التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

الله ـ تعالى ـ ملائكته بقوله : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) ..

وقوله : (فَغُلُّوهُ) من الغل ـ بضم الغين ـ وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإذلال.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أى : ثم بعد هذا التقييد والإذلال .. اقذفوا به إلى الجحيم ، وهي النار العظيمة ، الشديدة التأجج والتوهج.

ومعنى (صَلُّوهُ) بالغوا في تصليته النار ، بغمسه فيها مرة بعد أخرى. يقال : صلى فلان النار ، إذا ذاق حرها ، وصلّى فلان فلانا النار ، إذا أدخله فيها. وقلبه على جمرها كما تقلب الشاة في النار.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) والسلسلة : اسم لمجموعة من حلق الحديد ، يربط بها الشخص لكي لا يهرب ، أو لكي يزاد في إذلاله وهو المراد هنا.

وقوله : (ذَرْعُها) أى : طولها. والمراد بالسبعين : حقيقة هذا المقدار في الطول ، أو يكون هذا العدد كناية عن عظيم طولها ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...) (١).

وقوله : (فَاسْلُكُوهُ) من السّلك بمعنى الإدخال في الشيء ، كما في قوله ـ تعالى ـ (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أى : ما أدخلكم فيها.

أى : خذوا هذا الكافر ، فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة. ثم اجعلوه مغلولا في سلسلة طولها سبعون ذراعا ، بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة. أى ألقوا به في الجحيم وهو مكبل في أغلاله.

و (ثُمَ) في كل آية جيء بها للتراخي الرتبى ، لأن كل عقوبة أشد من سابقتها. إذ إدخاله في السلسلة الطويلة. أعظم من مطلق إلقائه في الجحيم كما أن إلقاءه في الجحيم ، أشد من مطلق أخذه وتقييده.

وفي هذه الآيات ما فيها من تصوير يبعث في القلوب الخوف الشديد ، ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم. الذي لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث والآثار ، منها : ما رواه ابن أبى حاتم ، عن المنهال بن عمرو قال : إذا قال الله ـ عزوجل ـ (خُذُوهُ ..) ابتدره

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٨٠.

٨١

سبعون ألف ملك ، وإن الملك منهم ليقول هكذا ـ أى : ليفعل هكذا ـ فيلقى سبعين ألفا في النار (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أدت بهذا الشقي إلى هذا المصير الأليم فقال : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

أى : إن هذا الشقي إنما حل به ما حل من عذاب .. لأنه كان في الدنيا ، مصرا على الكفر ، وعلى عدم الإيمان بالله الواحد القهار ..

وكان كذلك (لا يَحُضُ) أى : لا يحث نفسه ولا غيره (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أى : على بذل طعامه أو طعام غيره للمسكين ، الذي حلت به الفاقة والمسكنة.

ولعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر ، أن أقبح شيء يتعلق بالعقائد ، وهو الكفر بالله ـ تعالى ـ وأن أقبح شيء في الطباع ، هو البخل وقسوة القلب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ، بزيادة البيان للمصير الأليم لهذا الشقي فقال : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ) أى : يوم القيامة (هاهُنا حَمِيمٌ) أى : ليس له في هذا اليوم من صديق ينفعه ، أو من قريب يشفق عليه ، أو يحميه ، أو يدفع عنه.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أى : وليس له في جهنم من طعام سوى الغسلين وهو صديد أهل النار .. أو شجر يأكله أهل النار ، فيغسل بطونهم ، أى : يخرج أحشاءهم منها ، أو ليس لهم إلا شر الطعام وأخبثه.

(لا يَأْكُلُهُ) أى : الغسلين (إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أى : إلا الكافرون الذين تعمدوا ارتكاب الذنوب ، وأصروا عليها ، من خطئ الرجل : إذا تعمد ارتكاب الذنب.

فالخاطئ هو من يرتكب الذنب عن تعمد وإصرار. والمخطئ : هو من يرتكب الذنب عن غير إصرار وتعمد.

وهكذا. نجد الآيات الكريمة قد ساقت أشد ألوان الوعيد والعذاب .. للكافرين ، بعد أن ساقت قبل ذلك ، أعظم أنواع النعيم المقيم للمؤمنين.

وبعد هذا العرض ـ الذي بلغ الذروة في قوة التأثير ـ لأهوال يوم القيامة ، ولبيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة المكذبين .. بعد كل ذلك أخذت السورة في أواخرها ، في تقرير حقيقة هذا الدين ، وفي تأكيد صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وفي بيان أن هذا القرآن من عنده ـ تعالى ـ وحده .. فقال ـ سبحانه ـ :

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٤٣.

٨٢

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

والفاء في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) للتفريع على ما فهم مما تقدم ، من إنكار المشركين ليوم القيامة ، ولكون القرآن من عند الله.

و (فَلا) في مثل هذا التركيب يرى بعضهم أنها مزيدة ، فيكون المعنى : أقسم بما تبصرون من مخلوقاتنا كالسماء والأرض والجبال والبحار ... وبما لا تبصرون منها ، كالملائكة والجن.

وقوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) جواب القسم ، وهو المحلوف عليه أى : أقسم إن هذا القرآن لقول رسول كريم ، هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأضاف ـ سبحانه ـ القرآن إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار أنه هو الذي تلقاه عن الله ـ تعالى ـ وهو الذي بلغه عنه بأمره وإذنه.

أى : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول هذا القرآن ، وينطق به ، على وجه التبليغ عن الله ـ تعالى ـ.

قال الإمام ابن كثير : قوله (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضافه إليه على معنى التبليغ ، لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ، ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي فقال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٤٤.

٨٣

وبعضهم يرى أن «لا» في مثل هذا التركيب ليست مزيدة ، وإنما هي أصلية ، ويكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان أن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم ، إذ كل عاقل عند ما يقرأ القرآن ، يعتقد أنه من عند الله.

ويكون المعنى : فلا أقسم بما تبصرونه من مخلوقات ، وبما لا تبصرونه .. لظهور الأمر واستغنائه عن القسم.

قال الشوكانى : قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) هذا رد لكلام المشركين ، كأنه قال : ليس الأمر كما تقولون. و «لا» زائدة والتقدير : فأقسم بما تشاهدونه وبما لا تشاهدونه.

وقيل إن «لا» ليست زائدة ، بل هي لنفى القسم ، أى : لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك. والأول أولى (١).

وتأكيد قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) بإنّ وباللام ، للرد على المشركين الذين قالوا عن القرآن الكريم : أساطير الأولين.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذا التأكيد تأكيدات أخرى فقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ ، قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

والشاعر : هو من يقول الشعر. والكاهن : هو من يتعاطى الكهانة عن طريق الزعم بأنه يعلم الغيب.

وانتصب «قليلا» في الموضعين على أنه صفة لمصدر محذوف ، و «ما» مزيدة لتأكيد القلة.

والمراد بالقلة في الموضعين انتفاء الإيمان منهم أصلا أو أن المراد بالقلة : إيمانهم اليسير ، كإيمانهم بأن الله هو الذي خلقهم ، مع إشراكهم معه آلهة أخرى في العبادة.

أى : ليس القرآن الكريم بقول شاعر ، ولا بقول كاهن ، وإنما هو تنزيل من رب العالمين ، على قلب نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يبلغه إليكم ، ولكي يخرجكم بواسطته من ظلمات الكفر ، إلى نور الإيمان.

ولكنكم ـ أيها الكافرون ـ لا إيمان عندكم أصلا ، أو قليلا ما تؤمنون بالحق ، وقليلا ما تتذكرونه وتتعظون به.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٢٨٥.

٨٤

ففي الآيتين رد على الجاحدين الذين وصفوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه شاعر أو كاهن.

وخص هذين الوصفين بالذكر هنا لأن وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه (رَسُولٍ كَرِيمٍ) كاف لنفى الجنون أو الكذب عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما وصفه بالشعر والكهانة فلا ينافي عندهم وصفه بأنه كريم ، لأن الشعر والكهانة كان معدودين عندهم من صفات الشرف ، لذا نفى ـ سبحانه ـ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه شاعر أو كاهن ، وأثبت له أنه رسول كريم.

وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) تأكيد لكون القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وأنه ليس بقول شاعر أو كاهن.

أى : هذا القرآن ليس كما زعمتم ـ أيها الكافرون ـ وإنما هو منزل من رب العالمين ، لا من أحد سواه ـ عزوجل ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يحدث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أنه ـ على سبيل الفرض ـ غيّر أو بدل شيئا من القرآن فقال : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).

والتقول : افتراء القول ، ونسبته إلى من لم يقله ، فهو تفعل من القول يدل على التكلف والتصنع والاختلاق.

والأقاويل : جمع أقوال ، الذي هو جمع قول ، فهو جمع الجمع.

أى : ولو أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم افترى علينا بعض الأقوال ، أو نسب إلينا قولا لم نقله ، أو لم نأذن له في قوله .. لو أنه فعل شيئا من ذلك على سبيل الفرض.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أى : لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه ، وهو كناية عن إذلاله وإهانته.

أو : لأخذناه بالقوة والقدرة ، وعبر عنهما باليمين ، لأن قوة كل شيء في ميامنه.

والمقصود بالجملة الكريمة : التهويل من شأن الأخذ ، وأنه أخذ شديد سريع لا يملك معه تصرفا أو هربا.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذا التهويل ما هو أشد منه في هذا المعنى فقال : (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ).

أى : ثم بعد هذا الأخذ بقوة وسرعة ، لقطعنا وتينه. وهو عرق يتصل بالقلب. متى قطع مات صاحبه.

٨٥

وهذا التعبير من مبتكرات القرآن الكريم ، ومن أساليبه البديعة ، إذ لم يسمع عن العرب أنهم عبروا عن الإهلاك بقطع الوتين.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن أحدا لن يستطيع منع عقابه فقال : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).

أى : فما منكم من أحد ـ أيها المشركون ـ يستطيع أن يدفع عقابنا عنه ، أو يحول بيننا وبين ما نريده ، فالضمير في «عنه» يعود إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات : التقول : افتعال القول ، كأن فيه تكلفا من المفتعل ، وسمى الأقوال المتقولة «أقاويل» ، تصغيرا بها وتحقيرا ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول.

والمعنى : ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم. معاجلة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده ، وتضرب رقبته.

وخص اليمين عن اليسار ، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا المقتول أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف ـ وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ـ أخذ بيمينه.

ومعنى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) : لأخذنا بيمينه. كما أن قوله : (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) : لقطعنا وتينه ، والوتين : نياط القلب ، وهو حبل الوريد ، إذا قطع مات صاحبه (١).

وفي هذه الآيات الكريمة أقوى الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ لأنه لو كان ـ كما زعم الزاعمون أنه من تأليف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نطق بهذه الألفاظ التي فيها ما فيها من تهديده ووعيده.

كما أنها كذلك فيها إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتقول شيئا .. وإنما بلّغ هذا القرآن عن ربه ـ عزوجل ـ دون أن يزيد حرفا أو ينقص حرفا .. لأن حكمة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن يهلك كل من يفترى عليه الكذب ، ومن يزعم أن الله ـ تعالى ـ أوحى إليه ، مع أنه ـ سبحانه ـ لم يوح إليه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٠٧.

٨٦

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) معطوف على قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

أى : إن هذا القرآن لقول رسول كريم بلغه عن الله ـ تعالى ـ وإنه لتذكير وإرشاد لأهل التقوى ، لأنهم هم المنتفعون بهداياته.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) تبكيت وتوبيخ لهؤلاء الكافرين ، الذين جحدوا الحق بعد أن تبين لهم أنه حق.

أى : وإنا لا يخفى علينا أن منكم ـ أيها الكافرون ـ من هو مكذب للحق عن جحود وعناد ، ولكن هذا لن يمنعنا من إرسال رسولنا بهذا الدين لكي يبلغه إليكم ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وسنجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) بيان لما يكون عليه الكافرون من ندم شديد ، عند ما يرون حسن مصير المؤمنين ، وسوء مصير المكذبين.

والحسرة : هي الندم الشديد المتكرر ، على أمر نافع قد مضى ولا يمكن تداركه.

أى : وإن هذا القرآن الكريم ، ليكون يوم القيامة ، سبب حسرة شديدة وندامة عظيمة ، على الكافرين ، لأنهم يرون المؤمنين به في هذا اليوم في نعيم مقيم ، أما هم فيجدون أنفسهم في عذاب أليم.

وقوله : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) معطوف على ما قبله ، أى : وإن هذا القرآن لهو الحق الثابت الذي لا شك في كونه من عند الله ـ تعالى ـ وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغه إلى الناس دون أن يزيد فيه حرفا ، أو ينقص منه حرفا.

وإضافة الحق إلى اليقين ، من إضافة الصفة إلى الموصوف. أى : لهو اليقين الحق ، أو هو من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، كما في قوله : (حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، إذ الحبل هو الوريد.

والمقصود من مثل هذا التركيب : التأكيد.

وقد قالوا : إن مراتب العلم ثلاثة : أعلاها : حق اليقين ، ويليها : عين اليقين ، ويليها : علم اليقين.

فحق اليقين : كعلم الإنسان بالموت عند نزوله به ، وبلوغ الروح الحلقوم. وعين اليقين : كعلمه به عند حلول أماراته وعلاماته الدالة على قربه .. وعلم اليقين : كعلمه بأن الموت سينزل به لا محالة مهما طال الأجل .. والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ

٨٧

الْعَظِيمِ) للإفصاح. أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن هذا الدين حق ، وأن البعث حق ، وأن القرآن حق ، فنزه اسم ربك العظيم عما لا يليق به ، من النقائص ، في الاعتقاد ، أو في العبادة ، أو في القول ، أو في الفعل.

والباء في قوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ) للمصاحبة. أى : نزه ربك تنزيها مصحوبا بكل ما يليق به من طاعة وإخلاص ومواظبة على مراقبته وتقواه.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ـ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٨٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة المعارج

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة (المعارج) هي السورة السبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثامنة والسبعون ، وكان نزولها بعد سورة (الحاقة) وقبل سورة (النبأ).

وتسمى ـ أيضا ـ بسورة (سأل سائل) ، وذكر السيوطي في كتابه (الإتقان) أنها تسمى كذلك بسورة (الواقع).

وهذه الأسماء الثلاثة قد وردت ألفاظها في السورة الكريمة. قال ـ تعالى ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ).

وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها أربع وأربعون آية في عامة المصاحف ، وفي المصحف الشامي ثلاث وأربعون آية.

والسورة الكريمة نراها في مطلعها ، تحكى لنا جانبا من استهزاء المشركين بما أخبرهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعث وثواب وعقاب .. وترد عليهم بما يكبتهم ، حيث تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه واقع ، وأن أهواله شديدة.

قال ـ تعالى ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً).

٣ ـ ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى تصوير طبيعة الإنسان ، وتمدح المحافظين على صلاتهم ، وعلى أداء حقوق الله ـ تعالى ـ في أموالهم ، كما تمدح الذين يؤمنون بأن البعث حق ،

٨٩

ويستعدون لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ).

٤ ـ ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي توبيخ الكافرين على مسالكهم الخبيثة بإزاء الدعوة الإسلامية ، وفي بيان أن يوم القيامة الذي يكذبون به آت لا ريب فيه.

قال ـ تعالى ـ : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ).

٥ ـ هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يرى أن على رأس القضايا التي اهتمت بالحديث عنها : التذكير بيوم القيامة ، وبأهواله وشدائده ، وببيان ما فيه من حساب ، وجزاء ، وثواب وعقاب.

والحديث عن النفس الإنسانية بصفة عامة في حال عسرها ويسرها ، وصحتها ومرضها ، وأملها ويأسها ... واستثناء المؤمنين الصادقين ، من كل صفة لا يحبها الله ـ تعالى ـ وأنهم بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، سيكونون يوم القيامة. في جنات مكرمين.

كما أن السورة الكريمة اهتمت بالرد على الكافرين ، وبتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه منهم ، وببيان مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ التي لا يعجزها شيء.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٩٠

التفسير

افتتح ـ سبحانه ـ سورة (المعارج) بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

وقوله ـ تعالى ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قرأه الجمهور بإظهار الهمزة في (سَأَلَ).

وقرأه نافع وابن عامر (سَأَلَ) بتخفيف الهمزة.

قال الجمل : قرأ نافع وابن عامر بألف محضة ، والباقون ، بهمزة محققة وهي الأصل.

فأما القراءة بالألف ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفا. والثاني : أنها من سال يسال ، مثل خاف يخاف ، والألف منقلبة عن واو ، والواو منقلبة عن الهمزة.

٩١

والثالث : من السيلان ، والمعنى : سال واد في جهنم بعذاب ، فالألف منقلبة عن ياء (١).

وقد حكى القرآن الكريم عن كفار مكة ، أنهم كانوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء عن موعد العذاب الذي يتوعدهم به إذا ما استمروا على كفرهم ، ويستعجلون وقوعه.

قال ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وقال ـ سبحانه ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ).

وعلى هذا يكون السؤال على حقيقته ، وأن المقصود به الاستهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين.

ومنهم من يرى أن سأل هنا بمعنى دعا. أى : دعا داع على نفسه بعذاب واقع.

قال الآلوسى ما ملخصه : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) أى : دعا داع به ، فالسؤال بمعنى الدعاء ، ولذا عدى بالباء تعديته بها في قوله (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ). والمراد : استدعاء العذاب وطلبه .. وقيل إنها بمعنى «عن» كما في قوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً).

والسائل هو النضر بن الحارث ـ كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم ـ حيث قال إنكارا واستهزاء «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم». وقيل السائل : أبو جهل ، حيث قال : «فأسقط علينا كسفا من السماء» (٢).

وعلى أية حال فسؤالهم عن العذاب ، يتضمن معنى الإنكار والتهكم ، كما يتضمن معنى الاستعجال ، كما حكته بعض الآيات الكريمة ..

ومن بلاغة القرآن ، تعدية هذا الفعل هنا بالباء ، ليصلح لمعنى الاستفهام الإنكارى ، ولمعنى الدعاء والاستعجال.

أى : سأل سائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤال تهكم ، عن العذاب الذي توعد به الكافرين إذا ما استمروا على كفرهم. وتعجّله في وقوعه بل أضاف إلى ذلك ـ لتجاوزه الحد في عناده وطغيانه ـ أن قال : «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم».

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٠٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢٩ ص ٥٥.

٩٢

وقال ـ سبحانه ـ (بِعَذابٍ واقِعٍ) ولم يقل بعذاب سيقع ، للإشارة إلى تحقق وقوع هذا العذاب في الدنيا والآخرة.

أما الدنيا فمن هؤلاء السائلين من قتل في غزوة بدر وهو النضر بن الحارث ، وأبو جهل وغيرهما ، وأما في الآخرة فالعذاب النازل بهم أشد وأبقى.

ثم وصف ـ سبحانه ـ العذاب بصفات أخرى ، غير الوقوع فقال : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ. مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ). واللام في قوله (لِلْكافِرينَ) بمعنى على. أو للتعليل.

أى : سأل سائل عن عذاب واقع على الكافرين ، هذا العذاب ليس له دافع يدفعه عنهم ، لأنه واقع من الله ـ تعالى ـ (ذِي الْمَعارِجِ).

والمعارج جمع معرج ، وهو المصعد ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ، لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (١).

وقد ذكر المفسرون في المراد بالمعارج وجوها منها : أن المراد بها السموات ، فعن ابن عباس أنه قال أى : ذي السموات ، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها.

ومنها : أن المراد بها : النعم والمنن. فعن قتادة أنه قال : ذي المعارج ، أى : ذي الفواضل والنعم. وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب ، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.

ومنها : أن المراد بها الدرجات التي يعطيها لأوليائه في الجنة.

وفي وصفه ـ سبحانه ـ ذاته ب (ذِي الْمَعارِجِ) : استحضار لصورة عظمة جلاله ، وإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه ، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هذا العذاب الواقع على الكافرين. بجملة من الصفات ، لتكون ردا فيه ما فيه من التهديد والوعيد للجاحدين ، الذين استهزءوا به وأنكروه.

والمراد بالروح في قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : جبريل ـ عليه‌السلام ـ وأفرد بالذكر لتمييزه وفضله ، فهو من باب عطف الخاص على العام.

والضمير في «إليه» يعود إلى الله ـ تعالى ـ.

أى : تصعد الملائكة وجبريل ـ عليه‌السلام ـ معهم ، إليه ـ تعالى ـ.

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٣٣.

٩٣

والسلف على أن هذا التعبير وأمثاله ، من المتشابه الذي استأثر ـ سبحانه ـ بعلمه. مع تنزيهه ـ عزوجل ـ عن المكان والجسمية. ولوازم الحدوث ، التي لا تليق بجلاله.

وقيل : «إليه» أى : إلى عرشه ـ تعالى ـ أو إلى محل بره وكرامته.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أى : عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد ، خمسين ألف سنة.

وعن مجاهد : هذا اليوم هو مدة عمر الدنيا ، من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي منها ، خمسون ألف سنة.

وقال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.

ثم قال القرطبي : «وهذا القول أحسن ما قيل في الآية ـ إن شاء الله ـ بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» ، فقلت : ما أطول هذا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا».

وفي رواية عن ابن عباس ـ أيضا ـ أنه سئل عن هذه الآية فقال : أيام سماها الله ـ عزوجل ـ ، وهو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم.

وقيل : ذكر خمسين ألف سنة تمثيل ـ لما يلقاه الناس في موقف الحساب من شدائد ، والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر (١).

وقال بعض العلماء : وقد ذكر ـ سبحانه ـ في سورة السجدة أنه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

وقال في سورة الحج : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وذكر هنا (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

والجمع بين هذه الآيات من وجهين : أولهما : ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج ، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله ـ تعالى ـ فيها السموات والأرض.

ويوم الألف في سورة السجدة ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه ـ تعالى ـ.

ويوم الخمسين ألفا هنا : هو يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٢٨٢.

٩٤

وثانيهما : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر.

ويدل لهذا الوجه قوله ـ تعالى ـ : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١).

أى : أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة ، فهو يعادل في حالة ألف سنة من سنى الدنيا ، ويعادل في حالة أخرى خمسين ألف سنة.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً ..) متفرع على قوله ـ سبحانه ـ (سَأَلَ سائِلٌ) لأن السؤال كان سؤال استهزاء ، يضيق به الصدر ، وتغتم له النفس.

والصبر الجميل : هو الصبر الذي لا شكوى معه لغير الله ـ عزوجل ـ ولا يخالطه شيء من الجزع ، أو التبرم بقضاء الله وقدره.

أى : لقد سألوك ـ أيها الرسول الكريم ـ عن يوم القيامة ، وعن العذاب الذي تهددهم به ... سؤال تهكم واستعجال .. فاصبر صبرا جميلا على غرورهم وجحودهم وجهالاتهم.

إنهم يرون هذا اليوم وما يصحبه من عذاب .. يرونه «بعيدا» من الإمكان أو من الوقوع ، ولذلك كذبوا بما جئتهم به من عندنا ، واستهزؤا بك .. ونحن نراه قريبا من الإمكان ، بل هو كائن لا محالة في الوقت الذي تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من أهوال هذا اليوم فقال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً).

ولفظ «يوم» متعلق بقوله : «قريبا» أو بمحذوف يدل عليه قوله : (واقِعٍ) أى : هو واقع هذا العذاب يوم تكون السماء في هيئتها ومظهرها «كالمهل» أى : تكون واهية مسترخية .. كالزيت الذي يتبقى في قعر الإناء.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أى : كالصوف المصبوغ ألوانا ، لاختلاف ألوان الجبال ، فإن الجبال إذا فتتت وتمزقت في الجو ، أشبهت الصوف المنفوش إذا طيرته الرياح ، قيل : أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ، ثم عهنا منفوشا ، ثم هباء منبثا.

ووجه الشبه أن السماء في هذا اليوم تكون في انحلال أجزائها ، كالشىء الباقي في قعر الإناء من الزيت ، وتكون الجبال في تفرق أجزائها كالصوف المصبوغ الذي تطاير في الجو.

وفي هذا اليوم ـ أيضا ـ (لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أى : لا يسأل صديق صديقه النصرة

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٦ ص ٥٣ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٩٥

أو المعونة ، ولا يسأل قريب قريبه المساعدة والمؤازرة .. لأن كل واحد منهما مشغول بهموم نفسه من شدة هول الموقف ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

والحميم : هو الصديق الوفي القريب من نفس صديقه.

وضمير الجمع في قوله ـ سبحانه ـ (يُبَصَّرُونَهُمْ) يعود إلى الحميمين ، نظرا لعمومهما ، لأنه ليس المقصود صديقين مخصوصين ، وإنما المقصود كل صديق مع صديقه.

والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، إجابة عن سؤال تقديره : ولما ذا لا يسأل الصديق صديقه في هذا اليوم؟ ألأنه لا يراه؟ فكان الجواب : لا ، إنه يراه ويشاهده ، ويعرف كل قريب قريبه ، وكل صديق صديقه في هذا اليوم .. ولكن كل واحد منهم مشغول بهمومه.

قال صاحب الكشاف : (يُبَصَّرُونَهُمْ) أى : يبصر الأحماء الأحماء ، فلا يخفون عليهم ، فلا يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا ، وإنما يمنعهم التشاغل.

فإن قلت : ما موقع يبصرونهم؟ قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لمّا قال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قيل : لعله لا يبصره ، فقيل في الجواب : يبصرونهم ، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.

فإن قلت : لم جمع الضميرين في (يُبَصَّرُونَهُمْ) وهي للحميمين؟ قلت : المعنى على العموم لكل حميمين ، لا لحميمين اثنين (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة المجرمين في هذا اليوم فقال : يوم المجرم أى : يحب المجرم في هذا اليوم ويتمنى.

(لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) أى : يتمنى ويحب لو يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم بأقرب الناس إليه ، وألصقهم بنفسه .. وهم بنوه وأولاده.

ويود ـ أيضا ـ لو يفتدى نفسه ب (صاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) أى : بزوجته التي هي أحب الناس إليه ، وبأخيه الذي يستعين به في النوائب.

(وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) أى : ويود كذلك أن ينقذ نفسه ، من العذاب بأقرب الأقرباء إليه. وهم أهله وعشيرته التي ينتسب إليها ، إذا الفصيلة هم الأقرباء الأدنون من القبيلة ، والذين هو واحد منهم.

ومعنى (تُؤْوِيهِ) تضمه إليها ، وتعتبره فردا منها ، وتدافع عنه بكل وسيلة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٠٩.

٩٦

وقوله : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) داخل في إطار ما يتمناه ويوده.

أى : يود هذا المجرم أن يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم ، بأولاده ، ويصاحبته ، وبأخيه ، وبعشيرته التي هو فرد منها ، وبأهل الأرض جميعا من الجن والإنس.

ثم يتمنى ـ أيضا ـ أن يقبل منه هذا الافتداء ، لكي ينجو بنفسه من هذا العذاب.

فقوله (ثُمَّ يُنْجِيهِ) معطوف على قوله (يَفْتَدِي) ، أى : يود لو يفتدى ثم لو ينجيه الافتداء. وكان العطف بثم ، للإشعار باستبعاد هذا الافتداء ، وأنه عسير المنال.

وقوله : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) معطوف على (بِبَنِيهِ) أى : ويفتدى نفسه بجميع أهل الأرض.

وهكذا نرى الآيات الكريمة تحكى لنا بهذا الأسلوب المؤثر ، حالة المجرم في هذا اليوم ، وأنه يتمنى أن يفتدى نفسه مما حل به من عذاب ، بأقرب وأحب الناس إليه ، بل بأهل الأرض جميعا .. ولكن هيهات أن يقبل منه شيء من ذلك.

ولذا جاء الرد الزاجر له عما تمناه في قوله ـ تعالى ـ (كَلَّا إِنَّها لَظى) وكلا حرف ردع وزجر ، وإبطال لكلام سابق ، وهو هنا ما كان يتمناه ويحبه .. من أن يفتدى نفسه ببنيه ، وبصاحبته وأخيه .. إلخ.

و «لظى» علم لجهنم ، أو لطبقة من طبقاتها. واللظى : اللهب الخالص ، والضمير للنار المدلول عنها بذكر العذاب.

أى : كلا ـ أيها المجرم ـ ليس الأمر كما وددت وتمنيت .. وإنما الذي في انتظارك ، هو النار التي هي أشد ما تكون اشتعالا.

والتي من صفاتها كونها (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) .. أى : قلاعة لجلدة الرأس وأطراف البدن ، كاليد والرجل ، ثم تعود هذه الجلدة والأطراف كما كانت.

فقوله : (نَزَّاعَةً) صيغة مبالغة من النزع بمعنى القلع والفصل. والشوى : جمع شواة ـ بفتح الشين ـ ، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا ، مثل اليد والرجل. والجمع باعتبار ما لكل أحد من جوارح وأطراف. يقال : فلان رمى فأشوى ، إذا لم يصب مقتلا ممن رماه.

وقيل : الشواة : جلدة الرأس. والجمع باعتبار كثرة الناس.

وهذه النار الملتهبة من صفاتها ـ أيضا ـ أنها (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) أى : تدعو لدخولها والاصطلاء بحرها ، من أدبر وأعرض وتولى عن الحق والرشد ، ونأى بجانبه عن طريق الهدى والاستقامة.

٩٧

قال ابن كثير : هذه النار تدعو إليها أبناءها الذين خلقهم الله ـ تعالى ـ لها وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها ، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق ـ أى : فصيح بليغ ـ ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر ، كما يلتقط الطير الحب ، وذلك أنهم كانوا كما قال ـ سبحانه ـ ممن أدبر وتولى. أى : ممن كذب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه (١).

(وَجَمَعَ فَأَوْعى) أى جمع المال بعضه على بعض فأوعاه ، أى : فأمسكه في وعائه وكنزه ومنع حق الله ـ تعالى ـ فيه ، وبخل به على مستحقيه. فقوله (فَأَوْعى) أى : فجعله في وعاء. وفي الحديث الشريف ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا توعى ـ أى لا تجمع مالك في الوعاء على سبيل الكنز ـ فيوعى الله عليك» ـ أى : فيمنع الله ـ تعالى ـ فضله عنك ، كما منعت وقترت.

وفي قوله ـ سبحانه ـ (وَجَمَعَ) إشارة إلى الحرص والطمع ، وفي قوله (فَأَوْعى) إشارة إلى بخله وطول أمله.

قال قتادة : (جَمَعَ فَأَوْعى) : كان جموعا للخبيث من المال.

وبعد هذا البيان المؤثر الحكيم عن طبائع المجرمين ، وعن أهوال يوم الدين ، وعن سوء عاقبة المكذبين .. اتجهت السورة الكريمة إلى الحديث عن سجايا النفوس البشرية في حالتي الخير والشر ، والغنى والفقر ، والشكر والجحود .. واستثنت من تلك السجايا نفوس المؤمنين الصادقين ، فقال ـ تعالى ـ.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٥٢.

٩٨

رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

والمراد بالإنسان في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) جنسه لا فرد معين منه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).

ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا ، لأن معظم الصفات التي استثنيت بعد ذلك من صفات المؤمنين الصادقين ، وعلى رأسها قوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

وقوله : (هَلُوعاً) صيغة مبالغة من الهلع ، وهو إفراط النفس ، وخروجها عن التوسط والاعتدال ، عند ما ينزل بها ما يضرها ، أو عند ما تنال ما يسرها.

والمراد بالشر : ما يشمل الفقر والمرض وغيرهما مما يتأذى به الإنسان.

والمراد بالخير : ما يشمل الغنى والصحة وغير ذلك مما يحبه الإنسان ، وتميل إليه نفسه.

والجزوع : هو الكثير الجزع. أى : الخوف. والمنوع : هو الكثير المنع لنعم الله ـ تعالى ـ وعدم إعطاء شيء منها للمحتاجين إليها.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) الهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير ، من قولهم : ناقة هلوع ، أى : سريعة السير.

وسئل ابن عباس عن الهلوع فقال : هو كما قال الله ـ تعالى ـ : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً).

ولا تفسير أبين من تفسيره ـ سبحانه ـ.

٩٩

والإنسان : المراد به الجنس ، أو الكافر .. وأل في الشر والخير للجنس ـ أيضا (١).

والتعبير بقوله : (خُلِقَ هَلُوعاً) يشير إلى أن جنس الإنسان ـ إلا من عصم الله ـ مفطور ومطبوع ، على أنه إذا أصابه الشر جزع ، وإذا مسه الخير بخل .. وأن هاتين الصفتين ليستا من الصفات التي يحبها الله ـ تعالى ـ بدليل أنه ـ سبحانه ـ قد استثنى المصلين وغيرهم من التلبس بهاتين الصفتين.

وبدليل أن من صفات المؤمن الصادق أن يكون شكورا عند الرخاء صبورا عند الضراء.

وفي الحديث الشريف ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شر ما في الرجل : شح هالع ، وجبن خالع» وفي حديث آخر يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».

قال الجمل : وقوله : (جَزُوعاً) و (مَنُوعاً) فيهما ثلاثة أوجه : أحدها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في (هَلُوعاً) ، وهو العامل فيهما. والتقدير : هلوعا حال كونه جزوعا وقت مس الشر ، ومنوعا وقت مس الخير : الثاني : أنهما خبران لكان أو صار مضمرة. أى : إذا مسه الشر كان أو صار جزوعا ، وإذا مسه الخير كان أو صار منوعا. الثالث : أنهما نعتان لقوله : «هلوعا» (٢).

ثم وصف ـ سبحانه ـ من استثناهم من الإنسان الهلوع ، بجملة من الصفات الكريمة ، فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ).

أى : إن الناس جميعا قد جبلوا على الجزع عند الضراء ، وعلى المنع عند السراء .. إلا المصلين منهم ، الذين يواظبون على أدائها مواظبة تامة ، دون أن يشغلهم عن أدائها : عسر أو يسر ، أو غنى أو فقر ، أو إقامة أو سفر.

فهم ممن قال ـ سبحانه ـ في شأنهم : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ ، يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ).

وقال ـ سبحانه ـ : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) للإشارة إلى أنهم لا يشغلهم عنها شاغل ، إذ الدوام على الشيء عدم تركه.

وفي إضافة «الصلاة» إلى ضمير «المصلين» تنويه بشأنهم ، وإشعار باختصاصها بهم ، إذ هم أصحابها الملازمون لها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٦١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٠٦.

١٠٠