التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

افتتحت السورة الكريمة ، بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمداومة على تنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل نقص ، ويدخل في هذا الأمر ، كل من يصلح للخطاب. والاسم المراد به الجنس ، فيشمل جميع أسمائه ـ تعالى ـ.

أى : نزه ـ أيها الرسول الكريم ـ أسماء ربك الأعلى عن كل ما لا يليق بها ، فلا تطلقها على غيره ـ تعالى ـ إذا كانت خاصة به ، كلفظ الجلالة. وكلفظ الرحمن ، ولا تذكرها في موضع لا يتناسب مع جلالها وعظمتها ، ولا تحرفها عن المعاني التي وضعت لها كما يفعل الزائغون. فقد قال ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

٣٦١

ونزه ربك الأعلى ، عن الشريك ، وعن الوالد ، وعن الولد ، وعن الشبيه .. وعن كل ما لا يليق به.

قال الجمل : أى : نزه ربك عن كل ما لا يليق به ، في ذاته ، وصفاته ، وأسمائه ، وأفعاله ، وأحكامه. أما في ذاته : فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض. وأما في صفاته : فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة. وأما في أفعاله : فأن تعتقد أنه ـ سبحانه ـ مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور. وأما في أسمائه : فأن لا تذكره ـ سبحانه ـ إلا بالأسماء التي لا توهم نقصا بوجه من الوجوه .. وأما في أحكامه : فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود عليه ، بل لمحض المالكية .. (١).

أخرج الإمام أحمد عن عامر بن عقبة الجهني قال : لما نزلت : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «اجعلوها في سجودكم».

ثم وصف ـ سبحانه ـ ذاته بعد وصفه بالأعلى بصفات كريمة أخرى فقال : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). والخلق : هو الإيجاد للشيء على غير مثال سابق ، والتسوية : هي جعل المخلوقات على الحالة والهيئة التي تناسبها ، وتتلاءم مع طبيعتها.

أى : الذي خلق الخلائق كلها ، وجعلها متساوية في الأحكام والإتقان حسبما اقتضته حكمته. ومنح كل مخلوق ما يناسب طبيعته ووظيفته.

قال صاحب الكشاف : قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أى : خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ، ولكن على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وأنه صنعة حكيم .. (٢).

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) والتقدير : وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة ، بمقدار معين ، وبكيفية معينة .. تقتضيها الحكمة ، ويقرها العقل السليم.

وقوله : (فَهَدَى) من الهداية. بمعنى الإرشاد والدلالة على طريق الخير والبر. أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها ، وفي أنواعها ، وفي أفرادها. وفي صفاتها وأفعالها .. وهدى كل مخلوق إلى ما ينبغي له طبعا واختيارا ، ووجهه إلى

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٢٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٣٨.

٣٦٢

الوظيفة التي خلقه من أجلها ، بأن أوجد فيه العقل والميول والإلهامات والغرائز والدوافع التي تعينه على أداء تلك الوظيفة.

وحذف ـ سبحانه ـ المفعول في قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) للعموم ، لأن هذه الأفعال تشمل جميع مخلوقاته ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسى : (وَالَّذِي قَدَّرَ ...) أى : جعل الأشياء على مقادير مخصوصة .. (فَهَدى) أى : فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه ، وينبغي له .. فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات ، لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول ، وتضيق عنه دفاتر النقول.

وأما فنون هداياته ـ سبحانه ـ للإنسان على الخصوص ، ففوق ذلك بمراحل .. وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ، ولا يعلمها إلا اللطيف الخبير.

أتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر (١)

وقد فصل بعض العلماء الحديث عن مظاهر تقديره وهدايته ـ سبحانه ـ فقال : قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أى : الذي خلق كل شيء فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه ، والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وطريقته وغايته ، فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده ، وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه. وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود ، ويشهد بها كل شيء في رحاب هذا الكون ، من الكبير إلى الصغير ..

فالطيور لها غريزة العودة إلى الموطن .. دون أن تضل عنه مهما بعد. والنحلة تهتدى إلى خليتها ، مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى ..

وسمك «السلمون» الصغير ، يمضى سنوات في البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ ، التي لا يعجزها شيء.

والمرعى : النبات الذي ترعاه الحيوانات ، وهو اسم مكان للأرض الذي يوجد فيها النبات.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٠٤.

(٢) راجع في ظلال القرآن ج ٣٠ ص ٥٤٢.

٣٦٣

والغثاء : هو اليابس الجاف من النبات الذي ترعاه المواشي.

والأحوى : أى : المائل إلى السواد ، مأخوذ من الحوّة ـ بضم الحاء مع تشديد الواو المفتوحة ـ وهي لون يكون بين السواد والخضرة أو الحمرة. ووصف الغثاء بأنه أحوى ، لأنه إذا طال عليه الزمن ، وأصابته المياه ، اسود وتعفن فصار أحوى.

أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده ، الذي أنبت النبات الذي ترعاه الدواب ، حالة كون هذا النبات أخضر رطبا. ثم يحوله بقدرته ـ تعالى ـ بعد حين إلى نبات يابس جاف.

وهذا من أكبر الأدلة المشاهدة ، على أنه ـ تعالى ـ يتصرف في خلقه كما يشاء ، فهو القادر على تحويل الزرع الأخضر إلى زرع يابس جاف ، كما أنه قادر على إحياء الإنسان بعد موته.

فالمقصود من هذه الآيات الكريمة ، الإرشاد إلى كمال قدرته ، وتنوع نعمه ـ سبحانه ـ ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، وحتى يعود الكافرون إلى رشدهم بعد هذا البيان الواضح الحكيم.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى).

والنسيان : زوال ما كان موجودا في حافظة الإنسان. والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل. ومفعول المشيئة محذوف. جريا على غالب استعماله في كلام العرب ..

أى : سنقرئك ـ أيها الرسول الكريم ـ القرآن على لسان أمين وحينا جبريل ـ عليه‌السلام ـ. وسنجعلك حافظا وواعيا لما سيقرؤه جبريل عليك ، بحيث لا تنساه في وقت من الأوقات ، أو في حال من الأحوال ، إلا في الوقت أو في الحال الذي يشاء الله ـ تعالى ـ أن ينسيك شيئا من ذلك. فإنك ستنساه بأمره ـ تعالى ـ لأنه وحده ـ عزوجل ـ هو العليم بما كان ظاهرا من الأشياء ، وبما كان خافيا منها.

فالمقصود من هاتين الآيتين : وعد الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أنه ـ سبحانه ـ ، كما أنه قادر على أن يقرئ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءة لا ينساها ، فهو أيضا قادر على أن يزيل من صدره ما يشاء إزالته ، عن طريق النسيان لما حفظه.

فالمراد بهذا الاستثناء : بيان أنه ـ تعالى ـ لو أراد أن يصير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسيا للقرآن لقدر على ذلك ، كما قال ـ سبحانه ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ..)

٣٦٤

إذ هو ـ تعالى ـ على كل شيء قدير ، ولكنه لم يشأ ذلك فضلا منه وكرما.

قال الإمام الشوكانى ما ملخصه : قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أى : سنجعلك قارئا بأن نلهمك القراءة. فلا تنسى ما تقرؤه ، والجملة مستأنفة لبيان هدايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخاصة ، بعد بيان الهداية العامة ، وهي هدايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفظ القرآن.

وقوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أى : لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، وهو لم يشأ ـ سبحانه ـ أن ينسى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا كقوله ـ تعالى ـ (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). وقيل : «لا» في قوله (فَلا تَنْسى) للنهى ، والألف مزيدة لرعاية الفاصلة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ، يعنى : فلا تغفل عن قراءته (١).

وقال الإمام الرازي : وهاتان الآيتان تدلان على المعجزة من وجهين :

أحدهما : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا ، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ، ولا تكرار ، ولا كتبة ، خارق للعادة فيكون معجزا. وثانيهما : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة. سيقع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخبارا عن الغيب ، فيكون معجزا .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معطوف على قوله (سَنُقْرِئُكَ) وجملة : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) معترضة.

والتيسير بمعنى التسهيل والتخفيف ، وهو جعل العمل يسيرا على عامله بأن يهيئ الله ـ تعالى ـ للعامل الأسباب التي تهون له العسير ، وتقرب له البعيد.

واليسرى : مؤنث الأيسر ، بمعنى الأسهل ، والموصوف محذوف.

والمعنى : سنجعلك ـ أيها الرسول الكريم ـ صاحب ذاكرة قوية تحفظ القرآن ولا تنساه. وسنوفقك توفيقا دائما للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين : علما وعملا ، واهتداء وهداية ـ وسنرزقك الأمور الحسنة التي تجعلك تعيش سعيدا في دنياك ، وظافرا برضواننا في أخراك.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٤٢٤.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٣٨١.

٣٦٥

ولقد أنجز الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعده ، حيث أعطاه شريعة سمحة ، ومنحه أخلاقا كريمة ، من مظاهرها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ودعا أتباعه إلى الأخذ بمبدأ التيسير ، فقال : «يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ..».

فهاتان بشارتان عظيمتان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أولاهما : تتمثل في إلهامه الذاكرة الواعية الحافظة لما يوحى اليه. وثانيتهما : توفيقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشريعة اليسرى ، وإلى الأخلاق الكريمة وإلى الأخذ بما هو أرفق وأيسر في كل أحواله.

ثم أمره ـ تعالى ـ بدوام التذكير بدعوة الحق بدون إبطاء أو يأس فقال : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى).

والفاء في قوله (فَذَكِّرْ) للتفريع على ما تقدم ، والأمر مستعمل هنا في طلب المداومة على التذكير بدعوة الحق التي أرسله ـ سبحانه ـ بها ، والذكرى : بمعنى التذكير.

والمعنى : إذا كان الأمر كما أخبرناك ـ أيها الرسول الكريم ـ فداوم على تذكير الناس بالهدى ودين الحق ، واتبع في ذلك الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، واهتم في تذكيرك بمن تتوقع منهم قبول دعوتك ، وأعرض عن الجاحدين والمعاندين والجاهلين.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع .. فما معنى اشتراط النفع؟ ..

قلت : هو على وجهين : أحدهما. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوا وطغيانا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلظى حسرة وتلهفا ، ويزداد جدا في تذكيرهم ، وحرصا عليه ، فقيل له : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير.

والثاني : أن يكون ظاهره شرطا ، ومعناه ذمّا للمذكّرين ـ بتشديد الكاف المفتوحة ـ وإخبارا عن حالهم ، واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم ، وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ : عظ المكاسين إن سمعوا منك ، قاصدا بهذا الشرط ، استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون .. (١).

وقال الإمام الرازي ما ملخصه : جاء التعليق بالشرط في قوله ـ تعالى ـ : (فَذَكِّرْ إِنْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٣٨.

٣٦٦

نَفَعَتِ الذِّكْرى) مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلوب منه أن يذكر الناس جميعا ، نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم ـ للتنبيه على أشرف الحالين ، وهو وجود النفع الذي من أجله شرعت الذكرى ، كقوله ـ تعالى ـ : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ). وللإشعار بأن المراد من الشرط : البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول الإنسان لغيره بعد أن بين له الحق ، قد أوضحت لك الأمر إن كنت تعقل ، فيكون مراده الحض على القبول .. (١).

ويبدو لنا أن المقصود بالآية الكريمة ، تحريض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المداومة على دعوة الناس إلى قبول الحق الذي جاء به ، فإن هذا التذكير إن لم ينفع الناس جميعا ، فسينفع بعضهم ، فقد اقتضت سنة الله ـ تعالى ـ أن لا تخلو الأرض ممن يستمع إلى الحق ، ويستجيب له.

ويدل على هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أى : سينتفع بتذكيرك ـ أيها الرسول الكريم ـ من يخشى الله ـ تعالى ـ ويخاف عذابه ، ويرجو ثوابه.

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) أى : ويتجنب الذكرى ، ويبتعد عن الموعظة ، ويتجافى عن النصيحة ، الإنسان الشديد الشقاوة والتعاسة ، الذي أبى إلا الإصرار على كفره وعناده ، وخلا من خشية الله ـ تعالى ـ. والمراد بالأشقى : الجنس ، أى : يبتعد عن الانتفاع بالتذكير جميع الأشقياء وهم الكافرون.

وقيل : المراد به الكافر المتوغل في كفره كأبى جهل والوليد بن المغيرة وأشباههما.

وقوله : (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) صفة للأشقى. أى : سيبتعد عن الانتفاع بتذكيرك ـ أيها الرسول الكريم ـ الكافر المصر على كفره ، الذي من صفاته أنه سيصلى وسيلقى في أشد طبقات النار سعيرا وحريقا ، وهي الطبقة السفلى منها.

فوصف النار بالكبرى ، من قبيل التهويل والإنذار للمصرين على كفرهم (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أى : ثم إن هذا الشقي بعد أن يلقى به في النار الكبرى ، (لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العذاب (وَلا يَحْيى) حياة طيبة فيها شيء من الراحة ، بل يبقى هكذا (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (٢).

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٣٨٢.

(٢) سورة فاطر الآية ٣٦.

٣٦٧

وبعد هذا البيان الذي يهز القلوب .. عن سوء عاقبة الأشقياء ، ساق ـ سبحانه ـ ما يدخل البهجة والسرور على النفوس ، عن طريق بيان حسن عاقبة السعداء ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).

أى : قد أفلح وفاز وانتفع بالتذكير ، من حاول تزكية نفسه وتطهيرها من كل سوء.

ومن ذكر اسم ربه بقلبه ولسانه ، فصلى الصلوات الخمس التي فرضها الله ـ تعالى ـ عليه. وأضاف إليها ما استطاع من نوافل وسنن.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ) ليجمع في هذا التعبير البليغ ، كل معاني الخير والنفع ، لأن الفلاح معناه : وصول المرء إلى ما يطمح إليه من فوز ونفع. وجاء التعبير بالماضي المسبوق بقد ، للدلالة على تحقيق هذا الفلاح بفضل الله ـ تعالى ـ ورحمته.

وقد اشتملت هاتان الآيتان على الطهارة من العقائد الباطلة (تَزَكَّى) وعلى استحضار معرفة الله ـ تعالى ـ (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) وعلى أداء التكاليف الشرعية التي على رأسها الصلاة (فَصَلَّى).

وهذه المعاني هي التي وصلت صاحبها إلى الفلاح الذي ليس بعده فلاح.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) الإضراب فيه عن كلام مقدر يفهم من السياق.

والمعنى : لقد بينت لكم ما يؤدى إلى فلاحكم وفوزكم .. ولكنكم ـ يا بنى آدم ـ كثير منكم لم يستجب لما بينته له ، بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا ، بأن تقدموا زينتها وشهواتها ومتعها .. على ما ينفعكم في آخرتكم ، والحال أن ما في الدار الآخرة من نعيم ، خير وأبقى من حطام الدنيا ، لأن الدنيا ومتعها زائلة ، أما الآخرة فخيرها باق لا يزول.

والخطاب لجميع الناس ، ويدخل فيه الكافرون دخولا أوليا ، وعليه يكون المراد بإيثار الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمنين ، ما لا يخلو منه غالب الناس ، من اشتغالهم في كثير من الأحيان بمنافع الدنيا ، وتقصيرهم فيما يتعلق بآخرتهم.

ويرى كثير من العلماء : أن الخطاب للكافرين على سبيل الالتفات ، ويؤيد أن الخطاب للكافرين قراءة أبى عمرو بالياء على طريقة الغيبة.

أى : بل إن الكافرين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، مع أن الآخرة خير وأبقى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة بقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أى : إن هذا الذي ذكرناه من فلاح من تزكى ، ومن إيثاركم الحياة الدنيا على

٣٦٨

الآخرة ، لكائن وثابت ومذكور في الصحف الأولى ، التي هي صحف إبراهيم وموسى ، التي أنزلها ـ سبحانه ـ على هذين النبيين الكريمين ، ليعلما الناس ما اشتملت عليه من آداب وأحكام ومواعظ. وفي إبهام هذه الصحف ، ووصفها بالقدم ، ثم بيان أنها لنبيين كريمين من أولى العزم من الرسل ، تنويه بشأنها ، وإعلاء من قدرها.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٣٦٩
٣٧٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الغاشية

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الغاشية» ، وتسمى سورة «هل أتاك حديث الغاشية» من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ست وعشرون آية ، وهي السورة الثامنة والثمانون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة السابعة والستون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة «الذاريات» وقبل سورة «الكهف».

٢ ـ وهي من السور التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها كثيرا ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه ، عن النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ «سبح اسم ربك الأعلى» «والغاشية» في صلاة الجمعة والعيدين.

وفي رواية ـ أيضا ـ عن النعمان بن بشير أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ هذه السورة مع سورة الجمعة ، في صلاة الجمعة.

٣ ـ وقد اشتملت السورة الكريمة على بيان أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، كما لفتت أنظار الناس إلى مظاهر قدرة الله في خلقه ، لكي يتفكروا ويتدبروا أن الخالق لهذه الأشياء بتلك الصورة البديعة ، هو المستحق للعبادة والطاعة ، وأنهم سيعودون إليه للحساب والجزاء (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

٣٧١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) للتحقيق والتقرير ، أو المقصود به التعجيب من حديث القيامة ، والتشويق إلى الاستماع إليه.

والغاشية : لفظ مشتق من الغشيان ، وهو تغطية الشيء لغيره ، يقال : غشيه الأمر ، إذا

٣٧٢

غطاه ، والمقصود بالغاشية يوم القيامة ، ووصف يوم القيامة بذلك ، لأنه يغشى الناس بأهواله وشدائده ، ويغطى عقولهم عن التفكير في أى شيء سواه.

والمعنى : هل بلغك ـ أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب ـ حديث يوم القيامة ، الذي يغشى الناس بأحواله المفزعة ، ويعمهم بشدائده .. إن كان لم يأتك فهذا خبره ، وتلك هي أقسام الناس فيه.

وافتتاح السورة بهذا الافتتاح ـ بجانب ما فيه من تشويق ـ يدل على أهمية هذا الخبر ، وأنه من الأخبار التي ينبغي الاستعداد لما اشتملت عليه من معاني لا يصح التغافل عنها.

ثم فصل ـ سبحانه ـ أحوال الناس في هذا اليوم فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ).

قال الشوكانى : الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما هو؟ أو مستأنفة استئنافا نحويا ، لبيان ما تضمنته من كون ثمّ وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة ، و «وجوه» مرتفع على الابتداء ـ وإن كانت نكرة ـ لوقوعه في مقام التفصيل .. والتنوين في «يومئذ» عوض عن المضاف إليه. أى : يوم غشيان الغاشية.

والخاشعة : الذليلة الخاضعة ، وكل متضائل ساكن يقال له خاشع .. (١).

والمراد بالوجوه : أصحابها ، من باب التعبير عن الكل بالبعض ، وخصت الوجوه بالذكر ، لأنها أشرف أعضاء الإنسان ، ولأنها هي التي تظهر عليها الآثار المختلفة من حزن أو فرح. أى : وجوه في يوم قيام الساعة ، تكون خاشعة ذليلة ، تبدو عليها آثار الهوان والانتكاس والخزي ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ..).

وهذه الوجوه ـ أيضا ـ من صفاتها أنها (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أى : مكلفة بالعمل الشاق المرهق الذي تنصب له الوجوه في هذا اليوم ، وتتعب تعبا ما عليه من مزيد ، كجر السلاسل ، وحمل الأغلال ، والخوض في النار.

فقوله : (عامِلَةٌ) اسم فاعل من العمل ، والمراد به هنا : العمل الشاق المهين.

وقوله : (ناصِبَةٌ) من النّصب ، بمعنى : التعب والإعياء يقال : نصب فلان بكسر الصاد ـ كفرح ـ ينصب نصبا ، إذا تعب في عمله تعبا شديدا.

وفي هذه الصفات زيادة توبيخ لأهل النار ، لأنهم لما تركوا في الدنيا الخشوع لله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٤٢٨ للشوكانى.

٣٧٣

والعمل لصالح ، وآثروا متع الدنيا على ثواب الآخرة .. كان جزاؤهم يوم القيامة ، الإذلال ، والعمل الشاق المهين الذي لا تعقبه راحة.

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن هذه الوجوه الشقية بأخبار أخرى فقال : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أى : أن هذه الوجوه تشوى بالنار الحامية يوم القيامة. يقال : صلى فلان النار فهو يصلاها ، إذا لفحته بحرها لفحا شديدا.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أى : هذه الوجوه يسقى أصحابها من عين قد بلغت النهاية في الحرارة والغليان ، إذ الشيء الآتي ، هو الذي بلغ النهاية في الحرارة ، يقال : أتى الماء يأتى ـ كرمى يرمى ـ ، إذا بلغ الغاية في الغليان ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ).

قال الإمام ابن جرير : قوله : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أى : تسقى أصحاب هذه الوجوه من شراب عين قد أنى حرها ، فبلغ غايته في شدة الحر ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .. فعن ابن عباس : هي التي قد طال أنيها ـ أى : حرها ـ.

وقال بعضهم : عنى بقوله : (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أى : من عين حاضرة ـ أى : حاضرة لعذابهم .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ).

والضريع : هو شجر في النار يشبه الشوك ، فيه ما فيه من المرارة والحرارة وقبح الرائحة.

وقوله : (يُسْمِنُ) من السّمن ـ بكسر السين وفتح الميم ـ وهو وفرة اللحم والشحم في الحيوان وغيره. يقال : فلان أسمنه الطعام ، إذا عاد عليه بالسمن.

وقوله (يُغْنِي) من الإغناء ودفع الحاجة. يقال : أغنانى هذا الشيء عن غيره ، إذا كفاه واستغنى به عن سواه. أى : أن أصحاب هذه الوجوه التعيسة بجانب شرابهم من الماء البالغ النهاية في الحرارة ، لهم ـ أيضا ـ طعام من أقبح الطعام وأردئه وأشنعه وأشده مرارة .. هذا الطعام لا يأتى بسمن ، ولا يغنى من جوع ، بل إن آكله ليزدرده رغما عنه.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد أخبر عن أصحاب هذه الوجوه الشقية بجملة من الأخبار المحزنة المؤلمة ، التي منها ما يتعلق بهيئاتهم ، ومنها ما يتعلق بأحوالهم ، ومنها ما يتعلق بشرابهم ، ومنها ما يتعلق بطعامهم.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٠٢.

٣٧٤

ووصف ـ سبحانه ـ طعامهم بأنه لا يسمن ولا يغنى من جوع ، لزيادة تقبيح هذا الطعام ، وأنه شر محض ، لا مكان لأية فائدة معه.

قال صاحب الكشاف : الضريع : اليابس من نبات الشبرق ، وهو جنس من الشوك ، ترعاه الإبل مادام رطبا. فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل ..

فإن قلت : كيف قيل : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وفي الحاقة (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ؟). قلت : العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات ، فمنهم : أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع.

والضريع : منفعتا الغذاء منفيتان عنه : وهما إماطة الجوع ، وإفادة القوة والسمن في البدن. أو أريد : أن لا طعام لهم أصلا ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم ، فضلا عن الإنس ، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن ، وهما منه بمعزل ، كما تقول : ليس لفلان ظل إلا الشمس. تريد : نفى الظل على التوكيد .. (١).

وبعد هذا الحديث المؤثر عن الكافرين وسوء عاقبتهم .. جاء الحديث عن المؤمنين ونعيمهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ).

قال الآلوسى : قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) شروع في رواية حديث أهل الجنة ، وتقديم حكاية أهل النار ، لأنه أدخل في تهويل الغاشية ، وتفخيم حديثها ، ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة ، بعد حكاية سوء أهل النار ، مما يزيد المحكي حسنا وبهجة .. وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة ، إيذانا بكمال التباين بين مضمونهما .. (٢).

أى : وجوه كثيرة تكون يوم القيامة ، ذات بهجة وحسن ، وتكون متنعمة في الجنة بما أعطاها ـ سبحانه ـ من خير عميم ، جزاء عملها الصالح في الدنيا.

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أى : لعملها الذي عملته في الدنيا راضية ، لأنها قد وجدت من الثواب عليه في الآخرة ، أكثر مما كانت تتوقع وترجو.

فالمراد بالسعي : العمل الذي كان يعمله الإنسان في الدنيا ، ويسعى به من أجل الحصول على رضا خالقه ، وهو متعلق بقوله (راضِيَةٌ). وقدم عليه للاعتناء بشأن هذا السعى.

وقوله ـ تعالى ـ : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) بيان لسمو مكانتهم. أى : هم كائنون في جنة

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٤٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١١٤.

٣٧٥

عالية ، مرتفعة المكان والمكانة. فقد وصفت الجنة بالعلو ، للمبالغة في حسنها وفي علو منزلتها ، فقد جرت العادة أن تكون أحسن الجنات ، ما كانت مرتفعة على غيرها.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذه الجنة بجملة من الصفات الكريمة فقال : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً). أى : لا تسمع في هذه الجنة كلمة ذات لغو. واللغو : هو الكلام الساقط الذي لا فائدة فيه. أى : أنك ـ أيها المخاطب ـ لا تسمع في الجنة إلا الكلام الذي تسر له نفسك ، وتقرّ به عينك ، فلفظ اللاغية هنا : مصدر بمعنى اللغو ، مثل الكاذبة للكذب ، وهو صفة لموصوف محذوف.

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أى : في هذه الجنة عيون تجرى بالماء العذب الزلال المتدفق.

قال صاحب الكشاف : قوله : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) يريد عيونا في غاية الكثرة ، كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).

فالمراد بالعين هنا : جنس العيون ، وبالجارية : التي لا ينقطع ماؤها .. (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أى : في الجنة أماكن يجلس عليها أهلها جلوسا مرتفعا عن الأرض.

وينامون فوقها نوما هادئا لذيذا .. والسرر : جمع سرير ، وهو الشيء ذو القوائم المرتفعة الذي يتخذ للجلوس والاضطجاع.

ووصف ـ سبحانه ـ هذه السرر بالارتفاع ، لزيادة تصوير حسنها.

(وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) والأكواب جمع كوب. وهو عبارة عن الإناء الذي تشرب فيه الخمر. أى : وفي الجنة أكواب كثيرة قد وضعت بين أيدى أهلها ، بحيث يشربون من الخمر التي وضعت فيها ، دون أن يجدوا أى عناء في الحصول عليها.

(وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) والنمارق : جمع نمرقة ـ بضم النون وسكون الميم وضم الراء ـ ، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكئ عليها الجالس والمضجع. أى : وفي الجنة وسائد كثيرة ، قد صف بعضها إلى جانب بعض صفا جميلا ، بحيث يجدها الجالس قريبة منه في كل وقت.

(وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) والزرابي جمع زربية ـ بتثليث الزاى ـ وهي البساط الواسع الفاخر ، أو ما يشبهه من الأشياء الثمينة التي تتخذ للجلوس عليها. والمبثوثة : أى : المنتشرة على الأرض ، من البث بمعنى النشر ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ).

أى : وفيها بسط فاخرة جميلة .. مبسوطة في كل مكان ، ومتفرقة في كل مجلس.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف الجنة التي أعدها ـ سبحانه ـ لعباده المتقين ، بعدد من الصفات الكريمة المتنوعة.

٣٧٦

وصفها بأنها عالية في ذاتها ، وبأنها خالية من الكلام الساقط ، وبأن مياهها لا تنقطع ، وبأن أثاثها في غاية الفخامة ، حيث اجتمع فيها كل ما هو مريح ولذيذ.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من أهلها.

ثم ساق ـ سبحانه ـ أنواعا من الأدلة المشاهدة ، التي لا يستطيع أحد إنكارها ، ليلفت أنظار الناس إلى مظاهر قدرته ووحدانيته. فقال ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ).

والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والتحريض على التأمل والتفكر ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والمراد بالنظر : التدبر في تلك المخلوقات ، فإن من شأن هذا التدبر ، أنه يؤدى إلى الاعتبار والانتفاع .. والخطاب لأولئك الكافرين الجاهلين ، الذين أمامهم الشواهد الواضحة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، ومع ذلك لم ينتبهوا لها.

والمعنى : أيستمر هؤلاء الكافرون في جهلهم وضلالهم ، وفي إنكارهم لأمر البعث والحساب والجزاء .. فلا ينظرون نظر اعتبار وتأمل ، إلى الإبل ـ وهي أمام أعينهم ـ كيف خلقها الله ـ تعالى ـ بهذه الصورة العجيبة ، وأوجد فيها من الأعضاء المتناسقة ، ومن التكوين الخلقي ، ما يجعلها تؤدى وظيفتها النافعة لبنى آدم ، على أكمل وجه ، فمن لبنها يشربون ، ومن لحمها يأكلون ، وعلى ظهرها يسافرون ، وأثقالهم عليها يحملون.

وخص ـ سبحانه ـ الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات ، لأنها أعز الأموال عند العرب ، وأقربها إلى مألوفهم وحاجتهم ، وأبدعها خلقا وهيئة وتكوينا.

قال صاحب الكشاف : قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) نظر اعتبار (كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقا عجيبا ، دالا على تقدير مقدر ، شاهدا بتدبير مدبر ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال ، وجرها إلى البلاد الشاحطة. أى البعيدة ، فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت ، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها ، لا تعارض ضعيفا ، ولا تمانع صغيرا.

فإن قلت : كيف حسن ذكر الإبل ، مع السماء والجبال والأرض ، ولا مناسبة؟ ..

قلت : قد انتظم هذه الأشياء ، نظر العرب في أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم .. (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٤٥.

٣٧٧

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أى : وهلا نظروا إلى السماء نظر اعتبار واتعاظ ، فعرفوا أن الذي خلقها هذا الخلق البديع ، بأن رفعها بدون أعمدة .. هو الله ـ عزوجل ـ.

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أى : كيف وجدت بهذا الوضع الباهر بأن نصبت على وجه الأرض نصبا ثابتا راسخا. يحمى الأرض من الاضطراب والتزلزل.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أى : كيف سويت وفرشت وبسطت بطريقة تجعل الناس يتمكنون من الانتفاع بخيرها ، ومن الاستقرار عليها ، وهذا لا ينافي كونها كروية ، لأن الكرة إذا اشتد عظمها .. كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها.

وبعد هذا التوبيخ لأولئك المشركين الذين عموا وصموا عن الحق ، ولم ينتبهوا لآيات الله ـ تعالى ـ الدالة على قدرته ووحدانيته .. أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يداوم على التذكير بدعوة الحق ، فقال : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

والفاء في قوله (فَذَكِّرْ) للتفريع ، وترتيب ما بعدها على ما قبلها. والأمر مستعمل في طلب الاستمرار والدوام في دعوته الناس إلى الحق ، ومفعول : «فذكر» محذوف للعلم به.

وجملة «إنما أنت مذكر» تعليل للأمر بالمواظبة على تبليغ الناس ما أمره بتبليغه.

والمصيطر : هو المتسلط ، المتجبر ، الذي يجبر الناس على الانقياد لما يأمرهم به.

وقد قرأ الجمهور هذا اللفظ بالصاد ، وقرأ ابن عامر بالسين.

أى : إذا كان الأمر كما بينا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أحوال الناس يوم الغاشية ، ومن أننا نحن الذين أوجدنا هذا الكون بقدرتنا .. فداوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على دعوة الناس إلى الدين الحق ، فهذه وظيفتك التي لا وظيفة لك سواها ، وكل أمرهم بعد ذلك إلينا ، فأنت لست بمجبر لهم أو مكره إياهم على اتباعك ، وإنما أنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) كلام معترض بين قوله : (فَذَكِّرْ ...) وبين قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) والاستثناء فيه استثناء منقطع ، و «إلا» بمعنى لكن ، و «من» موصولة مبتدأ .. والخبر. «فيعذبه الله العذاب الأكبر» ..

أى : داوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على التذكير .. لكن من تولى وأعرض عن تذكيرك وإرشادك ، وأصر على كفره ، فنحن الذين سنتولى تعذيبهم تعذيبا شديدا.

٣٧٨

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

وهاتان الآيتان تعليل لقوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

والإياب مأخوذ من الأوب بمعنى الرجوع إلى المكان الذي كان فيه قبل ذلك. والمراد به هنا : الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ يوم القيامة للحساب والجزاء.

أى : داوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على تذكير الناس بدعوة الحق ، بدون إجبار لهم ، أو تسلط عليهم ، واتركهم بعد ذلك وشأنهم .. فإن إلينا وحدنا رجوعهم بعد الموت لا إلى أحد سوانا ، ثم إن علينا وحدنا ـ أيضا ـ حسابهم على أعمالهم ، ومجازاتهم عليها بالجزاء الذي نراه مناسبا لهم.

وصدر ـ سبحانه ـ الآيتين بحرف التأكيد «إن» وعطف الثانية على الأولى بحرف «ثم» المفيد للتراخي في الرتبة ، وقدم خبر «إن» في الجملتين على اسمها .. لإفادة التهديد والوعيد ، وتأكيد أن رجوعهم إليه ـ تعالى ـ أمر لا شك فيه. وأن حسابهم يوم القيامة سيكون حسابا عسيرا ، لأنه صادر عمن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من عباده الصالحين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

٣٧٩
٣٨٠