التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

وقد رجح الإمام ابن جرير القول الأول فقال : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن ربنا أقسم بالعصر ، والعصر اسم الدهر ، وهو العشى ، والليل والنهار ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ...) جواب القسم ، والمراد بالإنسان : جنسه ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا. والخسر مثل الخسران ، كالكفر بمعنى الكفران ...

أى : إن جنس الإنسان لا يخلو من خسران ونقصان وفقدان للربح في مساعيه وأعماله طوال عمره ، وإن هذا الخسران يتفاوت قوة وضعفا.

فأخسر الأخسرين هو الكافر الذي أشرك مع خالقه إلها آخر في العبادة ، وأقل الناس خسارة هو المؤمن الذي خلط عملا صالحا بآخر سيئا ثم تاب إلى الله ـ تعالى ـ توبة صادقة.

وجاء الكلام بأسلوب القسم ، لتأكيد المقسم عليه ، وهو أن جنس الإنسان في خسر.

وقال ـ سبحانه ـ (لَفِي خُسْرٍ) للإشعار بأن الإنسان كأنه مغمور بالخسر ، وأن هذا الخسران قد أحاط به من كل جانب ، وتنكير لفظ «خسر» للتهويل. أى : لفي خسر عظيم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) استثناء مما قبله ، والمقصود بهذه الآية الكريمة تسلية المؤمنين الصادقين ... وتبشيرهم بأنهم ليسوا من هذا الفريق الخاسر.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَواصَوْا) فعل ماض ، من الوصية وهي تقديم النصح للغير مقرونا بالوعظ.

و «الحق» : هو الأمر الذي ثبتت صحته ثبوتا قاطعا ...

و «الصبر» : قوة في النفس تعينها على احتمال المكاره والمشاق ...

أى : أن جميع الناس في خسران ونقصان ... إلا الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، وعملوا الأعمال الصالحات ، من صلاة وزكاة وصيام وحج ... وغير ذلك من وجوه الخير ، وأوصى بعضهم بعضا بالتمسك بالحق ، الذي على رأسه الثبات على الإيمان وعلى العمل الصالح ... وأوصى بعضهم بعضا كذلك بالصبر على طاعة الله ـ تعالى ـ ، وعلى البلايا والمصائب والآلام ... التي لا تخلو عنها الحياة.

فهؤلاء المؤمنون الصادقون ، الذين أوصى بعضهم بعضا بهذه الفضائل ليسوا من بين الناس

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٨٧.

٥٠١

الذين هم في خسران ونقصان ، لأن إيمانهم الصادق وعملهم الصالح ... قد حماهم من الخسران ...

قال بعض العلماء : وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على الوعيد الشديد ، وذلك لأنه ـ تعالى ـ حكم بالخسارة على جميع الناس ، الا من كان متصفا بهذه الأشياء الأربعة ، وهي : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور ، وأنه كما يجب على الإنسان أن يأتى من الأعمال ما فيه الخير والنفع ، يجب عليه ـ أيضا ـ أن يدعو غيره إلى الدين ، وينصحه بعمل الخير والبر ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وأن يثبت على ذلك ، فلا يحيد عنه ، ولا يزحزحه عن الدعوة إليه ما يلاقيه من مشاق ... (١).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من أصحاب هذه الصفات.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) تفسير جزء «عم» ص ٣١٣ للشيخ محى الدين عبد الحميد رحمه‌الله.

٥٠٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الهمزة

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الهمزة» من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة «القيامة» وقبل سورة «المرسلات» وعدد آياتها تسع آيات.

٢ ـ ومن أهم أغراضها : التهديد الشديد لمن يعيب الناس ، ويتهكم بهم ، ويتطاول عليهم ، بسبب كثرة ماله ، وجحوده للحق.

وقد ذكروا أن هذه السورة الكريمة نزلت في شأن جماعة من أغنياء المشركين ، منهم : الوليد ابن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبى بن خلف ... كانوا يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ويشيعون الأقوال السيئة عنهم.

وهذا لا يمنع أن السورة الكريمة تشمل أحكامها كل من فعل مثل هؤلاء المشركين ، إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.

٥٠٣

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

والويل : لفظ يدل على الذم وعلى طلب العذاب والهلكة ... وقيل : اسم لواد في جهنم.

والهمزة من الهمز ، بمعنى الطعن في أعراض الناس ، ورميهم بما يؤذيهم ...

واللّمزة من اللمز ، بمعنى السخرية من الغير ، عن طريق الإشارة باليد أو العين أو غيرهما.

قال الجمل : الهمزة واللمزة : هم المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة الباغون العيب للبريء ، فعلى هذا هما بمعنى واحد.

وقيل : الهمزة الذي يعيبك في الغيب ، واللمزة الذي يعيبك في الوجه وقيل : العكس.

وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى أصل واحد ، وهو الطعن وإظهار العيب ، ويدخل في ذلك من يحاكى الناس في أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه ... (١).

ولفظ «ويل» مبتدأ وساغ الابتداء به مع كونه نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، وقوله : (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) خبره ، وهمزة ولمزة وصفان لموصوف محذوف.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٨٤.

٥٠٤

أى : عذاب شديد ، وخزي عظيم ، لكل من يطعن في أعراض الناس ، ويغض من شأنهم ، ويحقر أعمالهم وصفاتهم ، وينسب إليهم ما هم برآء منه من عيوب.

والتعبير بقوله : (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) يدل على أن تلك الصفات القبيحة ، كانت عادة متأصلة فيهم ، لأن اللفظ الذي بزنة فعلة ـ بضم الفاء وفتح العين ـ يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ديدنه ودأبه الإتيان بهذا الوصف ، ومنه قولهم : فلان ضحكة : إذا كان يكثر من الضحك.

كما أن لفظ «فعلة» ـ بضم الفاء وسكون العين ـ يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ، يكثر أن يفعل به ذلك ، ومنه قولهم : فلان ضحكة ، إذا كان الناس يكثرون الضحك منه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) زيادة تشنيع وتقبيح للهمزة اللمزة ...

ومعنى «عدده» : جعله عدته وذخيرته ، وأكثر من عده وإحصائه لحرصه عليه ، والجملة الكريمة في محل نصب على الذم.

أى : عذاب وهلاك لكل إنسان مكثر من الطعن في أعراض الناس ، ومن صفاته الذميمة أنه فعل ذلك بسبب أنه جمع مالا كثيرا ، وأنفق الأوقات الطويلة في عده مرة بعد أخرى ، حبا له وشغفا به وتوهما منه أن هذا المال الكثير هو مناط التفاضل بين الناس.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (جَمَعَ) ـ بتشديد الميم ـ وهو مبالغة في (جَمَعَ) بتخفيف الميم.

وقوله ـ تعالى ـ : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) ، صفة أخرى من صفاته القبيحة ، والجملة يصح أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ، جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما باله يجمع المال ويهتم به؟ فكان الجواب : يحسب أن ماله أخلده.

ويصح أن تكون حالا من فاعل «جمع» أى : هذا الجاهل المغرور جمع المال وعدده ، حالة كونه يظن أن ماله يخلده في الدنيا ، ويجعله في مأمن من حوادث الدهر.

قال الأستاذ الإمام محمد عبده : أى أن الذي يحمل هذا الهمزة اللمزة على الحط من أقدار الناس ، هو جمعه المال وتعديده ... فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه ، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة ، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه ... ويظن أن ما عنده من المال ، قد حفظ له حياته التي هو فيها ، وأرصدها عليه ، فهو لا يفارقها إلى حياة أخرى ، يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال ... (١).

__________________

(١) تفسير جزء عم ص ١١٧.

٥٠٥

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور فقال : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ).

و «كلا» حرف زجر وردع ، والمراد به هنا إبطال ما توهمه هذا المغرور من حسبانه أن ماله سيخلده. والنبذ : الطرح للشيء والإلقاء به مع التحقير والتصغير من شأنه.

والحطمة من الحطم ، وهو كسر الشيء بشدة وقوة ، ويقال : رجل حطمة ، إذا كان شديدا في تحطيمه وكسره لغيره ، والمراد بالحطمة هنا : النار الشديدة الاشتعال : التي لا تبقى على شيء إلا وأحرقته.

أى : كلا ليس الأمر كما زعم هذا الهمزة اللمزة ، من أن ماله سيخلده ، بل الحق أنه والله ليطرحن بسبب أفعاله القبيحة في النار التي تحطم كل شيء يلقى فيها ، والتي لا يعرف مقدار شدتها واشتعالها إلا الله ـ تعالى ـ.

فالمقصود بالاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) تهويل أمر هذه النار ، وتفظيع شأنها ، وبيان أن كنهها لا تدركه عقول البشر ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) بيان للحطمة وتفصيل لأمرها بعد إبهامها.

أى : الحطمة هي نار الله ـ تعالى ـ الشديدة الإحراق ، وأضيفت إلى الله ـ تعالى ـ لزيادة الترويع والتخويف منها ، لأن خالقها ـ عزوجل ـ هو الذي لا يعجزه شيء.

وقوله ـ تعالى ـ : (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) صفة أخرى من صفات هذه النار ، وقوله : (تَطَّلِعُ) من الاطلاع ، بمعنى الوصول إلى الشيء بسرعة ، والكشف عن خباياه ، والنفاذ إلى منتهاه.

أى : سيلقى بهذا الشقي في نار الله ـ تعالى ـ الموقدة ، التي تصل إلى أعماق الأفئدة والقلوب ، فتحيط بها ، وتنفذ إليها ، فتحرقها إحراقا تاما.

وخصت الأفئدة التي هي القلوب بالذكر ، لأنها ألطف ما في الأبدان وأشدها تألما بأدنى أذى يصيبها ، أو لأنها محل العقائد الزائفة ، والنيات الخبيثة ، ومنشأ الأعمال السيئة ، التي استحق هذا الهمزة اللمزة بسببها العقاب الشديد.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذه النار بصفة ثالثة فقال : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أى : إن هذه النار من صفاتها ـ أيضا ـ أنها مطبقة ومغلقة عليهم بحيث لا يستطيعون الخروج منها ، فقوله (مُؤْصَدَةٌ) اسم مفعول من قولك أوصدت الباب ، إذا أغلقته بشدة ، بحيث لا يستطاع الخروج منه ...

٥٠٦

وقوله ـ تعالى ـ : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) صفة رابعة من صفات هذه النار الشديدة الاشتعال.

وقوله (عَمَدٍ) ـ بفتحتين ـ جمع عمود كأديم وأدم ، وقيل : جمع عماد ، وقيل : هو اسم جمع لعمود ، وليس جمعا له ، والمراد بها : الأوتاد التي تشد بها أبواب النار.

وقرأ بعض القراء السبعة : في عمد بضمتين جمع عمود كسرير وسرر.

والممددة : الطويلة الممدودة من أول الباب إلى آخره.

أى : أن هذه النار مغلقة عليهم بأبواب محكمة ، هذه الأبواب قد شدت بأوتاد من حديد ، تمتد هذه الأوتاد من أول الأبواب إلى آخرها. بحيث لا يستطيع من بداخلها الفكاك منها.

وبذلك نرى السورة الكريمة قد توعدت هؤلاء المغرورين الجاهلين ، الطاعنين في أعراض الناس ... بأشد ألوان العقاب ، وأكثره إهانة وخزيا لمن ينزل به.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيذنا من ذلك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥٠٧
٥٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الفيل

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الفيل» وسماها بعضهم سورة «ألم تر ...» من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس آيات ، وكان نزولها بعد سورة «قل يا أيها الكافرون» ، وقبل سورة «القيامة» فهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب النزول من بين السور المكية.

٢ ـ ومن أهم مقاصدها تذكير أهل مكة بفضل الله ـ تعالى ـ عليهم ، حيث منع كيد أعدائهم عنهم ، وعن بيته الحرام ، وبيان أن هذا البيت له مكانته السامية عنده ـ تعالى ـ ، وأن من أراده بسوء قصمه الله ـ تعالى ـ ، وتبشير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ـ سبحانه ـ كفيل برعايته ونصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على أبرهة وجيشه ، وتثبيت المؤمنين على الحق ، لكي يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وبيان أن الله ـ سبحانه ـ غالب على أمره.

٣ ـ وقصة أصحاب الفيل من القصص المشهورة عند العرب ، وملخصها : أن أبرهة الأشرم الحبشي أمير اليمن من قبل النجاشيّ ملك الحبشة ، بنى كنيسة بصنعاء لم ير مثلها في زمانها ... وأراد أن يصرف الناس من الحج إلى بيت الله الحرام ، إلى الحج إليها ... ثم جمع جيشا عظيما قدم به لهدم الكعبة ... فأهلكه الله ـ تعالى ـ وأهلك من معه من رجال وأفيال ...

وكانت ولادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا العام ... (١).

__________________

(١) راجع سيرة ابن إسحاق ج ١ ص ٤٣ وتفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٢٢٣.

٥٠٩

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ ...) للتقرير بما تواتر نقله وعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلمه غيره علما مستفيضا ... حتى إن العرب كانوا يؤرخون بتلك الحادثة ، فيقولون : هذا الأمر حدث في عام الفيل ، أو بعده أو قبله ... والمراد بالرؤية هنا : العلم المحقق.

وعبر ـ سبحانه ـ عن العلم بالرؤية ، لأن خبر هذه القصة ـ كما أشرنا كان من الشهرة بمكان ، فالعلم الحاصل بها مساو في قوة الثبوت للرؤية والمشاهدة.

والمعنى : لقد علمت ـ أيها الرسول الكريم ـ علما لا يخالطه ريب أو لبس ، ما فعله ربك بأصحاب الفيل ، الذين جاءوا لهدم الكعبة ، حيث أهلكناهم إهلاكا شنيعا ، كانت فيه العبرة والعظة ، والدلالة الواضحة على قدرتنا ، وعلى حمايتنا لبيتنا الحرام.

وأوقع ـ سبحانه ـ الاستفهام عن كيفية ما أنزله بهم ، لا عن الفعل ذاته ، لأن الكيفية أكثر دلالة على قدرته ـ تعالى ـ وعلى أنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء.

وفي التعبير بقوله : (فَعَلَ رَبُّكَ ...) إشارة إلى أن هذا الفعل لا يقدر عليه أحد سواه ـ سبحانه ـ فهو الذي ربي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعهده بالرعاية ، وهو الكفيل بنصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة ، على جيوش الحبشة ... وهم أصحاب الفيل.

ووصفوا بأنهم «أصحاب الفيل» لأنهم أحضروا معهم الفيلة ، ليستعينوا بها على هدم الكعبة ، وعلى إذلال أهل مكة.

٥١٠

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) للتقرير ـ أيضا ـ أى : لقد جعل الله ـ تعالى ـ مكر أصحاب الفيل وسعيهم لتخريب الكعبة ، في (تَضْلِيلٍ) أى : في تخسير وإبطال وتضييع ، بأن تبرهم ـ سبحانه ـ تتبيرا ودمرهم تدميرا.

والكيد : إرادة وقوع الإضرار بالغير في خفية ، وسمى ـ سبحانه ـ ما فعله أبرهة وجيشه كيدا ، مع أنهم جاءوا لهدم الكعبة جهارا نهارا ... لأنهم كانوا يضمرون من الحقد والحسد والعداوة لأهل مكة ، أكثر مما كانوا يظهرونه ، فهم ـ كما قال ـ تعالى ـ : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ...).

والمقصود بالتضليل هنا : التضييع والإبطال. تقول : ضللت كيد فلان ، إذا جعلته باطلا ضائعا.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر إبطاله لكيدهم فقال : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ).

والطير : اسم جمع لكل ما من شأنه أن يطير في الهواء ، وتنكيره للتنويع والتهويل ، والأبابيل : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقيل هو جمع إبّالة ، وهي حزمة الحطب الكبيرة ، شبهت بها الجماعة من الطير في تضامنها وتلاصقها.

أى : لقد جعل الله ـ تعالى ـ كيد هؤلاء المعتدين في تضييع وتخسير ... بأن أرسل إليهم جماعات عظيمة من الطير ، أتتهم من كل جانب في تتابع ، فكانت سببا في إهلاكهم والقضاء عليهم ... (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

وجملة : «ترميهم بحجارة من سجيل» بيان لما فعلته تلك الطيور بإذن الله ـ تعالى ـ ، وهي حال من قوله (طَيْراً) ، والسجيل : الطين اليابس المتحجر ...

قال بعض العلماء : قوله : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أى : من طين متحجر محرق.

أو بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون في السجيل ، وهو الديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن السجيل هو الديوان الذي كتبت فيه أعمالهم. واشتقاقه من الإسجال بمعنى الإرسال.

وعن عكرمة : كانت ترميهم بحجارة معها كالحمّصة ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها ، خرج به الجدري ، وكان ذلك أول يوم رئي فيه الجدري بأرض العرب.

وقال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده أى : احترق ـ ، فكان ذلك أول الجدري. وقيل : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام.

وقال ابن جزى في تفسيره : إن الحجر كان يدخل من رأس أحدهم ويخرج من أسفله.

٥١١

ووقع في سائرهم الجدري والأسقام ، وانصرفوا وماتوا في الطريق متفرقين ، وتمزق أبرهة قطعة قطعة ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) بيان للآثار الفظيعة التي ترتبت على ما فعلته الحجارة التي أرسلتها الطيور عليهم بإذن الله ـ تعالى ـ.

والعصف : ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله الحيوانات. أو هو التبن الذي تأكله الدواب.

أى : سلط الله ـ تعالى ـ عليهم طيرا ترميهم بحجارة من طين متحجر ، فصاروا بسبب ذلك صرعى هالكين ، حالهم في تمزقهم وتناثرهم كحال أوراق الأشجار اليابسة أو التبن الذي تأكله الدواب.

وهكذا نرى السورة الكريمة قد ساقت من مظاهره قدرة الله ـ تعالى ـ ما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم ، وما يحمل الكافرين على الاهتداء إلى الحق ، والإقلاع عن الشرك والجحود لو كانوا يعقلون.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من عباده الشاكرين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) تفسير (صفوة البيان) ج ٢ ص ٥٦٩ للشيخ حسنين محمد مخلوف.

٥١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة قريش

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «قريش» تسمى ـ أيضا ـ سورة «لإيلاف قريش» وهي من السور المكية عند جماهير العلماء ، وقيل مدنية ، والأول أصح لأنه المأثور عن ابن عباس وغيره ، وعدد آياتها أربع آيات ، وعند الحجازيين خمس آيات.

وكان نزولها بعد سورة «التين» وقبل سورة «القارعة» ، فهي السورة التاسعة والعشرون في ترتيب النزول.

٢ ـ ومن أهدافها : تذكير أهل مكة بجانب من نعم الله ـ تعالى ـ عليهم لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم ، ويخلصون العبادة لخالقهم وما نحهم تلك النعم العظيمة.

٥١٣

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

والإيلاف : مصدر آلفت الشيء إيلافا و «إلفا» إذا لزمته وتعودت عليه. وتقول : آلفت فلانا الشيء ، إذا ألزمته إياه. والإيلاف ـ أيضا ـ اجتماع الشمل مع الالتئام ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ...).

ولفظ «إيلاف» مضاف لمفعوله وهو قريش ، والفاعل هو الله ـ تعالى ـ : و «قريش» هم ولد النضر بن كنانة ـ على الأرجح ـ وهو الجد الثالث عشر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القرطبي ما ملخصه : وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ، بن مضر ، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي.

وسموا قريشا ، لتجمعهم بعد التفرق ، إذ التقرش : التجمع والالتئام ... أو سموا بذلك لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم ، والتقرش : التكسب ، ويقال : قرش فلان يقرش قرشا ـ كقتل ـ ، إذا كسب المال وجمعه ... (١).

وقوله : (إِيلافِهِمْ) بدل أو عطف بيان من قوله (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، وهو من أسلوب الإجمال فالتفصيل للعناية بالخبر ، ليتمكن في ذهن السامع كما في قوله ـ تعالى ـ : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ ...).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٢٠٢.

٥١٤

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (لِإِيلافِ ...) للتعليل. والجار والمجرور متعلق بقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَعْبُدُوا ...). وتقدير الكلام : من الواجب على أهل مكة أن يخلصوا العبادة لله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي جمعهم بعد تفرق ، وألف بينهم ، وهيأ لهم رحلتين فيهما ما فيهما من النفع والأمن.

وزيدت الفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَعْبُدُوا ...) لما في الكلام من معنى الشرط ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : إن لم تعبدونى من أجل نعمى التي لا تحصى ، فاعبدوني من أجل أنى جعلتكم تألفون هاتين الرحلتين النافعتين في أمان واطمئنان ، وأنى جمعت شملكم ، وألفت بينكم ...

قال صاحب الكشاف : «لإيلاف قريش» متعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين.

فإن قلت : فلم دخلت الفاء؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط ، لأن المعنى : إما لا فليعبدوه لإيلافهم. على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة.

وقيل المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل هو متعلق بما قبله ـ في السورة السابقة ـ أى : فجعلهم كعصف مأكول. لإيلاف قريش ، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) بيان لمظهر من مظاهر هذا الإيلاف الذي منحه ـ سبحانه ـ لهم ، والرحلة هنا : اسم لارتحال القوم من مكان إلى آخر ، ولفظ «رحلة» منصوب على أنه مفعول به لقوله (إِيلافِهِمْ) ...

والمراد بهذه الرحلة : ارتحالهم في الشتاء إلى بلاد اليمن ، وفي الصيف إلى بلاد الشام ، من أجل التجارة ، واجتلاب الربح. واستدرار الرزق ، والاستكثار من القوت واللباس وما يشبههما من مطالب الحياة.

وقيل : المراد برحلة الشتاء والصيف : رحلة الناس إليهم في الشتاء والصيف للحج والعمرة ، فقد كان الناس يأتون إلى مكة في الشتاء والصيف لهذه الأغراض ، فيجد أهل مكة من وراء ذلك الخير والنفع ، كما قال ـ تعالى ـ : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ).

وبعد أن ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمه أمرهم بشكره ، فقال : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٨٠٠.

٥١٥

الْبَيْتِ ...) أى : إن كان الأمر كما ذكرنا لهم ، فليخلصوا العبادة لله ـ تعالى ـ الذي حمى لهم البيت الحرام ، والكعبة المشرفة ، ممن أرادهما بسوء ..

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أى : الذي وسع لهم الرزق ، ومهد لهم سبيله ، عن طريق الوفود التي تأتى إليهم من مشارق الأرض ومغاربها.

(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أى : والذي أوجد لهم الأمن بعد الخوف ، والسعة بعد الضيق ، ببركة هذا البيت الحرام.

وتنكير «جوع» و «خوف» للتعظيم ، أى : أطعمهم بدلا من جوع شديد ، وآمنهم بدلا من خوف عظيم ، كانوا معرضين لهما ، وذلك كله من فضله ـ سبحانه ـ عليهم ، ومن رحمته بهم ، حيث أتم عليهم نعمتين بهما تكمل السعادة ، ويجتمع السرور.

ومن الآيات التي تشبه هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ...).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً ..).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الماعون

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الماعون» تسمى ـ أيضا ـ سورة «أرأيت» وسورة «الدين» وسورة «التكذيب» وهي مكية في قول الجمهور ، وقيل : هي مدنية ...

قال الآلوسى : هي مكية في قول الجمهور ... وروى عن قتادة والضحاك أنها مدنية ، وقال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها ـ الأول ـ بمكة في العاص بن وائل ، ونصفها ـ الثاني ـ بالمدينة في عبد الله بن أبى المنافق.

وعدد آياتها سبع آيات في المصحف العراقي ، وست في المصاحف الباقية ... (١).

٢ ـ ومن أهدافها : التعجيب من حال المشركين ، الذين كذبوا بالبعث ، واعتدوا على اليتامى ، وبخلوا بما آتاهم الله ـ تعالى ـ من فضله ، وهجروا الصلاة ، ومنعوا الزكاة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٢٤١.

٥١٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

فالاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (أَرَأَيْتَ) للتعجيب من حال هذا الإنسان الذي بلغ النهاية في الجهالة والجحود ... ولتشويق السامع إلى ما سيذكر بعد هذا الاستفهام.

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل من يصلح له. أى : أخبرنى ـ أيها الرسول الكريم ـ أرأيت وعرفت أسوأ وأعجب من حال هذا الإنسان الذي يكذب بيوم الدين ، أى : بيوم البعث والجزاء والحساب وينكر ما جئت به من عند ربك من حق وهداية.

مما لا شك فيه أن حال هذا الإنسان من أعجب الأحوال ، وعاقبته من أسوأ العواقب ...

والرؤية في قوله (أَرَأَيْتَ) يحتمل أن تكون بصرية ، فتتعدى لواحد هو الاسم الموصول ، كأنه ـ تعالى ـ قال : أأبصرت أسوأ وأعجب من هذا المكذب بيوم الدين.

ويحتمل أن تكون علمية ، فتتعدى لاثنين ، أولهما : الاسم الموصول والثاني : محذوف ، والتقدير : أعرفت الذي يكذب بالدين من هو؟ إننا نحن الذين نعرفك صفاته ، وهي :

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أى : فذلك الذي يكذب بالبعث والحساب والجزاء ، من أبرز صفاته القبيحة. أنه «يدع اليتيم» أى : يقسو عليه ، ويزجره زجرا عنيفا ، ويسد كل باب خير في وجهه ، ويمنع كل حق له ...

٥١٨

فقوله : (يَدُعُ) من الدع وهو الدفع الشديد ، والتعنيف الشنيع للغير ...

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أى : أن من صفاته الذميمة ـ أيضا ـ أنه لا يحث أهله وغيرهم من الأغنياء على بذل الطعام للبائس المسكين ، وذلك لشحه الشديد ، واستيلاء الشيطان عليه ، وانطماس بصيرته عن كل خير.

وفي هذه الآية والتي قبلها دلالة واضحة على أن هذا الإنسان المكذب بالدين قد بلغ النهاية في السوء والقبح ، فهو لقسوة قلبه لا يعطف على يتيم ، بل يحتقره ويمنع عنه كل خير ، وهو لخبث نفسه لا يفعل الخير ، ولا يحض غيره على فعله ، بل يحض على الشرور والآثام.

ولما كانت هذه الصفات الذميمة ، لا تؤدى إلى إخلاص أو خشوع لله ـ تعالى ـ وإنما تؤدى إلى الرياء وعدم المبالاة بأداء التكاليف التي أوجبها ـ سبحانه ـ على خلقه ...

لما كان الأمر كذلك ، وصف ـ سبحانه ـ هؤلاء المكذبين بالبعث والجزاء بأوصاف أخرى ، فقال : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

والفاء في قوله : (فَوَيْلٌ) للتفريع والتسبب ، والويل : الدعاء بالهلاك والعذاب الشديد.

وهو مبتدأ ، وقوله (لِلْمُصَلِّينَ) خبره ، والمراد بالسهو هنا : الغفلة والترك وعدم المبالاة ...

أى : فهلاك شديد ، وعذاب عظيم ، لمن جمع هذه الصفات الثلاث ، بعد تكذيبه بيوم الدين ، وقسوته على اليتيم ، وامتناعه عن إطعام المسكين.

وهذه الصفات الثلاث أولها : الترك للصلاة ، وعدم المبالاة بها ، والإخلال بشروطها وأركانها وسننها وآدابها.

وثانيها : أداؤها رياء وخداعا لا عن إخلاص وطاعة لله رب العالمين كما قال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى. يُراؤُنَ النَّاسَ ، وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وثالثها : منع الماعون : أى منع الخير والمعروف والبر عن الناس. فالمراد بمنع الماعون : منع كل فضل وخير عن سواهم. فلفظ «الماعون» أصله «معونة» والألف عوض من الهاء (١). والعون : هو مساعدة الغير على بلوغ حاجته ... فالمراد بالماعون : ما يستعان به على

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٢١٤.

٥١٩

قضاء الحوائج ، من إناء أو فأس ، أو نار ، أو ما يشبه ذلك.

ومنهم من يرى أن المراد بالماعون هنا : الزكاة ، لأنه جرت عادة القرآن الكريم أن يذكر الزكاة بعد الصلاة.

قال الإمام ابن كثير : قوله : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أى : لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه ، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ، ويستعان به ، مع بقاء عينه ورجوعه إليهم ، فهؤلاء لمنع الزكاة ومنع القربات أولى وأولى ...

وسئل ابن مسعود عن الماعون فقال : هو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر ... (١).

وهكذا نرى السورة الكريمة قد ذمت المكذبين بيوم الدين ذما شديدا حيث وصفتهم بأقبح الصفات وأشنعها.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيذنا من ذلك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥١٦.

٥٢٠