التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة القدر

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «القدر» من السور المكية عند أكثر المفسرين ، وكان نزولها بعد سورة «عبس» ، وقبل سورة «الشمس» ، فهي السورة الخامسة والعشرون في ترتيب النزول ، ويرى بعض المفسرين أنها من السور المدنية ، وأنها أول سورة نزلت بالمدينة.

قال الآلوسى : قال أبو حيان : مدنية في قول الأكثر. وحكى الماوردي عكسه. وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الجلال في الإتقان : فيها قولان ، والأكثر أنها مكية ... (١) وعدد آياتها خمس آيات ، ومنهم من عدها ست آيات. والأول أصح وأرجح.

٢ ـ والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : التنويه بشأن القرآن ، والإعلاء من قدره ، والرد على من زعم أنه أساطير الأولين ، وبيان فضل الليلة التي نزل فيها ، وتحريض المسلمين على إحيائها بالعبادة والطاعة لله رب العالمين.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٨٨.

٤٦١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)

والضمير المنصوب في قوله ـ تعالى ـ (أَنْزَلْناهُ) يعود إلى القرآن الكريم ، وفي الإتيان بهذا الضمير للقرآن ، مع أنه لم يجر له ذكر ، تنويه بشأنه ، وإيذان بشهرة أمره. حتى إنه ليستغنى عن التصريح به ، لحضوره في أذهان المسلمين.

والمراد بإنزاله : ابتداء نزوله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه من المعروف أن القرآن الكريم ، قد نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما ، في مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا.

ويصح أن يكون المراد بأنزلناه ، أى : أنزلناه جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل بعد ذلك منجما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام ابن كثير : قال ابن عباس وغيره : أنزل الله ـ تعالى ـ القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع ، في ثلاث وعشرين سنة ، على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (١) والقدر الذي أضيفت إليه الليلة ، بمعنى الشرف والعظمة ، مأخوذ من قولهم : لفلان قدر عند فلان ، أى : له منزلة رفيعة ، وشرف عظيم ، فسميت هذه الليلة بذلك ، لعظم قدرها وشرفها ، إذ هي الليلة التي نزل فيها قرآن ذو قدر ، بواسطة ملك ذي قدر ، على رسول ذي

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٦٣.

٤٦٢

قدر ، لأجل إكرام أمة ذات قدر ، هذه الأمة يزداد قدرها وثوابها عند الله ـ تعالى ـ إذا ما أحيوا تلك الليلة بالعبادات والطاعات.

ويصح أن يكون المراد بالقدر هنا : التقدير ، لأن الله ـ تعالى ـ يقدر فيها ما يشاء تقديره لعباده ، إلا أن القول الأول أظهر ، لأن قوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يفيد التعظيم والتفخيم.

أى : إنا ابتدأنا بقدرتنا وحكمتنا ، إنزال هذا القرآن العظيم ، على رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر ، التي لها ما لها عندنا من قدر وشرف وعظم .. لأن للطاعات فيها قدرا كبيرا ، وثوابا جزيلا.

وليلة القدر هذه هي الليلة التي قال الله ـ تعالى ـ في شأنها في سورة الدخان : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وهذه الليلة هي من ليالي شهر رمضان ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

قال بعض العلماء : ومن تسديد ترتيب المصحف ، أن سورة القدر وضعت عقب سورة العلق ، مع أنها أقل عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها ، وكأن ذلك إيماء إلى أن الضمير في (أَنْزَلْناهُ) يعود إلى القرآن ، الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق. (١).

وقال صاحب الكشاف : عظم ـ سبحانه ـ القرآن من ثلاثة أوجه : أحدها : أن أسند إنزاله اليه ، وجعله مختصا به دون غيره. والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر ، شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه.

روى أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزل به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة.

وعن الشعبي : المعنى : أنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر ... (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) تنويه آخر بشرف هذه الليلة ، وتفخيم لشأنها ، حتى لكأن عظمتها أكبر من أن تحيط بها الكلمات والألفاظ.

أى : وما الذي يدريك بمقدار عظمتها وعلو قدرها ، إن الذي يعلم مقدار شرفها هو الله

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٣٠ ص ٤٥٦ للشيخ ابن عاشور ـ رحمه‌الله ـ.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨٠.

٤٦٣

ـ تعالى ـ علام الغيوب.

ثم ـ بين ـ سبحانه ـ مظاهر فضلها فقال : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أى : ليلة القدر أفضل من ألف شهر ، بسبب ما أنزل فيها من قرآن كريم يهدى للتي هي أقوم. ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وبسبب أن العبادة فيها أكثر ثوابا ، وأعظم فضلا من العبادة في أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر.

والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير ، باعتبار الزمان والمكان ، وإخلاص النية ، وحسن الأداء ، ولله ـ تعالى ـ أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة.

والتحديد بألف شهر يمكن أن يكون مقصودا. ويمكن أن يراد منه التكثير. وأن المراد أن أقل عدد تفضله هذه الليلة هو هذا العدد. فيكون المعنى : أن هذه الليلة تفضل الدهر كله.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك مزية أخرى لهذه الليلة المباركة فقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ).

أى : ومن مزايا وفضائل هذه الليلة أيضا ، أن الملائكة ـ وعلى رأسهم الروح الأمين جبريل ـ ينزلون فيها أفواجا إلى الأرض ، بأمره ـ تعالى ـ وإذنه ، وهم جميعا إنما ينزلون من أجل أمر من الأمور التي يريد إبلاغها إلى عباده ، وأصل «تنزل» تتنزل ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ، ونزول الملائكة إلى الأرض ، من أجل نشر البركات التي تحفهم ، فنزولهم في تلك الليلة يدل على شرفها ، وعلى رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده.

والروح : هو جبريل ، وذكره بخصوصه بعد ذكر الملائكة ، من باب ذكر الخاص بعد العام ، لمزيد الفضل ، واختصاصه بأمور لا يشاركه فيها غيره.

وقوله ـ سبحانه ـ (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بقوله : (تَنَزَّلُ) ، والباء للسببية ، أى : يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول.

قال الجمل ما ملخصه. وقوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) يجوز في «من» وجهان : أحدهما أنها بمعنى اللام ، وتتعلق بتنزل ، أى : تنزل من أجل كل أمر قضى إلى العام القابل. والثاني : أنها بمعنى الباء ، أى : تنزل بكل أمر قضاه الله ـ تعالى ـ فيها من موت وحياة ورزق.

وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا في تلك الليلة بل المراد إظهار تلك المقادير لملائكته. (١)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٦٧.

٤٦٤

وقوله ـ تعالى ـ : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) بيان لمزية ثالثة من مزايا هذه الليلة ، وقوله (سَلامٌ) مصدر بمعنى السلامة ، وهو خبر مقدم ، و (هِيَ) مبتدأ مؤخر ، وإنما قدم الخبر تعجيلا للمسرّة ، وقد أخبر عن هذه الليلة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على سبيل تأويل المصدر باسم الفاعل ، أو على تقدير مضاف ... والمراد بمطلع الفجر : طلوعه وبزوغه.

أى : هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر ، والأمان الدائم ، لكل مؤمن يحييها في طاعة الله ـ تعالى ـ إلى أن يطلع الفجر ، أو هي ذات سلامة حتى مطلع الفجر ، أو هي سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة حتى طلوع الفجر.

هذا وقد أفاض العلماء في الحديث عن فضائل ليلة القدر ، وعن وقتها. وعن خصائصها ... وقد لخص الإمام القرطبي ذلك تلخيصا حسنا فقال : وهنا ثلاث مسائل :

الأولى : في تعيين ليلة القدر ... والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين ... والجمهور على أنها في كل عام من رمضان ... وقيل : أخفاها ـ سبحانه ـ في جميع شهر رمضان ، ليجتهدوا في العمل والعبادة طمعا في إدراكها.

الثانية : في علاماتها : ومنها أن تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.

الثالثة : في فضائلها ... وحسبك قوله ـ تعالى ـ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) وفي الصحيحين «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ...» (١).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من المنتفعين بهذه الليلة المباركة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ١٣٤.

٤٦٥
٤٦٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة البينة

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «البينة» ، تسمى ـ أيضا ـ سورة «لم يكن ...» وسورة «المنفكين» وسورة «القيمة» وسورة «البرية» ، وعدد آياتها ثماني آيات عند الجمهور ، وعدها قراء البصرة تسع آيات.

٢ ـ وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، وقد لخص الإمام الآلوسى هذا الخلاف فقال : قال في البحر : هي مكية ... وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية ... وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد. عن أبى خيثمة البدري قال : لما نزلت هذه السورة ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها «أبيّا».

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبىّ بن كعب ـ رضى الله عنه ـ : «إن جبريل أمرنى أن أقرئك هذه السورة ، فقال أبىّ : أو قد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال : نعم.» فبكى أبىّ.

وقد رجح الإمام الآلوسى كونها مدنية ، فقال : وهذا هو الأصح (١).

وهذا الذي رجحه الإمام الآلوسى هو الذي نميل إليه ، لأن حديثها عن أهل الكتاب ، وعن تفرقهم في شأن دينهم ، يرجح أنها مدنية ، كما أن الإمام السيوطي قد ذكرها ضمن السور المدنية ، وجعل نزولها بعد سورة «الطلاق» وقبل سورة «الحشر» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٢٠٠.

(٢) الإتقان ج ١ ص ٢٧.

٤٦٧

٣ ـ ومن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، توبيخ أهل الكتاب والمشركين ، على إصرارهم على ضلالهم من بعد أن تبين لهم الحق. والتعجيب من تناقض أحوالهم. وبيان أن كفرهم لم يكن بسبب جهلهم ، وإنما بسبب جحودهم وعنادهم وحسدهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضله ، والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية ، وأن المؤمنين هم خير البرية.

٤٦٨

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

و «من» في قوله ـ تعالى ـ (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) للبيان ، وقوله ـ سبحانه ـ : (مُنْفَكِّينَ) : للعلماء في معنى هذا اللفظ أقوال متعددة ، منها : أنه اسم فاعل من انفك بمعنى انفصل ، يقال : فككت الشيء فانفك إذا افترق ما كان ملتحما منه.

والبينة : الحجة الظاهرة التي يتميز بها الحق من الباطل ، وأصلها من البيان بمعنى الظهور والوضوح ، لأن بها تتضح الأمور ، أو من البينونة بمعنى الانفصال ، لأن بها ينفصل الحق عن الباطل بعد التباسهما.

٤٦٩

والمراد بها هنا : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ذاته برهانا على صحة ما ادعاه من النبوة ، لتحليه بكمال العقل وبمكارم الأخلاق ، ولإتيانه بالمعجزات التي تؤيد أنه صادق فيما يبلغه عن ربه.

والمعنى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ولم يكن ـ أيضا ـ الذين كذبوا الحق من المشركين ، ولم يكن الجميع بمفارقين وبمنفصلين عن كفرهم وشركهم ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) التي هي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أتتهم هذه البينة ، منهم من آمن ومنهم من استمر على كفره وشركه وضلاله.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «كان الكفار من الفريقين ، أهل الكتاب ، وعبدة الأصنام ، يقولون قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي المكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكى الله ـ تعالى ـ ما كانوا يقولونه ، ثم قال : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، يعنى أنهم كانوا يعدون باجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق ، إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ، ولا أقرهم على الكفر ، إلا مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك عما أنا فيه حتى يرزقني الله ـ تعالى ـ الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول له واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار ، يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما.

وانفكاك الشيء من الشيء ، أن يزايله بعد التحامه به. كالعظم إذا انفك من مفصله.

والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة. (١).

ومنهم من يرى : أن (مُنْفَكِّينَ) بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أى : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك ، حتى تأتيهم البينة ، على معنى قوله ـ تعالى ـ : (أيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).

أو المعنى : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله ـ تعالى ـ وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله ـ تعالى ـ إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : ما كانوا ليتركوا سدى ... (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨٢.

(٢) راجع تفسير «أضواء البيان» ج ٨ ص ٣٩٧ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٤٧٠

وهناك أقوال أخرى في معنى الآية رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها.

وقد قدم الله ـ تعالى ـ ذكر أهل الكتاب في البيان ، لأن كفرهم أشنع وأقبح. إذ كانوا يقرءون الكتب ، ويعرفون أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت قدرتهم على معرفة صدقه أكبر وأتم. وفي التعبير عنهم بأهل الكتاب دون اليهود والنصارى ، تسجيل للغفلة وسوء النية عليهم. حيث علموا الكتاب. وعرفوا عن طريقه أن هناك رسولا كريما قد أرسله الله ـ تعالى ـ لهدايتهم ، ومع ذلك كفروا به ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) بدل من «البيّنة» على سبيل المبالغة ، حيث جعل ـ سبحانه ـ الرسول نفس البينة.

أى : لم يفارقوا دينهم حتى جاءهم رسول كريم ، كائن من عند الله ـ تعالى ـ لكي يقرأ على مسامعهم صحفا من القرآن الكريم ، مطهرة ، أى : منزهة عن الشرك والكفر والباطل ، وهذه الصحف من صفاتها ـ أيضا ـ أنها (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أى : فيها سور آيات قرآنية مستقيمة لا عوج فيها ، بل هي ناطقة بالحق والخير والصدق والهداية ، وبأخبار الأنبياء السابقين وبأحوالهم مع أقوامهم.

فقوله : (قَيِّمَةٌ) بمعنى مستقيمة لا عوج فيها ولا اضطراب ، من قولهم : قام فلان يقوم ، إذا استوى على قدميه في استقامة.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان عليه أهل الكتاب من جحودهم للحق ، ومن إنكارهم له مع علمهم به ، فقال ـ تعالى ـ (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). أى : أن الجاحدين والمعاندين والحاسدين لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من أهل الكتاب ، ما تفرقوا في أمره ، وما اختلفوا في شأن نبوتك ... إلا من بعد أن جئتهم أنت بما يدل على صدقك ، دلالة لا يجحدها إلا جهول ، ولا ينكرها إلا حسود ، ولا يعرض عنها إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا.

فالآية الكريمة كلام مستأنف ، المقصود به تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين فكأنه ـ سبحانه ـ يقول له : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لإعراض من أعرض عن دعوتك من أهل الكتاب ، فإن إعراضهم لم يكن عن جهل ، وإنما عن عناد وجحود وحسد لك على ما آتاك الله من فضله.

وإنما خص ـ سبحانه ـ هنا أهل الكتاب بالذكر ، مع أن الكلام في أول السورة كان فيهم وفي المشركين ، للدلالة على شناعة حالهم ، وقبح فعالهم ، لأن الإعراض عن الحق ممن له

٤٧١

كتاب ، أشد قبحا ونكرا ، ممن ليس له كتاب وهم المشركون.

والاستثناء في الآية مفرغ ، والمستثنى منه عموم الأوقات. والمعنى : لم يتفرق الجاحدون من الذين أوتوا الكتاب في وقت من الأوقات ، إلا في الوقت الكائن بعد مجيء البينة لهم.

ومن الآيات القرآنية الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان يجب عليهم أن يفعلوه ، فقال : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

والواو في قوله ـ تعالى ـ (وَما أُمِرُوا) للحال ، فهذه الجملة حالية ، والمقصود منها بيان أن هؤلاء الضالين ، قد بلغوا النهاية في قبح الأفعال ، وفي فساد العقول ، إذ أنهم تفرقوا واختلفوا وأعرضوا عن الهدى ، في حال أنهم لم يؤمروا إلا بما فيه صلاحهم.

وقوله : (حُنَفاءَ) من الحنف ، وهو الميل من الدين الباطل إلى الدين الحق. كما أن الجنف هو الميل من الحق إلى الباطل.

أى : أن هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا في شأن الحق ، والحال ، أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، مخلصين له الطاعة ، ومائلين عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق ، مؤمنين بجميع الرسل بدون تفرقة بينهم ، إذ ملتهم جميعا واحدة ، ولم يؤمروا ـ أيضا ـ إلا بإقامة الصلاة في أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين ، وبإيتاء الزكاة التي تطهرهم وتزكيهم.

(وَذلِكَ) الذي أمرناهم به من إخلاص العبادة لنا ، ومن أداء فرائضنا (دِينُ الْقَيِّمَةِ). أى : دين الملة المستقيمة القيمة ، أو دين الكتب القيمة.

ولفظ «القيمة» ـ بزنة فيعلة ـ من القوامة ، وهي غاية الاستقامة ، وهذا اللفظ صفة لموصوف محذوف.

ثم ـ بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة هؤلاء الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها).

أى : إن الذين أصروا على كفرهم بعد أن تبين لهم ، من اليهود والنصارى ، ومن المشركين الذين هم عبدة الأصنام ... مكانهم المهيأ لهم هو نار جهنم ، حالة كونهم خالدين فيها خلودا أبديا (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات الذميمة (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أى : هم شر كل صنف من أصناف المخلوقات ، لإصرارهم على الكفر والإشراك مع علمهم بالحق.

٤٧٢

ولفظ «البرية» من البرى وهو التراب ، لأنهم قد خلقوا في الأصل منه ، يقال : فلان براه الله ـ تعالى ـ يبروه بروا. أى : خلقه. وقرأ نافع بالهمز ، من قولهم برأ الله ـ تعالى ـ الخلق يبرؤهم ، أى : خلقهم.

وقدم سبحانه ـ أهل الكتاب في المذمة ، لأن جنايتهم في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد ، إذ كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون لهم : إن نبيا قد أظلنا زمانه ، وإننا عند مبعثه سنتبعه ... فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به.

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : الأول : أن هؤلاء الضالين خالدون في النار ، والثاني : أنهم شر المخلوقات التي خلقها الله ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك حسن عاقبة المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). أى : وعملوا الأعمال الصالحات (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أى : أولئك هم خير المخلوقات التي خلقها الله ـ تعالى ـ.

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى : جزاؤهم الطيب الكائن لهم عند ربهم وخالقهم ومالك أمرهم.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ). أى : جنات يقيمون فيها إقامة دائمة ، من عدن فلان بالمكان إذا أقام فيه. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى : تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أى : خالدين في تلك الجنات خلودا أبديا.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أى : قبل الله ـ تعالى ـ منهم أعمالهم ورضيها عنده ، وفرحوا هم ورضوا بما أعطاهم من خير عميم.

فالمراد برضاء ـ تعالى ـ عنهم : قبوله لأعمالهم ، وبرضاهم عنه : فرحهم بما أعطاهم من فضله. (ذلِكَ) أى : العطاء الجزيل (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أى : كائن وثابت لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من أصحاب الميمنة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٧٣
٤٧٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الزلزلة

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الزلزلة» وتسمى ـ أيضا ـ سورة «إذا زلزلت» وسورة «الزلزال» من السور المكية ، وقيل : هي من السور المدنية.

قال الآلوسى : هي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، ومدنية في قول مقاتل وقتادة.

ويبدو لنا أن القول بكونها مكية أرجح ، لأن الحديث عن أهوال يوم القيامة ، يكثر في السور المكية ، ولأن بعض المفسرين ـ كالإمام ابن كثير ـ قد اقتصر على كونها مكية ، ولم يذكر في ذلك خلافا.

وعدد آياتها ثماني آيات في المصحف الكوفي ، وتسع آيات في غيره. وسبب ذلك اختلافهم في قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) هل هو آيتان أو آية واحدة.

٢ ـ والسورة الكريمة من أهم مقاصدها : إثبات أن يوم القيامة حق وبيان ما اشتمل عليه من أهوال ، وتأكيد أن كل إنسان سيجازى على حسب عمله في الدنيا ...

٤٧٥

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

وقوله ـ تعالى ـ : (زُلْزِلَتِ) أى : حركت تحريكا شديدا لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ ، إذ الزلزال : الحركة الشديدة مع الاضطراب ، وهو بفتح الزاى اسم لذلك ، وبكسرها مصدر بمعنى التحرك والاضطراب ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) ، ويكون هذا الزلزال الشديد ، عند ما يأذن الله ـ تعالى ـ بقيام الساعة ، ويبعث الناس للحساب.

وافتتح ـ سبحانه ـ الكلام بظرف الزمان (إِذا) ، لإفادة تحقق وقوع الشرط.

وقوله : (زِلْزالَها) مصدر مضاف لفاعله. أى : إذا زلزلت الأرض زلزالها الذي لا يماثله زلزال آخر في شدته وعظمته وهوله ، كما قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) بيان لأثر آخر من آثار ما يحدث في هذا اليوم الهائل الشديد.

والأثقال : جمع ثقل ـ بكسر فسكون ـ وهو المتاع الثقيل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ :

٤٧٦

وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ).

والمراد بها هنا : ما يكون في جوف الأرض من أموات وكنوز وغير ذلك مما يكون في باطنها. قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في جوف الأرض فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها ، وإنما سمى الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم ... (١).

والمراد بالإنسان في قوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) جنسه فيشمل المؤمن والكافر.

وقوله (ما لَها) مبتدأ وخبر ، والاستفهام : المقصود به التعجب مما حدث من أهوال.

أى : وقال كل إنسان على سبيل الدهشة والحيرة ، أى : شيء حدث للأرض ، حتى جعلها تضطرب هذا الاضطراب الشديد.

قال الجمل : وفي المراد بالإنسان هنا قولان : أحدهما : أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر ، وهذا يدل على قول من جعل الزلزلة من أشراط الساعة ، والمعنى : أنها حين تقع لم يعلم الكل أنها من أشراط الساعة ، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك. والثاني : أنه الكافر خاصة ، وهذا يدل على قول من جعلها زلزلة القيامة ، لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها ، فإذا وقعت سأل عنها ... (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) جواب الشرط ، و «أخبارها» مفعول ثان لقوله : (تُحَدِّثُ) والمفعول الأول محذوف. أى : إذا زلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض أثقالها. وقال الإنسان ماذا حدث لها ... عندئذ تحدّث الأرض الخلائق أخبارها ، بأن تشهد للطائع بأنه كان كذلك ، وتشهد على الفاسق بأنه كان كذلك.

أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) ثم قال : «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، بأن تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. فهذه أخبارها.» (٣).

والظاهر أن هذا التحديث من الأرض على سبيل الحقيقة ، بأن يخلق الله ـ تعالى ـ فيها حياة وإدراكا ، فتشهد بما عمل عليها من عمل صالح أو طالح ، كما تشهد على من فعل ذلك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ١٤٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٧٣.

(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٨١.

٤٧٧

وقيل : هذا مثل ضربه الله ـ تعالى ـ والمقصود منه أن كل إنسان في هذا اليوم سيتبين جزاء عمله ، وما أعده الله ـ تعالى ـ له على ما قدم في حياته الأولى ، ونظير ذلك أن تقول : إن هذه الدار لتحدثنا بأنها كانت مسكونة.

قال بعض العلماء ما ملخصه : قوله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) يومئذ بدل من إذا. أى : في ذلك الوقت تحدثك الأرض أحاديثها ، وتحديث الأرض تمثيل ـ كما قال الطبري وغيره ـ أى : أن حالها وما يقع فيها من الانقلاب ، وما لم يعهد من الخراب ، يعلم السائل ويفهمه الخبر ، وأن ما يراه لم يكن بسبب من الأسباب التي وضعتها السنة الإلهية ، حال استقرار نظام الكون ، بل ذلك بسبب (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أى : أن ما يحدث للأرض يومئذ ، إنما هو بأمر إلهى خاص. بأن قال لها كوني كذلك فكانت كما قال لها (١).

وعدى فعل «أوحى» باللام ـ مع أن حقه أن يتعدى بإلى كما في قوله ـ تعالى ـ (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) لتضمينه معنى «قال» كما في قوله ـ سبحانه ـ (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

والمعنى : إن الأرض تحدث الناس عن أخبارها ، وتبينها لهم ، وتشهد عليهم .... بسبب أن ربك الذي خلقك فسواك فعدلك ـ أيها الإنسان ـ قد أمرها بذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أحوال الناس في هذا اليوم فقال : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ).

والجملة الكريمة بدل من جملة «يومئذ تحدث أخبارها» ، وقوله (يَصْدُرُ) فعل مضارع من الصدر ـ بفتح الدال ـ وهو الرجوع عن الشرب ، يقال : صدر الناس عن الورد ، إذا انصرفوا عنه. و (أَشْتاتاً) جمع شتيت ، أى : متفرق ، ومنه قولهم : شتت الله جمع الأعداء ، أى فرق أمرهم.

وقوله ـ تعالى ـ (لِيُرَوْا) فعل مضارع مبنى للمجهول ، وماضيه المبنى للمعلوم «أراه» بمعنى أطلعه. أى : في هذا اليوم الذي تتزلزل فيه الأرض زلزلة شديدة ... يخرج الناس من قبورهم متجهين أشتاتا إلى موقف الحساب ، وكل واحد منهم مشغول بنفسه ، لكي يبصروا جزاء أعمالهم ، التي عملوها في دنياهم.

وجاء فعل «ليروا» مبنيا للمجهول ، لأن المقصود رؤيتهم لأعمالهم ، وليس المقصود تعيين

__________________

(١) تفسير جزء عم ص ١٠٦ للشيخ محمد عبده.

٤٧٨

من يريهم إياها. ثم فصل ـ سبحانه ـ ما يترتب على هذه الرؤية من جزاء فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

و «المثقال» مفعال من الثقل ، ويطلق على الشيء القليل الذي يحتمل الوزن ، و «الذرة» تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذي يتطاير من التراب عند النفخ فيه. والمقصود المبالغة في الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها.

والفاء : للتفريع على ما تقدم. أى : في هذا اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوى أحد على أحد. متجهين إلى موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعمالهم الدنيوية ... فمن كان منهم قد عمل في دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل في نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا في دنياه ، رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل ـ أيضا ـ في أدنى درجات القلة.

فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله ـ تعالى ـ على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيتين ، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإمام أحمد. أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبي لا أبالى أن لا أسمع غيرها. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة».

وفي الصحيح ـ أيضا ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعائشة : «يا عائشة ، استتري من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان. يا عائشة. إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله ـ تعالى ـ طالبا» (١).

ومن الآيات الكريمة التي وردت في معنى هاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٨٢.

٤٧٩

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا ممن يواظبون على فعل الخيرات.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٨٠