التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

التي تشغل الإنسان ، والنصب : التعب والاجتهاد في تحصيل المطلوب.

أى : فإذا فرغت ـ أيها الرسول الكريم ـ من عمل من الأعمال ، فاجتهد في مزاولة عمل آخر من الأعمال التي تقربك من الله ـ تعالى ـ ، كالصلاة ، والتهجد ، وقراءة القرآن الكريم. واجعل رغبتك في جميع أعمالك وعباداتك ، من أجل إرضاء ربك ، لا من أجل شيء آخر ، فهو وحده القادر على إبلاغك ما تريد ، وتحقيق آمالك.

فالمقصود بهاتين الآيتين حثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحث أتباعه في شخصه على استدامة العمل الصالح ، وعدم الانقطاع عنه ، مع إخلاص النية لله ـ تعالى ـ فإن المواظبة على الأعمال الصالحة مع الإخلاص فيها ، تؤدى إلى السعادة التي ليس بعدها سعادة.

ولقد استجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذا الإرشاد الحكيم ، فقد قام الليل حتى تورمت قدماه ، وعند ما سئل لم كل هذه العبادة ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟ قال : «أفلا أكون عبدا شكورا».

وسار أصحابه من بعده على هذا الهدى القويم : فعمروا حياتهم بالباقيات الصالحات من الأعمال ، دون أن يكون للفراغ السيئ ، مكان في حياتهم ، بل واصلوا الجهاد بالجهاد ، وأعمال البر بمثلها.

ومن أقوال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ : «إنى لأكره لأحدكم أن يكون خاليا ، لا في عمل دنيا ولا دين».

وفي رواية أنه قال : «إنى لأنظر إلى الرجل فيعجبني ، فإذا قيل : إنه لا عمل له سقط من عيني».

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا ممن يعمرون أوقاتهم بالأعمال الصالحة ، والخالصة لوجهه الكريم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٤١
٤٤٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة التين

مقدمة وتمهيد

١ ـ وتسمى ـ أيضا ـ سورة «والتين» وعدد آياتها ثماني آيات ، والصحيح أنها مكية.

وقد روى ذلك عن ابن عباس وغيره ، ويؤيد كونها مكية ، القسم بمكة في قوله ـ تعالى ـ : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ، وعن قتادة أنها مدنية ، وهو قول لا دليل عليه.

وكان نزولها بعد سورة «البروج» ، وقبل سورة «لإيلاف قريش».

٢ ـ وقد اشتملت هذه السورة الكريمة ، على التنبيه بأن الله ـ تعالى ـ قد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، فعليه أن يكون شاكرا لخالقه ، مخلصا له العبادة والطاعة.

٤٤٣

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(٨)

اتفق المفسرون على أن المراد بطور سينين : الجبل الذي كلم الله ـ تعالى ـ عليه موسى ـ عليه‌السلام ـ وسينين ، وسيناء ، وسينا ، اسم للبقعة التي فيها هذا الجبل ، بإضافة «طور» إلى ما بعده ، من إضافة الموصوف إلى الصفة.

قال الإمام الشوكانى : «وطور سينين» هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، اسمه الطور. ومعنى سينين : المبارك الحسن .. وقال مجاهد : سينين كل جبل فيه شجر مثمر ، فهو سينين وسيناء. وقال الأخفش : طور : جبل. وسينين شجر ، واحدته سينه ، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء ، لأنه جعل اسما للبقعة .. (١).

وأقسم ـ سبحانه ـ به ، لأنه من البقاع المباركة ، وأعظم بركة حلت به ووقعت فيه ، تكليم الله ـ تعالى ـ ، لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ.

كما اتفقوا ـ أيضا ـ على أن المراد بالبلد الأمين : مكة المكرمة ، وسمى بالأمين لأن من دخله كان آمنا ، وقد حرمها ـ تعالى ـ على جميع خلقه ، وحرم شجرها وحيوانها ، وفي

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٤٦٥.

٤٤٤

الحديث الصحيح ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بعد فتحها : «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، فلا يعضد ـ أى : يقطع ـ شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ...».

إلا أن خلافهم في المراد بقوله ـ تعالى ـ : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، وقد ذكر الإمام القرطبي هذا الخلاف فقال ما ملخصه : قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) : قال ابن عباس وغيره : هو تينكم الذي تأكلون ، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت. قال ـ تعالى ـ : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) وهي شجرة الزيتون.

وقال أبو ذر : أهدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلة تين ، فقال : «كلوا» وأكل منها. ثم قال : «لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت هذه ...».

وعن معاذ : أنه استاك بقضيب زيتون ، وقال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة» ...

وهذا هو الرأى الذي تطمئن إليه النفس لأنه هو المتبادر من اللفظ وهناك أقوال أخرى رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها وتهافتها.

ثم قال الإمام القرطبي : وهذا القول هو أصح الأقوال ، لأنه الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم بالتين لأنه كان ستر آدم في الجنة ، لقوله ـ تعالى ـ : (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وكان ورق التين ، ولأنه كثير المنافع.

وأقسم بالزيتون لأنه الشجرة المباركة ، قال ـ تعالى ـ : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ...) وفيه منافع كثيرة ... (١).

وقال الإمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال في المقصود بالتين والزيتون : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال : التين : هو التين الذي يؤكل. والزيتون : هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت ، لأن ذلك هو المعروف عند العرب ، ولا يعرف جبل يسمى تينا ، ولا جبل يقال له زيتون. إلا أن يقول قائل : المراد من الكلام القسم بمنابت التين ، ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا ، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة في ظاهر التنزيل ... (٢).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ١١١.

(٢) راجع تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٥٣.

٤٤٥

وما ذهب إليه الإمامان : ابن جرير والقرطبي ، من أن المراد بالتين والزيتون ، حقيقتهما ، هو الذي نميل إليه ، لأنه هو الظاهر من معنى اللفظ ، ولأنه ليس هناك من ضرورة تحمل على مخالفته ، ولله ـ تعالى ـ أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، فهو صاحب الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين.

وجملة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ....) وما عطف عليه جواب القسم.

أى : وحق التين الذي هو أحسن الثمار ، صورة وطعما وفائدة ، وحق الزيتون الذي يكفى الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم ، وحق هذا البلد الأمين ، وهو مكة المكرمة ، وحق طور سنين الذي كلم الله ـ تعالى ـ عليه نبيه موسى تكليما ... وحق هذه الأشياء ... لقد خلقنا الإنسان في أعدل قامة ، وأجمل صورة ، وأحسن هيئة ، ومنحناه بعد ذلك ما لم نمنحه لغيره ، من بيان فصيح ، ومن عقل راجح ، ومن علم واسع ، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه في هذه الحياة ، بإذننا ومشيئتنا.

والتقويم في الأصل : تصيير الشيء على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها في التعديل والتركيب. تقول : قومت الشيء تقويما ، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها ... في التعديل والتركيب. تقول : قومت الشيء تقويما ، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها ... وهذا الحسن يشمل الظاهر والباطن للإنسان ...

والمراد بالإنسان هنا : جنسه. أى : لقد خلقنا ـ بقدرتنا وحكمتنا ـ جنس الإنسان في أكمل صورة ، وأحكم عقل ...

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) معطوف على ما قبله وداخل في حيز القسم. وضمير الغائب يعود إلى الإنسان ...

وحقيقة الرد : إرجاع الشيء إلى مكانه السابق ، والمراد به هنا : تصيير الإنسان على حالة غير الحالة التي كان عليها ، وأسفل : أفعل تفضيل ، أى : أشد سفالة مما كان يتوقع.

وللمفسرين في هذه الآية الكريمة اتجاهات منها : أن المراد بالرد هنا : الرد إلى الكبر والضعف ، كما قال ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (١).

وعلى هذا الرأى يكون المردودون إلى أسفل سافلين ، أى : إلى أرذل العمر ، هم بعض أفراد جنس الإنسان ، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة

__________________

(١) سورة الروم الآية ٥٤.

٤٤٦

من العمر ، كما قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١).

وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر. إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر ، وذهاب العقل ...» (٢).

ومنها : أن المراد بالرد هنا : الرد إلى النار ، والمعنى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى أقبح صورة ، وأخس هيئة ... حيث ألقينا به في أسفل سافلين ، أى : في النار ، بسبب استحبابه العمى على الهدى ، والكفر على الإيمان ...

وقد رجح هذا الرأى ابن كثير فقال : قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أى : إلى النار ... أى : ثم بعد هذا الحسن والنضارة ، مصيره إلى النار ، إن لم يطع الله ـ تعالى ـ ويتبع الرسل. ولهذا قال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) (٣).

وعلى هذا الرأى ـ أيضا ـ ، يكون المردودون إلى «أسفل سافلين» أى : إلى النار ، هم بعض أفراد جنس الإنسان ، وهم الكفار ، والفاسقون عن أمره ـ تعالى ـ.

ومنها : أن المراد بالرد إلى أسفل سافلين هنا : الانحراف والارتداد عن الفطرة التي فطر الله ـ تعالى ـ الناس عليها ، بأن يعبد الإنسان مخلوقا مثله ، ويترك عبادة خالقه ، ويطيع نفسه وشهواته وهواه ... ويترك طاعة ربه ـ عزوجل ـ.

وقد فصل الأستاذ الإمام هذا المعنى فقال ما ملخصه : «أقسم ـ سبحانه ـ أنه قوم الإنسان أحسن تقويم ، وركبه أحسن تركيب ، وأكد ـ سبحانه ـ ذلك بالقسم ، لأن الناس بسبب غفلتهم عما كرمهم الله به ، صاروا كأنهم ظنوا أنفسهم كسائر أنواع العجماوات ، يفعلون كما تفعل ، لا يمنعهم حياء ولا تردهم حشمة. فانحطت بذلك نفوسهم عن مقامها ، الذي كان لها بمقتضى الفطرة ... فهذا قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ، أى : صيرناه أسفل من كثير من الحيوانات التي كانت أسفل منه ، لأن الحيوان المفترس ـ مثلا ـ إنما يصدر في عمله عن فطرته التي فطر عليها ، لم ينزل عن مقامه ، ولم ينحط عن منزلته في الوجود.

أما الإنسان فإنه بإهماله عقله ، وجهله بما ينبغي أن يعمله لتوفير سعادته وسعادة إخوانه ،

__________________

(١) سورة غافر ، آية ٦٧.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٥٧.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٥٧.

٤٤٧

ينقلب أرذل من سائر أنواع الحيوان ، ولطالما قلت : «إذا فسد الإنسان فلا تسل عما يصدر عنه من هذيان أو عدوان» (١).

والذي يتأمل الرأى الثاني والثالث يرى أن بينهما تلازما ، لأن الانحراف عن الفطرة السوية يؤدى إلى الدخول في النار وبئس القرار ، وهذان الرأيان أولى بالقبول ، لأن الاستثناء في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يؤيد ذلك ، إذ المعنى عليها : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة ، وإيثاره الغي على الرشد ، والكفر على الإيمان ...

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وساروا على مقتضى فطرتهم ، فأخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة ... فلهم أجر غير مقطوع عنهم أو غير ممنون به عليهم ، بل هم قد اكتسبوا هذا الأجر الدائم العظيم ، بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ، «ثم» هنا للتراخي الزمانى أو الرتبى ، والرد يجوز أن يكون بمعنى الجعل ، فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. فأسفل مفعول ثان ، والمعنى : ثم جعلناه من أهل النار ، الذين هم أقبح ، وأسفل من كل سافل ... ويجوز أن يكون الرد بمعناه المعروف ، وأسفل منصوب بنزع الخافض.

أى : رددناه إلى أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم ...

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء متصل من ضمير «رددناه» العائد على الإنسان ، فإنه في معنى الجمع ، فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم. وحسنا على حسنهم ...» (٢).

و «ما» في قوله ـ سبحانه ـ : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) اسم استفهام مبتدأ ، وخبره جملة «يكذبك». والخطاب للإنسان الذين خلقه الله ـ تعالى ـ في أحسن تقويم ، ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب. والاستفهام للإنكار والتعجيب من هذا الإنسان ...

والمعنى : فأى شيء يحملك ـ أيها الإنسان ـ على التكذيب بالدين وبالبعث وبالجزاء ، بعد أن خلقناك في أحسن تقويم ، وبعد أن أقمنا لك الأدلة على أن دين الإسلام هو الدين الحق ، وعلى أن رسولنا صادق فيما يبلغك عن ربه ـ عزوجل ـ؟

فالمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (يُكَذِّبُكَ) : يجعلك مكذبا ، أى : لا عذر لك في التكذيب

__________________

(١) راجع تفسير جزء عم ص ٩١ للشيخ محمد عبده ـ رحمه‌الله ـ.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٧٦.

٤٤٨

بالحق ، وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكون «ما» بمعنى «من» ، ويكون الاستفهام بها عن ذوات المخاطبين ، أى : فمن ذا الذي يكذبك ـ أيها الرسول الكريم ـ ويكذب بيوم الدين والجزاء ، بعد أن ظهرت الدلائل على صدقك ...؟

إن كل عاقل يجب عليه أن يصدقك ولا يكذبك ، ولا يعرض عنك.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) للتقرير : إذ الجملة الكريمة تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رده إلى أسفل سافلين.

فكأنه ـ تعالى ـ يقول : إن الذي فعل ذلك كله هو أحكم الحاكمين خلقا وإيجادا. وصنعا وتدبيرا ، وقضاء وتقديرا ، فيجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة ، وأن يتبع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما جاء به من عند ربه ـ عزوجل ـ.

وقد روى الإمام الترمذي عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من قرأ منكم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ...) ثم انتهى إلى قوله ـ تعالى ـ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين» (١).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٥٧.

٤٤٩
٤٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة العلق

مقدمة وتمهيد

١ ـ هذه السورة الكريمة تسمى سورة «العلق» ، وتسمى سورة «اقرأ» وعدد آياتها تسع عشرة آية في المصحف الكوفي ، وفي الشامي ثماني عشرة آية ، وفي الحجازي عشرون آية.

وصدر هذه السورة الكريمة يعتبر أول ما نزل من قرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ ومن أغراضها : التنويه بشأن القراءة والكتابة ، والعلم والتعلم ، والتهديد لكل من يقف في وجه دعوة الإسلام التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ـ عزوجل ـ وإعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله ـ تعالى ـ مطلع على ما يبيته له أعداؤه من مكر وحقد ، وأنه ـ سبحانه ـ قامعهم وناصره عليهم ، وأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يمضى في طريقه ، دون أن يلتفت إلى مكرهم أو سفاهاتهم.

٤٥١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

وقد أجمع المحققون من العلماء ، على أن هذه الآيات الكريمة ، أول ما نزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن على الإطلاق ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى ، الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث ـ أى : فيتعبد ـ فيه الليالى ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لذلك ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال له : (اقْرَأْ) قال : ما أنا بقارئ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذنى فغطني حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : (اقْرَأْ) فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : (اقْرَأْ) فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ،

٤٥٢

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ...) (١).

وما ورد من أحاديث تفيد أن أول سورة نزلت هي «سورة الفاتحة» ، فمحمول على أن أول سورة نزلت كاملة هي سورة الفاتحة.

كذلك ما ورد من أحاديث في أن أول ما نزل سورة المدثر ، محمول على أن أول ما نزل بعد فترة الوحى. أما صدر سورة العلق فكان نزوله قبل ذلك.

قال الآلوسى ـ بعد أن ساق الأحاديث التي وردت في ذلك ـ : «وبالجملة فالصحيح ـ كما قال البعض وهو الذي أختاره ـ أن صدر هذه السورة الكريمة ، هو أول ما نزل من القرآن على الإطلاق. وفي شرح مسلم : الصواب أن أول ما نزل «اقرأ» ، أى : مطلقا ، وأول ما نزل بعد فترة الوحى ، «يا أيها المدثر» ، وأما قول من قال من المفسرين ، أول ما نزل الفاتحة ، فبطلانه أظهر من أن يذكر» (٢).

والذي نرجحه ونميل إليه أن أول ما نزل من قرآن على الإطلاق ، هو صدر هذه السورة الكريمة إلى قوله (ما لَمْ يَعْلَمْ) ، لورود الأحاديث الصحيحة بذلك. أما بقيتها فكان نزوله متأخرا.

قال الأستاذ الإمام «أما بقية السورة فهو متأخر النزول قطعا ، وما فيه من ذكر أحوال المكذبين ، يدل على أنه إنما نزل بعد شيوع خبر البعثة ، وظهور أمر النبوة ، وتحرش قريش لإيذائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

وقد افتتحت السورة الكريمة بطلب القراءة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه كان أميا لتهيئة ذهنه لما سيلقى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وحى ... فقال ـ سبحانه ـ : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). أى : اقرأ ـ أيها الرسول الكريم ـ ما سنوحيه إليك من قرآن كريم ، ولتكن قراءتك ملتبسة باسم ربك. وبقدرته وإرادته ، لا باسم غيره ، فهو ـ سبحانه ـ الذي خلق الأشياء جميعها ، والذي لا يعجزه أن يجعلك قارئا ، بعد كونك لم تكن كذلك.

وقال ـ سبحانه ـ (بِاسْمِ رَبِّكَ) بوصف الربوبية ، لأن هذا الوصف ينبئ عن كمال الرأفة والرحمة والرعاية بشأن المربوب.

ووصف ـ سبحانه ـ ذاته بقوله : (الَّذِي خَلَقَ) للتذكير بهذه النعمة ، لأن الخلق هو أعظم النعم ، وعليه تترتب جميعها.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٦٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٧٨.

(٣) تفسير جزء عم ص ٩٣.

٤٥٣

وجملة (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) بدل من قوله (الَّذِي خَلَقَ) بدل بعض من كل ، إذ خلق الإنسان يمثل جزءا من خلق المخلوقات التي لا يعلمها إلا الله.

و «العلق» الدم الجامد ، وهو الطور الثاني من أطوار خلق الإنسان.

وقيل : العلق : مجموعة من الخلايا التي نشأت بطريقة الانقسام عن البويضة الملقحة ، وسمى «علقا» لتعلقه بجدار الرحم (١).

والمقصود من هذه الجملة الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : إن من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا يسمع ويرى ويعقل ... قادر ـ أيضا ـ على أن يجعل منك ـ أيها الرسول الكريم ـ قارئا ، وإن لم تسبق لك القراءة.

وخص ـ سبحانه ـ خلق الإنسان بالذكر ، لأنه أشرف المخلوقات ولأن فيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه.

وقوله ـ تعالى ـ : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أى : امض لما أمرتك به من القراءة ، فإن ربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم ، والأعظم من كل عظيم.

قالوا : وإنما كرر ـ سبحانه ـ الأمر بالقراءة ، لأنه من الملكات التي لا ترسخ في النفس إلا بالتكرار والإعادة مرة فمرة.

وجملة (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) مستأنفة لقصد بيان أنه ـ تعالى ـ أكرم من كل من يلتمس منه العطاء ، وأنه ـ سبحانه ـ قادر على أن يمنح نبيه نعمة القراءة ، بعد أن كان يجهلها.

وقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أى : علم الإنسان الكتابة بالقلم ، ولم يكن له علم بها ، فاستطاع عن طريقها أن يتفاهم مع غيره ، وأن يضبط العلوم والمعارف ، وأن يعرف أخبار الماضين وأحوالهم ، وأن يتخاطب بها مع الذين بينه وبينهم المسافات الطويلة.

ومفعولا «علّم» محذوفان ، دل عليهما قوله (بِالْقَلَمِ) أى : علم ناسا الكتابة بالقلم.

وتخصيص هذه الصفة بالذكر ، للإيماء إلى إزالة ما قد يخطر بباله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعذر القراءة بالنسبة له ، لجهله بالكتابة ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول له : إن من علم غيرك القراءة والكتابة بالقلم ، قادر على تعليمك القراءة وأنت لا تعرف الكتابة ، ليكون ذلك من معجزاتك الدالة على صدقك ، وكفاك بالعلم في الأمى معجزة.

وجملة (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) خبر عن قوله ـ تعالى ـ : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) وما بينهما اعتراض ، ويصح أن تكون بدل اشتمال مما قبلها وهو قوله (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أى :

__________________

(١) راجع كتاب «بحوث في تفسير القرآن» (سورة العلق) لجمال عياد.

٤٥٤

علم الإنسان بالقلم وبدونه ما لم يكن يعلمه من الأمور على اختلافها ، والمراد بالإنسان في هذه الآيات جنسه.

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد جمعت أصول الصفات الإلهية ، كالوجود ، والوحدانية ، والقدرة والعلم ، والكرم.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : فأول شيء من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهو أول رحمة رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كرمه ـ تعالى ـ أن علم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ... (١).

وقال المرحوم الشيخ محمد عبده : ثم إنه لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه ، من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحى ، بهذه الآيات الباهرات ، فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض ، وإلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ... وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ... فلا أرشدهم الله ... (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك الأسباب التي تحمل الإنسان على الطغيان فقال : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

و «كلا» حرف ردع وزجر لمن تكبر وتمرد ... فهو زجر عما تضمنه ما بعدها ، لأن ما قبلها ليس فيه ما يوجب الزجر والردع ، ويصح أن تكون «كلا» هنا بمعنى حقا. وقوله : (لَيَطْغى) من الطغيان ، وهو تجاوز الحق في التكبر والتمرد. والضمير في قوله (رَآهُ) يعود على الإنسان الطاغي ، والجملة متعلقة بقوله (لَيَطْغى) بحذف لام التعليل ، والرؤية بمعنى العلم.

والمعنى : حقا إن الإنسان ليتعاظم ويتكبر ويتمرد على الحق ، لأنه رأى نفسه ذا غنى في المال والجاه والعشيرة ، ورآها ـ لغروره وبطره ـ ليست في حاجة إلى غيره.

والمراد بالإنسان هنا : جنسه ؛ لأن من طبع الإنسان أن يطغى ، إذا ما كثرت النعم بين يديه ، إلا من عصمه الله ـ تعالى ـ من هذا الخلق الذميم ، بأن شكره ـ سبحانه ـ على نعمه ، واستعملها في طاعته.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٥٩.

(٢) راجع تفسير جزء عم ص ٩٤.

٤٥٥

وقيل المراد بالإنسان هنا : أبو جهل ، وأن هذه الآيات وما بعدها حتى آخر السورة قد نزلت في أبى جهل ، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة ، لأطأن على عنقه ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لئن فعل لأخذته الملائكة» .. (١). ونزول هذه الآيات في شأن أبى جهل لا يمنع عموم حكمها ، ويدخل في هذا الحكم دخولا أوليا أبو جهل ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) تهديد ووعيد لهذا الطاغي ، والرّجعى : مصدر بمعنى الرجوع. تقول : رجع إليه رجوعا ومرجعا ورجعي بمعنى واحد.

والمعنى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ مما تفوه به هذا الطاغي وأمثاله ، فإن إلى ربك وحده مرجعهم ، وسيشاهدون بأعينهم ما أعددناه لهم من عذاب مهين ، وسيعلمون حق العلم أن ما يتعاظمون به من مال ، لن يغنى عنهم من عذاب الله شيئا يوم القيامة.

ثم عجّب ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حال هذا الشقي وأمثاله ، فقال : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى). فالاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَرَأَيْتَ ...) للتعجيب من جهالة هذا الطاغي ، وانطماس بصيرته ، حيث نهى عن الخير ، وأمر بالشر ، والمراد بالعبد : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنكيره للتفخيم والتعظيم.

أى : أرأيت وعلمت ـ أيها الرسول الكريم ـ حالا أعجب وأشنع من حال هذا الطاغي الأحمق ، الذي ينهاك عن إقامة العبادة لربك الذي خلقك وخلقه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) خطاب آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : أرأيت ـ أيها الرسول الكريم ـ إن صار هذا الإنسان ـ الطاغي الكافر ـ على الهدى ، فاتبع الحق ، ودعا إلى البر والتقوى ... أما كان ذلك خيرا له من الإصرار على الكفر ، ومن نهيه إياك عن الصلاة ، فجواب الشرط محذوف للعلم به.

فالمراد بالهدى : اهتداؤه إلى الصراط المستقيم ، والمراد بالتقوى : صيانة نفسه عن كل ما يغضب الله ـ تعالى ـ ، وأمره غيره بذلك.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ص ٧ ص ٤٦٠.

٤٥٦

أى : أرأيت ـ أيها الرسول الكريم ـ إن كذب هذا الكافر بما جئته به من عندنا ، وتولى وأعرض عما تدعوه إليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين. أرأيت إن فعل ذلك ، أفلا أرشده عقله إلى أن خالق هذا الكون يراه ، وسيجازيه بما يستحقه من عذاب مهين؟.

فالمقصود من هذه الآيات الكريمة التي تكرر فيها لفظ «أرأيت» ثلاث مرات : تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتعجيبه من حال هذا الإنسان الطاغي الشقي ، الذي أصر على كفره. وآثر الغي على الرشد. والشرك على الإيمان .. وتهديد هذا الكافر الطاغي بسوء المصير ، لأن الله ـ تعالى ـ مطلع على أعماله القبيحة ... وسيعاقبه العقاب الأكبر.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فأين جواب الشرط ـ أى في قوله ـ تعالى ـ : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى)؟ قلت : هو محذوف تقديره : إن كان على الهدى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.

فإن قلت : فكيف صح أن يكون «ألم يعلم» جوابا للشرط؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمنى؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ردع وزجر لهذا الكافر الطاغي الناهي عن الخير ، ولكل من يحاول أن يفعل فعله.

والسفع : الجذب بشدة على سبيل الإذلال والإهانة ، تقول : سفعت بالشيء ، إذا جذبته جذبا شديدا بحيث لا يمكنه التفلت أو الهرب ... وقيل : هو الاحتراق ، من قولهم : فلان سفعته النار ، إذا أحرقته وغيرت وجهه وجسده. والناصية : الشعر الذي يكون في مقدمة الرأس. أى : كلا ليس الأمر كما فعل هذا الإنسان الطاغي ، ولئن لم يقلع عما هو فيه من كفر وغرور ، لنقهرنه ، ولنذلنه ، ولنعذبنه عذابا شديدا في الدنيا والآخرة.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) يشعر بالأخذ الشديد ، والإذلال المهين ، لأنه كان من المعروف عند العرب ، أنهم كانوا إذا أرادوا إذلال إنسان وعقابه ، سحبوه من شعر رأسه.

والتعريف في الناصية ، للعهد التقديري. أى : بناصية ذلك الإنسان الطاغي ، الذي كذب وتولى ، ونهى عن إقامة الصلاة.

وقوله ـ تعالى ـ : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) بدل من الناصية ، وجاز إبدال النكرة من المعرفة ، لأن النكرة قد وصفت. فاستقلت بالفائدة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٧٨.

٤٥٧

وخاطئة : اسم فاعل من خطئ فلان ـ كعلم ـ فهو خاطئ وهو الذي يأتى الذنب متعمدا ، ووصفت الناصية بأنها خاطئة مبالغة في تعمد هذا الإنسان لارتكاب المنكر ، على حد قولهم : نهار صائم ، أى : صائم صاحبه ، ولأن الناصية هي مظهر الغرور والكبرياء.

أى : لئن لم ينته هذا الفاجر المغرور عن كفره ... لنذلنه إذلالا شديدا ... ولنسحبنه إلى النار من ناصيته التي طالما كذبت بالحق ، وتعمدت ارتكاب المنكر ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) رد على غروره وتفاخره بعشيرته ، فقد جاء في الحديث الشريف أن أبا جهل عند ما نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة ، نهره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزجره وأغلظ له القول ... فقال أبو جهل : أتهددني يا محمد وأنا أكثر هذا الوادي ناديا ، فأنزل الله ـ سبحانه ـ : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ).

وأصل النادي : المكان الذي يجتمع فيه الناس للحديث ، ولا يسمى المكان بهذا الاسم إلا إذا كان معدا لهذا الغرض ، ومنه دار الندوة ، وهي دار كان أهل مكة يجتمعون فيها للتشاور في مختلف أمورهم ، وسمى بذلك لأن الناس يندون إليه ، أى : يذهبون إليه ، أو ينتدون فيه ، أى : يجتمعون للحديث فيه. يقال : ندا القوم ندوا ـ من باب غزا ـ إذا اجتمعوا.

والأمر في قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَدْعُ) للتعجيز ، والكلام على حذف مضاف. أى : فليدع هذا الشقي المغرور أهله وعشيرته لإيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمنعه من الصلاة ، إن قدروا على ذلك ، فنحن من جانبنا سندع الزبانية ، وهم الملائكة الغلاظ الموكلون بعقاب هذا المغرور وأمثاله.

ولفظ الزبانية في كلام العرب : يطلق على رجال الشرطة الذين يزبنون الناس ، أى : يدفعونهم إلى ما يريدون دفعهم إليه بقوة وشدة وغلظة ، جمع زبنيّة ، وأصل اشتقاقه من الزّبن ، وهو الدفع الشديد ، ومنه قولهم : حرب زبون ، إذا اشتد الدفع والقتال فيها ، وناقة زبون إذا كانت تركل من يحلبها.

والمقصود بهاتين الآيتين ، التهكم بهذا الإنسان المغرور ، والاستخفاف به وبكل من يستنجد به ، ووعيده بأنه إن استمر في غروره ونهيه عن الصلاة فسيسلط الله ـ تعالى ـ عليه ملائكة غلاظا شدادا. لا قبل له ولا لقومه بهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ردع آخر لهذا الكافر عن الغرور والبطر والطغيان ، وإبطال لدعواه أنه سيدع أهل ناديه ، وتأكيد لعجزه عن منع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة.

أى : كلا ليس الأمر كما قال هذا المغرور من أن أهله وعشيرته سينصرونه ، وسيقفون إلى

٤٥٨

جانبه في منعك أيها الرسول الكريم ـ من الصلاة ، فإنهم وغيرهم أعجز من أن يفعلوا ذلك ، وعليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تمضى في طريقك وأن تواظب على أداء الصلاة في المكان الذي تختاره ، ولا تطع هذا الشقي ، فإنه جاهل مغرور ، واسجد لربك وتقرب إليه ـ تعالى ـ بالعبادة والطاعة ، وداوم على ذلك.

فالمقصود بهذه الآية الكريمة ، حض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المداومة على الصلاة في الكعبة ، وعدم المبالاة بنهي الناهين عن ذلك ، فإنهم أحقر من أن يفعلوا شيئا ...

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٥٩
٤٦٠