التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته الى يوم الدين.

وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة «يونس» ـ عليه‌السلام ـ حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية وآداب عالية ، وهدايات جامعة ، وإرشادات حكيمة ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق ..

وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها ، تكون بمثابة التعريف بها ، وبمقاصدها الإجمالية.

وأحمد الله ـ تعالى ـ أجزل الحمد وأوفاه ، أن وفقني قبل ذلك لتفسير سور : الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة» ...

والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، إنه أكرم مسئول ، وأعظم مأمول.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المؤلف د. محمد سيد طنطاوى

٥
٦

تمهيد بين يدي السورة

١ ـ سورة يونس ـ عليه‌السلام ـ هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : «الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة».

٢ ـ وكان نزولها بعد سورة «الإسراء».

٣ ـ وعدد آياتها : تسع ومائة آية عند الجمهور. وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات.

٤ ـ وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس ـ عليه‌السلام ـ ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب ، وفي ذلك تقول السورة الكريمة : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

٥ ـ وسورة يونس من السور المكية ، وعلى هذا سار المحققون من العلماء.

وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله ـ تعالى ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) والآيتين الرابعة والتسعين ، والخامسة والتسعين وهما قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ).

قال صاحب المنار : وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها الآيات ٤٠ ، ٩٤ ، ٩٥ ، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود. وقيل : من أولها إلى رأس أربعين آية مكي ، والباقي مدني ، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء.

ثم قال صاحب المنار : وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية ، وهو مما لم نثبت به رواية ، وكون المراد بالذين يقرءون الكتاب في الآية (٩٤) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة ، وبيان ذلك من وجهين :

أحدهما : أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة ، ولذلك قال الرسول

__________________

(١) الآية ٩٨.

٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أشك ولا أسأل» ، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري.

وثانيهما : أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى ، كقوله ـ تعالى ـ في سورة الإسراء : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ في سورة الأنبياء : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة يونس جميعها مكية ، كما قال المحققون من العلماء ، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم ، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تهتم بإثبات وحدانية الله ، وبإثبات صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبإثبات أن هذا القرآن من عند الله ، وأن البعث حق ، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية ، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين ..

والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع ، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه ، وعن موقف المشركين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته ، وعن الأدلة على وحدانية الله وقدرته.

قال ـ تعالى ـ : (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ).

ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية ١٢.

ثم تحكى مصارع الظالمين ، وأقوالهم الفاسدة ، ورد القرآن عليهم فتقول : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

وبعد أن تمضى السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين ، وفي بيان الطبائع البشرية ، نراها في مطلع الربع الثالث. تصور لنا حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الضالين ، فتقول :

__________________

(١) الآية ١٠١.

(٢) الآية ٧ تفسير المنار ج ١١ ص ١٤١ الطبعة الرابعة ـ مكتبة القاهرة.

٨

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ثم تأمر السورة الكريمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض ، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده ، وعمن يهدى إلى الحق ، فتقول : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ اللهُ ، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم. وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد ، تأخذ في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول :

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ..).

ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور ، وفيها الهداية لما في النفوس فتقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

ثم تسوق جانبا من مظاهر قدرة الله النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، فتقول : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

وفي مطلع الربع الخامس منها تحكى لنا جانبا من قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وكيف أنه نصحهم ، وذكرهم بآيات الله ، ولكنهم لم يستمعوا إليه ، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال ـ تعالى ـ :

٩

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ).

ثم تحكى لنا جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون ، ومن المحاورات ، والمجادلات التي دارت بينهما ، ومن الدعوات المستجابة التي توجه بها موسى إلى خالقه ، فتقول : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

ثم نراها في الربع السادس والأخير منها ، تحكى لنا ما قاله فرعون عند ما أدركه الغرق ، كما تخبرنا عن النهاية الطيبة التي لقوم يونس ـ عليه‌السلام ـ بسبب إيمانهم ، ثم تسوق ألوانا من مظاهر قدرة الله ، ومن حكمه العادل بين عباده ، ومن رعايته لأوليائه ورسله فتقول : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه نداء إلى الناس تبين لهم فيه أن من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، وأن من ضل فإنما يضل عليها فتقول : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

* * *

تلك أهم المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنها نرى بوضوح أن السورة الكريمة قد عنيت عناية بارزة بإثبات وحدانية الله وقدرته النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، تارة عن طريق مخلوقاته التي يشاهدونها كما في قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ...).

وتارة عن طريق اعترافهم بأن الله وحده هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ).

وتارة عن طريق لجوئهم إليه وحده لا سيما عند الشدائد والمحن ، كما حدث من فرعون عند ما أدركه الغرق.

كذلك نرى السورة الكريمة قد عنيت بدعوة الناس إلى التدبر والتفكر وإلى الاعتبار بمصارع الظالمين ، وإلى عدم التعلق بزخرف الحياة الدنيا ..

١٠

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

كذلك نرى السورة الكريمة قد اهتمت بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم ، وحول البعث وما فيه من ثواب وعقاب ...

فأثبتت أن هذا القرآن من عند الله ، وتحدتهم أن يأتوا بسورة من مثله فقالت : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

كما أثبتت أن يوم القيامة حق ، وأنهم لن ينجيهم من عذاب الله في ذلك اليوم ندمهم أو ما يقدمونه من فداء فقالت : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

هذا ، والسورة الكريمة بعد كل ذلك تمتاز بأنها قد عرضت ما عرضت من هدايات وتوجيهات بأسلوب بليغ مؤثر ، تقشعر منه الجلود ، وتلين منه القلوب ، وتخشع له النفوس .. مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

د. محمد سيد طنطاوى

١١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

سورة يونس من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي.

وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين ، أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.

فالسور التي افتتحت بحرف واحد ثلاثة ، وهي سورة : ص ، ق ، ن.

والسور التي افتتحت بحرفين تسعة ، وهي : طه ، طس ، يس ، وحم في ست سور ، هي : غافر ، فصلت ، الزخرف. الدخان ، الجاثية ، الأحقاف.

والسور التي بدئت بثلاثة أحرف ، ثلاث عشرة سورة ، وهي : ألم في ست سور هي : البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة ، والر في خمس سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر ، وطسم في سورتين هما : الشعراء ، القصص.

وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما : الأعراف ، الرعد. وسورتان بدئتا بخمسة أحرف وهما : مريم ، والشورى.

١٢

فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.

هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :

الرأى الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.

وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس ـ في إحدى الروايات عنه ـ كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهم من العلماء. فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور.

ويروى عن ابن عباس انه قال : عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على ـ رضى الله عنه ـ قال : «إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : «سر الله فلا تطلبوه».

ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى ، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.

وقد أجيب عن ذلك ، بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين ، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل السور.

أما الرأى الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.

وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى :

١ ـ أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح». وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة «ص» وسورة «يس».

ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.

١٣

٢ ـ وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة ، وابتداء أخرى.

٣ ـ وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله ـ تعالى ـ وبعضها من صفاته فمثلا «ألم» أصلها أنا الله أعلم.

٤ ـ وقيل : إنها اسم الله الأعظم ، الى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال. والتي أوصلها السيوطي في كتابه «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.

٥ ـ ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها. فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.

وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيترتب على ذلك أن يسمعوا حكما ، وهدايات قد تكون سببا في إيمانهم. ولعل مما يشهد بصحة هذا الرأى : أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة ، تتحدث عن القرآن وعن كونه معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أغلب المواضع.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : في أول سورة البقرة (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). وقوله سبحانه في أول سورة هود : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وقوله ـ سبحانه ـ في أول سورة إبراهيم : (الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وهكذا نرى أن كثيرا من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة ، قد أعقبت هذا الافتتاح بالحديث الصريح أو الضمنى عن القرآن الكريم ، وأن هذه السور إذا تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الاساسية إثبات وحدانية الله ، وإثبات صحة الرسالة المحمدية ، وإثبات أن هذا القرآن الذي هو معجزة الرسول الخالدة ـ منزل من عند الله ـ تعالى ـ.

هذه خلاصة لآراء العلماء في المراد بالحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع ـ مثلا ـ إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي ، وإلى كتاب «البرهان». للزركشى ، وإلى تفسير الآلوسى.

١٤

ثم قال ـ تعالى ـ : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ).

(تِلْكَ) اسم إشارة والمشار إليه الآيات. والمراد بها آيات القرآن الكريم. ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.

والكتاب : مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب : ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط والمراد به القرآن الكريم على الصحيح.

قال الآلوسى : «وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما ، كما أخرجه ابن أبى حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد (١)».

والحكيم ـ بزنة فعيل ـ مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع. تقول حكمت الفرس أى وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والنفور.

والمقصود أن هذا الكتاب ممتنع عن الفساد ، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه منها : أن الحكيم هو ذو الحكمة ، بمعنى اشتماله على الحكمة ـ فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر ـ ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم والإحكام معناه المنع من الفساد ، فيكون المراد منه أنه لا تغيره الدهور أو المراد منه براءته من الكذب والتناقض (٢)».

والمعنى : تلك الآيات السامية ، والمنزلة عليك يا محمد ، هي آيات الكتاب ، المشتمل على الحكمة والصواب المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.

وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإنزال ، ولأن الله ـ تعالى ـ قد وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزول القرآن عليه ، كما في قوله : ـ تعالى ـ : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ووعد الله ـ تعالى ـ لا يتخلف.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف المشركين من دعوته فقال : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ..

روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما بعث الله ـ تعالى ـ رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٥٨ الطبعة المنيرية.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٥ طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٣٥٧ ه‍ سنة ١٩٣٧ م.

١٥

أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ...) الآية (١).

والهمزة في قوله «أكان» لإنكار تعجبهم ، ولتعجب السامعين منه لوقوعه في غير موضعه.

وقوله (لِلنَّاسِ) جار ومجرور حال من قوله (عَجَباً) والمراد بهم مشركو مكة ومن لف لفهم في إنكار ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (عَجَباً) خبر كان ، والعجب والتعجيب ـ استعظام أمر خفى سببه.

وقوله : (أَنْ أَوْحَيْنا) في تأويل مصدر أى : إيحاؤنا ، وهو اسم كان. والوحى : الإعلام في خفاء ، والمقصود به ما أوحاه الله ـ تعالى ـ إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن وغيره.

وقوله : (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أى إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه.

وقوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) الإنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله ـ تعالى ـ :

والمراد بالناس هنا : جميع الذين يمكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغهم دعوته.

وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) البشارة : إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر ، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم.

وأصل القدم العضو المخصوص. وأطلقت على السبق ، لكونها سببه وآلته ، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد.

وأصل الصدق أن يكون في الأقوال ، ويستعمل أحيانا في الأفعال فيقال : فلان صدق في القتال ، إذا وفاه حقه ، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل.

وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم : مسجد الجامع ، والأصل قدم صدق. أى محققة مقررة. وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق. ثم جعل الصدق كأنه صاحبها.

ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب ، وفي ذلك

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٦ طبعة عيسى الحلبي.

١٦

تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم. إنما هو بسبب صدقهم في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم.

قال الإمام ابن جرير ما ملخصه : واختلف أهل التأويل في معنى قوله : (قَدَمَ صِدْقٍ) فقال بعضهم معناه : أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح ..

وقال آخرون معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.

وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفيع لهم.

ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال معناه : أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب ، وذلك أنه محكي عن العرب قولهم : هؤلاء أهل القدم في الإسلام. أى هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم.

ويقال : لفلان عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر ، ومنه قول حسان بن ثابت ـ رضى الله عنه ـ :

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأولنا في طاعة الله تابع (١)

ومعنى الآية الكريمة : أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم ، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق ، أمرا عجبا ، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية.

إن الذي يدعو الى العجب حقا هو ما تعجبوا منه ، لأن الله ـ تعالى ـ اقتضت حكمته أن يجعل رسله الى الناس من البشر ، لأن كل جنس يأنس لجنسه ، وينفر من غيره ، هو ـ سبحانه ـ أعلم حيث يجعل رسالته.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : فما معنى اللام في قوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) وما الفرق بينه وبين قولك : كان عند الناس عجبا؟

قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها. ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وليس في «عند الناس» هذا المعنى.

والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر. وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. فقد كانوا يقولون : العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وأن يذكر لهم البعث. وينذر بالنار ويبشر بالجنة. وكل واحد من هذه الأمور ليس

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ٥٨. طبعة دار المعرفة ببيروت.

١٧

بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشرا مثلهم.

وقال الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (١).

وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب ـ أيضا ـ لأن الله ـ تعالى ـ إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما اختير له من النبوة. والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء قال ـ تعالى ـ : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) (٢).

والبعث للجزاء على الخير والشر. هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول ، تعطيل الجزاء (٣).

وقدم ـ سبحانه ـ خبر كان وهو (عَجَباً) على اسمها وهو (أَنْ أَوْحَيْنا). لأن المقصود بالإنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشرا.

وقدم ـ سبحانه ـ الإنذار على التبشير ، لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.

ولم يذكر المنذر به ، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق ، الذي يؤدى اتباعه إلى النجاة من العذاب.

وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له ، بخلاف الإنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر. ولذا قال ـ سبحانه ـ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أى جميع الناس.

وذكر ـ سبحانه ـ في جانب التبشير المبشر به ـ وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم ـ لكي تقوى رغبتهم في طاعته. ومحبتهم لعبادته ، وبذلك ينالون ما بشرهم به.

ثم وضح ـ سبحانه ـ ما قاله الكافرون عند مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوته فقال : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ).

أى : قال الكافرون المتعجبون من أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إليهم ، إن هذا الإنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيّن السحر واضحه. حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه ، والأخ وأخيه.

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٩٥.

(٢) سورة «سبأ» الآية ٣٧.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٤. طبعة مصطفى الحلبي.

١٨

وعلى هذه القراءة التي وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإشارة إلى الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ الباقون : إن هذا لسحر مبين أى : إن هذا القرآن لسحر واضح ، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الايمان بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابو حيان ما ملخصه : «ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد ، لم يحتج إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة ، وخلطتهم له ، ـ وأنه لا علم له بالسحر ـ وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهى مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التي أعجزتهم ...

وقولهم هذا ؛ هو دين الكفرة مع أنبيائهم. فقد قال فرعون وقومه في موسى ـ عليه‌السلام ـ (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وقال قوم عيسى فيه عند ما جاءهم بالبينات (هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد» (١).

وقال الآلوسى «وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر ، نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد ، كما هو شنشنة المكابر اللجوج ، وشنشنة المفحم المحجوج» (٢).

وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف ، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر ، فكأنه قيل : فماذا قالوا بعد هذا التعجب؟ فكان الجواب : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ).

ويرى الامام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف ، فقد قال : ـ رحمه‌الله ـ : «وفي الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وتأويل الكلام : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذي جاءنا به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسحر مبين» (٣).

وقد اشتملت جملة (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) على جملة من المؤكدات ، للإشارة إلى رسوخهم في الكفر ، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا ، وصدق الله إذ يقول : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٥ ص ١٢٣ ـ طبعة مطبعة السعادة سنة ١٣٣٨ ه‍.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٣.

(٣) تفسير ابن جرير ج ١١ ص ٦٠ طبعة بولاق سنة ١٣٢٧ ه‍.

١٩

ثم ساق ـ سبحانه ـ من مظاهر قدرته ، ما يبطل تعجبهم فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحى والبعثة والرسالة ثم إنه ـ تعالى ـ أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم .. كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين :

أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهى.

والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما.

فلا جرم أنه ـ سبحانه ـ ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.

أما الأول : وهو إثبات الألوهية فبقوله ـ تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...).

وأما الثاني : فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ...).

فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ، ونهاية الكمال» (١).

والمعنى : إن ربكم ومالك أمركم ـ الذي عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الله الذي خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام أى أوقات.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٨.

٢٠