التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

أى : كلا لا وزر ولا ملجأ لك. أيها الإنسان ـ من المثول أمام ربك في هذا اليوم للحساب والجزاء.

ومهما طال عمرك ، وطال رقادك في قبرك .. فإلى ربك وحده نهايتك ومستقرك ومصيرك ، في هذا اليوم الذي لا محيص لك عنه.

وقوله ـ سبحانه ـ (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بيان لما يحدث له يوم القيامة ، أى : يخبر الإنسان في هذا اليوم بما قدم من أعمال حسنة. وبما أخر منها فلم يعملها ، مع أنه كان في إمكانه أن يعملها ، والمقصود بالآية المجازاة على الأعمال لا مجرد الإخبار.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أى : يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١).

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا المعنى بقوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ).

والبصيرة هنا بمعنى الحجة المشاهدة عليه ، وهي خبر عن المبتدأ وهو (الْإِنْسانُ) والجار والمجرور متعلق بلفظ بصيرة والهاء فيها للمبالغة ، مثل هاء علامة ونسابة.

أى : بل الإنسان حجة بينة على نفسه ، وشاهدة بما كان منه من الأعمال السيئة ، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه. لم ينفعه ذلك.

قال صاحب الكشاف : (بَصِيرَةٌ) أى : حجة بينة ، وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أو : عين بصيرة والمعنى أنه ينبأ بأعماله ، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزئ عن الإنباء ، لأنه شاهد عليها بما عملت ، لأن جوارحه تنطق بذلك ، كما قال ـ تعالى ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أى : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها.

وعن الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وقال : المعاذير : الستور ، واحدها معذار ، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب ، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب ..

فإن قلت : أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت : المعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها. ونحوه : المناكير في المنكر (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٠٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٦١.

٢٠١

فالمقصود بهاتين الآيتين : بيان أن الإنسان لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك ، لأن جوارحه شاهدة عليه ، ولأن أعذاره لن تكون مقبولة ، لأنها جاءت في غير وقتها ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

ثم أرشد الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يجب عليه عند تبليغ القرآن إليه عن طريق الوحى. فقال ـ سبحانه ـ : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).

والضمير في (بِهِ) يعود إلى القرآن الكريم المفهوم من المقام. والمراد بقوله : (لا تُحَرِّكْ) نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التعجل في القراءة.

والمقصود بقوله : قرآنه ، قراءته عليك ، وتثبيته على لسانك وفي قلبك بحيث تقرؤه متى شئت فهو مصدر مضاف لمفعوله.

قال الآلوسى : قوله : (وَقُرْآنَهُ) أى : إثبات قراءته في لسانك ، فالقرآن هنا ، وكذا فيما بعده ، مصدر كالرجحان بمعنى القراءة .. مضاف إلى المفعول وقيل : قرآنه ، أى : تأليفه على لسانك .. (١).

أى : لا تتعجل ـ أيها الرسول الكريم ـ بقراءة القرآن الكريم عند ما تسمعه من أمين وحينا جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، بل تريث وتمهل حتى ينتهى من قراءته ثم اقرأ من بعده ، فإننا قد تكفلنا بجمعه في صدرك وبقراءته عليك عن طريق وحينا ، وما دام الأمر كذلك ، فمتى قرأ عليك جبريل القرآن فاتبع قراءته ولا تسبقه بها ، ثم إن علينا بعد ذلك بيان ما خفى عليك منه ، وتوضيح ما أشكل عليك من معانيه.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه ؛ هذا تعليم من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كيفية تلقيه الوحى من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته.

روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيه ـ يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه شيء ، أو من شدة رغبته في حفظه ـ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات (٢).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد ضمن لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجمع له القرآن في صدره وأن يجريه على لسانه ، بدون أى تحريف أو تبديل ، وأن يوضح له ما خفى عليه منه.

قالوا : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ما نزل عليه الوحى بعد ذلك بالقرآن ، أطرق وأنصت ، وشبيه بهذه الآيات قوله ـ سبحانه ـ : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ، وَلا تَعْجَلْ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٤٢.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٠٤.

٢٠٢

بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه ، وعن حالة الإنسان في وقت الاحتضار ، وعن مظاهر قدرته ـ تعالى ـ وعن حكمته في البعث والحساب والجزاء ، فقال ـ سبحانه ـ :

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)

وقوله ـ سبحانه ـ (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) بيان لما جبل عليه كثير من الناس ، من إيثارهم منافع الدنيا الزائلة ، على منافع الآخرة الباقية ، وزجر ونهى لهم عن سلوك هذا المسلك ، الذي يدل على قصر النظر ، وضعف التفكير.

أى : كلا ـ أيها الناس ـ ليس الرشد في أن تتركوا العمل الصالح الذي ينفعكم يوم القيامة ، وتعكفوا على زينة الحياة الدنيا العاجلة .. بل الرشد كل الرشد في عكس ذلك ، وهو أن تأخذوا من دنياكم وعاجلتكم ما ينفعكم في آخرتكم ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا).

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (١).

__________________

(١) سورة الإنسان الآية ٢٧.

٢٠٣

ثم يبين ـ سبحانه ـ حال السعداء والأشقياء يوم القيامة فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

وقوله : (ناضِرَةٌ) اسم فاعل من النّضرة ـ بفتح النون المشددة وسكون الضاد ـ وهي الجمال والحسن. تقول : وجه نضير ، إذا كان حسنا جميلا.

وقوله : (باسِرَةٌ) من البسور وهو شدة الكلوح والعبوس ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) يقال : بسر فلان يبسر بسورا ، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء الذي يراه.

والفاقرة : الداهية العظيمة التي لشدتها كأنها تقصم فقار الظهر. يقال : فلان فقرته الفاقرة ، أى : نزلت به مصيبة شديدة أقعدته عن الحركة. وأصل الفقر : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم أو ما يقرب منه.

والمراد بقوله : (يَوْمَئِذٍ) : يوم القيامة الذي تكرر ذكره في السورة أكثر من مرة.

والجملة المقدرة المضاف إليها «إذ» والمعوض عنها بالتنوين تقديرها يوم إذ برق البصر.

والمعنى : في يوم القيامة ، الذي يبرق فيه البصر ، ويخسف القمر .. تصير وجوه حسنة مشرقة ، ألا وهي وجوه المؤمنين الصادقين .. وهذه الوجوه تنظر إلى ربها في هذا اليوم نظرة سرور وحبور ، بحيث تراه ـ سبحانه ـ على ما يليق بذاته ، وكما يريد أن تكون رؤيته ـ عزوجل ـ بلا كيفية ، ولا جهة ، ولا ثبوت مسافة.

وهناك وجوه أخرى تصير في هذا اليوم كالحة شديدة العبوس ، وهي وجوه الكافرين والفاسقين عن أمر ربهم ، وهذه الوجوه (تَظُنُ) أى : تعتقد أو تتوقع ، أن يفعل بها فعلا يهلكها ، ويقصم ظهورها لشدته وقسوته.

وجاء لفظ «وجوه» في الموضعين منكرا ، للتنويع والتقسيم ، كما في قوله ـ تعالى ـ (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وكما في قول الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

وقد أخذ العلماء من قوله ـ تعالى ـ : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أن الله ـ تعالى ـ يتكرم على عباده المؤمنين في هذا اليوم ، فيربهم ذاته بالكيفية التي يريدها ـ سبحانه ـ.

ومنهم من فسر (ناظِرَةٌ) بمعنى منتظرة ، أى : منتظرة ومتوقعة ما يحكم الله ـ تعالى ـ به عليها.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله ـ عزوجل ـ

٢٠٤

في الدار الآخرة ، في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها. لحديث أبى سعيد وأبى هريرة ـ وهما في الصحيحين ـ أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب» قالوا : لا ، قال : «فإنكم ترون ربكم كذلك».

وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر».

ثم قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : وهذا ـ بحمد الله ـ مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة. كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ، وهداة الأنام.

ومن تأول (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فقال : تنتظر الثواب من ربها .. فقد أبعد هذا القائل النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله ـ تعالى ـ (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

قال الشافعى : ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه ـ عزوجل ـ .. (١).

ثم زجر ـ سبحانه ـ الذين يكذبون بيوم الدين ، ويؤثرون العاجلة على الآجلة ، زجرهم بلون آخر من ألوان الردع والزجر ، حيث ذكرهم بأحوالهم الأليمة عند ما يودعون هذه الدنيا فقال : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ).

والضمير في (بَلَغَتِ) يعود إلى الروح المعلومة من المقام. كما في قوله ـ تعالى ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ..) ومنه قول الشاعر :

أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

والتراقي : جمع ترقوة ، وهي العظام المحيطة بأعالى الصدر عن يمينه ، وعن شماله ، وهي موضع الحشرجة ، وجواب الشرط محذوف.

أى : حتى إذا بلغت روح الإنسان التراقي ، وأوشكت أن تفارق صاحبها .. وجد كل إنسان ثمار عمله الذي عمله في دنياه ، وانكشفت له حقيقة عاقبته.

والمقصود من الآية الكريمة وما بعدها : الزجر عن إيثار العاجلة على الآجلة. فكأنه ـ تعالى ـ يقول : احذروا ـ أيها الناس ـ ذلك قبل أن يفاجئكم الموت ، وقبل أن تبلغ أرواحكم نهايتها ، وتنقطع عند ذلك آمالكم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) بيان لما يقوله أحباب الإنسان الذي بلغت

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٠٥.

٢٠٥

روحه التراقي ، على سبيل التحسر والتوجع واستبعاد شفائه. و (مَنْ) اسم استفهام مبتدأ. و (راقٍ) خبره ، وهو اسم فاعل من الرّقية ، وهي كلام يقوله القائل ، أو فعل يفعله الفاعل من أجل شفاء المريض. والمراد به هنا : مطلق الطبيب الذي يرجى على يديه الشفاء لهذا المحتضر.

أى : اذكروا ـ أيها الناس ـ وقت بلوغ الروح نهايتها ، ووقت أن وقف من يهمهم أمر المريض مستسلمين لقضاء الله ـ تعالى ـ وملتمسين من كل من بيده شفاء مريضهم ، أن يتقدم لإنقاذه مما هو فيه من كرب ، ولكنهم لا يجدون أحدا يحقق لهم آمالهم.

قال الآلوسى : قوله (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أى : وقال من حضر صاحبها ، من يرقيه وينجيه مما هو فيه ، من الرقية ، وهو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ، ولعله أريد به مطلق الطبيب ، أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل .. والاستفهام عند البعض حقيقى. وقيل : هو استفهام استبعاد وإنكار. أى : قد بلغ هذا المريض مبلغا لا أحد يستطيع أن يرقيه.

وقيل هذا الكلام من كلام ملائكة الموت. أى : أيكم يرقى بروحه ، أملائكة الرحمة ، أم ملائكة العذاب ، من الرقى وهو العروج. والاستفهام عليه حقيقى.

ووقف حفص رواية عن عاصم على (مَنْ) وابتدأ بقوله : (راقٍ) وكأنه قصد أن لا يتوهم أنهما كلمة واحدة ، فسكت سكتة لطيفة ، لتشعر أنهما كلمتان (١).

والضمير المستتر في قوله ـ تعالى ـ : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) يعود إلى هذا الإنسان الذي أشرف على الموت ، والذي بلغت روحه نهاية حياتها ، والظن هنا بمعنى اليقين ، أو بمعنى العلم المقارب لليقين.

أى : وأيقن هذا المحتضر ، أو توقع أن نهايته قد اقتربت ، وأنه عما قليل سيودع أهله وأحبابه ... وسيفارقهم فراقا لا لقاء بعده ، إلا يوم يقوم الناس للحساب.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أى : والتوت والتصقت إحدى ساقيه بالأخرى. عند سكرات الموت وشدته ، فصارتا متلاصقتين لا تكاد إحداهما تتزحزح عن الأخرى ، فكأنهما ملتفتان.

ويصح أن يكون المعنى : والتفت الساق بالساق عند وضع هذا الذي أدركه الموت في كفنه ، لأن هذا الكفن قد ضم جميع جسده ، والتصقت كل ساق بالأخرى.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٤٦.

٢٠٦

ومنهم من يرى أن هذه الآية الكريمة : كناية عن هول الموت وشدته كما في قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام ، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق.

قال صاحب الكشاف : «والتفت» ساقه بساقه والتوت عليها عند الموت ، وعن قتادة :

ماتت رجلاه فلا تحملانه وقد كان عليهما جوالا. وقيل : التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة ، على أن الساق مثل في الشدة. وعن سعيد ابن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أى : إلى ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ مساق الناس ومرجعهم ـ لا إلى غيره ـ يوم القيامة .. لكي يحاسبوا على أعمالهم.

فالمساق مصدر ميمى من ساق الشيء إذا سيره أمامه إلى حيث يريد.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من الأسباب التي أدت إلى سوء عاقبة المكذبين للحق ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى).

والفاء للتفريع على ما تقدم ، من قوله ـ تعالى ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) .. إلخ.

أو للتفريع والعطف على قوله ـ سبحانه ـ : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) .. أى : أن هذا الإنسان الذي أنكر الحساب والجزاء ، وفارق الحياة ، كانت عاقبة أمره خسرا ، فلا هو صدق بالحق الذي جاءه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا هو أدى الصلاة التي فرضها الله ـ تعالى ـ عليه ، ولكنه كذب بكل ذلك ، وتولى ، وأعرض عن سبيل الرشاد.

ثم بعد ذلك : (ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أى : ذهب إلى أهله متبخترا متفاخرا ، متباهيا بإصراره على كفره وفجوره.

وقوله : (يَتَمَطَّى) من المط بمعنى المد. وأصله : يتمطط ، قلبت فيه الطاء حرف علة ، ووصف المتبختر في مشيه بذلك ، لأنه يمط خطاه ، ويمدها على سبيل الإعجاب بنفسه ، والتباهي بما هو عليه من كفر وضلال.

ولم يذكر ـ سبحانه ـ المتعلق والمفعول في الآيات الكريمة ، للإشعار بأن هذا الإنسان الجاحد الجاهل .. لم يصدق بشيء من الحق ، ولم يؤد لله ـ تعالى ـ فرضا ولا سنة ، ولكنه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٦٣.

٢٠٧

استمر على تكذيبه وإعراضه عن الصراط المستقيم ، ولم يكتف بكل ذلك ، بل تفاخر وتباهي أمام غيره بما هو عليه من باطل.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) دعاء على هذا الإنسان الشقي ، المصر على إعراضه عن الحق .. بالهلاك وسوء العاقبة. و (أَوْلى) اسم تفضيل من ولى ، وفاعله ضمير محذوف يقدره كل قائل أو سامع بما يدل على المكروه.

والكاف في قوله (لَكَ) للتبيين ، والكاف خطاب لهذا الإنسان المخصوص بالدعاء عليه.

وقوله : (فَأَوْلى) تأكيد لقوله (أَوْلى لَكَ) وجملة (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) مؤكدة للجملة الأولى. أى : أجدر بك هذا الهلاك الذي ينتظرك قريبا ـ أيها الإنسان ـ الجاحد ، ثم أجدر بك ، لأنك أصررت على كل ما هو باطل وسوء.

قال القرطبي ما ملخصه : هذا تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ..

روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال : «أولى لك فأولى». فقال أبو جهل : أتهددني ـ يا محمد ـ فو الله إنى لأعز أهل هذا الوادي وأكرمه ، ونزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال لأبى جهل (١).

وجيء بحرف «ثم» في عطف الجملة الثانية على الأولى ، لزيادة التأكيد ، وللارتقاء في الوعيد ، وللإشعار بأن التهديد الثاني أشد من الأول ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالإشارة إلى الحكمة من البعث والجزاء ، وببيان جانب من مظاهر قدرته فقال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).

والاستفهام للإنكار كما قال في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ).

و «سدى» ـ بضم السين مع القصر ـ بمعنى مهمل. يقال : إبل سدّى ، أى : مهملة ليس لها راع يحميها .. وهو حال من فاعل «يترك».

أى : أيظن هذا الإنسان الذي أنكر البعث والجزاء ، أن نتركه هكذا مهملا ، فلا نجازيه

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١١٤.

٢٠٨

على أعماله التي عملها في الدنيا؟ إن كان يحسب ذلك فهو في وهم وضلال ، لأن حكمتنا قد اقتضت أن نكرم المتقين ، وأن تعاقب المكذبين.

والاستفهام في قوله : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ..) للتقرير ، والنطفة : القليل من الماء و (يُمْنى) يراق هذا المنى في رحم المرأة.

أى : كيف يحسب هذا الإنسان أنه سيترك سدى؟ ألم يك في الأصل قطرة ماء تصب من الرجل في رحم المرأة وتراق فيه؟ بل إنه كان كذلك.

ثم (كانَ) بعد ذلك (عَلَقَةً) أى : قطعة دم متجمد (فَخَلَقَ فَسَوَّى) أى : فخلقه الله ـ تعالى ـ خلقا آخر بقدرته ، وسواه في أحسن تقويم ، كما قال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ..).

وجملة (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) بمثابة النتيجة بعد المقدمات والأدلة.

أى : أليس ذلك الرب العظيم الشأن والقدرة ، الذي أحسن كل شيء خلقه : والذي خلق الإنسان في تلك الأطوار المتعددة ... أليس ذلك الإله صاحب الخلق والأمر.

(بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) وعلى أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى ، ليجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى؟ بلى إنه لقادر على ذلك قدرة تامة.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها : أن رجلا كان إذا قرأ هذه الآية قال : سبحانك اللهم وبلى. فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك (١).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٠٩.

٢٠٩
٢١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الإنسان

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الإنسان» يرى بعضهم أنها من السور المكية الخالصة ، ويرى آخرون أنها من السور المدنية.

قال الآلوسى : هي مكية عند الجمهور ، وقال مجاهد وقتادة : مدنية كلها ، وقال الحسن : مدنية إلا آية واحدة ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (١).

٢ ـ والذي تطمئن إليه النفس أن هذه السورة ، من السور المكية الخالصة ، فإن أسلوبها وموضوعها ومقاصدها .. كل ذلك يشعر بأنها من السور المكية ، إذ من خصائص السور المكية ، كثرة حديثها عن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالصبر ، وإثبات أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ والتحريض على مداومة ذكر الله ـ تعالى ـ وطاعته .. وكل هذه المعاني نراها واضحة في هذه السورة.

ولقد رأينا الإمام ابن كثير ـ وهو من العلماء المحققين ـ عند تفسيره لهذه السورة ، قال بأنها مكية ، دون أن يذكر في ذلك خلافا ، مما يوحى بأنه لا يعتد بقول من قال بأنها مدنية.

٣ ـ وتسمى هذه السورة ـ أيضا ـ بسورة «هل أتى على الإنسان» ، فقد روى البخاري ـ في باب القراءة في الفجر ـ عن أبى هريرة ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الفجر سورة «ألم السجدة». وسورة. «هل أتى على الإنسان».

وتسمى ـ أيضا ـ بسورة : الدهر ، والأبرار ، والأمشاج ، لورود هذه الألفاظ فيها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٥٠.

٢١١

وعدد آياتها : إحدى وثلاثون آية بلا خلاف.

٤ ـ ومن مقاصدها البارزة : تذكير الإنسان بنعم الله ـ تعالى ـ عليه ، حيث خلقه ـ سبحانه ـ من نطفة أمشاج ، وجعله سميعا بصيرا ، وهداه السبيل.

وحيث أعد له ما أعد من النعيم الدائم العظيم .. متى أطاعه واتقاه.

كما أن من مقاصدها : إنذار الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم. وإثبات أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بالصبر والإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ بكرة وأصيلا.

وبيان أن حكمته ـ تعالى ـ قد اقتضت أنه : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

٢١٢

التفسير

افتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ..) للتقرير. والمراد بالإنسان : جنسه ، فيشمل جميع بنى آدم ، والحين : المقدار المجمل من الزمان ، لا حد لأكثره ولا لأقله. والدهر : الزمان الطويل غير المحدد بوقت معين.

والمعنى : لقد أتى على الإنسان (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) أى : وقت غير محدد من الزمان الطويل الممتد في هذه الحياة الدنيا.

(لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أى : لم يكن هذا الإنسان في ذلك الحين من الدهر ، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه ، وإنما كان شيئا غير موجود إلا في علم الله ـ تعالى ـ.

ثم أوجده ـ سبحانه ـ بعد ذلك من نطفة فعلقة فمضغة .. ثم أنشأه ـ سبحانه ـ بعد ذلك خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

فالمقصود بهذه الآية الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ حيث أوجد الإنسان من العدم ، ومن كان قادرا على ذلك ، كان ـ من باب أول ـ قادرا على إعادته إلى الحياة بعد موته ، للحساب والجزاء.

قال الإمام الفخر الرازي ما ملخصه : اتفقوا على أن «هل» هاهنا ، وفي قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ). بمعنى قد ، كما تقول : هل رأيت صنيع

٢١٣

فلان ، وقد علمت أنه قد رآه. وتقول : هل وعظتك وهل أعطيتك ، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته.

والدليل على أن «هل» هنا ليست للاستفهام الحقيقي .. أنه محال على الله ـ تعالى ـ فلا بد من حمله على الخبر (١).

وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الاستفهام ، لما فيه من التشويق إلى معرفة ما سيأتى بعده من كلام.

وجملة (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في موضع نصب على الحال من الإنسان ، والعائد محذوف. أى : حالة كون هذا الإنسان ، لم يكن في ذلك الحين من الدهر ، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه. وإنما كان نسيا منسيا ، لا يعلم بوجوده أحد سوى خالقه ـ عزوجل ـ.

ثم فصل ـ سبحانه ـ بعد هذا التشويق ، أطوار خلق الإنسان فقال : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) والمراد بالإنسان هنا ـ أيضا ـ جنسه وجميع أفراده.

و «أمشاج» بمعنى أخلاط من عناصر شتى ، مشتق من المشج بمعنى الخلط ، يقال : مشج فلان بين كذا وكذا ـ من باب ضرب ـ إذا خلط ومزج بينهما ، وهو جمع مشج ـ كسبب ، أو مشج ـ ككتف ، أو مشيج ـ كنصير.

قال الجمل : «أمشاج» نعت لنطفة. ووقع الجمع صفة لمفرد ، لأنه في معنى الجمع ، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصف بالجمع .. (٢).

ويرى صاحب الكشاف ان لفظ «أمشاج» مفرد جاء على صيغة أفعال ، كلفظ أعشار في قولهم : برمة أعشار ، أى : برمة متكسرة قطعا قطعا ، وعليه يكون المفرد قد نعت بلفظ مفرد مثله. فقد قال ـ رحمه‌الله ـ : «من نطفة أمشاج» كبرمة أعشار .. وهي ألفاظ مفردة غير جموع.

ولذلك وقعت صفات للأفراد ، والمعنى : من نطفة قد امتزج فيها الماءان .. (٣).

وجملة «نبتليه» حال من الإنسان. أو من فاعل «خلقنا».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٢٧١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٥٢.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٦٦.

٢١٤

أى : إنا خلقنا الإنسان بقدرتنا وحدها. «من نطفة» أى : من منّى ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، «أمشاج» أى : ممتزج أحدهما بالآخر امتزاجا تاما.

أو خلقناه من نطفة مختلطة بعناصر متعددة ، تتكون منها حياة الإنسان بقدرتنا وحكمتنا.

وخلقناه كذلك حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف ، في مستقبل حياته حين يكون أهلا لهذه التكاليف.

(فَجَعَلْناهُ) بسبب إرادتنا ابتلاءه واختباره بالتكاليف عند بلوغه سن الرشد (سَمِيعاً بَصِيراً) أى : فجعلناه بسبب هذا الابتلاء والاختبار والتكاليف مزودا بوسائل الإدراك ، التي بواسطتها يسمع الحق ويبصره ويستجيب له ويدرك الحقائق والآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا .. إدراكا سليما ، متى اتبع فطرته ، وخالف وساوس الشيطان وخطواته.

وخص ـ سبحانه ـ السمع والبصر بالذكر ، لأنهما أنفع الحواس للإنسان ، إذ عن طريق السمع يتلقى دعوة الحق وما اشتملت عليه من هدايات ، وعن طريق البصر ينظر في الأدلة المتنوعة الكثيرة التي تدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى صدق أنبيائه فيما جاءوا به من عند ربهم.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) تعليل لقوله (نَبْتَلِيهِ) ، وتفصيل لقوله ـ تعالى ـ (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، والمراد بالهداية هنا : الدلالة إلى طريق الحق ، والإرشاد إلى الصراط المستقيم.

أى : إنا بفضلنا وإحساننا ـ قد أرشدنا الإنسان إلى ما يوصله إلى طريق الحق والصواب ، وأرشدناه إلى ما يسعده ، عن طريق إرسال الرسل وتزويده بالعقل المستعد للتفكر والتدبر في آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.

وقوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) حالان من ضمير الغيبة في «هديناه» وهو ضمير الإنسان.

و «إما» للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات : أو للتقسيم للمهدي بحسب اختلاف الذوات والصفات.

أى : إنا هديناه ودللناه على ما يوصله إلى الصراط المستقيم ، في حالتي شكره وكفره ، لأنه إن أخذ بهدايتنا كان شاكرا ، وإن أعرض عنها كان جاحدا وكافرا لنعمنا ، فالهداية موجودة في كل الأحوال ، إلا أن المنتفعين بها هم الشاكرون وحدهم.

ومثل ذلك كمثل رجلين ، يرشدهما مرشد إلى طريق النجاة ، فأحدهما يسير في هذا الطريق

٢١٥

فينجو من العثرات والمتاعب والمخاطر .. والآخر يعرض عن ذلك فيهلك.

ولما كان الشكر قل من يتصف به ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) جاء التعبير بقوله ـ سبحانه ـ (شاكِراً) بصيغة اسم الفاعل. ولما كان الجحود والكفر يعم أكثر الناس ، جاء التعبير بقوله ـ تعالى ـ (كَفُوراً) بصيغة المبالغة.

والمقصود من الآية الكريمة : قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم ، ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات .. ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره ، ويقولون ـ كما حكى القرآن عن المشركين ـ : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد هذه الهداية ، ما أعده لفريق الكافرين ، وما أعده لفريق الشاكرين ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ

__________________

(١) سورة الانعام الآية ١٤٨.

٢١٦

مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(٢٢)

فقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ..) كلام مستأنف لبيان جزاء الكافرين ، بعد أن تطلعت إليه النفس ، بعد سماعها لقوله ـ تعالى ـ : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

وابتدأ ـ سبحانه ـ بذكر جزاء الكافر ، لأن ذكره هو الأقرب ولأن الغرض بيان جزائه على سبيل الإجمال ، ثم تفصيل القول بعد ذلك في بيان جزاء المؤمنين.

والسلاسل : جمع سلسلة ، وهي القيود المصنوعة من الحديد والتي يقيد بها المجرمون. وقد قرأ بعض القراء السبعة هذا اللفظ بالتنوين ، وقرأه آخرون بدون تنوين.

والأغلال : جمع غل ـ بضم الغين ـ وهو القيد الذي يقيد به المذنب ويكون في عنقه ، قال ـ تعالى ـ : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ).

والمعنى : إنا أعتدنا وهيأنا للكافرين سلاسل يقادون بها ، وأغلالا تجمع بها أيديهم إلى أعناقهم على سبيل الإذلال لهم ، وهيأنا لهم ـ فوق ذلك ـ نارا شديدة الاشتعال تحرق بها أجسادهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده للمؤمنين الصادقين من خير عميم فقال : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً).

والأبرار : جمع برّ أو بارّ. وهو الإنسان المطيع لله ـ تعالى ـ طاعة تامة ، والمسارع في فعل الخير ، والشاكر لله ـ تعالى ـ على نعمه.

والكأس : هو الإناء الذي توضع فيه الخمر ، ولا يسمى بهذا الاسم إلا إذا كانت الخمر

٢١٧

بداخله ، ويصح أن يطلق الكأس على الخمر ذاتها على سبيل المجاز ، من باب تسمية الحال باسم المحل ، وهو المراد هنا. لقوله ـ تعالى ـ (كانَ مِزاجُها كافُوراً). و «من» للتبعيض.

والضمير في قوله (مِزاجُها) يعود إلى الكأس التي أريد بها الخمر ، والمراد «بمزاجها» : خليطها من المزج بمعنى الخلط يقال : مزجت الشيء بالشيء ، إذا خلطته به.

والكافور : اسم لسائل طيب الرائحة ، أبيض اللون ، تميل إليه النفوس.

أى : إن المؤمنين الصادقين ، الذين أخلصوا لله ـ تعالى ـ الطاعة والعبادة والشكر .. يكافئهم ـ سبحانه ـ على ذلك ، بأن يجعلهم يوم القيامة في جنات عالية ، ويتمتعون بالشراب من خمر ، هذه الخمر كانت مخلوطة بالكافور الذي تنتعش له النفوس ، وتحبه الأرواح والقلوب ، لطيب رائحته ، وجمال شكله.

وذكر ـ سبحانه ـ هذه الأشياء في هذه السورة ـ من الكافور ـ والزنجبيل ، وغيرهما ، لتحريض العقلاء على الظفر في الآخرة بهذه المتع التي كانوا يشتهونها في الدنيا ، على سبيل تقريب الأمور لهم ، وإلا فنعيم الآخرة لا يقاس في لذته ودوامه بالنسبة لنعيم الدنيا الفاني.

قال ابن عباس : كل ما ذكر في القرآن مما في الجنة وسماه ، ليس له من الدنيا شبيه إلا في الاسم. فالكافور ، والزنجبيل ، والأشجار والقصور ، والمأكول والمشروب ، والملبوس والثمار ، لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم.

وقوله ـ سبحانه ـ (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ..) بدل من قوله : (كانَ مِزاجُها كافُوراً) لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته.

أى : أن الأبرار يشربون من كأس ، ماؤها ينبع من عين في الجنة ، هذا الماء له بياض الكافور ورائحته وبرودته.

وعدى فعل «يشرب» بالباء ، التي هي باء الإلصاق ، لأن الكافور يمزج به شرابهم. أى ؛ عينا يشرب عباد الله ماءهم وخمرهم بها. أى : مصحوبا بمائها وخمرها.

ومنهم من جعل الباء هنا بمعنى من التبعيضية. أى : عينا يشرب من بعض مائها وخمرها عباد الله ، وهم الأبرار.

وعبر عنهم بذلك لتشريفهم وتكريمهم ، حيث أضافهم ـ سبحانه ـ إلى ذاته.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا ، وبحرف الإلصاق آخرا؟ قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فبها يمزجون

٢١٨

شرابهم ، فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) صفة أخرى للعين ، أى : يسيرونها ويجرونها إلى حيث يريدون ، وينتفعون بها كما يشاءون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يتجهون إليه.

فالتعبير بقوله : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) إشارة إلى كثرتها وسعتها وسهولة حصولهم عليها.

يقال : فجّر فلان الماء ، إذا أخرجه من الأرض بغزارة ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك في آيات متعددة ، الأسباب التي من أجلها وصلوا إلى النعيم الدائم. فقال ـ تعالى ـ : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً).

والنذر : ما يوجبه الإنسان على نفسه من طاعة لله ـ تعالى ـ ، والوفاء به : أداؤه أداء كاملا. أى : أن من الأسباب التي جعلت الأبرار يحصلون على تلك النعم ، أنهم من أخلاقهم الوفاء بالنذر ، ومن صفاتهم ـ أيضا ـ أنهم يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة ، الذي كان عذابه فاشيا منتشرا غاية الانتشار.

فقوله : (مُسْتَطِيراً) اسم فاعل من استطار الشيء إذا انتشر وامتد أمره. والسين والتاء فيه للمبالغة ، وأصله طار. ومنه قولهم : استطار الغبار ، إذا انتشر في الهواء وتفرق ، وجيء بصيغة المضارع في قوله : (يُوفُونَ) للدلالة على تجدد وفائهم في كل وقت وحين.

والتعريف في «النذر» للجنس ، لأنه يعم كل نذر.

وجاء لفظ اليوم منكرا ، ووصف بأن له شرا مستطيرا .. لتهويل أمره ، وتعظيم شأنه ، حتى يستعد الناس لاستقباله بالإيمان والعمل الصالح.

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بصفات أخرى فقال : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

أى : أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم ـ أيضا أنهم يطعمون الطعام مع حب هذا الطعام لديهم ، ومع حاجتهم إليه واشتهائهم له.

ومع كل ذلك فهم يقدمونه للمسكين ، وهو المحتاج إلى غيره لفقره وسكونه عن الحركة ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٦٨.

٢١٩

ولليتيم : وهو من فقد أباه وهو صغير ، وللأسير : وهو من أصبح أمره بيد غيره. وخص الإطعام بالذكر : لما في تقديمه من كرم وسخاء وإيثار ، لا سيما مع الحاجة إليه ، كما يشعر به قوله ـ تعالى ـ (عَلى حُبِّهِ) أى : على حبهم لذلك الطعام ، وقيل الضمير في قوله (عَلى حُبِّهِ) يعود إلى الله ـ عزوجل ـ أى : يطعمون الطعام على حبهم له ـ تعالى ـ.

والأول أولى. ويؤيده قوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

و «على» هنا بمعنى مع ، والجملة في محل نصب على الحال. أى : حالة كونهم كائنين على حب هذا الطعام.

وخص هؤلاء الثلاثة بالذكر ، لأنهم أولى الناس بالرعاية والمساعدة.

وقد ذكروا في سبيل نزول هذه الآية ، والآيتين اللتين يعدها ، روايات منها ، أنها نزلت في الإمام على وزوجه فاطمة ـ رضى الله عنهما ـ.

قال القرطبي ـ بعد أن ذكر هذه الروايات ـ : والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ، وفي كل من فعل فعلا حسنا ، فهي عامة .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) بيان لشدة إخلاصهم ، ولطهارة نفوسهم. وهو مقول لقول محذوف أى : يقدمون الطعام لهؤلاء المحتاجين مع حبهم لهذا الطعام ، ومع حاجتهم إليه .. ثم يقولون لهم بلسان الحال أو المقال : إنما نطعمكم ابتغاء وجه الله ـ تعالى ـ وطلبا لمثوبته ورحمته.

(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أى : لا نريد منكم جزاء على ما قدمناه لكم ، ولا نريد منكم شكرا على ما فعلناه ، فإننا لا نلتمس ذلك إلا من الله ـ تعالى ـ خالقنا وخالقكم.

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

والعبوس : صفة مشبهة لمن هو شديد العبس ، أى كلوح الوجه وانقباضه.

والقمطرير : الشديد الصعب من كل شيء يقال : اقمطرّ يومنا ، إذا اشتدت مصائبه.

ووصف اليوم بهذين الوصفين على سبيل المجاز في الإسناد ، والمقصود وصف أهله بذلك ، فهو من باب : فلان نهاره صائم.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١٣٠.

٢٢٠