التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

أى : ويقولون لهم ـ أيضا ـ عند تقديم الطعام لهم : إنا نخاف من ربنا يوما ، تعبس فيه الوجوه ، من شدة هوله ، وعظم أمره ، وطول بلائه.

أى : أنهم لم يقدموا الطعام ـ مع حبهم له ـ رياء ومفاخرة ، وإنما قدموه ابتغاء وجه الله ، وخوفا من عذابه.

والفاء في قوله : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ..) للتفريع على ما تقدم ولبيان ما ترتب على إخلاصهم وسخائهم من ثواب. أى : فترتب على وفائهم بالنذور ، وعلى خوفهم من عذاب الله ـ تعالى ـ وعلى سخائهم وإخلاصهم ، ترتب على كل ذلك أن دفع الله ـ تعالى ـ عنهم شر ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة.

(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أى : وجعلهم يلقون فيها حسنا وبهجة في الوجوه ، وسرورا وانشراحا في الصدور ، بدل العبوس والكلوح الذي حل بوجوه الكفار.

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أى : بسبب صبرهم (جَنَّةً) عظيمة .. و (حَرِيراً) جميلا يلبسونه. (مُتَّكِئِينَ فِيها) أى : في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) أى : على السرر ، أو على ما يتكأ عليه من سرير أو فراش ونحوه.

(لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أى : لا يرون فيها شمسا شديدة الحرارة بحيث تؤذيهم أو تضرهم ، ولا يرون فيها كذلك (زَمْهَرِيراً) أى : بردا مفرطا ، يقال : زمهر اليوم ، إذا اشتد برده.

والمقصود من الآية الكريمة أنهم لا يرون في الجنة إلا جوا معتدلا ، لا هو بالحار ولا هو بالبارد.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها ..) معطوف على قوله قبل ذلك : (مُتَّكِئِينَ).

و «ظلالها» فاعل «دانية» والضمير في «ظلالها» يعود إلى الجنة.

أى : أن الأبرار جالسون في الجنة جلسة الناعم البال ، المنشرح الصدر. وظلال أشجار الجنة قريبة منهم ، ومحيطة بهم ، زيادة في إكرامهم.

(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أى : أنهم ـ فضلا عن ذلك ـ قد سخرت لهم ثمار الجنة تسخيرا ، وسهل الله ـ تعالى ـ لهم تناولها تسهيلا عظيما ، بحيث إن القاعد منهم والقائم

٢٢١

والمضطجع ، يستطيع أن يتناول هذه الثمار اللذيذة بدون جهد أو تعب.

فقوله ـ تعالى ـ : (وَذُلِّلَتْ) من التذليل بمعنى الانقياد والتسخير ، يقال : ذلّل الكرم ـ بضم الذال ـ إذا تدلت عناقيده وصارت في متناول اليد. والقطوف : جمع قطف ـ بكسر القاف ـ وهو العنقود حين يقطف أو الثمار المقطوفة.

وبعد أن وصف ـ سبحانه ـ جانبا من طعامهم ولباسهم ومسكنهم أخذت السورة الكريمة في وصف شرابهم. فقال ـ تعالى ـ : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً).

وقوله : (وَيُطافُ) من الطواف ، وهو السعى المكرر حول الشيء ، ومنه الطواف بالكعبة. والآنية : جمع إناء ، وهو اسم لكل وعاء يوضع فيه الطعام والشراب والمراد بها هنا : الأوانى : التي يستعملونها في مجالس شرابهم.

والأكواب : جمع كوب ، وهو القدح الذي لا عروة له ، وعطفه على الآنية من باب عطف الخاص على العام.

والقوارير : جمع قارورة وهي في الأصل إناء رقيق من الزجاج النقي الشفاف ، توضع فيه الأشربة وما يشبهها ، فتستقر فيه.

أى : ويطاف على هؤلاء الأبرار بآنية كائنة من فضة ، وبأكواب وأقداح من فضة ـ أيضا ـ وجعلت هذه الأكواب في مثل القوارير في صفائها ونقائها ، وفي مثل الفضة في جمالها وحسنها ، بحيث يرى ما بداخلها من خارجها.

وقوله ـ سبحانه ـ (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أى : إن الطائفين بهذه الأكواب عليهم ، قد وضعوا فيها من الشراب على مقدار ما يشبع هؤلاء الأبرار ويرويهم بدون زيادة أو نقصان والطائفون عليهم بذلك هم الخدم الذين جعلهم الله ـ تعالى ـ لخدمة هؤلاء الأبرار. وبنى الفعل للمجهول للعلم بهم.

وقال ـ سبحانه ـ هنا (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) وفي سورة الزخرف (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ..) زيادة في تكريمهم وفي سمو منزلتهم ، إذ تارة يطاف عليهم بأكواب من فضة ، وتارة يطاف عليهم بصحاف من ذهب ، ومن المعروف أنه كلما تعددت المناظر الحسنة ، والمشارب اللذيذة ، كان ذلك أبهج للنفس.

والمراد بالكينونة في قوله ـ تعالى ـ (كانَتْ قَوارِيرَا ..) أنها تكونت ووجدت على هذه الصفة.

٢٢٢

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ (كانَتْ قَوارِيرَا) أى : كانت تلك الأكواب قوارير ، جمع قارورة ، وهي إناء رقيق من الزجاج توضع فيه الأشربة ، ونصبه على الحال ، فإن «كان» تامة ، وهو كما تقول : خلقت قوارير. وقوله ـ تعالى ـ : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) بدل. والكلام على التشبيه البليغ.

والمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ، ولون الفضة وبياضها.

وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين (قَوارِيرَا) في الموضعين وصلا ، وإبداله ألفا وقفا. وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول .. والقراءة بمنع صرفهما للباقين (١).

وقال الشوكانى : وجملة «قدروها تقديرا» صفة لقوارير .. أى : قدرها السقاة من الخدم ، الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة ، من دون زيادة ولا نقصان .. ، وقيل : قدرها الملائكة. وقيل : قدرها الشاربون لها من أهل الجنة على مقدار حاجتهم ، فجاءت كما يريدون في الشكل لا تزيد ولا تنقص .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ محاسن شراب أهل الجنة فقال : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً).

والمراد بالكأس هنا : كأس الخمر. والضمير في قوله (فِيها) يعود إلى الجنة. والزنجبيل : نبات ذو رائحة عطرية طيبة ، والعرب كانوا يستلذون الشراب الممزوج به.

والسلسبيل وصف قيل مشتق من السلاسة بمعنى السهولة واللين ، يقال : ماء سلسل ، أى : عذب سائغ للشاربين ، ومعنى (تُسَمَّى) على هذا الرأى. أى : توصف بالسلاسة والعذوبة.

وقيل : السلسبيل : اسم لهذه العين ، لقوله ـ تعالى ـ (تُسَمَّى).

أى : أن هؤلاء الأبرار ـ بجانب كل ما تقدم من نعم ـ يسقون في الجنة من كأس مليئة بالخمر ، وهذه الخمر التي يشربونها ممزوجة بالزنجبيل ، فتزداد لذة على لذتها.

ويسقون ـ أيضا ـ من عين فيها ـ أى : في الجنة ـ تسمى سلسبيلا ، وذلك لسلاسة مائها ولذته وعذوبته ، وسهولة نزوله إلى الحلق.

قال صاحب الكشاف : (سَلْسَبِيلاً) سميت بذلك ـ لسلاسة انحدارها في الحلق ، وسهولة مساغها. يعنى : أنها في طعم الزنجبيل ، وليس فيها لذعة ، ولكن فيها نقيض اللذع

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٥٩.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٣٥٠.

٢٢٣

وهو السلاسة ، فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة .. (١).

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن نوع آخر من الخدم ، يطوفون على هؤلاء الأبرار لخدمتهم ، فقال : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً).

أى : ويطوف على هؤلاء الأبرار (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أى : دائمون على ما هم عليه من النضارة والشباب .. إذا رأيتهم ـ أيها المخاطب (حَسِبْتَهُمْ) وظننتهم (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أى : حسبتهم من حسنهم ، وصفاء ألوانهم ، ونضارة وجوههم .. لؤلؤا ودرا مفرقا في جنبات المجالس وأوسطها.

فقوله ـ تعالى ـ (مُخَلَّدُونَ) احتراس المقصود منه دفع توهم أنهم سيصيرون في يوم من الأيام كهولا ، قالوا : وشبهوا باللؤلؤ المنثور ، لأن اللؤلؤ إذا نثر على البساط ، كان أكثر جمالا منه فيما لو كان منظوما.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) وثم هنا ظرف مكان مختص بالبعيد ، وهو منصوب على الظرفية ، ومفعول الرؤية غير مذكور ، لأن القصد : وإذا صدرت منك ـ أيها المخاطب رؤية إلى هناك ، أى : إلى الجنة ونعيمها .. (رَأَيْتَ نَعِيماً) لا يقادر قدره (وَمُلْكاً كَبِيراً) أى : واسعا لا غاية له.

فقوله ـ سبحانه ـ (رَأَيْتَ) الثانية ، جواب إذا. والشمار إليه «بثمّ» التي هي بمعنى هناك معلوم من المقام ، لأن المقصود به الجنة التي سبق الحديث عنها في مثل قوله : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أى : وإذا سرحت ببصرك إلى هناك رأيت نعيما وملكا كبيرا.

ثم فصل ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر هذا النعيم العظيم فقال (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ، وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ، وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

وقوله (عالِيَهُمْ) بفتح الياء وضم الهاء ـ بمعنى فوقهم ، فهو ظرف خبر مقدم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل : فوقهم ثياب ويصح أن يكون حالا للأبرار. أى : تلك حال أهل النعيم والملك الكبير وهم الأبرار.

وقرأ نافع وحمزة (عالِيَهُمْ) ـ بسكون الياء وكسر الهاء ـ على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لقوله ـ تعالى ـ (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) ، ويكون لفظ (عالِيَهُمْ) أسم فاعل مبتدأ.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٧٢.

٢٢٤

وقوله : (ثِيابُ سُندُسٍ) فاعله ساد مسد الخبر ، ويصح أن يكون خبرا مقدما ، وما بعده مبتدأ مؤخر.

وإضافة الثياب إلى السندس بيانية ، مثل : خاتم ذهب والسندس : الديباج الرقيق. والإستبرق : الديباج الغليظ.

والمعنى : أن هؤلاء الأبرار ، أصحاب النعيم المقيم ، والملك الكبير ، فوق أجسادهم ثياب من أفخر الثياب ، لأنهم يجمعون في لباسهم بين الديباج الرقيق ، والديباج الغليظ ، على سبيل التنعيم والجمع بين محاسن الثياب.

وكانت تلك الملابس من اللون الأخضر ، لأنها أبهج للنفس ، وشعار لباس الملوك.

وكلمة : «خضر» قرأها بعضهم بالرفع على أنها صفة لثياب ، وقرأها البعض الآخر بالجر ، على أنها صفة لسندس. وكذلك كلمة «وإستبرق» قرئت بالرفع عطفا على ثياب ، وقرئت بالجر عطفا على سندس.

وقوله : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) بيان لما يتزينون به في أيديهم ، أى أن هؤلاء الأبرار يلبسون في أيديهم أساور من فضة ، كما هو الشأن بالنسبة للملوك في الدنيا ، ومنه ما ورد في الحديث من ذكر سوارى كسرى.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أى : وفضلا عن كل تلك الملابس الفاخرة سقاهم ربهم ـ بفضله وإحسانه ـ شرابا بالغا نهاية الطهر ، فهو ليس كخمر الدنيا ، فيه الكثير من المساوئ التي تؤدى إلى ذهاب العقول .. وإنما خمر الآخرة : شراب لذيذ طاهر من كل خبث وقذر وسوء.

وجاء لفظ «طهورا» بصيغة المبالغة ، للإشعار بأن هذا الشراب قد بلغ النهاية في الطهارة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذا العطاء الواسع العظيم ، ببيان ما ستقوله الملائكة لهؤلاء الأبرار على سبيل التكريم والتشريف ، فقال : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً).

وهذه الآية الكريمة مقول لقول محذوف ، والقائل هو الله ـ تعالى ـ أو ملائكته بأمره ـ سبحانه ـ وإذنه ، أى : سقاهم ربهم شرابا طهورا في الآخرة ، ويقال لهم عند تمتعهم بكل هذا النعيم ، (إِنَّ هذا) النعيم الذي تعيشون فيه (كانَ لَكُمْ جَزاءً) على إيمانكم وعملكم الصالح في الدنيا.

٢٢٥

(وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أى : مرضيا ومقبولا عند خالقكم ، فازدادوا ـ أيها الأبرار ـ سرورا على سروركم ، وبهجة على بهجتكم.

وبعد هذا التفصيل لما أعده الله ـ تعالى ـ لعباده الأخيار من أصناف النعيم ، المتعلق بمأكلهم ، ومشربهم .. أخذت السورة الكريمة. في أواخرها ـ في تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. وفي دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المداومة على التحلي بفضيلة الصبر ، وإلى الإكثار من ذكره ـ تعالى ـ وأنذرت الكافرين والفاسقين إذا ما استمروا في ضلالهم. فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٣١)

وجاء قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) مؤكدا بجملة من المؤكدات. منها : إن ، ونحن ، وتنزيلا .. للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وقالوا في شأنه : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

أى : إنا نحن ـ وحدنا ـ أيها الرسول الكريم ـ ، الذين نزلنا عليك القرآن تنزيلا محكما ، وفصلناه تفصيلا متقنا ، بأن أنزلناه على قلبك مفرقا على حسب مشيئتنا وحكمتنا.

٢٢٦

والفاء في قوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) للإفصاح. وعدى فعل الصبر باللام ، لتضمنه معنى الخضوع والاستسلام لقضائه ـ سبحانه ـ.

أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ فاصبر لحكم ربك ، واخضع لقضائه ومشيئته ، فهو ـ سبحانه ـ الكفيل بنصرك عليهم.

وقوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أى : ولا تطع ـ أيها الرسول الكريم ـ من هؤلاء المشركين ، من كان داعيا إلى الإثم والفجور ، أو من كان داعيا إلى الكفر والجحود.

ولم يقل ـ سبحانه ـ ولا تطع منهم آثما وكفورا بالواو ، لأن الواو تجعل الكلام محتملا للنهى عن المجموع ، وأن طاعة أحدهما دون الآخر تكفى في الامتثال.

ولذا قال الزجاج : إن «أو» هنا أوكد من الواو ، لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا ، فأطاع أحدهما كان غير عاص ، فإن أبدلتها بأو ، فقد دللت على أن كل واحد منهما ، أهل لأن يعصى ، ويعلم منه النهى عن إطاعتهما معا (١).

والآثم : هو الفاجر بأقواله وأفعاله. والكفور : هو الجاحد بقلبه ولسانه.

ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه : تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإنّ : تأكيد على تأكيد ، لمعنى اختصاص الله ـ تعالى ـ بالتنزيل ، ليتقرر في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذا كان هو المنزل للقرآن ، لم يكن تنزيله على أى وجه نزل ، إلا حكمة وصوابا ، كأنه قيل : ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما ، إلا أنا لا غيرى ، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله.

فإن قلت : كلهم كانوا كفرة ، فما معنى القسمة في قوله : (آثِماً أَوْ كَفُوراً)؟ قلت : معناه لا تطع منهم راكبا لما هو إثم ، داعيا لك إليه ، أو فاعلا لما هو كفر ، داعيا لك إليه. لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر : فنهى عن أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. فإن قلت : معنى أو : ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء بالواو وليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟

قلت : لو قيل : ولا تطعهما ، جاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما ، علم أن الناهي عن طاعة أحدهما : عن طاعتهما جميعا أنهى ، كما إذا نهى عن أن يقول لأبويه أف ، علم أنه منهى عن ضربهما بالطريق الأولى .. (٢).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٦٢.

(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٧٤.

٢٢٧

والمقصود من هاتين الآيتين تثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتيئيس المشركين من استجابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأى مطلب من مطالبهم الفاسدة.

ثم أرشده ـ سبحانه ـ إلى ما يعينه على الصبر والثبات. فقال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

والبكرة : أول النهار. والأصيل : آخره. والمراد : المداومة على ذكر الله ـ تعالى ـ في كل وقت. أى : داوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على ذكر الله ـ تعالى ـ في أول النهار وفي آخره ، وعلى صلاة الفجر ، والظهر والعصر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) ـ تعالى ـ وأكثر من ذكره ، وواظب على صلاة المغرب والعشاء.

(وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أى : ونزهه ـ تعالى ـ وتهجد له وقتا طويلا من الليل.

فهاتان الآيتان ترشدان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يعينه على الازدياد من فضيلة الصبر الجميل ، والثبات على الحق.

ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هاتين الآيتين في معناهما : قوله ـ تعالى ـ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من الأسباب التي تجعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطيع أحدا منهم فقال : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً).

أى : نحن قد نهيناك ـ يا محمد ـ عن طاعة أحد من هؤلاء المشركين ، لأنهم جميعا ديدنهم ودأبهم أنهم يحبون (الْعاجِلَةَ) أى : الدنيا ولذائذها وشهواتها ، العاجلة الزائلة.

(وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أى : ويتركون وينبذون وراء ظهورهم (يَوْماً ثَقِيلاً) وهو يوم القيامة ، الشديد الأهوال ، الذي يجعل الولدان شيبا.

ومع شدة هوله فهم لا يستعدون له ، ولا يحسبون له حسابا.

فالآية الكريمة توبيخ وتجهيل لهم ، حيث آثروا الفاني على الباقي ، والعاجل على الآجل.

ووصف يوم القيامة بالثقل ، لشدة ما يقع فيه من أهوال وكروب ، فهو كالشىء الثقيل الذي لا يستطاع حمله.

٢٢٨

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر فضله عليهم ، ومع ذلك أشركوا معه في العبادة غيره فقال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ ، وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ ، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً).

أى : نحن وحدنا الذين خلقناهم وأوجدناهم من العدم.

ونحن وحدنا الذين (شَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أى : قوينا وأحكمنا وأتقنا خلقهم ، بأن منحناهم السمع والأبصار والأفئدة والعقول .. وربطنا بين مفاصلهم وأجزاء أجسادهم ربطا عجيبا معجزا.

يقال : أسر الله ـ تعالى ـ فلانا ، أى : خلقه ـ وبابه ضرب ـ وفرس شديد الأسر ، أى : شديد الخلق ، والأسر : القوة ، مشتق من الإسار ـ بكسر الهمزة ـ وهو الحبل الذي تشد به الأحمال ، يقال : أسر فلان الحمل أسرا ، إذا أحكم ربطه ، ومنه الأسير لأنه يربط بالإسار ، أى : القيد.

والمقصود بالأسر هنا : الإحكام والإتقان ، والامتنان عليهم بأن الله ـ تعالى ـ خلقهم في أحسن وأتقن خلق.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) تأكيد لشمول قدرته ـ تعالى ـ أى : ونحن وحدنا الذين خلقناهم ، ونحن وحدنا الذين ربطنا مفاصلهم وأعضاءهم ربطا متقنا بديعا.

ومع ذلك ، فإننا إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم ، وجئنا بأمثالهم وأشباههم في شدة الخلق ، وبدلناهم تبديلا معجزا ، لا يقدر عليه أحد سوانا.

وقوله : (تَبْدِيلاً) منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله وهو بدلناهم.

ومن الآيات الشبيهة لهذه الآية في معناها قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالحض على طاعته ، وبالتحذير من معصيته فقال : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

أى : إن هذه الآيات التي أنزلناها عليك يا محمد ـ تذكرة وموعظة للناس ، فمن شاء

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٣٣.

(٢) سورة إبراهيم الآيتان ١٩ ـ ٢٠.

٢٢٩

أن يتخذ إلى الله ـ تعالى ـ وسيلة وطريقة يتقرب بها إليه ـ تعالى ـ اتخذها ، لأنها خير هداية إلى رضاه ـ سبحانه ـ.

والتعبير بقوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) تحريض شديد على المسارعة إلى الطاعة ، لأن الله ـ تعالى ـ قد مكن الناس من ذلك ، حيث وهبهم الاختيار والعقول المفكرة ، وأرسل إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مشيئته فوق كل مشيئة فقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

أى : وما تشاءون شيئا من الأشياء ، إلا بعد خضوع هذا الشيء لمشيئة الله ـ تعالى ـ وإرادته ، إذ هو الخالق ـ سبحانه ـ لكل شيء ، وهو صاحب الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أى : إنه ـ تعالى ـ كان وما زال صاحب العلم المطلق الذي لا يحده شيء ، وصاحب الحكمة البليغة التي لا نهاية لها.

(يُدْخِلُ) ـ سبحانه ـ (مَنْ يَشاءُ) إدخاله (فِي رَحْمَتِهِ) لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.

(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ) ـ سبحانه ـ (عَذاباً أَلِيماً) بسبب إصرارهم على ظلمهم ، وإيثارهم الباطل على الحق ، والغي على الرشد.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا ممن هم أهل لرحمته ورضوانه ، وأن يبعدنا عمن هم أهل لعذابه ونقمته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٢٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة المرسلات

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المرسلات» هي السورة السابعة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثالثة والثلاثون ، وقد كان نزولها بعد سورة «الهمزة» ، وقبل سورة «ق».

وهي من السور المكية الخالصة ، وقيل إن آية : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) مدنية ، وهذا القيل لا وزن له ، لأنه لا دليل عليه. وعدد آياتها : خمسون آية.

٢ ـ وقد ذكروا في فضلها أحاديث منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : بينما نحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار بمنى ، إذ نزلت عليه : «والمرسلات» ، فإنه ليتلوها ، وإنى لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ..

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : إن أم الفضل ـ امرأة العباس ـ سمعته يقرأ «والمرسلات عرفا» ، فقالت : يا بنى ـ ذكرتني بقراءتك هذه السورة. إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في المغرب (١).

٣ ـ وسورة المرسلات زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال المكذبين في هذا اليوم ، وعن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، وعن حسن عاقبة المتقين ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٢٠.

٢٣١

التفسير

وقد افتتحت هذه السورة بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٥)

وللمفسرين في معنى هذه الصفات الخمس : «المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات» اتجاهات ، فمنهم من صدر تفسيره ببيان أن المراد بها الملائكة. فقد قال صاحب الكشاف : أقسم الله بطوائف من الملائكة ، أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح ، تخففا في امتثال أمره. وبطوائف منهن نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض .. ففرقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا ، للمحقين ، أو نذرا للمبطلين.

فإن قلت : ما معنى عرفا؟ قلت : متتابعة كشعر العرف ـ أى : عرف الفرس ـ يقال : جاءوا عرفا واحدا ، وهم عليه كعرف الضبع : إذا تألبوا عليه .. (١).

ومنهم من يرى أن المراد بالمرسلات وما بعدها : الرياح ، فقد قال الجمل في حاشيته :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٧٧.

٢٣٢

أقسم الله ـ تعالى ـ بصفات خمس موصوفها محذوف ، فجعلها بعضهم الرياح في الكل ، وجعلها بعضهم الملائكة في الكل ... وغاير بعضهم فجعل الصفات الثلاث الأول ، لموصوف واحد هو الرياح وجعل الرابعة لموصوف ثان وهو الآيات ، وجعل الخامسة لموصوف ثالث وهو الملائكة .. (١).

وسنسير نحن على هذا الرأى الثالث ، لأنه في تصورنا أقرب الآراء إلى الصواب ، إذ أن هذه الصفات من المناسب أن يكون بعضها للرياح ، وبعضها للملائكة.

فيكون المعنى : وحق الرياح المرسلات لعذاب المكذبين ، فتعصفهم عصفا ، وتهلكهم إهلاكا شديدا ، فقوله : (عَصْفاً) وصف مؤكد للإهلاك الشديد ، يقال : عصفت الريح ، إذا اشتدت ، وعصفت الحرب بالقوم ، إذا ذهبت بهم ، وناقة عصوف ، إذا مضت براكبها مسرعة ، حتى لكأنها الريح.

وقوله : (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أى : وحق الرياح التي تنتشر انتشارا عظيما في الآفاق ، فتأتى بالسحب ، التي تتحول بقدرة الله ـ تعالى ـ إلى أمطار غزيرة نافعة.

قال ابن كثير ـ بعد أن ذكر آراء العلماء في معنى هذه الألفاظ ـ : والأظهر أن المرسلات هي الرياح ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ..) وقال ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ). وهكذا العاصفات هي الرياح ، يقال : عصفت الريح إذا هبت بتصويت ، وكذا (النَّاشِراتِ) : هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب ـ عزوجل ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) يصح أن يكون وصفا للملائكة الذين ينزلون بالشرائع المفرقة بين الحق والباطل ، وبين أهل الحق وأهل الضلال.

ويصح أن يكون وصفا للآيات التي أنزلها الله ـ تعالى ـ للتمييز بين الخير والشر ، والرشد والغي.

وقوله (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) قال القرطبي : هم الملائكة بإجماع ، يلقون كتب الله ـ تعالى ـ إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ .. (٢).

فالمراد بالذكر في قوله (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) : وحى الله ـ تعالى ـ الذي يبلغه الملائكة إلى الرسل.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٦٣.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١٥٦.

٢٣٣

وقوله (عُذْراً أَوْ نُذْراً) منصوبان على أنهما بدل اشتمال من قوله (ذِكْراً) أو مفعول لأجله. أى : أن الملائكة يلقون وحى الله ـ تعالى ـ إلى أنبيائه ، لإزالة أعذار المعتذرين عن الإيمان ، حتى لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ولإنذار الكافرين والفاسقين ، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما العذر والنذر ، وبما ذا انتصبا؟ قلت : هما مصدران من أعذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والنكر ، ويجوز أن يكون جمع عذير ، بمعنى المعذرة ، وجمع نذير بمعنى الإنذار ... وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكرا ... أو على المفعول له .. (١).

وجملة (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) جواب القسم ، وجيء بها مؤكدة ، لتقوية تحقيق وقوع الجواب ، وما وعدوا به هو البعث والحساب.

أى : وحق الرياح المرسلة لعذاب المشركين .. وحق الملائكة الذين نرسلهم بوحينا للتفريق بين الحق والباطل ، ولتبليغ رسلنا ما كلفناهم به .. إنكم ـ أيها الكافرون ـ لمبعوثون ومحاسبون على أعمالكم يوم القيامة الذي لا شك في وقوعه وحصوله وثبوته.

ثم بين ـ سبحانه ـ علامات هذا اليوم فقال : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أى : محقت وذهب ضوؤها ، وزال نورها. يقال : طمست الشيء ، من باب ضرب ـ إذا محوته واستأصلت أثره ، (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أى : شقت أو فتحت ، وتدلت أرجاؤها ، ووهت أطرافها. (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أى : اقتلعت وأزيلت من أماكنها. يقال : نسف فلان البناء ينسفه ، إذا قلعه من أصله.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أى : بلغت وقتها الذي كانت تنتظره ، وهو يوم القيامة ، للقضاء بينهم وبين أقوامهم. فقوله : (أُقِّتَتْ) من التوقيت ، وهو جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدد له.

قال الآلوسى : قوله (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أى : بلغت ميقاتها. وجوز أن يكون المعنى : عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم ، وذلك عند مجيء يوم القيامة .. (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٧٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٧٢.

٢٣٤

وجواب (فَإِذَا) وما عطف عليها في قوله (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) محذوف ، والتقدير : وقع ما وعدناكم به وهو يوم القيامة.

وقوله : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تعليل لبلوغ الرسل الى الوقت الذي كانوا ينتظرونه لأخذ حقوقهم من أقوامهم الظالمين ، والاستفهام للتهويل والتعظيم من شأن هذا اليوم. (١)

أى : لأى يوم أخرت الأمور التي كانت متعلقة بالرسل؟ من تعذيب الكافرين ، وإثابة المتقين .. إنها أخرت وأجلت ، ليوم الفصل ، وهو يوم القيامة ، الذي يفصل الله ـ تعالى ـ فيه بقضائه العادل بين العباد.

(وَما أَدْراكَ) ، ـ أيها المخاطب ـ (ما يَوْمُ الْفَصْلِ)؟ إنه يوم هائل شديد ، لا تحيط العبارة بكنهه ، ولا يعلم إلا الله ـ تعالى ـ وحده مقدار أهواله.

ويقال في هذا اليوم لكل فاسق عن أمر ربه ، ومشرك معه في العبادة غيره ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أى : هلاك وحسرة في هذا اليوم للمكذبين بالحق الذي جاء به الرسل ، وبلغوه إلى أقوامهم.

وقد تكررت هذه الآية عشر مرات في تلك السورة الكريمة ، على سبيل الوعيد والتهديد لهؤلاء المكذبين لرسلهم ، والجاحدين لنعم خالقهم ، والويل : أشد السوء والشر ، وهو في الأصل مصدر بمعنى الهلاك ، وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه ، إلا أنه رفع على الابتداء ، للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه.

وقوله (يَوْمَئِذٍ) ظرف للويل أو صفة له ، ولذا صح الابتداء به.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، كإهلاك المكذبين السابقين ، وخلق الأولين والآخرين ، والإنعام على الناس بالجبال والأنهار ..

قال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٧٢.

٢٣٥

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤٠)

والاستفهام في قوله (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) وفي الآيات المماثلة له بعد ذلك ، للتقرير ، والمقصود به استخراج الاعتراف والإقرار من مشركي قريش على صحة البعث ، لأن من قدر على الإهلاك ، قادر على الإعادة.

أى : لقد أهلكنا الأقوام الأولين الذين كذبوا رسلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود.

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أى : أهلكنا الأولين ، ثم نتبعهم بإهلاك المتأخرين عنهم ، والذين يشبهون سابقيهم في الكفر والجحود.

و «ثم» هنا للتراخي الرتبى ، لأن إهلاك الآخرين الذين لم يعتبروا بمن سبقهم سيكون أشد من إهلاك غيرهم ، وفي ذلك تهديد شديد ووعيد واضح لمشركي مكة.

وقوله : (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أى : مثل ذلك الفعل الشنيع ، والعقاب الأليم ، نفعل بالمجرمين الذين أصروا على كفرهم وعنادهم حتى أدركهم الموت.

٢٣٦

فالكاف بمعنى مثل ، والإشارة في قوله : (كَذلِكَ) تعود إلى الفعل المأخوذ من قوله (نَفْعَلُ) أى ؛ مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين.

ثم كرر ـ سبحانه ـ التهديد والوعيد لهم ، لعلهم يرتدعون أو يتعظون فقال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

ثم قال ـ سبحانه ـ ممتنا على خلقه بإيجادهم في هذه الحياة ، ومحتجا على إمكان الإعادة بخلقهم ولم يكونوا شيئا مذكورا ، فقال : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).

أى : لقد خلقناكم ـ أيها الناس ـ من نطفة حقيرة ضعيفة ، من مهن الشيء ـ بفتح الميم وضم الهاء ـ إذا ضعف ، وميمه أصلية ، وليس هو من مادة هان ، و «من» ابتدائية.

وقوله : (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإدماج ، والقرار : اسم للمكان الذي يستقر فيه الماء ، والمراد به رحم المرأة. والمكين صفة له.

أى : خلقناكم من ماء ضعيف ، ومن مظاهر قدرتنا وحكمتنا ولطفنا بكم أننا جعلنا هذا الماء الذي خلقتم منه ، في مكان حصين ، قد بلغ النهاية في تمكنه وثباته.

فقوله (مَكِينٍ) بمعنى متمكن ، من مكن الشيء مكانة ، إذا ثبت ورسخ.

وقوله : (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) بيان لبديع حكمته ، والقدر بمعنى المقدار المحدد المنضبط ، الذي لا يتخلف.

أى : جعلنا هذا الماء في قرار مكين ، إلى وقت معين محدد في علم الله ـ تعالى ـ يأذن عنده بخروج هذا المخلوق من رحم أمه ، إلى الحياة ، وهذا الوقت هو مدة الحمل.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) ثناء منه ـ تعالى ـ على ذاته بما هو أهله. أى : فقدّرنا ذلك الخلق تقديرا حكيما منضبطا ، وتمكنا من إيجاده في أطوار متعددة ، فنعم المقدرون نحن ، ونعم الموجدون نحن لما نوجده من مخلوقات.

وما دام الأمر كذلك فويل وهلاك يوم القيامة ، للمكذبين بوحدانيتنا وقدرتنا.

ثم انتقل ـ سبحانه ـ إلى الاستدلال على إمكانية البعث بطريق ثالث فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ).

والكفات : اسم للمكان الذي يكفت فيه الشيء. أى ؛ يجمع ويضم ويوضع فيه.

يقال : كفت فلان الشيء يكفته كفتا ، من باب ضرب ـ إذا جمعه ووضعه بداخل شيء معين ، ومنه سمى الوعاء كفاتا ، لأن الشيء يوضع بداخله ، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لقوله (نَجْعَلِ) ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير.

٢٣٧

وقوله : (أَحْياءً وَأَمْواتاً) منصوبان على أنهما مفعولان به ، لقوله (كِفاتاً). أو مفعولان لفعل محذوف.

أى : لقد جعلنا الأرض وعاء ومكانا تجتمع فيه الخلائق : الأحياء منهم يعيشون فوقها ، والأموات منهم يدفنون في باطنها ، (وَجَعَلْنا فِيها) ـ أيضا ـ جبالا (رَواسِيَ) أى : ثوابت (شامِخاتٍ) أى : مرتفعات ارتفاعا كبيرا ، جمع شامخ وهو الشديد الارتفاع.

قال صاحب الكشاف : الكفات : من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه .. وبه انتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتا ، أو انتصبا بفعل مضمر يدل عليه ، وهو تكفت.

والمعنى : تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها.

فإن قلت : لم قيل أحياء وأمواتا على التنكير ، وهي كفات الأحياء والأموات جميعا؟ قلت : هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون ، وأمواتا لا يحصرون .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) بيان لنعمة أخرى من أجل نعمه على خلقه ، أى : وأسقيناكم ـ بفضلنا ورحمتنا ـ ماء (فُراتاً) أى : عذبا سائغا للشاربين.

وقوله ـ تعالى ـ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تكرير للتوبيخ والتقريع على جحودهم لنعم الله ، التي يرونها بأعينهم ، ويحسونها بحواسهم ويستعملونها لمنفعتهم.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان المصير الأليم الذي ينتظر هؤلاء المكذبين ، فقال ـ تعالى ـ : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (انْطَلِقُوا) مفعول لقول محذوف. أى : يقال للكافرين يوم القيامة ـ على سبيل الإهانة والإذلال ـ : انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون به في الدنيا من العذاب.

وقوله : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ..) بدل مما قبله ، وأعيد فعل (انْطَلِقُوا ..) على سبيل التوكيد ، لقصد الزيادة في تقريعهم وتوبيخهم.

والمراد بالظل : دخان جهنم ، وسمى بذلك لشدة كثافته ، أى : انطلقوا ـ أيها المشركون ـ إلى ظل من دخان جهنم الذي يتصاعد من وقودها ، ثم يتفرق بعد ذلك إلى ثلاث شعب ، شأن الدخان العظيم عند ما يرتفع.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٨٠.

٢٣٨

وسمى هذا الدخان العظيم الخانق بالظل ، على سبيل التهكم بهم ، إذ هم في هذه الحالة يكونون في حاجة شديدة إلى ظل يأوون إلى برده.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذا الظل بصفة ثانية فقال : (لا ظَلِيلٍ) أى : ليس هو بظل على سبيل الحقيقة ، وإنما هو دخان خانق لا برد فيه.

ثم وصفه بصفة ثالثة فقال : (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أى : أن هذا الظل الذي تنطلقون إليه لا يغنى شيئا من الإغناء ، من حر لهب جهنم التي هي مأواكم ونهايتكم.

وبهذه الصفات يكون لفظ الظل ، قد فقد خصائصه المعروفة من البرودة والشعور عنده بالراحة .. وصار المقصود به ظلا آخر ، لا برد فيه ، ولا يدفع عنهم شيئا من حر اللهب.

وهذه الصفات إنما جيء بها لدفع ما يوهمه لفظ «ظل».

وعدى الفعل «يغنى» بحرف من ، لتضمنه معنى يبعد.

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ..) لجهنم ، لأن السياق كله في شأنها وفي شأن المصطلين بلهيبها.

والشرر : واحده شررة ، وهي القطعة التي تتطاير من النار لشدة اشتعالها.

والقصر : البناء العالي المرتفع. وقيل : هو الغليظ من الشجر. أو هو قطع من الخشب ، يجمعها الجامعون للاستدفاء بها من البرد. وقوله : (جِمالَتٌ) جمع جمل ـ كحجارة وحجر.

قال الآلوسى : «جمالة» بكسر الجيم ـ كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وهو جمع جمل.

والتاء لتأنيث الجمع. يقال : جمل وجمال وجمالة .. والتنوين للتكثير.

وقرأ الجمهور جمالات ـ بكسر الجيم مع الألف والتاء ـ جمع جمال .. فيكون جمع الجمع .. (١).

والمعنى : إنها ـ أى : جهنم ـ ترمى المكذبين بالحق ، الذين هم وقودها ، ترميهم بشرر متطاير منها لشدة اشتعالها ، كل واحدة من هذا الشرر كأنها البناء المرتفع في عظمها وارتفاعها.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) وصف آخر للشرر ، أى : كأن هذا الشرر في هيئته ولونه وسرعة حركته .. جمال لونها أصفر.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٢٦.

٢٣٩

واختير اللون الأصفر للجمال ، لأن شرر النار عند ما يشتد اشتعالها يكون مائلا إلى الصفرة.

وقيل المراد بالصفر هنا : السواد ، لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد شبه الشرر الذي ينفصل عن النار في عظمته وضخامته بالقصر ، وهو البناء العالي المرتفع ، وشبهه ـ أيضا ـ حين يأخذ في الارتفاع والتفرق .. بالجمال الصفر ، في هيئتها ولونها وسرعة حركتها ، وتزاحمها.

والمقصود بهذا التشبيه : زيادة الترويع والتهويل ، فإن هؤلاء الكافرين لما كذبوا بالحساب والجزاء ، وصف الله ـ تعالى ـ لهم نار الآخرة بتلك الصفات المرعبة ، لعلهم يقلعون عن شركهم ، لا سيما وأنهم يرون النار في دنياهم ، ويرون شررها حين يتطاير ... وإن كان الفرق شاسعا بين نار الدنيا ونار الآخرة.

وزيادة في التخويف والإنذار ختمت هذه الآيات ـ أيضا ـ بقوله ـ تعالى ـ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

ثم صور ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يردون على النار ، ويوشكون على القذف بهم فيها ، فقال ـ تعالى ـ (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

أى : ويقال لهؤلاء المجرمين ـ أيضا ـ عند الإلقاء بهم في النار : هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء ينفعهم ، أو لا ينطقون فيه إطلاقا لشدة دهشتهم ، وعظم حيرتهم.

ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، فإنهم بعد أن خوطبوا خطاب إهانة وإذلال بقوله ـ تعالى ـ : (انْطَلِقُوا) أعرض المخاطبون لهم ، على سبيل الإهمال لهؤلاء الكافرين ، وقالوا لهم : هذا يوم القيامة الذي لا يصح لكم النطق فيه.

وهذا لا يتعارض مع الآيات التي تفيد نطقهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) لأن في يوم القيامة مواطن متعددة ، فهم قد ينطقون في موطن ، ولا ينطقون في موطن آخر.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) معطوف على ما قبله. أى : في يوم القيامة لا ينطق هؤلاء المجرمون نطقا يفيدهم ، ولا يؤذن لهم في الاعتذار عما ارتكبوه من سوء ، حتى يقبل اعتذارهم ، وإنما يرفض اعتذارهم رفضا تاما ، لأنه قد جاء في غير وقته وأوانه.

٢٤٠