التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة النازعات

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «النازعات» من السور المكية الخالصة. وتسمى بسورة «والنازعات» بإثبات الواو ، حكاية لأول ألفاظها ، ومن ذكرها بدون واو ، جعل لفظ «النازعات» علما عليها ، وتسمى ـ أيضا ـ سورة «الساهرة» وسورة «الطامة» ، لوقوع هذين اللفظين فيها دون غيرها.

٢ ـ وهي السورة التاسعة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الحادية والثمانون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة «النبأ» ، وقبل سورة «الانفطار» ، أى : أن سورة النازعات تعتبر من أواخر السور المكية نزولا.

٣ ـ وعدد آياتها خمس وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وست وأربعون في غيره.

٤ ـ ومن أهم مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى أن البعث حق ، وذكر جانب كبير من علاماته وأهواله ، والرد على الجاحدين الذين أنكروا وقوعه ، وتذكير الناس بجانب مما دار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين فرعون من مناقشات ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ قد أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر.

كما أن السورة الكريمة اشتملت على مظاهر قدرته ـ تعالى ـ ، التي نراها ونشاهدها في خلقه ـ سبحانه ـ للسموات وللأرض ... وما اشتملتا عليه عن عجائب.

ثم ختمت ببيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الكافرين ، وبالإجابة على أسئلة السائلين عن يوم القيامة ، وبيان أن موعد مجيء هذا اليوم مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

قال ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها).

٢٦١

التفسير

افتتح ـ سبحانه ـ سورة النازعات بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)(١٤)

والواو في قوله (وَالنَّازِعاتِ ...) وما بعده ، للقسم ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده ، والتقدير : وحق هذه المخلوقات العظيمة ... لتبعثن.

وكذلك المقسم به محذوف ، إذ أن هذه الألفاظ وهي : النازعات ، والناشطات والسابحات ، والسابقات ، والمدبرات ، صفات لموصوفات محذوفة ، اختلف المفسرون في المراد بها على أقوال كثيرة. أشهرها : أن المراد بهذه الموصوفات ، طوائف من الملائكة ، كلفهم الله ـ تعالى ـ بالقيام بأعمال عظيمة ، وأفعال جسيمة.

والنازعات : جمع نازعة. والنزع : جذب الشيء بقوة ، كنزع القوس عن كبده.

ومنه قوله ـ تعالى ـ في النزع الحسى : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) وقوله ـ سبحانه ـ في النزع المعنوي : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

٢٦٢

وقوله : (غَرْقاً) اسم مصدر من أغرق ، وأصله إغراقا. والإغراق في الشيء ، المبالغة فيه والوصول به إلى نهايته ، يقال : أغرق فلان هذا الأمر ، إذا أوغل فيه ، ومنه قوله : نزع فلان في القوس فأغرق ، أى : بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النّصل.

وهو منصوب على المصدرية ، لالتقائه مع اللفظ الذي قبله في المعنى ، وكذلك الشأن بالنسبة للألفاظ التي بعده ، وهي : «نشطا» و «سبحا» و «سبقا».

والمعنى : وحق الملائكة الذين ينزعون أرواح الكافرين من أجسادهم ، نزعا شديدا ، يبلغ الغاية في القسوة والغلظة.

ويشير إلى هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ في آيات متعددة ، منها قوله ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ، الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

وقوله : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) : المقصود به طائفة أخرى من الملائكة. والناشطات من النّشط ، وهو السرعة في العمل ، والخفة في أخذ الشيء ، ومنه الأنشوطة ، للعقدة التي يسهل حلها ، ويقال : نشطت الدلو من البئر ـ من باب ضرب ـ إذا نزعتها بسرعة وخفة.

أى : وحق الملائكة الذين ينشطون ويسرعون إسراعا شديدا لقبض أرواح المؤمنين بخفة وسهولة ويقولون لهم ـ على سبيل البشارة والتكريم ـ : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قسم ثالث بطائفة ثالثة من طوائف الملائكة ، التي تسبح في هذا الكون ، أى : تنطلق بسرعة لتنفيذ أمر الله ـ تعالى ـ ، ولتسبيحه ، وتحميده ، وتكبيره ، وتقديسه.

أى : وحق الملائكة الذين يسرعون التنقل في هذا الكون إسراعا شديدا ، لتنفيذ ما كلفهم ـ سبحانه ـ به ، ولتسبيحه وتنزيهه عن كل نقص ...

وقوله ـ تعالى ـ : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) المقصود به طائفة رابعة من الملائكة ، تسبق غيرها في تنفيذ أمر الله ـ تعالى ـ ، إذ السبق معناه : أن يتجاوز السائر من يسير معه ، ويسبقه إلى المكان المقصود الوصول إليه ، كما قال ـ تعالى ـ في صفات المتقين : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).

وقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) المقصود به طائفة خامسة من الملائكة ، من وظائفهم تدبير

٢٦٣

شأن الخلائق ، وتنظيم أحوالهم بالطريقة التي يأمرهم ـ سبحانه ـ بها ، فنسبة التدبير إليهم ، إنما هي على سبيل المجاز ، لأن كل شيء في هذا الكون إنما هو بقضاء الله وتقديره وتدبيره.

والمراد بالأمر : الشأن والغرض المهم ، وتنوينه للتعظيم ، ونصبه على المفعولية للفظ المدبرات. أى : وحق الملائكة الذين يرتبون شئون الخلائق ، وينظمون أمورهم بالطريقة التي يكلفهم ـ سبحانه ـ بها.

وجاء العطف في قوله : (فَالسَّابِقاتِ فَالْمُدَبِّراتِ) بالفاء ، للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها بغير مهلة. وللإيذان بأن هاتين الصفتين متفرعتين عما قبلهما.

وعلى هذا التفسير الذي سرنا فيه على أن هذه الصفات لموصوف واحد ، سار كثير من المفسرين : فصاحب الكشاف صدر تفسيره لهذه الآيات بقوله : أقسم ـ سبحانه ـ بطوائف الملائكة ، التي تنزع الأرواح من الأجساد وبالطوائف التي تنشطها ، أى تخرجها ... وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أى : تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمرا من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، كما رسم الله ـ تعالى ـ لهم ... وأسند التدبير إليهم ـ أى إلى الملائكة ـ لأنهم من أسبابه ... (١).

وقال الشوكانى : أقسم ـ سبحانه ـ بهذه الأشياء التي ذكرها ، وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم ، كما ينزع النازع القوس فيبلغ بها غاية المد ، وكذا المراد بالناشطات ، والسابحات ، والسابقات ، والمدبرات ، يعنى الملائكة. والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي ، منزلة التغاير الذاتي ، كما في قول الشاعر :

إلى الملك القرم ، وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وهذا قول الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم ... (٢).

ومنهم من يرى أن المراد بالنازعات : النجوم تنتقل من مكان إلى مكان ، أو الأقواس التي تنزع السهام ، أو الغزاة ينزعون من دار الإسلام إلى دار الحرب ...

ومنهم من يرى أن المراد بالناشطات : الكواكب السيارة ، أو السفن التي تمخر عباب الماء ... وأن المراد بالسابحات والسابقات : النجوم ، أو الشمس والقمر ، والليل والنهار ...

أما المدبرات فقد أجمعوا على أن المراد بها الملائكة.

قال الجمل : اختلفت عبارات المفسرين في هذه الكلمات ، هل هي صفات لشيء واحد ، أو

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٩٣.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٣٧٢.

٢٦٤

لأشياء مختلفة ، على أوجه : واتفقوا على أن المراد بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) وصف لشيء واحد ، وهم الملائكة ... (١).

ويبدو لنا أن كون هذه الصفات جميعها لشيء واحد ، هو الملائكة ، أقرب إلى الصواب ، لأنه المأثور عن كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

ثم شرع ـ سبحانه ـ في بيان علامات القيامة وأهوالها فقال : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ...). والراجفة : من الرجف وهو الاضطراب الشديد ، والحركة القوية ، لأن بسببها تضطرب الأمور ، وتختل الشئون. يقال : رجفت الأرض والجبال ، إذا اهتزت اهتزازا شديدا.

والمراد بها : ما يحدث في هذا الكون عند النفخة الأولى التي يموت بعدها جميع الخلائق.

والمراد بالرادفة : النفخة الثانية ، التي تردف الأولى ، أى : تأتى بعدها ، وفيها يبعث الموتى بإذن الله ـ تعالى ـ ، يقال : فلان جاء ردف فلان ، إذا جاء في أعقابه.

أى : اذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ ، يوم ينفخ في الصور فتضطرب الأرض وتهتز ، ويموت جميع الخلق ، ثم يتبع ذلك نفخة أخرى يبعث بعدها الموتى ـ بإذن الله ـ تعالى ـ.

وجملة «تتبعها الرادفة» في محل نصب على الحال من الراجفة.

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) بيان لما يترتب على قيام الساعة ، وبعث الخلائق ، من خوف ورعب.

أى : قلوب كثيرة في هذا اليوم الهائل الشديد تكون في نهاية الاضطراب والفزع. يقال : وجف القلب يجف وجفا ووجيفا ، إذا ارتفعت ضرباته من شدة الخوف ...

وتكون أبصار أصحاب هذه القلوب خاشعة ، أى ذليلة مهينة ، لما يعتريهم من الفزع الشديد ، والرعب الذي لا حدود له ...

ولفظ «قلوب» مبتدأ ، وتنكيره للتكثير ، وقوله : (واجِفَةٌ) صفة للقلوب ، وجملة «أبصارها خاشعة» خبر ثان للقلوب.

والمراد بهذه القلوب : قلوب المشركين الذين أنكروا في الدنيا البعث والجزاء ، فلما بعثوا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٧٧.

٢٦٥

اعتراهم الرعب الشديد ، والفزع الذي لا يقاربه فزع ...

فأما قلوب المؤمنين فهي ـ بفضل الله ورحمته ـ تكون في أمان واطمئنان ، كما قال ـ تعالى ـ : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

وإضافة الأبصار إلى ضمير القلوب لأدنى ملابسة ، لأن الأبصار لأصحاب هذه القلوب ، وكلاهما من جوارح الأجساد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) حكاية لما كان يقوله هؤلاء الكافرون في الدنيا ، من إنكار للبعث ، ومن استهزاء لمن كان يذكرهم به ، ومن استبعاد شديد لحصوله ...

والمراد بالحافرة : العودة إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم وتحولهم إلى عظام بالية.

قال صاحب الكشاف : (فِي الْحافِرَةِ). أى : في الحالة الأولى يعنون : الحياة بعد الموت.

فإن قلت : ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت : يقال : رجع فلان في حافرته ، أى : في طريقه التي جاء فيها فحفرها. أى : أثر فيها بمشيه فيها : جعل أثر قدميه حفرا ... ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته ، أى : طريقته وحالته الأولى ... (١).

وقوله : (نَخِرَةً) صفة مشتقة من قولهم : نخر العظم ـ بفتح النون وكسر الخاء ـ إذا بلى وصار سهل التفتيت والكسر. وقرأ حمزة والكسائي «ناخرة» بمعنى بالية فارغة جوفاء ، يسمع منها عند هبوب الريح نخير ، أى : صوت.

أى : أن هؤلاء المشركين كانوا يقولون في الدنيا ـ على سبيل التعجيب والاستهزاء والإنكار لأمر البعث والحساب : أنرد إلى الحياة مرة أخرى بعد موتنا وبعد أن نصير في قبورنا عظاما بالية.

وعبر ـ سبحانه ـ عن قولهم هذا بالمضارع «يقولون» لاستحضار حالتهم الغريبة ، حيث أنكروا ما قام الدليل على عدم إنكاره ، وللإشعار بأن هذا الإنكار كان متجددا ومستمرا منهم.

وقد ساق ـ سبحانه ـ أقوالهم هذه بأسلوب الاستفهام ، للإيذان بأنهم كانوا يقولون ما يقولون في شأن البعث على سبيل التهكم والتعجب ممن يحدثهم عنه ، كما هو شأن المستفهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٩٤.

٢٦٦

عن شيء الذي لا يقصد معرفة الحقيقة ، وإنما يقصد التعجيب والإنكار.

وجملة «أإذا كنا عظاما نخرة» مؤكدة للجملة السابقة عليها ، التي يستبعدون فيها أمر البعث بأقوى أسلوب.

وقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) حكاية لقول آخر من أقوالهم الفاسدة ، وهو بدل اشتمال من قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ).

واسم الإشارة «تلك» يعود إلى الردة المستفادة من قولهم «أإنا لمردودون ....».

ولفظ «إذا» جواب لكلامهم المتقدم. والكرّة : المرة من الكرّ بمعنى الرجوع ، وجمعها : كرّات أى : يقول هؤلاء الجاحدون : أنرد إلى الحياة التي كنا فيها بعد أن نموت ونفنى؟ وبعد أن نصير عظاما نخرة؟ لو حدث هذا بأن رددنا إلى الحياة مرة أخرى ، لكانت عودتنا عودة خاسرة غير رابحة ، وهم يقصدون بهذا الكلام الزيادة في التهكم والاستهزاء بالبعث.

والخسران : أصله عدم الربح في التجارة ، والمراد به هنا : حدوث ما يكرهونه لهم.

ونسب الخسران إلى الكرة على سبيل المجاز العقلي ، للمبالغة في وصفهم الرجعة بالخيبة والفشل ، وإلا فالمراد خيبتهم وفشلهم هم ، لأنهم تبين لهم كذبهم ، وصدق من أخبرهم بأن الساعة حق.

وقد رد ـ سبحانه ـ عليهم ردا سريعا حاسما يخرس ألسنتهم فقال : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

والزجرة : المرة من الزجر ، وهو الصياح المصحوب بالغضب ، يقال : زجر فلان فلانا ، إذا أمره أو نهاه عن شيء بحدة وغضب.

والساهرة : الأرض المستوية الخالية من النبات.

والمراد بها هنا : الأرض التي يحشر الله ـ تعالى ـ فيها الخلائق.

قال القرطبي : قوله : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أى : على وجه الأرض ، بعد أن كانوا في بطنها. سميت بهذا الاسم ، لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم ، والعرب تسمى الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، بمعنى ذات سهر ، لأنه يسهر فيها خوفا منها ، فوصفها بصفة ما فيها ... (١).

والفاء في قوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ ...) للتفريع على قولهم السابق ، وضمير «هي» يعود

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١٩٨.

٢٦٧

إلى الحالة والقصة التي أنكروها ، وهي قيام الساعة.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التوبيخ والتقريع : ليس الأمر كما زعمتم من أنه لا بعث ولا جزاء ... بل الحق أن ذلك آت لا ريب فيه ، وأن عودتكم إلى الحياة مرة أخرى لا تقتضي من خالقكم سوى صيحة واحدة يصيحها ملك من ملائكته بكم ، فإذا أنتم قيام من قبوركم ، ومجتمعون في المكان الذي يحدده الله ـ تعالى ـ لاجتماعكم ولحسابكم وجزائكم.

وعبر ـ سبحانه ـ عن اجتماعهم بأرض المحشر بإذا الفجائية فقال : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) للإيذان بأن اجتماعهم هذا سيكون في نهاية السرعة والخفة ، وأنه سيتحقق في أعقاب الزجرة بدون أقل تأخير.

ووصف ـ سبحانه ـ الزجرة بأنها واحدة ، لتأكيد ما في صيغة المرة من معنى الوحدة ، أى : أن الأمر لا يقتضى سوى الإذن منا بصيحة واحدة لا أكثر ، تنهضون بعدها من قبوركم للحساب والجزاء ، نهوضا لا تملكون معه التأخر أو التردد ... والمراد بها : النفخة الثانية.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَإِذا هُمْ) بضمير الغيبة ، إهمالا لشأنهم ، وتحقيرا لهم عن استحقاق الخطاب.

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

وإلى هنا نجد السورة الكريمة قد حدثتنا حديثا بليغا مؤثرا عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال المجرمين في هذا اليوم العسير.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة موسى مع فرعون ، لتكون تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين ، وتهديدا لهم حتى يقلعوا عن غيهم ... فقال ـ تعالى ـ :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ

٢٦٨

فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)(٢٦)

قال الإمام الرازي : اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث ، حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) ، وكان ذلك يشق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ـ سبحانه ـ قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وبين أنه تحمل المشقة في دعوة فرعون ، ليكون ذلك تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : أن فرعون كان أقوى من كفار قريش ... فلما تمرد على موسى ، أخذه الله ـ تعالى ـ نكال الآخرة والأولى ، فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك ، إن أصروا ، أخذهم الله وجعلهم نكالا .... (١).

والمقصود من الاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ...) التشويق إلى الخبر ، وجعل السامع في أشد حالات الترقب لما سيلقى إليه ، حتى يكون أكثر وعيا لما سيسمعه.

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصد تسليته ، ويندرج فيه كل من يصلح له.

والمعنى : هل وصل إلى علمك ـ أيها الرسول الكريم ـ خبر موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون؟ إن كان لم يصل إليك فهاك جانبا من خبره نقصه عليك ، فتنبه له ، لتزداد ثباتا على ثباتك ، وثقة في نصر الله ـ تعالى ـ لك على ثقتك.

والظرف «إذ» في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) متعلق بلفظ «حديث» ، والجملة بدل اشتمال مما قبلها.

و «الواد» المكان المنخفض بين جبلين ، أو بين مكانين مرتفعين. و «المقدس» : بمعنى المطهر. و «طوى» اسم للوادي. وقد جاء الحديث عنه في آيات متعددة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا أَتاها) ـ أى النار ـ (نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (٢).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ٣٢١.

(٢) سورة طه الآيتان ١١ ـ ١٢.

٢٦٩

والمعنى : هل بلغك ـ أيها الرسول الكريم ـ خبر موسى ، وقت أن ناديناه وهو بالواد المقدس طوى ، الذي هو بجانب الطور الأيمن ، بالنسبة للقادم من أرض مدين التي هي في شمال الحجاز.

ويدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ، أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ ...) مقول لقول محذوف ، أى : ناديناه وقلنا له : (اذْهَبْ) يا موسى إلى فرعون إنه طغى ، أى : إنه تجاوز كل حد في الكفر والغرور والعصيان.

وفرعون : لقب لكل ملك من ملوك مصر في ذلك الزمان ، وقد قالوا إن فرعون الذي أرسل الله ـ تعالى ـ إليه موسى ـ عليه‌السلام ـ هو منفتاح بن رمسيس الثاني.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله لموسى على سبيل الإرشاد إلى أحكم وأفضل وسائل الدعوة إلى الحق فقال : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى).

والمقصود بالاستفهام هنا : الحض والترغيب في الاستجابة للحق ، كما تقول لمن تنصحه : هل لك في كذا ، والجار والمجرور «لك» خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هل لك رغبة في التزكية.

أى : اذهب يا موسى إلى فرعون ، فقل له على سبيل النصح الحكيم. والإرشاد البليغ : هل لك يا فرعون رغبة في أن أدلك على ما يزكيك ويطهرك من الرجس والفسوق والعصيان.

وهل لك رغبة ـ أيضا ـ في أن أرشدك الى الطريق الذي يوصلك إلى رضى ربك ، فيترتب على وصولك إلى الطريق السوى ، الخشية منه ـ تعالى ـ والمعرفة التامة بجلاله وسلطانه.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ ....) أى : وأرشدك إلى معرفة الله ، أى : أنبهك عليه فتعرفه (فَتَخْشى) لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة ... وذكر الخشية ، لأنها ملاك الأمر ، من خشي الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شيء. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خاف أدلج ، ـ أى : سار في أول الليل ـ ومن أدلج بلغ المنزل».

بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوه ، كما أمر

__________________

(١) سورة القصص الآيتان ٢٩ ـ ٣٠.

٢٧٠

بذلك في قوله ـ تعالى ـ (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ...) (١).

والحق أن هاتين الآيتين فيهما أسمى ألوان الإرشاد إلى الدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى. فَكَذَّبَ وَعَصى) للإفصاح والتفريع على كلام محذوف يفهم من المقام. والتقدير : فامتثل موسى ـ عليه‌السلام ـ أمر ربه ، فذهب إلى فرعون ، فدعاه إلى الحق ، فكذبه فرعون ، فما كان من موسى إلا أن أراه الآية الكبرى التي تدل على صدقه ، وهي أن ألقى أمامه عصاه فإذا هي حية تسعى ، وأن نزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء.

ولكن فرعون لم يستجب لدعوة موسى ، بعد أن أراه الآية الكبرى الدالة على صدقه ، بل كذب ما رآه تكذيبا شديدا ، وعصى أمر ربه عصيانا كبيرا.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أى : ثم أضاف إلى تكذيبه وعصيانه. إعراضه وتوليه عن الإيمان والطاعة. وسعيه سعيا حثيثا في إبطال أمر موسى ، وإصراره على تكذيب معجزته.

وجاء العطف هنا بثم ، للدلالة إلى أنه قد تجاوز التكذيب والعصيان ، إلى ما هو أشد منهما في الجحود والعناد ، وهو الإعراض عن الحق والسعى الشديد في إبطاله.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله بعد ذلك فقال : (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى).

والحشر : جمع الناس ، والنداء : الجهر بالصوت لإسماع الغير ، ومفعولاهما محذوفان.

أى : فجمع فرعون الناس عن طريق جنده ، وناداهم بأعلى صوته ، قائلا لهم : أنا ربكم الأعلى الذي لا رب أعلى منه ، وليس الأمر كما يقول موسى من أن لكم إلها سواي.

والتعبير بالفاء في قوله : (فَنادى) للإشعار بأنه بمجرد أن جمعهم دعاهم إلى الاعتراف بأنه هو رب الأرباب.

وجاء نداؤه بالصيغة الدالة على الحصر (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) للرد على ما قاله موسى له. من وجوب إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما ترتب على هذا الفجور الذي تلبس به فرعون ، وعلى هذا الطغيان الذي تجاوز معه كل حد ، فقال : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٩٥.

٢٧١

والنكال : مصدر بمعنى التنكيل ، وهو العقاب الذي يجعل من رآه في حالة تمتعه وتصرفه عما يؤدى إليه ، يقال : نكّل فلان بفلان ، إذا أوقع به عقوبة شديدة تجعله نكالا وعبرة لغيره. وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد لقوله (فَأَخَذَهُ) ، لأن معناه نكل به ، والتعبير بالأخذ للإشعار بأن هذه العقوبة كانت محيطة بالمأخوذ بحيث لا يستطيع التفلت منها.

والمراد بالآخرة : الدار الآخرة ، والمراد بالأولى : الحياة الدنيا.

أى : أن فرعون عند ما تمادى في تكذيبه وعصيانه وطغيانه ... كانت نتيجة ذلك أن أخذه الله ـ تعالى ـ أخذ عزيز مقتدر ، بأن أنزل به في الآخرة أشد أنواع الإحراق ، وأنزل به في الدنيا أفظع ألوان الإغراق.

وقدم ـ سبحانه ـ عذاب الآخرة على الأولى ، لأنه أشد وأبقى.

ومنهم من يرى أن المراد بالآخرة قوله لقومه : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، وأن المراد بالأولى تكذيبه لموسى ـ عليه‌السلام ـ أى ، فعاقبه الله ـ تعالى ـ على هاتين المعصيتين وهذا العقاب الأليم ، بأن أغرقه ومن معه جميعا ...

ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأقرب إلى ما تفيده الآية الكريمة ، إذ من المعروف أن الآخرة ، هي ما تقابل الأولى وهي دار الدنيا ، ولذا قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أى : انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا. ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ). هذا هو الصحيح في معنى الآية ، أن المراد بقوله : (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أى : الدنيا والآخرة. وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية. وقيل : كفره وعصيانه ، والصحيح الذي لا شك فيه الأول ... (١).

والإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) ، تعود إلى حديث موسى الذي دار بينه وبين فرعون ، وما ترتب عليه من نجاة لموسى ومن إهلاك لفرعون.

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه عما دار بين موسى وفرعون ، لعبرة وعظة ، لمن يخشى الله ـ تعالى ـ ، ويقف عند حدوده ، لا لغيره ممن لا يتوبون ولا يتذكرون ولا تخالط أنفسهم خشية الله ـ تعالى ـ.

والمقصود من هذه القصة كلها ، تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد المشركين بأنهم إذا ما استمروا في طغيانهم ، كانت عاقبتهم كعاقبة فرعون.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٣٨.

٢٧٢

وبعد هذا الاستطراد عن طريق ذكر جانب مما دار بين موسى وفرعون ... عادت السورة الكريمة ، كما بدأت إلى الحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن إمكانية وقوعه ، وعن أحوال الناس فيه. وعن أن موعد قيامه مرد علمه إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، فقال ـ سبحانه ـ :

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ...) لأولئك الجاحدين الجاهلين الذين استنكروا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، وقالوا : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ).

وجاء هذا الخطاب على سبيل التقريع والتوبيخ لهم ، حيث بين لهم ـ سبحانه ـ أن إعادتهم إلى الحياة ، ليست بأصعب من خلق السموات والأرض.

و (أَشَدُّ) أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف ، لدلالة قوله ـ تعالى ـ : (أَمِ السَّماءُ) عليه.

والمراد بالأشد هنا : الأصعب بالنسبة لاعتقاد المخاطبين ، إذ كل شيء في هذا الكون خاضع لإرادة الله ـ تعالى ـ ومشيئته (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

٢٧٣

والمعنى : أخلقكم ـ أيها الجاهلون ـ بعد موتكم ، وإعادتكم إلى الحياة بعد هلاككم ، أشد وأصعب في تقديركم ، أم خلق السماء التي ترون بأعينكم عظمتها وضخامتها ، والتي أوجدها ـ سبحانه وبناها بقدرته.

فالمقصود من الآية الكريمة لفت أنظارهم إلى أمر معلوم عندهم بالمشاهدة ، وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ من خلقهم ، ومن كان قادرا على الأبلغ والأعظم كان على ما هو أقل منه ـ وهو خلقهم وإعادتهم بعد موتهم ـ أقدر.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ...).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من بديع قدرته في خلق السماء فقال : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها).

والسّمك ـ بفتح السين ـ المشددة وسكون الميم ـ : الرفع في الفضاء ، وجعل الشيء عاليا عن غيره.

تقول : سمكت الشيء ، إذا رفعته في الهواء ، وبناء مسموك ، أى : مرتفع ، ومنه قول الشاعر :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

أى : أن الله ـ تعالى ـ بقدرته ، جعل مقدار ارتفاع السماء عن الأرض عظيما ، وبجانب ذلك سوى بحكمته هذه السماء ، بأن جعلها خالية من الشقوق والثقوب ... كما قال ـ سبحانه ـ : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ...).

وجملة «وأغطش ليلها ....» معطوفة على «بناها» ، والإغطاش : الإظلام الشديد. يقال : غطش الليل ـ من باب ضرب ـ إذا اشتد ظلامه.

أى : وجعل ـ بقدرته ـ ليل هذه السماء مظلما غاية الإظلام : بسبب مغيب شمسها.

(وَأَخْرَجَ ضُحاها) أى : وأبرز وأضاء نهارها ، إذ الضحى في الأصل : انتشار الشمس ، وامتداد النهار. ثم سمى به هذا الوقت ، لبروز ضوء الشمس فيه أكثر من غيره ، فهو من باب تسمية الشيء باسم أشرف أجزائه وأطيبها.

وأضاف ـ سبحانه ـ الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب شمسها وطلوعها.

ثم انتقلت الآيات الكريمة من الاستدلال على قدرته ـ تعالى ـ عن طريق خلق السماء ،

٢٧٤

إلى الاستدلال على قدرته عن طريق خلق الأرض فقال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها).

ولفظ «الأرض» منصوب على الاشتغال. واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى خلق السماء وتسويتها ورفعها وإغطاش ليلها. وقوله (دَحاها) من الدحو بمعنى البسط ، تقول : دحوت الشيء أدحوه ، إذا بسطته ...

أى : خلق ـ سبحانه ـ السماء وسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، والأرض بعد كل ذلك الخلق البديع للسماء ، بسطها وأوسعها لتكون مستقرا لكم وموضعها لتقلبكم عليها ...

وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية ، تأخر خلق الأرض عن خلق السماء ...

وجمهور العلماء على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

قالوا في الجمع بين هذه الآية التي معنا ، وبين آية سورة البقرة ، بما روى عن ابن عباس من أنه سئل عن الجمع بين هاتين الآيتين فقال : خلق الله ـ تعالى ـ الأرض أولا غير مدحوة ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغيرهما. أى : أن أصل خلق الأرض كان قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ، كان بعد خلق السماء.

وقالوا ـ أيضا ـ في وجه الجمع ، إن لفظ بعد في قوله ـ تعالى ـ (بَعْدَ ذلِكَ) بمعنى مع. أى : والأرض مع ذلك بسطها ومهدها لسكنى أهلها فيها ... (٢).

وقدم ـ سبحانه ـ هنا خلق السماء على الأرض ، لأنه أدل على القدرة الباهرة ، لعظم السماء وانطوائها على الأعاجيب.

وقوله ـ سبحانه ـ (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها) بدل اشتمال من قوله (دَحاها) ، أو بيان وتفسير لدحوها ، والمرعى : مصدر ميمى أطلق على المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى أخرج منها ما يرعى.

أى : والأرض جعلها مستقرا لكم ، ومكانا لانتفاعكم ، بأن أخرج منها ماءها ، عن طريق تفجير العيون والآبار والبحار ، وأخرج منها (مَرْعاها) أى : جميع ما يقتات به الناس والدواب ، بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٩.

(٢) راجع تفسيرنا لسورة فصلت ، المجلد الثاني عشر.

٢٧٥

وكذلك من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ ورحمته بكم ، أنه أثبت الجبال في الأرض حتى لا تميد أو تضطرب ، فالمقصود بإرساء الجبال : تثبيتها في الأرض.

وقوله ـ تعالى ـ : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) بيان لوجه المنة في خلق الأرض على هذه الطريقة البديعة.

والمتاع : اسم لما يتمتع به الإنسان من منافع الحياة الدنيا لمدة محدودة من الزمان ، وانتصب لفظ «متاعا» هنا بفعل مقدر من لفظه ، أى : متعناكم متاعا.

والمعنى : دحونا الأرض ، وأخرجنا منها ماءها ومرعاها ... لتكون موضع منفعة لكم ، تتمتعون بخيراتها أنتم وأنعامكم ، إلى وقت معين من الزمان ، تتركونها لانتهاء أعماركم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال الأشقياء والسعداء يوم القيامة ، فقال : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى). والطامة : اسم للمصيبة العظمى ، التي تطمّ وتغلب وتعلو ما سواها من مصائب ، من قولهم : طمّ الشيء يطمّه طمّا ، إذا غمره. وكل شيء كثر وعلا على غيره ، فقد طم عليه. ويقال : طم الماء الأرض إذا غمرها.

وهذا الوصف ليوم القيامة ، من أوصاف التهويل والشدة ، لأن أحوالها تغمر الناس وتجعلهم لا يفكرون في شيء سواها.

وجواب الشرط محذوف ، والمجيء هنا : بمعنى الحدوث والوقوع ، أى : فإذا وقعت القيامة ، وقامت الساعة ... حدث ما حدث ما لم يكن في الحسبان من شدائد وأهوال.

وقوله : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) بدل اشتمال من الجملة التي قبلها وهي قوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ) لأن ما أضيف إليه لفظ «يوم» من الأحوال التي يشملها يوم القيامة ، وتذكر الإنسان لسعيه في الدنيا ، يكون بإطلاعه على أعماله التي نسيها ، ورؤيته إياها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

أى : فإذا قامت القيامة ، وتذكر الإنسان في هذا الوقت ما كان قد نسيه من أعمال في دنياه ، وقع له من الخوف والفزع مالا يدخل تحت وصف ..

وقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) معطوف على قوله (جاءَتِ). أى : فإذا جاءت الطامة الكبرى ، وتذكر الإنسان فيها ما كان قد نسيه من أعمال دنيوية (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أى : وأظهرت إظهارا واضحا لا خفاء فيه ولا لبس (لِمَنْ يَرى) أى : لكل راء. كان الهول الأعظم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَمَّا مَنْ طَغى ....) تفصيل لأحوال الناس في هذا اليوم.

٢٧٦

أى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) بأن تجاوز الحدود في الكفر والفسوق والعصيان (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) بأن قدم متاعها الفاني ، على نعيم الآخرة الخالد ...

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أى : فإن مصير هذا الإنسان الشقي سيكون إلى النار الملتهبة ، لا منزل له سواها في هذا اليوم.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أى : خاف عظمته وجلاله ، وسلح نفسه بالإيمان والعمل الصالح استعدادا لهذا اليوم الذي يجازى فيه كل إنسان بما يستحقه.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أى : وزجر نفسه وكفها عن السيئات والمعاصي والميول نحو الأهواء الضالة المضلة.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أى : فإن الجنة في هذا اليوم ، ستكون هي مأواه ومنزله ومستقره ...

ثم لقن الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يرد به على المشركين ، الذين كانوا يكثرون من سؤاله عن يوم القيامة ، على سبيل الإنكار والاستهزاء ، فقال ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها).

وأيان : اسم يستفهم به عن تعيين الوقت وتحديده ، فهو ظرف زمان متضمن معنى «متى» ومرساها : مصدر ميمى من أرسى الشيء إذا ثبته وأقره ، ولا يكاد يستعمل هذا اللفظ إلا في الشيء الثقيل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْجِبالَ أَرْساها ...).

ونسبة الإرساء إلى الساعة ، باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام. و «أيان» خبر مقدم ، و «مرساها» مبتدأ مؤخر.

والمعنى : يسألك يا محمد هؤلاء القوم عن وقت قيام الساعة ، قائلين لك : متى يكون استقرارها وإرساؤها ووقوعها؟.

وأطلق على يوم القيامة ساعة لوقوع بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله ، زمان يسير عند الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة ، وعن وقت وقوعها.

والمقصود بهذا الجواب توبيخهم على إلحاحهم في السؤال عنها ، مع أن الأولى بهم كان الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح.

و «ما» في قوله (فِيمَ) اسم استفهام بمعنى : أى شيء ، وهي هنا مستعملة في التعجيب

٢٧٧

من كثرة أسئلتهم عن شيء لا يهمهم حدوثه ، وإنما الذي يهمهم ـ لو كانوا يعقلون ـ هو حسن الاستعداد له.

قال الآلوسى : قوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) إنكار ورد لسؤال المشركين عنها. أى : في أى شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها ، وتعلمهم به حتى يسألونك بيانها ، كقوله ـ تعالى ـ (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) فالاستفهام للإنكار. وفيم خبر مقدم ، وأنت مبتدأ مؤخر. وقوله (مِنْ ذِكْراها) على تقدير مضاف ، أى : ذكرى وقتها ، وهو متعلق بما تعلق به الخبر.

وقيل : (فِيمَ) إنكار لسؤالهم ، وما بعده استئناف تعليل للإنكار ، وبيان لبطلان السؤال. أى : فيم هذا السؤال ، ثم ابتدئ فقيل : أنت من ذكراها. أى : إرسالك وأنت خاتم النبيين ... علامة من علاماتها. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أى : إلى ربك وحده منتهى علم قيامها ، لأنه ـ سبحانه ـ هو وحده ـ دون غيره ـ العليم علما تاما بالوقت الذي ستقوم فيه الساعة.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) وقوله ـ سبحانه ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ....).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) تحديد لوظيفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : ليست وظيفتك ـ أيها الرسول الكريم ـ معرفة الوقت الذي تقوم فيه الساعة ، فهذا أمر مرد معرفته إلى الله وحده ... وإنما وظيفتك امتثال ما أمرت به ، من بيان اقترابها ، وتفصيل أهوالها ، ودعوة الناس إلى حسن الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح ...

وإذا كان الأمر كذلك فلما ذا ترك هؤلاء الجاهلون ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح ، وأخذوا يسألونك عن أشياء خارجة عن وظيفتك؟.

وخص ـ سبحانه ـ الإنذار بمن يخشى قيام الساعة ، مع أن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة. وإنذاره إنما هو لهم جميعا ، لأن هؤلاء الذين يخشون وقوعها ، ويعملون العمل الصالح الذي ينجيهم من أهوالها ، هم الذين ينتفعون بهذا الإنذار.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، ببيان حالهم عند قيام الساعة ، فقال ـ تعالى ـ : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٣٧.

٢٧٨

والعشية : هي الوقت الكائن من الزوال إلى الغروب. والضحى : الوقت الكائن من أوائل النهار إلى الزوال.

أى : كأن هؤلاء المشركين حين يرون الساعة وقد فاجأتهم بأهوالها ، لم يلبثوا في دنياهم أو في قبورهم إلا وقتا يسيرا ، يشبه العشية أو الضحى بالنسبة للزمان الطويل.

فالمقصود من الآية الكريمة : بيان أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن المشركين عند إتيانها كأنهم ما لبثوا في انتظارها إلا يوما أو بعض يوم ...

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت : لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد.

فإن قلت : فهلا قيل : إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت : للدلالة على أن مدة لبثهم ، كأنها لم تبلغ يوما كاملا ، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه ، فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته ، فهو كقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (١).

وبعد : فهذا تفسير لسورة «النازعات» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٩٩.

٢٧٩
٢٨٠