التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة البروج

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «البروج» من السور المكية الخالصة ، وتسمى سورة «السماء ذات البروج» فقد أخرج الإمام أحمد عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة ، بالسماء ذات البروج.

وعدد آياتها : اثنتان وعشرون آية. وكان نزولها بعد سورة «والشمس وضحاها» وقبل سورة «والتين والزيتون».

٢ ـ والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : تثبيت المؤمنين ، وتسليتهم عما أصابهم من أعدائهم ، عن طريق ذكر جانب مما تحمله المجاهدون من قبلهم ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه : اصبروا كما صبر المؤمنون السابقون ، واثبتوا كما ثبتوا ، فإن العاقبة ستكون لكم.

كما أن السورة الكريمة ساقت الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، ونفاذ أمره.

٣٤١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

والبروج : جمع برج. وهي في اللغة : القصور العالية الشامخة ، ويدل لذلك

٣٤٢

قوله ـ تعالى ـ (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أى : ولو كنتم في قصور عظيمة محصنة.

والمراد بها هنا : المنازل الخاصة بالكواكب السيارة ، ومداراتها الفلكية الهائلة ، وهي اثنا عشر منزلا : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت.

وسميت بالبروج ، لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها.

قال القرطبي : قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) : قسم أقسم الله ـ عزوجل ـ به. وفي البروج أربعة أقوال : أحدها : ذات النجوم. الثاني : ذات القصور .. الثالث : ذات الخلق الحسن. الرابع : ذات المنازل .. وهي اثنا عشر منزلا .. (١) وقوله : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) المقصود به : يوم القيامة ، لأن الله ـ تعالى ـ وعد الخلق به ، ليجازى فيه الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

وقوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قسم ثالث ببعض مخلوقاته ـ تعالى ـ. والشاهد اسم فاعل من المشاهدة بمعنى الرؤية ، فالشاهد هو الرائي ، أو المخبر غيره عما رآه وشاهده.

والمشهود : اسم مفعول ، وهو هنا الشيء المرئي ، أو المشهود عليه بأنه حق.

فالمراد بالشاهد : من يحضر ذلك اليوم من الخلائق المبعوثين ، وما يراه فيه من عجائب وأهوال ، من المشاهدة بمعنى الرؤية والحضور ، أو من يشهد في ذلك اليوم على غيره ، من الشهادة على الخصم.

وقد ذكر المفسرون في معنى هذين اللفظين ، ما يقرب من عشرين وجها.

قال صاحب الكشاف وقوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) يعنى : وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه. والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق كلهم. وبالمشهود : ما في ذلك اليوم من عجائبه. ثم قال : وقد اضطربت أقوال المفسرين فيهما ، فقيل : الشاهد والمشهود : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوم القيامة. وقيل : عيسى وأمته. وقيل : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الأمم. وقيل : يوم التروية ويوم عرفة. وقيل : يوم عرفة ويوم الجمعة. وقيل : الحجر الأسود. والحجيج. وقيل : الأيام والليالى. وقيل : الحفظة وبنو آدم .. (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٢٨٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٢٩.

٣٤٣

ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب : أن المراد بالشاهد هنا : الحاضر في ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة ، والرائي لأهواله وعجائبه.

وأن المراد بالمشهود : ما يشاهد في ذلك اليوم من أحوال يشيب لها الولدان.

وقال ـ سبحانه ـ (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) بالتنكير ، لتهويل أمرهما ، وتفخيم شأنهما.

وقوله ـ تعالى ـ (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) جواب القسم بتقدير اللام وقد.

أى : وحق السماء ذات البروج ، وحق اليوم الموعود ، وحق الشاهد والمشهود ، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود ، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم.

والأخدود : وهو الحفرة العظيمة المستطيلة في الأرض ، كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجارى الدمع ، والمخدة : لأن الخد يوضع عليها.

ويقال : تخدد وجه الرجل ، إذا صارت فيه التجاعيد .. ومنه قول الشاعر :

ووجه كأن الشمس ألقت رداءها

عليه ، نقى اللون لم يتخدد

وقيل : إن جواب القسم محذوف ، دل عليه قوله ـ تعالى ـ : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود.

وأصحاب الأخدود : هم قوم من الكفار السابقين ، حفروا حفرا مستطيلة في الأرض ، ثم أضرموها بالنار ، ثم ألقوا فيها المؤمنين ، الذين خالفوهم في كفرهم ، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده.

وقوله ـ سبحانه ـ : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) بدل اشتمال مما قبله وهو الأخدود.

والوقود : اسم لما توقد به النار كالحطب ونحوه. وذات الوقود : صفة للنار.

أى : قتل وطرد من رحمة الله أصحاب الأخدود ، الذين أشعلوا فيه النيران ذات اللهب الشديد ، لكي يلقوا المؤمنين فيها.

والظرف في قوله ـ تعالى ـ (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) متعلق بقوله ـ تعالى ـ : (قُتِلَ). أى : لعنوا وطردوا من رحمة الله ، حين قعدوا على الأخدود ، ليشرفوا على من يعذبونهم من المؤمنين.

فالضمير «هم» يعود على أولئك الطغاة الذين كانوا يعذبون المؤمنين ويجلسون على حافات الأخدود ليروهم وهم يحرقون بالنار ، أو ليأمروا أتباعهم وزبانيتهم بالجد في التعذيب حتى لا يتهاونوا في ذلك.

٣٤٤

و (عَلى) للاستعلاء المجازى ، إذ من المعلوم أنهم لا يقعدون فوق النار ، وإنما هم يقعدون حولها ، لإلقاء المؤمنين فيها.

وجملة (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) في موضع الحال من الضمير في قوله : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ). أى : أن هؤلاء الطغاة الظالمين ، لم يكتفوا بإشعال النار ، والقعود حولها وهم يعذبون المؤمنين ، بل أضافوا إلى ذلك ، أنهم يشهدون تعذيبهم ، ويرونه بأعينهم على سبيل التشفي منهم ، فقوله (شُهُودٌ) بمعنى حضور ، أو بمعنى يشهد بعضهم لبعض أمام ملكهم الظالم ، بأنهم ما قصروا في تعذيب المؤمنين. وهذا الفعل منهم. يدل على نهاية القسوة والظلم ، وعلى خلو قلوبهم من أى رحمة أو شفقة.

قال الآلوسى : وقوله : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أى : يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به ، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون .. أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة ، أو يشهدون على أنفسهم بذلك ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقيل : «على» بمعنى مع. أى : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور ، لا يرقون لهم ، لغاية قسوة قلوبهم ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي حملت هؤلاء الطغاة على إحراق المؤمنين فقال : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

والنقمة هنا بمعنى الإنكار والكراهية. يقال : نقم فلان هذا الشيء ، ـ من باب ضرب ـ إذا كرهه وأنكره.

أى : أن هؤلاء الكافرين ما كرهوا المؤمنين ، وما أنزلوا بهم ما أنزلوا من عذاب ، إلا لشيء واحد ، وهو أن المؤمنين أخلصوا عبادتهم لله ـ تعالى ـ صاحب العزة التامة ، والحمد المطلق ، والذي له ملك جميع ما في السموات والأرض ، وهو ـ سبحانه ـ على كل شيء شهيد ورقيب ، لا يخفى عليه أمر من أمور عباده ، أو حال من أحوالهم.

فالمقصود من هاتين الآيتين الكريمتين ، التعجيب من حال هؤلاء المجرمين ، حيث عذبوا المؤمنين ، لا لشيء إلا من أجل إيمانهم بخالقهم ، وكأن الإيمان في نظرهم جريمة تستحق الإحراق بالنار.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٩٠.

٣٤٥

وهكذا النفوس عند ما يستحوذ عليها الشيطان ، تتحول الحسنات في نظرها إلى سيئات ، وقديما قال المنكوسون من قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ ..) استثناء مفصح عن براءة المؤمنين مما يعاب وينكر ، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قول القائل :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ).

قال الإمام ابن كثير : وقد اختلفوا في أهل هذه القصة من هم؟ فعن على ابن أبى طالب : أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل زواج المحارم ، فامتنع عليه علماؤهم ، فعمد إلى حفر أخدود ، فقذف فيه من أنكر عليه منهم.

وعنه أنهم كانوا قوما من اليمن ، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم ، فتغلب مؤمنوهم على كفارهم ، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين ، فخذوا لهم الأخاديد ، وأحرقوهم فيها.

ثم ذكر ـ رحمه‌الله ـ بعد ذلك جملة من الآثار في هذا المعنى فارجع إليها إن شئت. (١) وعلى أية حال فالمقصود بهذه الآيات الكريمة ، تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان ، وتسليتهم عما أصابهم من أعدائهم ، وإعلامهم بأن ما نزل بهم من أذى ، قد نزل ما هو أكبر منه بالمؤمنين السابقين ، فعليهم أن يصبروا كما صبر أسلافهم ، وقد اقتضت سنته ـ تعالى ـ أن يجعل العاقبة للمتقين.

ثم هدد ـ سبحانه ـ كفار قريش بسوء المصير ، إذا ما استمروا في إيذائهم للمؤمنين ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ).

وقوله : (فَتَنُوا) من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان. تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته في النار لتعلم جودته من رداءته ، والمراد به هنا : التعذيب والتحريق بالنار.

أى : إن الظالمين الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات ، وأحرقوهم بالنار ثم لم يتوبوا إلى الله ـ تعالى ـ من ذنوبهم ، ويرجعوا عن تعذيبهم للمؤمنين والمؤمنات ، فلهم في الآخرة عذاب

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٨٧.

٣٤٦

جهنم ، بسبب إصرارهم على كفرهم وعدوانهم ، ولهم نار أخرى زائدة على غيرها في الإحراق.

والمراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : كفار قريش ، كأبى جهل وأمية ابن خلف. وغيرهما ، فقد عذبوا بلالا ، وعمار بن ياسر ، وأباه وأمه سمية.

ويؤيد أن المراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات كفار قريش ، قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) لأن هذه الجملة تحريض على التوبة ، وترغيب فيها للكافرين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويصح أن يراد بهم جميع من عذبوا المؤمنين والمؤمنات ، ويدخل فيه أصحاب الأخدود ، وكفار قريش دخولا أوليا.

وجمع ـ سبحانه ـ بين عذاب جهنم لهم ، وبين عذاب الحريق ، لبيان أن العذاب لهم مضاعف ، بسبب طغيانهم وشركهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما أعده للمؤمنين والمؤمنات من ثواب وعطاه كريم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ لَهُمْ) أى : عند ربهم (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار (ذلِكَ) العطاء هو (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الذي لا فوز يضارعه أو يقاربه.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، ما يدل على نفاذ قدرته ومشيئته ، حتى يزداد المؤمنون ثباتا على ثباتهم ، وصبرا على صبرهم فقال : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ).

والبطش : هو الأخذ بقوة وسرعة وعنف. أى : إن بطش ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ بالظالمين والطغاة لبالغ نهاية القوة والعنف : فمر أصحابك فليصبروا على الأذى ، فإن العاقبة الحسنة ستكون لهم وحدهم.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أى : إنه وحده هو الذي يخلق الخلق أولا في الدنيا ، ثم يعيدهم إلى الحياة بعد موتهم للحساب والجزاء ، وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي يبدئ البطش بالكفار في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة بصورة أشد وأبقى.

وحذف ـ سبحانه ـ المفعول في الفعلين ، لقصد العموم ، ليشمل كل ما من شأنه أن يبدأ وأن يعاد من الخلق أو من العذاب أو من غيرهما.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) أى : وهو ـ سبحانه ـ الواسع المغفرة لمن تاب وآمن ، وهو الكثير المحبة والود لمن أطاعه واتبع هداه.

٣٤٧

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) أى : وهو ـ عزوجل ـ صاحب العرش العظيم ، الذي لا يعرف كنهه إلا هو ـ سبحانه ـ ، وهو (الْمَجِيدُ) أى : العظيم في ذاته وصفاته.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أى : وهو ـ تعالى ـ الذي يفعل كل شيء يريده. دون أن يعترض عليه أحد ، بل فعله هو النافذ ، وأمره هو السارى والمطاع.

وجاءت كلمة «فعال» بصيغة المبالغة ، للدلالة على أن ما يريده ويفعله ـ مع كثرته ـ هو في غاية النفاذ والسرعة ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فهذه الصفة من الصفات الجامعة لعظمته الذاتية ، وعظمة نعمه ومننه وعطاياه.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، ما يدل على شدة بطشه ، ونفاذ أمره فقال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ).

والاستفهام هنا : للتقرير والتهويل. والمراد بالجنود : الجموع الكثيرة التي عتت عن أمر ربها ، فأخذها ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر ، وقوله : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من الجنود.

والمراد بفرعون وثمود : ملؤهما وقومهما الذين آثروا الغي على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والباطل على الحق. أى : لقد بلغك ـ أيها الرسول الكريم ـ حديث فرعون الذي طغى وبغى ، واتبعه قومه في طغيانه وبغيه ، وحديث قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ وهم الذين كذبوا نبيهم. وآذوه ، وعقروا الناقة التي نهاهم عن أن يمسوها بسوء.

وكيف أنه ـ سبحانه ـ قد دمر الجميع تدميرا شديدا ، جزاء كفرهم وبغيهم.

وخص ـ سبحانه ـ جند فرعون وثمود بالذكر ، لأنهم كانوا أشد من غيرهم بغيا وظلما ، ولأنهم كانت قصصهم معروفة لأهل مكة أكثر من غيرهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ. وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) إضراب انتقالي ، المقصود منه بيان أن هؤلاء المشركين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتعظوا بمن سبقهم.

أى : لقد كانت عاقبة جنود فرعون وثمود ، الهلاك والدمار ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، ولكن قومك ـ أيها الرسول ـ لم يعتبروا بهم ، بل استمروا في تكذيبهم لك ، وفي إعراضهم عنك .. واعلم أن الله ـ تعالى ـ محيط بهم إحاطة تامة ، ولن يفلتوا من عقابه بأية حيلة من الحيل ، فهم تحت قبضته وسلطانه ، وسينزل بهم بأسه في الوقت الذي يريده.

وقوله ـ تعالى ـ (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) إضراب انتقالي آخر ، من

٣٤٨

بيان شدة تكذيبهم للحق ، إلى بيان أن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

أى : ليس الأمر كما قال هؤلاء المشركون في القرآن من أنه أساطير الأولين .. بل الحق أن هذا القرآن هو كلام الله ـ تعالى ـ البالغ النهاية في الشرف والرفعة والعظمة.

وأنه كائن في لوح محفوظ من التغيير والتبديل ، ومن وصول الشياطين إليه. ونحن نؤمن بأن القرآن الكريم كائن في لوح محفوظ ، إلا أننا نفوض معرفة حقيقة هذا اللوح وكيفيته إلى علمه ـ تعالى ـ ، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله ـ تعالى ـ بعلمه .. وما قيل في وصف هذا اللوح لم يرد به حديث صحيح يعتمد عليه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٣٤٩
٣٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الطارق

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الطارق» من السور المكية ، وعدد آياتها سبع عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة «البلد» وقبل سورة «القمر» وهي السورة السادسة والثلاثون ، في ترتيب النزول ، أما في المصحف ، فهي السورة السادسة والثمانون.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها كثيرا ، فقد أخرج الإمام أحمد عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة «بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق».

وأخرج ـ أيضا ـ عن خالد بن أبى جبل العدواني : أنه أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشرق ـ بضم الميم ـ ثقيف. ـ أى في سوق ثقيف ـ وهو قائم على قوس أو عصى. حين أتاهم يبتغى عندهم النصر. فسمعته يقول : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها. قال : فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام. قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم. فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم أن ما يقول حقا لا تبعناه. (١).

٢ ـ والسورة الكريمة من مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى كمال قدرته ، وبليغ حكمته ، وسعة علمه ، وإثبات أن هذا القرآن من عنده ـ تعالى ـ ، وأن العاقبة للمتقين.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٩٥.

٣٥١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

والطارق : اسم فاعل من الطروق. والمراد به هنا : النجم الذي يظهر ليلا في السماء.

قال القرطبي ما ملخصه : الطارق : النجم ، اسم جنس سمى بذلك لأنه يطرق ليلا ، ومنه الحديث : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا .. والعرب تسمى كل قاصد في الليل طارقا. يقال : طرق فلان ، إذا جاء ليلا .. وأصل الطرق : الدق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمى قاصد الليل طارقا ، لاحتياجه في الوصول إلى الدق.

وفي الحديث : «أعوذ بك من طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإقسام به ، فالاستفهام مستعمل في تعظيم أمره.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٢.

٣٥٢

وقد جاء التعبير بقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَدْراكَ ...) ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم ، كلها جاء الخبر بعدها ـ كما هنا ـ ، وكما في قوله ـ تعالى ـ (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ..) إلا واحدة لم يأت الخبر بعدها ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ..).

أما التعبير بقوله ـ تعالى ـ : (وَما يُدْرِيكَ ..) فقد جاء ثلاث مرات ، ولم يأت الخبر بعد واحدة من هذه المرات. قال ـ تعالى ـ : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً). (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى).

قال القرطبي : قال سفيان : كل ما في القرآن وما أدراك فقد أخبر به ، وكل شيء قال فيه : وما يدريك ، لم يخبر به.

وقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) بيان وتفسير للطارق ، والثاقب. أى : المضيء الذي يثقب الظلام ويخرقه بنوره فينفذ فيه ، ويبدده.

والجملة الكريمة مستأنفة ، وهي جواب عن سؤال مقدر نشأ مما قبله ، كأنه قيل : وما هو الطارق؟ فكان الجواب : هو النجم الثاقب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) جواب القسم وما بينهما كلام معترض لتفخيم شأن المقسم به .. والحافظ : هو الذي يحفظ ما كلف بحفظه ، لمقصد معين. أى : وحق السماء البديعة الصنع ، وحق النجم الذي يطلع فيها فيبدد ظلام الليل ، ما كل نفس من الأنفس إلا وعليها من الملائكة من يحفظ عملها ويسجله ، سواء أكان هذا العمل خيرا أم شرا.

قال الإمام الشوكانى ما ملخصه : قرأ الجمهور بتخفيف الميم في قوله : لما ، فتكون «إن» مخففة من الثقيلة ، فيها ضمير الشأن المقدر ، وهو اسمها ، واللام هي الفارقة ـ بين «إن» النافية ، و «إن» المخففة من الثقيلة ـ وما مزيدة. أى : إن الشأن كل نفس لعليها حافظ.

وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد الميم في قوله (لَمَّا) ، فتكون «إن» نافية ، و «لما» بمعنى إلا. أى : ما كل نفس إلا عليها حافظ.

والحافظ : هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها. وقيل : الحافظ هو الله ـ تعالى ـ وقيل : هو العقل يرشدهم إلى المصالح.

٣٥٣

والأول أولى لقوله ـ تعالى ـ : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ). وحفظ الملائكة إنما هو من حفظه ـ تعالى ـ ، لأنهم لا يحفظون إلا بأمره ـ عزوجل ـ (١).

والمقصود من الآية الكريمة : تحقيق تسجيل أعمال الإنسان عليه ، وأنه سيحاسب عليها وسيجازى عليها بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أعمالها ، أتبع ذلك بأمر الإنسان بالتفكر فيما ينفعه ، بأن يعتبر بأول نشأته ، وليعلم أن من خلقه من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ ..).

والفاء في قوله (فَلْيَنْظُرِ ...) للتفريع على ما تقدم ، وهي بمعنى الفصيحة ، وقوله : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) جواب الاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (مِمَّ خُلِقَ) والمقصود بالاستفهام هنا : الحث والحض على التفكر والتدبر.

و «دافق» اسم فاعل من الدفق ، وهو الصب للشيء بقوة وسرعة ، يقال : تدفق الماء إذا سال باندفاع وسرعة. والمراد به هنا : الماء الذي يخرج من الرجل ويصب في رحم المرأة.

والصلب : يطلق على فقار الظهر بالنسبة للرجل ، والترائب : جمع تريبة ، وهي العظام التي تكون في أعلى صدر المرأة ، ويعبرون عنها بقولهم موضع القلادة من المرأة.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم ـ أيها الناس ـ ، من أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أقوالها وأفعالها .. فلينظر الإنسان منكم نظر تأمل وتدبر واعتبار ، وليسأل نفسه من أى شيء خلق؟ لقد خلقه الله ـ تعالى ـ بقدرته ، من ماء متدفق ، يخرج بقوة وسرعة من الرجل ، ليصب في رحم الأنثى.

وهذا الماء الدافق من صفاته أنه يخرج من بين صلب الرجل ، ومن بين ترائب المرأة ، حيث يختلط الماءان ، ويتكون منهما الإنسان في مراحله المختلفة بقدرة الله ـ تعالى ـ.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : (فَلْيَنْظُرِ) بما قبله؟.

قلت : وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه بتوصية الإنسان بالنظر

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٤١٩.

٣٥٤

في أول أمره. ونشأته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.

«مم خلق» استفهام جوابه : «خلق من ماء دافق» ، والدفق : صبّ فيه دفع. ومعنى «دافق» النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق ، كاللابن والتامر. أو الإسناد المجازى ، والدفق في الحقيقة لصاحبه.

ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم ، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه ... (١).

وقال بعض العلماء : قوله : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أى : من ماء ذي دفق .. وكل من منى الرجل. ومنى المرأة ، اللذين يتخلق منهما الجنين ، ذو دفق في الرحم.

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أى : يخرج هذا الماء الدافق ، من بين صلب كل واحد منهما ، وترائب كل منهما. أى : أن أعضاء وقوى كل منهما ، تتعاون في تكوين ما هو مبدأ لتوالد الإنسان : ماء الرجل وهو المنى ، ومادة المرأة وهي البويضة المصحوبة بالسائل ، المنصبان بدفع وسيلان سريع إلى الرحم عند الاتصال الجنسي. ويسمى الفقهاء هذه المادة منيا وماء .. (٢).

وقال فضيلة الشيخ ابن عاشور : وأطنب ـ سبحانه ـ في وصف هذا الماء الدافق ، لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ، ليستيقظ الجاهل الكافر ، ويزداد المؤمن علما ويقينا.

ووصف بأنه (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ، لأن الناس لا يتفطنون لذلك .. وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن ، الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم ، وهو إشارة مجملة ، وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن احتلام المرأة فقال : «تغتسل إذا أبصرت الماء. فقيل له : أترى المرأة ذلك؟ فقال : وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك ، إذا علا ماء المرأة ماء الرجل ، أشبه الولد أخواله ، وإذا علا ماء الرجل ماءها ، أشبه أعمامه» (٣).

وقال صاحب الظلال : ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر ، حتى كان نصف القرن الأخير ، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية ، يتكون ماء الرجل. وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٣٥.

(٢) صفوة البيان ج ٢ ص ٥٣٠ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.

(٣) راجع تفسير التحرير والتنوير ج ٣٠ ص ٢٦٣ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

٣٥٥

يلتقيان في قرار مكين. فينشأ منهما الإنسان .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ). بيان لكمال قدرته ـ تعالى ـ وأنه كما أنشأ الإنسان من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة بعد موته. والضمير في قوله : (إِنَّهُ) يعود إلى الله ـ عزوجل ـ لأن الخالق للإنسان من ماء دافق هو الله ـ تعالى ـ.

والضمير في قوله «رجعه» يعود إلى الإنسان المخلوق.

وقوله : (تُبْلَى) من البلاء بمعنى الاختبار والامتحان ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) والمراد بقوله (تُبْلَى) هنا : الكشف والظهور.

و (السَّرائِرُ) جمع سريرة ، وهي ما أسره الإنسان من أقوال وأفعال ، والظرف «يوم» متعلق بقوله : (رَجْعِهِ).

أى : إن الله ـ تعالى ـ الذي قدر على خلق الإنسان من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب .. لقادر ـ أيضا ـ على إعادة خلق هذا الإنسان بعد موته ، وعلى بعثه من قبره للحساب والجزاء ، يوم القيامة ، يوم تكشف المكنونات ، وتبدو ظاهرة للعيان ، وترفع الحجب عما كان يخفيه الإنسان في دنياه من عقائد ونيات وغيرهما.

وفي هذا اليوم لا يكون للإنسان من قوة تحميه من الحساب والجزاء ، ولا يكون له من ناصر ينصره من بأس الله ـ تعالى ـ أو من مدافع يدافع عنه.

ثم أقسم ـ سبحانه ـ مرة أخرى بالسماء على أن القرآن من عنده ـ تعالى ـ فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ).

والرجع : المطر. وسمى بذلك لأنه يجيء ويرجع ويتكرر ، وقيل : الرجع هنا : الشمس والقمر والنجوم ، يرجعن في السماء حيث تطلع من ناحية ، وتغيب في الأخرى.

وقيل : المراد بالرجع : الملائكة ، لأنهم يرجعون إليها حاملين أعمال العباد.

والصدع : الشق والانفطار ، يقال : تصدع الشيء ، إذا تشقق .. والمراد به هنا : ما تتشقق عنه الأرض من نبات. كما قال ـ تعالى ـ : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً) ..

__________________

(١) راجع ق ظلال القرآن ج ٣٠ ص ٥٣٥.

٣٥٦

أى : وحق السماء صاحبة المطر الذي ينزل من جهتها مرة فأخرى ، لنفع العباد والحيوان والنبات .. وحق الأرض ذات النبات البازغ من شقوقها.

(إِنَّهُ) أى : هذا القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أى : لقول فاصل بين الحق والباطل ، والهدى والضلال. والغي والرشاد .. وقد بلغ النهاية في ذلك حتى لكأنه نفس الفصل.

(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أى : وأن هذا القرآن ، ليس فيه شائبة من شوائب الهزل أو اللعب أو المزاح. بل هو جد كله ، فيجب على كل عاقل ، أن يتبع هداه ، وأن يستجيب لأمره ونهيه.

وفي هذه الآيات الكريمة رد بليغ ، على أولئك المشركين الجاهلين ، الذين وصفوا القرآن ، بأنه نزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليهزل به ، لأنه يخبرهم بأن الأموات سيعادون إلى الحياة مرة أخرى ، وذلك أمر تستبعده نفوسهم المطموسة.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) مقابلة لطيفة ، حيث وصف ـ سبحانه ـ السماء والأرض بما يناسبهما ، وبما يشير إلى أن البعث حق ، لأنه كما ينزل المطر من السماء فيحيى الأرض بعد موتها. كذلك يحيى الله ـ تعالى ـ بقدرته الأجساد بعد موتها. وعاد الضمير في قوله (إِنَّهُ) إلى القرآن ـ مع أنه لم يسبق له ذكر ـ لأنه معلوم من المقام.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتبشيره بحسن العاقبة فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) وقوله : (رُوَيْداً) تصغير «رود» بزنة عود ـ من قولهم : فلان يمشى على رود ، أى : على مهل ، وأصله من رادت الريح ترود ، إذا تحركت حركة ضعيفة.

والكيد : العمل على إلحاق الضرر بالغير بطريقة خفية ، فهو نوع من المكر.

والمراد به بالنسبة لهؤلاء المشركين : تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما جاء به من عند ربه ، فكيدهم مستعمل في حقيقته.

والمراد به بالنسبة لله ـ تعالى ـ : إمهالهم واستدراجهم ، حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، في الوقت الذي يختاره ويشاؤه.

أى : إن هؤلاء المشركين يحيكون المكايد لإبطال أمرك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، وإنى أقابل كيدهم ومكرهم بما يناسبه من استدراج من حيث لا يعلمون ، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فتمهل ـ أيها الرسول الكريم ـ مع هؤلاء المشركين. ولا تستعجل عقابهم. وانتظر

٣٥٧

تدبيرى فيهم ، وأمهلهم وأنظرهم «رويدا» أى : إمهالا قريبا أو قليلا ، فإن كل آت قريب ، وقد حقق ـ سبحانه ـ لنبيه وعده بأن جعل العاقبة له ولأتباعه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٣٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الأعلى

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الأعلى» تسمى ـ أيضا ـ بسورة : «سبح اسم ربك الأعلى» ، فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ ـ عند ما بلغه أنه يطيل الصلاة وهو يصلى بجماعة : «أفتان أنت يا معاذ؟ هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى. والشمس وضحاها. والليل إذا يغشى» ..

٢ ـ وسورة «الأعلى» من السور التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قراءتها ، لاشتمالها على تنزيه الله ـ تعالى ـ ، وعلى الكثير من نعمه ومننه ، فقد أخرج الإمام أحمد عن على بن أبى طالب ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب هذه السورة.

وعن النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في العيدين : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) ، وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا.

وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الوتر : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١).

٣ ـ وعدد آياتها تسع عشرة آيه. وهي من السور المكية الخالصة. قال الآلوسى : والجمهور على أنها مكية ، وعن بعضهم أنها مدنية.

والدليل على كونها مكية ، ما أخرجه البخاري عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئاننا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٩٩.

٣٥٩

القرآن ، ثم جاء عمار بن ياسر ، وسعد بن أبى وقاص ، وبلال ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ، ثم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به ، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء ، فما جاء حتى قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) في سور مثلها .. (١).

ومما يدل ـ أيضا ـ على أن هذه السورة مكية ، بل من أوائل السور المكية ، ما ذكره الإمام السيوطي ، من أن هذه السورة كان ترتيبها في النزول الثامنة من بين السور المكية ، فقد كان نزولها بعد سورة «التكوير» وقبل سورة «الليل» ، بل هناك رواية عن ابن عباس أنها السورة السابعة ، إذ لم يسبقها سوى سورة : العلق ، والمدثر ، والمزمل ، والقلم ، والمسد ، والتكوير .. (٢).

٤ ـ والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى أنه ـ تعالى ـ منزه عن كل نقص ، وإبراز جانب عظيم من نعمه التي لا تحصى ، وامتنانه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشريعة السمحة ، وبالقرآن الكريم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٠١.

(٢) راجع الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٢٧.

٣٦٠