد آياتها ثمان وعشرون آية في المصحف الكوفي. وتسع وعشرون في المصحف البصري والشامي ، وثلاثون آية في المصحف المكي والمدني.

٢ ـ وهذه السورة الكريمة من أولها إلى آخرها ، تحكى لنا ما قاله نوح لقومه ، وما ردوا به عليه ، كما تحكى تضرعه إلى ربه ـ عزوجل ـ وما سلكه مع قومه في دعوته لهم إلى الحق ، تارة عن طريق الترغيب وتارة عن طريق الترهيب ، وتارة عن طريق دعوتهم إلى التأمل والتفكر في نعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، وتارة عن طريق تذكيرهم بخلقهم.

كما تحكى أنه ـ عليه‌السلام ـ بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ـ دعا الله ـ تعالى ـ أن يستأصل شأفتهم. فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً).

١٠٩

التفسير

قد افتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤)

وقصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، قد وردت في سور متعددة منها : سورة الأعراف ، ويونس ، وهود ، والشعراء ، والعنكبوت.

وينتهى نسب نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى شيث بن آدم ، وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا.

وكان قوم نوح يعبدون الأصنام ، فأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.

وقد افتتحت السورة هنا بالأسلوب المؤكد بإنّ ، للاهتمام بالخبر ، وللاتعاظ بما اشتملت عليه القصة من هدايات وإرشادات.

وأن في قوله (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) تفسيرية ، لأنها وقعت بعد أرسلنا ، والإرسال فيه معنى القول دون حروفه ، فالجملة لا محل لها من الإعراب.

ويصح أن تكون مصدرية ، أى : بأن أنذر قومك ... والإنذار ، هو الإخبار الذي معه تخويف.

وقوم الرجل : هم أهله وخاصته الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب. فيسميهم قومه على سبيل المجاز للمجاورة.

١١٠

أى : إنا قد اقتضت حكمتنا أن نرسل نوحا ـ عليه‌السلام ـ إلى قومه ، وقلنا له : يا نوح عليك أن تنذرهم وتخوفهم من عذابنا ، وأن تدعوهم إلى إخلاص العبادة لنا ، من قبل أن ينزل بهم عذاب مؤلم ، لا طاقة لهم بدفعه ، لأن هذا العذاب من الله ـ تعالى ـ الذي لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه.

وقال ـ سبحانه ـ (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) ولم يقل : أن أنذر الناس ، لإثارة حماسته في دعوته ، لأن قوم الرجل يحرص الإنسان على منفعتهم .. أكثر من حرصه على منفعة غيرهم.

والآية الكريمة صريحة في أن ما أصاب قوم نوح من عذاب أليم ، كان بسبب إصرارهم على كفرهم ، وعدم استماعهم إلى إنذاره لهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله نوح لقومه فقال : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ).

اى : قال نوح لقومه ـ على سبيل التلطف في النصح ، والتقرب إلى قلوبهم ـ يا قوم ويا أهلى وعشيرتي : إنى لكم منذر واضح الإنذار ، ولا أسألكم على هذا الإنذار الخالص أجرا ، وإنما ألتمس أجرى من الله.

وإنى آمركم بثلاثة أشياء : أن تخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة ، وأن تتقوه في كل أقوالكم وأفعالكم ، وأن تطيعوني في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.

وافتتح كلامه معهم بالنداء (يا قَوْمِ) ، أملا في لفت أنظارهم إليه ، واستجابتهم له ، فإن النداء من شأنه التنبيه للمنادى.

ووصف إنذاره لهم بأنه (مُبِينٌ) ، ليشعرهم بأنه لا لبس في دعوته لهم إلى الحق ، ولا خفاء في كونهم يعرفونه ، ويعرفون حرصه على منفعتهم ...

وقال : (إِنِّي لَكُمْ) للإشارة الى أن فائدة استجابتهم له ، تعود عليهم لا عليه ، فهو مرسل من أجل سعادتهم وخيرهم.

وأمرهم بطاعته ، بعد أمرهم بعبادة الله وتقواه ، لأن طاعتهم له هي طاعة لله ـ تعالى ـ كما قال ـ تعالى ـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

ثم بين لهم ما يترتب على إخلاص عبادتهم لله ، وخشيتهم منه ـ سبحانه ـ ، وطاعتهم لنبيهم فقال : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

وقوله : (يَغْفِرْ) مجزوم في جواب الأوامر الثلاثة ، و (مِنْ) للتبعيض أى : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، وهي تلك التي اقترفوها قبل إيمانهم وطاعتهم لنبيهم ، أو الذنوب التي

١١١

تتعلق بحقوق الله ـ تعالى ـ دون حقوق العباد.

ويرى بعضهم أن «من» هنا زائدة لتوكيد هذه المغفرة. أى : يغفر لكم جميع ذنوبكم التي فرطت منكم ، متى آمنتم واتقيتم ربكم ، وأطعتم نبيكم.

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أى : ويؤخر آجالكم إلى وقت معين عنده ـ سبحانه ـ ، ويبارك لكم فيها ، بأن يجعلها عامرة بالعمل الصالح ، وبالحياة الآمنة الطيبة.

فأنت ترى أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد وعدهم بالخير الأخروى وهو مغفرة الذنوب يوم القيامة ، وبالخير الدنيوي وهو البركة في أعمارهم. وطول البقاء في هناء وسلام.

قال ابن كثير : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أى : ويمد في أعماركم ، ويدرأ عنكم العذاب ، الذي إذا لم تنزجروا عما أنهاكم عنه : أوقعه ـ سبحانه ـ بكم.

وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم. يزاد بها في العمر حقيقة ، كما ورد به الحديث : «صلة الرحم تزيد في العمر» (١).

وقوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بمنزلة التعليل لما قبله. أى : يغفر لكم ـ سبحانه ـ من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل معين عنده ـ تعالى ـ إن الوقت الذي حدده الله ـ عزوجل ـ لانتهاء أعماركم ، متى حضر ، لا يؤخر عن موعده ، (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى : لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم لنصائحى ، وامتثلتم أمرى ، وبذلك تنجون من العقاب الدنيوي والأخروى.

قال الآلوسى : قوله (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). أى : لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به. لكنكم لستم من أهله في شيء ، لذا لم تسارعوا ، فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام.

ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره. أى : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك ، أى : عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له. والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم .. (٢).

ثم قصت علينا الآيات الكريمة بعد ذلك ، ما قاله نوح لربه. على سبيل الشكوى والضراعة ، وما وجهه إلى قومه من نصائح فيها ما فيها من الترغيب والترهيب ، ومن الإرشاد الحكيم ، والتوجيه السديد .. قال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٥٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٧١.

١١٢

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) بيان للطرق والمسالك التي سلكها نوح مع قومه ، وهو يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ بحرص شديد ومواظبة تامة .. وموقف قومه من دعوته لهم.

والمقصود بهذا الخبر لازم معناه ، وهو الشكاية إلى ربه ، والتمهيد لطلب النصر منه ـ تعالى ـ عليهم ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ لم يقصر في تبليغ رسالته.

أى : قال نوح متضرعا إلى ربه : يا رب إنك تعلم أننى لم أقصر في دعوة قومي إلى عبادتك ، تارة بالليل وتارة بالنهار ، من غير فتور ولا توان.

١١٣

(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) لهم إلى عبادتك وطاعتك (إِلَّا فِراراً) أى : إلا تباعدا من الإيمان وإعراضا عنه. والفرار : الزّوغان والهرب. يقال : فر فلان يفر فرارا ، فهو فرور ، إذا هرب من طالبه ، وزاغ عن عينه.

والتعبير بقوله : (دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) ، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم ، في كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع.

كما أن التعبير بقوله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته ، أى : فلم يزدهم دعائي شيئا من الهدى ، وإنما زادهم بعدا عنى ، وفرارا منى.

وإسناد الزيادة إلى الدعاء ، من باب الإسناد إلى السبب ، كما في قولهم : سرتنى رؤيتك.

وقوله (فِراراً) مفعول ثان لقوله (فَلَمْ يَزِدْهُمْ) والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر ، أى : فلم يزدهم دعائي شيئا من أحوالهم التي كانوا عليها إلا الفرار.

ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا. أى : فلم يزدهم دعائي قربا من الحق ، لكن زادهم فرارا منه.

ثم أضاف إلى فرارهم منه ، حالة أخرى. تدل على إعراضهم عنه ، وعلى كراهيتهم له ، فقال : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً).

وقوله : (كُلَّما) معمول لجملة : (جَعَلُوا) التي هي خبر إن ، واللام في قوله (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) للتعليل.

والمراد بأصابعهم : جزء منها. واستغشاء الثياب معناه : جعلها غشاء ، أى : غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه ، ومتعلق الفعل «دعوتهم» محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه.

والمعنى : وإنى ـ يا مولاي ـ كلما دعوتهم الى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به ، لكي تغفر لهم ذنوبهم .. ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قولي ، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم. وأبصارهم حتى لا يرونى ، وإلا أن (أَصَرُّوا) إصرارا تاما على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) عظيما عن قبول الحق.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد صورت عناد قوم نوح ، وجحودهم للحق ، تصويرا بلغ الغاية في استحبابهم العمى على الهدى.

١١٤

فهي ـ أولا ـ جاءت بصيغة «كلما» الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح ـ عليه‌السلام ـ أى : في كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض.

وهي ـ ثانيا ـ عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله ـ تعالى ـ : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ). وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة في إرادة سد المسامع ، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها في آذانهم لفعلوا. حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم.

فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل ، لعلاقة البعضية ، حيث أطلق ـ سبحانه ـ الكل وأراد البعض ، مبالغة في كراهيتهم لسماع كلمة الحق.

وهي ـ ثالثا ـ عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله ـ تعالى ـ : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أى : بالغوا في التّغطّى بها ، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا.

وهذا كناية عن العداوة الشديدة ، ومنه قول القائل : لبس لي فلان ثياب العداوة.

وهي ـ رابعا ـ قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك ، بل أضافوا إليه الإصرار على الكفر ـ وهو التشديد فيه ، والامتناع من الإقلاع عنه مأخوذ من الصرّة بمعنى الشدة ـ والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق.

فقد أفادت هذه الآية ، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا ، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم ، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا ، حيث أصروا على كفرهم ، واستكبروا على اتباع الحق.

ومع كل هذا الإعراض والعناد .. فقد حكت لنا الآيات بعد ذلك ، أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد واصل دعوته لهم بشتى الأساليب. فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً).

وقوله : (جِهاراً) صفة لمصدر محذوف ، أى : دعوتهم دعاء جهارا. أى : مجاهرا لهم بدعوتي ، بحيث صارت دعوتي لهم أمامهم جميعا.

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) تارة (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) تارة أخرى.

أى : أنه ـ عليه‌السلام ـ توخى ما يظنه يؤدى إلى نجاح دعوته ، وراعى أحوالهم في ذلك ، فهو تارة يدعوهم جهرا ، وتارة يدعوهم سرا ، وتارة يجمع بين الأمرين.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ، ثم دعاهم جهارا ، ثم

١١٥

دعاهم في السر والعلن ، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف؟

قلت : قد فعل ـ عليه‌السلام ـ كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان.

ومعنى «ثم» : الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما .. (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من إرشادات نوح لقومه فقال : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ).

أى : فقلت لهم ـ على سبيل النصح والإرشاد إلى ما ينفعهم ويغريهم بالطاعة ـ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بأن تتوبوا إليه ، وتقلعوا عن كفركم وفسوقكم (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (كانَ غَفَّاراً).

أى : كثير الغفران لمن تاب إليه وأناب.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) والمراد بالسماء هنا : المطر لأنه ينزل منها ، وقد جاء في الحديث الشريف أن من أسماء المطر السماء ، فقد روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنه قال «صلى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح بالحديبية ، على إثر سماء كانت من الليل ..» أى : على إثر أمطار نازلة بالليل.

ومنه قول بعض الشعرا :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

والمدرار : المطر الغزير المتتابع ، يقال : درت السماء بالمطر ، إذا نزل منها بكثرة وتتابع ، والدر ، والدرور معناه : السيلان .. فقوله (مِدْراراً) صيغة مبالغة منهما.

أى : استغفروا ربكم وتوبوا إليه ، فإنكم إذا فعلتم ذلك أرسل الله ـ تعالى ـ عليكم بفضله ورحمته ، أمطارا غزيرة متتابعة ، لتنتفعوا بها في مختلف شئون حياتكم.

وفضلا عن ذلك : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أى : بساتين عظيمة ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية تحت أشجار هذه الجنات ، لتزداد جمالا ونفعا.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا ، حبس الله عنهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦١٦.

١١٦

المطر ، وأعقم أرحام نسائهم .. فرجعوا إلى نوح ، فقال لهم : استغفروا ربكم من الشرك ، حتى يفتح عليكم أبواب نعمه.

واعلم أن الاشتغال بالطاعة ، سبب لانفتاح أبواب الخيرات ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن الكفر سبب لخراب العالم. والإيمان سبب لعمارة العالم. وثانيها : الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى ، ومنها قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ..) وثالثها : أن عمر خرج يستسقى فما زاد على الاستغفار. فقيل له : ما رأيتك استسقيت؟ فقال : لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء ، والمجاديح : جمع مجدح ـ بكسر فسكون وهو نجم من النجوم المعروفة عند العرب.

وشكا رجل الى الحسن البصري الفاقة ، وشكا إليه آخر الجدب ، وشكا إليه ثالث قلة النسل .. فأمر الجميع بالاستغفار .. فقيل له : أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم جميعا بالاستغفار؟ فتلا الحسن هذه الآيات الكريمة (١).

وما قاله الإمام الرازي ـ رحمه‌الله ـ ، يؤيده القرآن الكريم في كثير من آياته ، ويؤيده واقع الحياة التي نحياها ونشاهد أحداثها.

أما آيات القرآن الكريم فمنها قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ على لسان هود ـ عليه‌السلام ـ : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ..) (٣).

وقال ـ عزوجل ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (٤).

وأما واقع الحياة. فإننا نشاهد بأعيننا الأمم التي تطبق شريعة الله ـ تعالى ـ وتعمل بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آداب وأحكام وهدايات.

نرى هذه الأمم سعيدة في حياتها ، آمنة في أوطانها ، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، وإذا أصابها شيء من النقص في الأنفس أو الثمرات .. فذلك من باب الامتحان الذي يمتحن الله ـ تعالى ـ به عباده ، والذي لا يتعارض مع كون العاقبة الطيبة إنما هي لهذه الأمم الصادقة في إيمانها.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٢١٥.

(٢) سورة الجن آية ١٦.

(٣) سورة هود آية ٥٢.

(٤) سورة النحل آية ٩٧.

١١٧

وما يجرى على الأمم والشعوب ، يجرى أيضا على الأفراد والجماعات ، فتلك سنة الله التي لا تتغير.

أما الأمم الفاسقة عن أمر ربها ، فإنها مهما أوتيت من ثراء وبسطة في الرزق ... فإن حياتها دائما تكون متلبسة بالقلق النفسي ، والشقاء القلبي ، والاكتئاب الذي يؤدى إلى فساد الحال واضطراب البال.

وقوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك حكاية عن نوح ـ عليه‌السلام ـ : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) : بيان لما سلكه نوح في دعوته لقومه ، من جمعه بين الترغيب والترهيب.

فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم ، تؤدى بهم إلى البسطة في الرزق .. أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله ـ تعالى ـ منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه.

وقوله : (ما لَكُمْ) مبتدأ وخبر ، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم.

ولفظ «ترجون» يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون. والوقار معناه : التعظيم والإجلال.

والأطوار : جمع طور ، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان.

أى : ما الذي حدث لكم ـ أيها القوم ـ حتى صرتم لا تعتقدون لله ـ تعالى ـ عظمة أو إجلالا ، والحال أنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلقكم وأوجدكم في أطوار متعددة ، نطفة ، فعلقة ، فمضغة.

كما قال ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

وكما قال ـ تعالى ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٢).

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف.

أى : ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآيات ١٢ ـ ١٤.

(٢) سورة الروم الآية ٥٤.

١١٨

وقيل : المعنى : مالكم لا تعلمون لله عظمة .. أولا ترون لله عظمة .. أو لا تبالون أن لله عظمة .. والوقار : العظمة ، والتوقير : التعظيم .. (١).

وبعد هذا الترغيب والترهيب والتوبيخ .. أخذ في لفت أنظارهم إلى عجائب صنع الله في خلقه ، فقال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً).

والاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَوْا ..) للتقرير ، والرؤية : بصرية وعلمية ، لأنهم يشاهدون مخلوقات الله ـ تعالى ـ ويعلمون أنه ـ سبحانه ـ هو الخالق. و (طِباقاً) أى : متطابقة كل طبقة أعلى من التي تحتها.

أى : لقد علمتم ورأيتم أن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق (سَبْعَ سَماواتٍ) متطابقة ، بعضها فوق بعض (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أى : وجعل ـ سبحانه ـ بقدرته القمر في السماء الدنيا نورا للأرض ومن فيها.

وإنما قال (فِيهِنَ) مع أنه في السماء الدنيا ، لأنها محاطة بسائر السموات فما فيها يكون كأنه في الكل. أو لأن كل واحدة منها شفافة ، فيرى الكل كأنه سماء واحدة. فساغ أن يقال فيهن.

وقوله : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أى : كالسراج في إضاءتها وتوهجها وإزالة ظلمة الليل ، إذ السراج هو المصباح الزاهر نوره ، الذي يضيء ما حوله.

قال الآلوسى : قوله (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أى : منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ، وجعله فيهن مع أنه في إحداهن ـ وهي السماء الدنيا ـ ، كما يقال : زيد في بغداد وهو في بقعة منها. والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية ، وكونها طباقا شفافة.

(وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) يزيل الظلمة .. وتنوينه للتعظيم ، وفي الكلام تشبيه بليغ ، ولكون السراج أعرف وأقرب ، جعل مشبها به ، ولاعتبار التعدي إلى الغير في مفهومه بخلاف النور ، كان أبلغ منه. (٢).

وقال بعض العلماء : وفي جعل القمر نورا ، إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته. فإن القمر مظلم. وإنما يستضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه ، بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام ، هو أثر ظهوره هلالا .. ثم بدرا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٣٠٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٧٥.

١١٩

وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا ، لأنها ملتهبة ، وأنوارها ذاتية فيها ، صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر ، مثل أنوار السراج تملأ البيت .. (١).

ثم انتقل نوح ـ عليه‌السلام ـ من تنبيههم إلى ما في خلق السموات والشمس والقمر من دلالة على وحدانية الله وقدرته .. إلى لفت أنظارهم إلى التأمل في خلق أنفسهم ، وفي مبدئهم وإعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم ، فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها ، وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً).

والمراد بأنبتكم : أنشأكم وأوجدكم ، فاستعير الإنبات للإنشاء للمشابهة بين إنبات النبات ، وإنشاء الإنسان ، من حيث إن كليهما تكوين وإيجاد للشيء بقدرته ـ تعالى ـ.

والمراد بأنبتكم : أنبت أصلكم وهو أبوكم آدم ، فأنتم فروع عنه. و (نَباتاً) مصدر لأنبت على حذف الزوائد ، فهو مفعول مطلق لأنبتكم ، جيء به للتوكيد ، ومصدره القياسي «إنباتا» ، واختير «نباتا» لأنه أخف.

قال الجمل : قوله : نباتا ، يجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد. ويسمى اسم مصدر ، ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا. أى : فنبتّم نباتا ـ فيكون منصوبا بالمطاوع المقدر. (٢).

أى : والله ـ تعالى ـ هو الذي أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاء وجعلكم فروعا عنه ، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم لتكون قبورا لكم ، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء.

وعبر ـ سبحانه ـ عن الإنشاء بالإنبات ، لأن هذا التعبير يشعر بأن الإنسان مخلوق محدث ، وأنه مثل النبات يحصد ثم يعود إلى الحياة مرة أخرى.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «استعير الإنبات للإنشاء كما يقال : زرعك الله للخير. وكانت هذه الاستعارة أدل دليل على الحدوث لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات» (٣).

ثم ختم نوح ـ عليه‌السلام ـ إرشاداته لقومه ، بلفت أنظارهم إلى نعمة الأرض التي يعيشون عليها ، فقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً).

__________________

(١) راجع تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ج ٢٩ ص ٢٠٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤١٢.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦١٨.

١٢٠