هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

مجاز تنزيلا للقوّة القريبة منزلة الفعليّة كما مرّ ، فكيف يجوز استعماله في الحدّ مع ما اشتهر بينهم من عدم جواز استعمال الألفاظ المشتركة والمجازات في الحدود والتعريفات؟

فأجاب بأنّ إطلاق العلم على المعنى المذكور شائع في الاستعمالات متداول في الإطلاقات ، فيكون إمّا حقيقة عرفيّة أو مجازا شائعا ، وعلى الأوّل لا إشكال ، وكذا على الثاني ، إذ المقصود ممّا ذكروه المنع من استعمال ما قد يخفى دلالته على المقصود ، إذ المقصود من الحدود الإيضاح وتفهيم المخاطبين حين التعريف وهو قد لا يحصل بذلك ، ومن البيّن أنّ اللفظ المذكور بعد انضمام القرينة إليه ليس من هذا القبيل ، فتأمّل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ إطلاق العلم على مجرّد الملكة ـ كما هو ظاهر العبارة ـ غير ظاهر في الإطلاقات الشائعة ، وإنّما يطلق غالبا على الملكة مع حصول فعليّة معتدّ بها حسبما أشرنا إليه ، فلا تغفل.

قوله : (بحمل العلم على معناه الأعمّ ... الخ)

يرد عليه : أنّه لا ظنّ بالأحكام الواقعيّة في معظم المسائل الفرعيّة ، فكما أنّ طريق العلم بالأحكام الواقعيّة مسدود في الغالب (١) كذا لا طريق إلى الظنّ بها في كثير من المسائل ، وإنّما المرجع في معرفة الأحكام إلى الأدلّة الشرعيّة والأخذ بمقتضاها ، أفادت الظنّ بالواقع أولا ، ألا ترى أنّ أصالة البراءة والاستصحاب إنّما يفيدان ثبوت الحكم في الظاهر ، واللازم البناء عليهما حتّى يثبت الخلاف ، ولا دلالة فيهما على الواقع في الغالب ولو على سبيل الظنّ ، وعلى فرض حصول الظنّ هناك فهو من الامور الاتّفاقيّة وليست حجّيّتهما مبنيّة عليه ، كما سيجيء تفصيل القول فيهما إن شاء الله تعالى.

وكذا الكلام في كثير من الآيات والأخبار ، ألا ترى أنّه يحكم بمقتضى العمومات والإطلاقات والظواهر والقواعد المقرّرة مع الشكّ فيما يوجب الخروج

__________________

(١) في المطبوع (١) : الأغلب.

٨١

عنها ، إمّا لورود بعض الأخبار الضعيفة أو غيرها ممّا لا يثبت به خلافها ، ومن البيّن أنّه مع الشكّ فيه لا يبقى ظنّ بذلك الظاهر في المقامات المذكورة مع أنّها حجّة شرعيّة ، لحجيّة استصحاب البناء على الظاهر المفروض حتّى يتبيّن خلافه من غير خلاف فيه بين الاصوليّة والأخباريّة كما سيقرّر في محلّه إن شاء الله ، إلى غير ذلك ممّا سيجيء بيانه في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى ؛ فيلزم خروج الأحكام المذكورة عن الفقه مع أنّ كثيرا من مسائله من هذا القبيل.

وقد يورد عليه أيضا بأنّه ينافي ما مرّ من حمل «العلم» على الملكة نظرا إلى ابتناء ما ذكر على كون العلم بمعنى الإدراك ، فيحمل على ما يعمّ الإدراك العلمي والظنّي ، والملكة لا تكون علميّة ولا ظنّية.

ويدفعه : أنّه ليس المراد من العلم مجرّد الملكة كما مرّت الإشارة إليه ، بل إنّما يراد بها ملكة الإدراك أو التصديق ، فيحمل ذلك الإدراك أو التصديق على ما يعمّ العلم والظنّ. نعم إن حمل على الملكة المجرّدة كما قرّرناه على فرض حمل الأحكام على التصديقات لم يتّجه ذلك ، وحينئذ يجري الإيراد والتوجيه المذكوران في الأحكام ، فتحمل على ما يعمّ التصديقات العلميّة والظنّية.

وقد يورد أيضا بلزوم سبك المجاز من المجاز ، إذ يراد أوّلا من العلم مطلق الرجحان الشامل له وللظنّ إطلاقا للأخصّ على الأعمّ ، ثمّ ينتقل من ذلك إلى إرادة ملكته تنزيلا للقوّة القريبة منزلة الفعليّة.

ويدفعه : أنّه يمكن الانتقال من معناه الحقيقي ـ أعني الإدراك اليقيني ـ إلى ملكة الإدراك الأعمّ من غير حاجة إلى توسّط مجاز آخر في الانتقال إليه لمشاركته للعلم في ظهور المدرك من جهته ، فإنّ وضوحه من جهة العلم إنّما يكون به ، وفي الملكة المذكورة من جهة كونها باعثة على حصول العلم أو الظنّ الباعث على الانكشاف في الجملة.

وما قد يقال : من أنّ حمل العلم على المعنى الأعمّ يوجب إدراج القطعيّات في الفقه مع أنّها خارجة عنه ، ولذا لا يتعلّق بها الاجتهاد كما ينطق به حدّه ، حيث

٨٢

أخذوا فيه الظنّ فلا يطّرد الحدّ ؛ ولذا اختار شيخنا البهائي رحمه‌الله في الزبدة في الجواب عن الإيراد المذكور حمل العلم على خصوص الظنّ.

مدفوع بأنّ إخراج القطعيّات مطلقا عن الفقه ممّا لا وجه له أصلا ، كيف! والاجتهاد قد ينتهي إلى اليقين ، وأيضا صدق «الفقيه» على أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ممّا لا كلام فيه ، مع أنّهم كانوا يأخذون الأحكام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بالمشافهة ، ولا يتصوّر ظنّ في شأنهم في كثير من المسائل ، وعلومهم اليقينيّة الثابتة بنصّ المعصوم عليه‌السلام من الفقه قطعا ، فكيف يعقل إخراج القطعيّات عنه مطلقا؟ نعم القطعيّات الّتي هي من ضروريات الدين خارجة عنه حسب ما مرّ ، وأمّا غيرها فهي مندرجة فيه ، إلّا أنّها ممّا لا يتعلّق بها الاجتهاد.

وتوضيح المقام : أنّ القطعيّات إمّا أن تكون من ضروريّات الدين ، أو من ضروريّات المذهب ، أو القطعيّات الغير الواصلة إلى حدّ الضرورة إلّا أنّها ثابتة في الدين أو المذهب على سبيل اليقين بالنظر أو غيره بحيث لا مجال فيها للاجتهاد ؛ وإمّا أن تكون من المسائل الظنّية إلّا أنّه اتّفق انتهاء الأمر فيها إلى القطع للبعض.

فالاولى خارجة عن الفقه وليست من متعلّقات الاجتهاد قطعا.

والأخيرة مندرجة في الفقه قطعا ، والظاهر كونها من متعلّقات الاجتهاد أيضا ، إذ انتهاء الأمر في المسائل الاجتهاديّة إلى القطع أحيانا لا يخرجها عن كونها اجتهاديّة ، ولا كون بذل الوسع فيها اجتهادا ؛ وأخذ الظنّ في حدّه لا ينافيه ، إذ المعوّل عليه في المسائل الظنّية هو الظنّ ، إذ هو المتوقّع حصوله بعد الاجتهاد في الأدلّة ، وحصول اليقين على سبيل الاتّفاق لا ينافي كون بذل الوسع فيه لتحصيل الظنّ كما سيجيء الكلام فيه في محلّه إن شاء الله. وأمّا المراتب المتوسّطة : فالظاهر إدراج الجميع في الفقه كما مرّ. والأظهر عدم تعلّق الاجتهاد بشيء منها كما هو ظاهر من حدّه ، وسيجيء الإشارة إليه في محلّه إن شاء الله.

وبالجملة : المسائل الفقهيّة عندنا قسمان : أحدهما : المسائل القطعيّة الّتي لا مجال للتأمّل فيها من العارف الناظر في أدلّتها. وثانيهما : المسائل الظنّية الّتي

٨٣

لا يتوقّع فيها زيادة على الظنّ وإن اتّفق فيها تحصيل العلم أحيانا. ومتعلّق الاجتهاد إنّما هو القسم الثاني ؛ ولذا اخذ الظنّ في حدّه حيث إنّه المتوقّع فيه أو للاكتفاء فيه بذلك دون الأوّل ؛ ولذا يمضي قضاياه وأحكامه هنا وإن أخطأ فيها بخلاف تلك الصورة حيث ينقض حكمه مع خطئه فيها حسب ما قرّر في محلّه.

وما ذكروه من جواز التجزّي في الاجتهاد وعدمه إنّما هو في الثاني ، وأمّا القطعيّات فلا مجال للتأمّل في إمكان حصول العلم بها لغير المجتهد أيضا.

فدعوى الملازمة بين العلم ببعض الفقه والاجتهاد ممنوعة لا شاهد عليها ، بل فاسدة حسب ما قرّرناه. فالاستناد في عدم كون القطعيّات من الفقه إلى انتفاء الاجتهاد فيها ـ كما صدر من بعض الأعلام ـ كما ترى!

قوله : (وأمّا ما يقال : من أنّ الظنّ في طريق الحكم ... الخ)

قد يتراءى تدافع بين الكلامين ، إذ بعد فرض كون الطريق ظنّيا لا يعقل كون الحكم قطعيّا ، ضرورة تبعيّة المدلول في ذلك للدليل.

ويدفعه : أنّه أراد بذلك ظنّيته في نفسه لا مطلقا.

وملخّص تقرير الجواب : إنّا نختار حمل «العلم» على معناه الظاهر ، وما ذكر من أنّ أدلّة الفقه ظنّية غالبا فيتبعها الأحكام المدلول عليها بتلك الأدلّة ممنوع ، إذ أدلّة الفقه ظنّية بملاحظة أنفسها ، وأمّا بملاحظة ما دلّ على حجّية تلك الظنون ووجوب العمل بها قطعيّة ، فظنّية الطريق في نفسه لا تنافي علميّة الحكم من جهة قيام الدليل القاطع على ثبوت الحكم على المكلّف بمقتضى ما دلّ عليه ذلك الطريق ، فالدليل القاطع على ذلك الحكم هو الدليل المذكور بعد الملاحظة المذكورة ، فتلك الأدلّة ظنّية من جهة وقطعيّة من جهة اخرى ، ولا منافاة بين الوجهين ، فظنّيتها في نفسها لا ينافي قطعيّة الحكم من جهتها نظرا إلى ما ذكرنا.

قوله : (فضعفه ظاهر عندنا ... الخ)

يريد بذلك أنّ الجواب المذكور إنّما يتمّ على اصول الأشاعرة القائلين بالتصويب وتعدّد أحكامه تعالى في الواقع على حسب تعدّد آراء المجتهدين ،

٨٤

فيكون ظنّ كلّ مجتهد بالحكم كاشفا عن كون ذلك هو حكمه بحسب الواقع ، إذ حينئذ يتمّ التقرير المذكور ويكون كلّ مجتهد عالما بما هو حكم الله تعالى في حقّه بحسب الواقع. وأمّا على اصول الإماميّة على ما وردت به نصوصهم المتواترة عن أئمّتهم عليهم‌السلام من كون حكم الله تعالى في الوقائع واحدا بحسب الواقع وأنّ له تعالى في كلّ واقعة حكما مخزونا عند أهله ، أصابه من أصابه وأخطأه من أخطأه ، فلا وجه للكلام المذكور أصلا ، إذ لا تفيد الأدلّة المفروضة القطع بكون ذلك هو حكم الله تعالى في الواقع ، إذ المفروض احتمال الخطأ في الاستدلال ، بل ووقوعه قطعا بالنسبة إلى الآراء المختلفة فلا يعقل علمهم بحكمه تعالى مع فرض كون الطريق ظنيّا ، غاية الأمر أن يكون المخطئ مع عدم تقصيره في بذل الوسع معذورا ، فيجب عليه العمل بمؤدّى نظره وإن كان مخطئا ، وأين ذلك من العلم بأحكامه تعالى كما هو المدّعى.

ويضعّفه : أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ لو كان مبنى الجواب على حمل «الأحكام» في الحدّ على الأحكام الواقعيّة ، كما هو الظاهر من كلام المصنّف رحمه‌الله. وأمّا لو كان مبنيّا على حمل «الأحكام» على الظاهريّة التكليفيّة فلا ، إذ من الواضح اختلافها باختلاف الآراء ، للقطع بتكليف كلّ مجتهد ومقلّديه بما أدّى إليه ظنّه ، وهي أيضا أحكام شرعيّة متعلّقة لخطاب الشرع ، غاية الأمر أنّها على فرض مخالفتها للواقع أحكام ثانويّة ، وهي أيضا مطابقة للواقع على الوجه المذكور.

وكشف الحال : أنّ هناك حكمين : حكم واقعي وهو الذي كلّفنا به أوّلا لو لا جهل المكلّف المانع من تعلّق التكليف به ، وحكم ظاهريّ وهو الّذي يجب علينا البناء عليه والتعبّد به في ظاهر الشرع بمقتضى الأدلّة الشرعيّة ، سواء علمنا مطابقته للأوّل أو ظننّاه أو شككنا فيه أو ظننّا خلافه أو ولو علمنا المخالفة كما في بعض الفروض ، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

والفقه بحسب الاصطلاح هو الثاني ، والعلم به يحصل عن الأدلّة الشرعيّة الّتي قرّرها صاحب الشريعة وأوجب علينا العمل بمؤدّاها وهي الأدلّة التفصيليّة

٨٥

المذكورة في الحدّ. فعلم بذلك أنّ تفسير الأحكام بالظاهريّة يعمّ الواقعيّة أيضا ، فلا حاجة إلى حملها على الأعمّ من الظاهريّة والواقعيّة كما في كلام بعض الأفاضل ، بل لا يخلو ظاهر ما ذكره عن مناقشة ، كما لا يخفى.

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكر فلا فرق بين المصوّبة والمخطّئة ، إذ المفروض مطابقة الحكم المذكور للواقع أيضا وإن كان مخالفا للحكم الأوّل ، غاية الأمر أن يكون الثاني ثانويّا ، ولا شكّ أنّ الأحكام الواقعيّة ليست كلّها أوّليّة ، لاختلاف الأحكام الواقعيّة باختلاف الأحوال كالقدرة والعجز والصحّة والمرض والحضر والسفر وغيرها من الامور الطارئة على المكلّف.

قلت : فرق بيّن بين الأمرين ، فإنّ مطلوب الشارع في المقام حقيقة هو الأوّل وإنّما تعلّق التكليف بالأخير في الظاهر نظرا إلى اشتباه المكلّف.

وتحقيقه : أنّ الحسن أو القبح الحاصل من جهة نفس الفعل إمّا بملاحظة ذاته أو سائر اعتباراته ـ ولو بانضمام تعلّق الأمر به ـ هو الحكم الواقعي ، وأمّا الحسن أو القبح الطارئ عليه أو على تركه من جهة اشتباه المكلّف وغفلته عمّا هو عليه أو عدم إمكان وصوله إليه من غير أن يكون لنفس الفعل أو الترك أو بعض اعتباراتهما بعث عليه فهو الظاهري المفارق للواقعي ، وبين الأمرين بون بعيد ، إذ الحكم بالامتثال في الأخير إنّما يكون مع بقاء الغفلة والجهل ، وأمّا بعد ظهور الحال فلا امتثال لما هو مطلوب الآمر ، فكلّ من التكليف الظاهريّ المفروض والحكم بحصول الامتثال لو أتى بالفعل إنّما يستمرّ باستمرار الجهل ، وأمّا بعد انكشاف الخلاف فيرجع الأمر إلى التكليف الأوّل ، فإن كان الوقت باقيا وجبت الإعادة بمقتضى الأصل لبقاء التكليف ووجوب الامتثال ، وإن كان فائتا وجب القضاء لو دلّ دليل على وجوب القضاء لصدق الفوات.

فإن قلت : كيف يصحّ القول بعدم تحقّق الامتثال مع تعلّق التكليف بما أتى به من الفعل قطعا؟ فيكون الإتيان به قاضيا بالإجزاء محصّلا للطاعة والامتثال بلا امتراء.

٨٦

قلت : لا شكّ في حصول الإطاعة بأداء ما ثبت وجوبه في الشرع ، وكذا في حصول العصيان بتركه وإن لم يكن مطابقا للواقع ، لكن نقول : إنّ كلّا من الطاعة والمعصية قد يحصل بالإتيان بما هو مطلوب الآمر على جهة الوجوب أو تركه مثلا ، وقد يحصل بأداء ما يعتقد كونه كذلك من الطريق الّذي قرّره الشارع أو بتركه كذلك مع انتفاء المطابقة. إلّا أنّ هناك فرقا بين الصورتين ؛ وذلك أنّه كما يكون فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه مطلوبا للآمر مرادا له كذا الإتيان بما يعتقده طاعة من حيث إنّه طاعة وترك المخالفة من حيث إنّها كذلك مطلوب لديه ؛ لما دلّ من الدليل القاطع أو المنتهي إليه على الرجوع إلى الطريق المفروض ، فإذا فرض موافقة ما أتى به للواقع كان الحسن فيه من جهتين ، وكذا القبح في صورة المخالفة، ومع انتفاء المطابقة فلا حسن ولا قبح إلّا من الجهة الأخيرة كما هو الحال في التكاليف الاختبارية ، فإنّ الحسن أو القبح فيها ليس إلّا من جهة تعلّق الأمر أو النهي بحسب الظاهر ؛ فكما أنّه بعد انكشاف الحال يظهر أن لا وجوب ولا تحريم للفعل في نفسه كذا في المقام وإن حصل الامتثال أو العصيان من جهة الموافقة أو المخالفة المفروضة ، فإذا انكشف الخلاف تبيّن عدم الإتيان بما هو مطلوب الآمر ، فيجب تداركه بالإعادة أو القضاء على فرض ثبوت القضاء فيه ؛ وكذا الحال لو كان الاشتباه في الموضوع.

فالحال في التكاليف الظاهريّة للمجتهد من جهة اشتباهه في الأحكام نظير الحال في التكاليف الاختباريّة. ومن التأمّل في ذلك يتّضح حقيقة المرام في المقام ، وليست التكاليف الاختباريّة تكاليف صوريّة مجازيّة خالية عن حقيقة التكليف ، كما يظهر من جماعة من الأعلام ، وسيجيء بيانه في المحلّ اللائق به.

فصار المحصّل أنّ الواجب أو الحرام الواقعي هو ما كان مطلوبا للشارع أو مبغوضا له في نفسه ، والظاهري هو ما يكون كذلك بحسب اعتقاد المكلّف ، نظرا إلى الطريق الذي قرّره المكلّف له وأوجب الأخذ به من حيث كونه موصلا إلى الواقع ، فإن تطابقا فقد اجتمع الحكمان وإلّا حصل الافتراق من الجانبين ؛ فالحكم

٨٧

بوجوب العمل بمؤدّى الدليل إنّما يكون في الغالب من حيث كونه طريقا موصلا إلى الواقع ، فإذا انكشف الخلاف تبيّن عدم حصول الامتثال وأداء التكليف ، نظرا إلى انتفاء الحيثيّة المذكورة وعدم حصول ما هو مطلوب الشارع. لكن لا يخرج بذلك الفعل الواقع قبل الانكشاف عن كونه متعلّقا للتكليف مرادا للشارع [لوقوعه حال تعلّق التكليف به كذلك ، إلّا أنّه بعد ظهور الحال يكون التكليف المتعلّق به على نحو التكاليف الاختباريّة حسبما أشرنا إليه](١) وتفصيل الكلام في هذا المرام ممّا لا يسعه المقام ، ولعلّنا نفصّل القول فيه في مقام آخر.

إذا تقرّر ذلك فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : قد عرفت أنّ الأحكام الظاهريّة مع المخالفة للواقع واقعيّة أيضا بوجه وإن لم تكن واقعيّة بمعناها الظاهر ، والفقه هو العلم بتلك الأحكام ، وهي أحكام شرعيّة مستفادة من الأدلّة التفصيليّة سواء طابقت الحكم الأوّل أو لا.

فإن قلت : إنّ العلم بالأحكام الظاهريّة إنّما يحصل من الدليل الإجمالي دون الأدلّة التفصيليّة ، فإنّ أقصاها إفادة الظنّ بالحكم.

قلت : إنّ تلك الأدلّة ليست مفيدة لليقين بملاحظة أنفسها ، وأمّا بملاحظة الدليل القاطع أو المنتهي إلى القطع القاضي بحجّيتها فهي تفيد اليقين قطعا من غير حاجة إلى ملاحظة الدليل الإجمالي المفروض ، بل ذلك الدليل الإجمالي إجمال لذلك التفصيل ، فتأمّل(٢).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المطبوع (١).

(٢) إشارة إلى ما قد يورد في المقام من جريان ذلك بالنسبة إلى المقلّد أيضا ، فإنّ كلّ واحد من فتاوى مجتهده دليل تفصيلي له نظرا إلى قيام الدليل القاطع على كون ذلك حجّة عليه. ويدفعه : ما عرفت في بيان معنى التفصيليّة.

فإن قلت : إنّ الأدلّة التفصيلية بالنظر إلى الواقع لا تفيد بما فيها سوى الظنّ ، وبالنظر إلى الظاهر أنّها تفيد العلم من جهة إجماليّة جارية في جميع المسائل ، أي من حيث كونه حكم الله في شأنه وشأن مقلّده ، فكيف تعدّ تفصيليّة على الوجه المذكور من حيث إفادتها للعلم بالأحكام؟ ـ

٨٨

فإن قلت : لا زال الفقهاء يخطّئ بعضهم بعضا ويخالف بعضهم آخر ويقيم كلّ منهم الأدلّة على إثبات مطلوبه وتخطئة صاحبه ، ومن البيّن أنّ ما اختلفوا فيه هو المطالب الفقهيّة والمسائل المبحوث عنها في تلك الصناعة ، والفقه اسم لتلك المطالب النظريّة المتداولة بينهم ، وظاهر أيضا أنّه ليس الاختلاف الواقع بينهم بالنسبة إلى الحكم الظاهري ضرورة اتّفاق الكلّ على تعدّده بحسب تعدّد آراء المجتهدين واختلافه بحسب اختلاف ظنونهم ؛ للإجماع على وجوب أخذ كلّ منهم بظنّه وعدم جواز أخذه بقول الآخر وإن اعتقد كلّ منهم تخطئة صاحبه ، فليس اختلافهم إلّا بالنسبة إلى الحكم الواقعي الثابت في نفسه مع قطع النظر عن ثبوته في حقّه بخصوصه وحقّ مقلّده ، فلا يكون الأحكام الفقهيّة إلّا بالنظر إلى الواقع ، فكيف يحمل «الأحكام» على الظاهريّة؟

قلت : كون المبحوث عنه هو الأحكام الواقعيّة لا ينافي أن يكون الفقه هو الأحكام الظاهريّة ، فالأحكام الفقهيّة الحاصلة للمجتهد من حيث وجوب الأخذ بها والحكم بمقتضاها تكون فقها ، وهي بهذه الحيثيّة تكون معلومة للفقيه مقطوعا بها عنده ، ومن حيث مطابقتها للواقع أو لمقتضى الأدلّة الشرعيّة تكون ظنيّة في الغالب موردا للاختلاف ، وبهذه الحيثيّة تكون متعلّقة للاجتهاد. فوقوع الخلاف في المسائل الفقهيّة وكون المنظور حين الاستدلال هو الوصول إلى الواقع أو إصابة ما هو مقتضى الأدلّة الموجودة لا يقضي بكون الملحوظ في صدق الفقه هو الأحكام الواقعيّة ، بل لمّا كان ثبوت الحكم في الظاهر منوطا بظنّ موافقته للواقع أو لمقتضى الأدلّة الشرعيّة أو القطع بها مع إمكانه كان الملحوظ هناك حال الواقع أو مؤدّى الدليل ، فوقع (١) الاختلاف فيها من تلك الجهة وإن كانت من حيث وجوب الأخذ بها وثبوتها على المكلّف بحسب الشرع فقها وكانت معلومة للفقيه ، فالجهة الاولى

__________________

ـ قلت : يكفي الملاحظة المذكورة في كونها تفصيليّة إن كانت إفادتها العلم من جهة إجماليّة ، إذ ليس في العبارة ما يفيد كونها تفصيلية من كلّ جهة. (منه أعلى الله مقامه).

(١) في المطبوع (١) : فوقوع.

٨٩

حيثيّة الاجتهاد ، والثانية حيثيّة الفقاهة ، والجهة الاولى مقدّمة على الثانية.

ويؤيّد ما ذكرناه : أنّ الفقه في ظاهر كلماتهم اسم للعلم بالأحكام الشرعيّة عن الأدلّة، أو للأحكام المستنبطة عن الأدلّة من حيث كونها كذلك وإن قلنا بكون سائر أسامي العلوم موضوعة لنفس المسائل ؛ ولذا أخرجوا علوم الملائكة والأنبياء والأئمّة عن الفقه نظرا إلى ما مرّ مع وضوح علمهم بأحكام الشريعة (١) على أتمّ وجه ، فيكون جهة تعلّق العلم بها على الوجه المذكور معتبرة في صدق الفقه ، وهي حيثيّة الفقاهة حسب ما قرّرنا.

وأيضا ما حصل عند المجتهدين من الأدلّة التفصيليّة فقه عندهم مع اختلافهم في إصابة الواقع وعدمه والقطع بعدم إصابة بعضهم ، سواء جعلنا الفقه اسما لنفس العلوم المفروضة أو للمعلومات من حيث تعلّق العلم المفروض بها ، فيكون ذلك شاهدا على اختلاف حيثيّة الفقاهة للحيثيّة الّتي يقع الخلاف من جهتها في المسائل الفقهيّة.

وقد أجاب بعض الأفاضل عن الإشكال المتقدّم بوجهين آخرين حيث قال : إنّ ظنّية المدرك لا يستلزم ظنّية الإدراك ، والمدرك المظنون إنّما هو حكم الله الظاهريّ ، ولا ريب أنّ إدراكه علميّ ، فحاصل التعريف : أنّ الفقه هو العلم بالمظنونات عن أدلّتها. وإن أبيت عن ذلك مع وضوحه فهذا التوهّم إنّما يرد إذا جعلنا كلمة المجاوزة في التعريف متعلّقا بالعلم ، وأمّا إن جعلناها متعلّقة بالأحكام وقلنا بكونه ظرفا مستقرّا صفة للأحكام ويجعل الاحتراز عن علم الله والملائكة بقيد الحيثيّة المعتبرة في الحدود فلا محذور ، فكلامنا المتقدّم في تعلّقها بالعلم إنّما كان جريا على مذاق القوم ، انتهى.

ولا يذهب عليك ضعف الجوابين المذكورين.

أمّا الأوّل ، ففيه : أوّلا : أنّه لا ربط له بالإيراد المذكور ولا دخل له في دفعه ، إذ المذكور فيه كون العلم بها غير حاصل عن الأدلّة التفصيلية وإنّما يحصل عن

__________________

(١) في مصحّحة المطبوع (١) : بالأحكام الشرعيّة.

٩٠

الدليل الإجمالي كالمقلّد ، فهذا الجواب غير مرتبط به. نعم ، لو أورد عليه بالتنافي بين تعلّق العلم والظنّ به صحّ الجواب عنه بما ذكر.

وثانيا : أنّه إن أراد بقوله : «إنّ ظنّية المدرك لا يستلزم ظنّية الإدراك» أنّه لا يستلزم ظنّية الإدراك المتعلّق به فهو بيّن الفساد ، لوضوح الملازمة بين الأمرين ، وإن أراد أنّه لا يستلزم ظنّية إدراكه بإدراك آخر فهو كذلك ، إلّا أنّه ليس هناك إدراكان متعلّقان بالأحكام الظاهريّة حتى يكون أحدهما مظنونا والآخر مقطوعا.

وكأنّ ما ذكره مبنيّ على أن يراد بالحكم الظاهريّ هو الواقعيّ المظنون ، فتكون المظنونيّة مأخوذة في الأحكام ، فالمعنى : أنّ الفقه هو العلم بالأحكام الواقعيّة المظنونة عن أدلّتها التفصيليّة ، وهو فاسد ، لإفادته العلم بأصل النسبة مع فرض مظنونيّتها ، وهو مع اشتماله على التدافع خلاف المدّعى ، فلا بدّ من التأويل بإرادة العلم بمظنونيّتها.

وفيه ـ مع ما فيه من التعسّف ـ أنّه غير حاصل عن الأدلّة التفصيليّة ، بل هو حاصل من الضرورة الوجدانيّة ، وقد نصّ في كلامه على جعل كلمة المجاوزة من متعلّقات العلم.

ولو اوّل ذلك بكون العلم به حاصلا عن الأدلّة ولو بالواسطة من جهة بعثها على حصول الظنّ القاضي بالعلم به على سبيل الضرورة ، فضعفه أظهر من أن يخفى.

وأيضا من الواضح : أنّ العلم بمظنونيّة الحكم ليس فقها في الاصطلاح ، إذ الفقه عبارة عن العلم بأحكامه تعالى وليست من الوجدانيّات التابعة لحصول المظنّة كما يتلخّص من كلامه ، وهو ظاهر. والظاهر أنّ ما ذكره نشأ عن غفلة في تفسير الحكم الظاهريّ ، والتحقيق فيه ما قدّمناه.

وإن أراد من العلم بالنسبة المظنونة العلم بوجوب العمل بها والبناء عليها ، ففيه مع مخالفته لظاهر كلامه ـ حيث إنّه جعله جوابا مستقلّا عن الايراد المشهور ، ولم يرتض به في ذلك المقام ـ أنّه ليس الفقه عبارة عنه ، إذ العلم بوجوب العمل بمؤدّى الاجتهاد من المسائل الاصولية أو يتلخّص منها ، وليس مندرجا في مسائل الفقه ،

٩١

فضلا عن كونه عين الفقه كما هو مقتضى التحديد.

وأمّا الثاني ، ففيه : أنّه ينتقض الحدّ بعلم المقلّد ، فإنّه إذا عرف فتاوى المجتهد فقد علم بالأحكام الحاصلة عن أدلّتها ، إذ كما يصدق ذلك على علم المجتهد بالأحكام الحاصلة(١) عنده ، كذا يصدق على علم مقلّده بتلك الأحكام الحاصلة عنده من غير فرق ، بل يصدق ذلك على علم الله سبحانه وعلم الملائكة والمعصومين بالأحكام الحاصلة عند المجتهد ؛ لصدق الحدّ المذكور عليه من غير ريب. وتوهّم خروجها باعتبار الحيثيّة المذكورة بيّن الفساد ، كما مرّت الإشارة إليه.

ولو سلّم إخراجه لعلوم المذكورين فإنّما يخرج به علمهم بنفس الأحكام ، وأمّا علمهم بالأحكام الحاصلة عند المجتهد فلا ، إذ اعتبار الحيثيّة المذكورة جارية فيها قطعا. نعم ، لو جعلت الحيثيّة المذكورة مرتبطة بالعلم صحّ ما ذكر ، لكنّه فاسد ، لعدم ارتباطها بالعلم أصلا ، إذ الحيثيّات المعتبرة في نظائر المقام هي المقرّرة لعنوان ما تقيّده والمبيّنة لاعتبار الوصف العنواني فيما اخذت فيه ؛ ولذا يدّعى فهمها من الإطلاق ، وهذا إنّما يعطي تقييد الأحكام دون العلم.

ثمّ إنّه صرّح أوّلا بحمل «الأحكام» على النسب ، فلا وجه إذا لجعل الظرف مستقرّا صفة له ، إذ ليست النسب حاصلة عن الأدلّة. نعم ، يمكن أن يجعل الظرف متعلّقا بالمظنونة الملحوظة في الأحكام بالتفسير الذي ذكره ، أو بالمستنبطة ونحوها من الأفعال الخاصّة ، وحينئذ لا يكون الظرف مستقرّا بمعناه المعروف ، مع ما فيه من البعد.

هذا ، وقد ظهر بما اخترناه في الجواب عن أصل الإيراد صحّة عدّ كلّ من أحكام المجتهدين وأقوالهم المتعدّدة في مسألة واحدة من الفقه مع القطع بالخطأ فيما يزيد على واحد منها وقيام احتمال الخطأ في كلّ من آحادها ، نظرا إلى كون كلّ من تلك الأحكام حكما ظاهريّا وقع التكليف به في الظاهر ، فالخطأ الواقع فقه أيضا ، والعالم به فقيه إذا علم بقدر يعتدّ به من الأحكام حسب ما مرّ وإن فرض

__________________

(١) في المطبوع (١) زيادة : عن أدلّتها.

٩٢

كون الجميع أو معظمها خطأ بملاحظة الواقع. هذا بالنسبة إلى فقهاء أهل الحقّ مع عدم التقصير في الاجتهاد.

وأمّا فقهاء أهل الخلاف فليسوا فقهاء عندنا على سبيل الحقيقة (١) وهو ظاهر مع تقصيرهم في تحصيل الحقّ. وأمّا لو فرض بذل وسعهم في ذلك فغاية الأمر القول بكونهم معذورين ، لا أنّهم مكلّفون شرعا بما أدّى إليه اجتهادهم ليكون ذلك حكما شرعيّا في شأنهم على نحو المخطئ من فقهاء أهل الحقّ ، كما هو ظاهر من اصول المذهب ، ويأتي تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله.

ولمّا كان هذا الكتاب (٢) موضوعا في الفقه وكان تعرضه لبيان الاصول من باب المقدّمة اقتصر المصنّف رحمه‌الله في المقام على بيان حدّ الفقه ، وحيث كان الملحوظ بالبحث عندنا هو الكلام في اصول الفقه فبالحريّ أن نشير إلى حدّه.

فنقول : قد جرت طريقة القوم على بيان معناه الإضافي والعلمي ، ومن البيّن أنّ المقصود في المقام هو الثاني ، وأمّا بيان الأوّل فإمّا لإبداء المناسبة بينه وبين معناه العلمي ، أو لدعوى انطباقه على المعنى العلمي بانحصار مفهومه الإضافيّ في الخارج بحسب المصداق في ذلك ، وهو الذي حاوله جماعة منهم ؛ ولذا جعلوا له حدّين : أحدهما بحسب معناه الإضافي ، والآخر بحسب معناه العلمي ، مشيرين بذلك إلى أنّ بيان معناه الإضافي تحديد بحسب الحقيقة لهذا الفنّ نظرا إلى الدعوى المذكورة ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه قد يدّعى كون لفظ «الاصول» حين إضافته إلى الفقه علما لهذا العلم ، على أن يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وهو الظاهر من صاحب الوافية. وقد يشير إليه ظاهر الإطلاقات ، إذ لا يبعد كون معنى الفقه مقصودا في استعمالات اصول الفقه.

__________________

(١) وإطلاق الفقهاء عليهم عندنا إنّما هو من جهة التسمية لهم نظير إطلاق الصلاة وسائر أسامي العبادات على أعمالهم ، ولا تجوّز إذا في الاستعمال كما سنشير إليه. (منه رحمه‌الله).

(٢) أي كتاب معالم الدين.

٩٣

وربّما يقال بكون معناه التركيبي مأخوذا في معناه الاصطلاحي ، بأن يكون قد خصّص معناه التركيبي ببعض مصاديقه ، فقد زيدت تلك الخصوصيّة في معناه الإضافي بالوضع الطارئ عليه من جهة التخصيص أو التخصّص ، كما قد يقال ذلك في لفظ «ابن عبّاس» وغيره ، فإنّ تعيين ابن عبّاس في عبد الله لا ينافي أن يكون كلّ من لفظة «ابن» و «عباس» مستعملا في معناه الحقيقي ، إذا كان التخصيص المذكور حاصلا من جهة غلبة إطلاق ذلك المركّب على خصوص ذلك الفرد ، فيكون قد تعيّن ذلك اللفظ بملاحظة معناه التركيبي لخصوص ذلك الفرد ، ويجري ذلك في لفظ «الرحمن» بعد اختصاصه به تعالى من جهة الوضع الطارئ ، فإنّ معناه الوصفي ملحوظ فيه أيضا ، وليس اسما لنفس الذات ، فالقول بمثل ذلك في لفظ «اصول الفقه» غير بعيد أيضا ؛ وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة معناه التركيبي في معناه العلمي أيضا.

وكيف كان ، فلنجري الكلام في المقام على حسب ما ذكروه.

فنقول : أمّا حدّه بحسب معناه الإضافي فيتوقّف على بيان أجزائه ، وقد مرّ الكلام في بيان الفقه ، والمراد به هنا هو المعنى الاصطلاحي.

والاصول : جمع أصل ، وهو في اللغة بمعنى ما يبتنى عليه الشيء ، سواء كان ابتناؤه عليه حسّيّا كما في أصل الحائط وأسفل الشجرة ، أو معنويّا كابتناء العلم بالمدلول على العلم بالدليل.

ويطلق في الاصطلاح ـ حسب ما نصّوا عليه ـ على معان عديدة ، منها : الأربعة المشهورة ، أعني : القاعدة والدليل والراجح والاستصحاب ، وفي كونه حقيقة بحسب الاصطلاح في كلّ من الأربعة المذكورة نظر.

وكيف كان ، فلا يلائم إرادة شيء منها في المقام سوى الدليل ، وهو أيضا لا ينطبق على شيء من مسائل الفنّ ، إذ أدلّة الفقه موضوع لهذا الفنّ ، ومن البيّن خروج موضوع كلّ فنّ عن ذلك الفنّ.

وقد يقال : إنّ المقصود من ذلك هو أدلّة الفقه من حيث إنّها أدلّة عليه ، لظهور

٩٤

ملاحظة الحيثيّة في نظائر تلك العبارة ، فيرجع المراد إلى دلالة تلك الأدلّة على الفقه ، وإثبات تلك الدلالات إنّما يكون في الاصول ، فمسائله هو ثبوت الدلالة لكلّ من تلك الأدلّة كدلالة الأمر على الوجوب والإجزاء ، والنهي على التحريم والفساد ، ودلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه ، ونحو ذلك.

يبقى الكلام في مباحث الاجتهاد والتقليد ، فإنّ البحث فيها ليس عن الأدلّة ، فيحتمل أن يكون ذكرها في الاصول على سبيل الاستطراد. ويمكن إدراج مباحث الاجتهاد فيه نظرا إلى أنّ البحث هناك عن حال المستدلّ ، وهو أيضا يرجع إلى أنّ دلالة تلك الأدلّة على ثبوت الأحكام الشرعيّة إنّما هي بالنسبة إلى من جمع تلك الشرائط المخصوصة ، فهو أيضا بحسب الحقيقة بحث عن حال الأدلّة.

وأنت خبير بأنّ أدلّة الفقه من حيث إنّها أدلّة عليه هي الموضوع لعلم الاصول ، فهي بتلك الحيثيّة أيضا خارجة عن الفنّ ، وملاحظتها من حيث دلالتها على الفقه لا تجعل الأدلّة عين الدلالة ؛ مضافا إلى الفرق البيّن بين أخذ الدلالة بالمعنى التصوّري وملاحظتها متعلّقا للحكم والتصديق ، والمأخوذ في المسائل إنّما هو الثاني ، ومدلول المركّب المفروض لا يزيد عن الأوّل ، فكيف ينطبق ذلك على مسائل الاصول؟ على أنّ أدلّة الفقه تشمل الأدلّة التفصيليّة المذكورة في علم الاستدلال ، بل أظهر فيها ، فكيف يدّعى انطباق المعنى الإضافي على فنّ الاصول كما ادّعوه حسب ما سيجيء الاشارة إليه.

فظهر بما قرّرنا : أنّ أخذ «الاصول» في المقام بمعنى الأدلّة ـ كما رجّحه جماعة من الأعلام ـ ليس على ما ينبغي ، سيّما إذا اريد تطبيقه على المعنى العلمي ؛ فالأولى حمل «الاصول» هنا على معناه اللغوي.

ثمّ إنّهم قالوا : إنّ هناك جزء ثالثا هو جزؤه الصوري أعني الإضافة ، وقالوا : إنّ إضافة اسم المعنى ـ يعني ما دلّ على معنى حاصل في الذات ، سواء دلّ معه على الذات كما في المشتقّات أو لا ـ يفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه

٩٥

في المعنى الذي عيّن له لفظ المضاف أعني وصفه العنواني ؛ وإنّما خصّصوا ذلك باسم المعنى ـ وإن كان إضافة اسم العين مفيدة للاختصاص عندهم ـ نظرا إلى عدم تعيّن ما به الاختصاص في تلك الأسماء ، فيختلف ذلك بحسب اختلاف الألفاظ كما في «دار زيد» و «حمار عمرو» ونحوهما ، بخلاف اسم المعنى ، فإنّ وجه الاختصاص متعيّن هناك ، فانّ قولك : «مكتوب زيد» و «مملوك عمرو» إنّما يفيد الاختصاص في وصفه العنواني أعني : المكتوبيّة والمملوكيّة. واستندوا في الدعوى المذكورة إلى تبادر ذلك بحسب العرف كما هو ظاهر من ملاحظة المثالين المذكورين ونحوهما ، فقالوا حينئذ : إنّ إضافة «الاصول» إلى «الفقه» تفيد اختصاص الاصول بالفقه في كونها اصولا له ، فيخرج عنه سائر العلوم ممّا يبتني عليه الفقه ، إذ ليست تلك العلوم ممّا يخصّ الفقه في توقّفه عليها ، لتوقّف غيره من العلوم أيضا عليها.

وأمّا علم الاصول وإن كان كثير من مسائله جاريا في غير الفقه أيضا إلّا أنّه لمّا كان تدوينه ووضعه لخصوص الفقه كان له اختصاص به بحسب التدوين ، فيصحّ لذلك أن يقال باختصاصه بالفقه ، فينطبق على معناه العلمي ، فيصير المفهوم المذكور معرّفا رسميّا له ، لاشتماله على خاصّته ، وبذلك يصحّ عدّ معناه الإضافي حدّا لهذا الفنّ.

ويمكن المناقشة في ذلك ـ مع ما فيه من التكلّف ـ بأنّه مبنيّ على ما ادّعوه من إفادة الإضافة الاختصاص ، وهو على إطلاقه محلّ منع.

وتوضيح الكلام فيه : أنّ مفاد الإضافة هو انتساب المضاف بالمضاف إليه نسبة ناقصة ، والمستفاد من إضافة اسم المعنى هو انتسابه إليه في خصوص وصفه العنواني ، كما هو الظاهر من التأمّل في استعمالاته العرفيّة ، وحينئذ فإن كان انتسابه إلى المضاف إليه مانعا من انتسابه إلى غيره بأن لم يكن ذلك العنوان قابلا للانتساب إلى شيئين كما في «مملوك زيد» و «مكتوب عمرو» إذ لا يمكن أن يكون جميع ذلك الشيء مملوكا أو مكتوبا لشخصين أفاد الاختصاص ، وكان

٩٦

استفادة الاختصاص منه حينئذ مبنيّا على ذلك من غير أن يكون مستندا إلى الوضع ابتداء، وإن لم يكن كذلك بل كان قابلا للانتساب إلى شيئين أو أشياء كما في قولك : «محبوب زيد» و «مطلوب عمرو» و «مقصود بكر» ونحوها لم يفد الاختصاص أصلا ، كيف! ولو كان ذلك مفيدا للاختصاص لكان قولك : «الله ربّي وخالقي ورازقي ومصوّري» ونحوها ... دالّا على عدم كونه تعالى ربّا وخالقا ورازقا ومصوّرا لغيره ، وهو ظاهر البطلان.

وحينئذ فنقول في المقام : إنّ كون الشيء اصولا للفقه لا ينافي كونه اصولا لغيره أيضا حتّى يكون انتسابه إلى الفقه في ذلك مانعا من انتسابه إلى غيره ، فلا يتّجه دلالتها على الاختصاص ليتمّ ما ذكر من التقريب.

فظهر بما قرّرنا أنّ دعوى انطباق معناه الإضافي على معناه العلمي غير واضح ؛ مضافا إلى أنّه قد يناقش في اختصاص ما دوّن من العلوم لخصوص الفقه بالاصول ، كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وأمّا حدّه بالنظر إلى معناه العلمي : فهو على ما اختاره جماعة من المتأخّرين : هو «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة» فخرج بالقواعد العلم المتعلّق بالجزئيّات كعلم الرجال. وبالممهّدة لاستنباط الأحكام العلوم الغير الآليّة. وبالتقييد بالشرعيّة علم المنطق ، إذ ليس تمهيده لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، بل لمطلق تصحيح النظر في اكتساب المطالب النظريّة ؛ وكذا ما مهّد من القواعد لاستنباط الأحكام العقليّة. وبالفرعيّة ما يتقرّر من القواعد في بعض المقامات لاستنباط الأحكام الاصوليّة.

وقد يستشكل في الحدّ بلزوم اندراج القواعد المقرّرة في الفقه ممّا يستنبط منها الأحكام الفرعيّة المترتّبة عليه في الاصول.

وقد يجاب بالتزام إدراج جملة منها في مباحث الاصول كأصالة الصحّة في العقود وأصالة صحّة تصرفات المسلم ونحوهما ممّا تقرّر لأجل استنباط الأحكام ، وادراج جملة منها في الفقه ممّا يكون المقصود منها بيان نفس الحكم الشرعي وإن استنبط منه حكم شرعي آخر ، إذ لا منافاة.

٩٧

وفيه : أنّ اندراج بعض تلك القواعد في الفقه لا يقضي بخروجها عن الحد ، إذ لم يؤخذ فيه عدم اندراج تلك القواعد في الأحكام الفرعيّة ، إلّا أن يقال : إنّ الظاهر من اعتبار كونها ممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة أن لا تكون هي من جملة الأحكام الفرعية ، لكن في اندراج جميع ما تقرّر من القواعد الفقهيّة لاستنباط الأحكام الفرعيّة في الاصول تأمّل.

وقد يجعل التقييد بالفرعيّة مخرجا لعلم الدراية ، فإنّها موضوعة لاستنباط الأحكام الشرعيّة أصليّة كانت أو فرعيّة ، إذ المقصود منها معرفة الحديث ، وهو يعمّ النوعين.

وفيه : أنّ الملحوظ هناك معرفة الحديث لا خصوص استنباط الأحكام الشرعيّة ، ومن البيّن أنّ الحديث يعمّ الوارد في الأحكام الشرعيّة وغيرها من القصص ونحوها وإن كان معظم ما يراد منها الأحكام الشرعيّة بل خصوص الفرعية.

هذا ، وذكر بعض الأفاضل أنّ التقييد بالممهّدة يخرج علم المنطق والعربية وغيرهما ممّا يستنبط منها الأحكام ، ولكن لم يمهّد لذلك ، وبالأحكام ما يستنبط منها الماهيّات الشرعيّة كالصلاة والصيام ونحوهما وغيرها مثل صفاتها كصلاة الظهر والنكاح الدائم والطلاق الرجعي ونحوها ، فإنّ معرفتها ليست من مسائل الفقه حتّى تكون قواعد الاصول ممهّدة لاستنباطها ، بل هي من مبادئه وإن ذكرت في طيّ مسائله ، فمثل مباحث الحقيقة الشرعيّة ، وجواز إجراء الأصل في إثبات ماهيّة العبادات ـ ونحو ذلك ممّا يبحث عنه في علم الاصول ـ وإن كان يستنبط منها الماهيّات ، لكنّها لم تمهّد لمعرفة الماهيّات من حيث إنّها هي ، بل لما يترتّب عليها من الأحكام.

ولا يذهب عليك ما فيه :

أمّا إخراج المنطق والعربيّة بقيد «الممهّدة» فظاهر الوهن ، لوضوح كون جميع العلوم المدوّنة من الامور الممهّدة ، فكيف يعقل خروج شيء منها بذلك؟ نعم ، بعد تقييدها بقوله: «لاستنباط الأحكام الشرعيّة» يخرج ذلك حسب ما أشرنا إليه ،

٩٨

لا بمجرّد التقييد بالممهّدة حسب ما ذكره.

وأمّا إخراجه ب «الأحكام» ما يستنبط منه الماهيّات ونحوها ، فغير متّجه أيضا ، إذ ليس عندنا قواعد ممهّدة لاستنباط نفس الماهيّات ؛ ومجرّد استنباطها منها لا يقضي بكونها ممهّدة لأجلها. ومن الغريب! تسليمه رحمه‌الله لذلك حيث قال : إنّ معرفتها ليست من مسائل الفقه حتّى تكون قواعد الاصول ممهّدة لاستنباطها ، فإنّه إذا لم يكن تمهيد الاصول لبيانها كانت خارجة بقيد «الممهّدة» على حسب ما ذكره في إخراجه المنطق والعربيّة.

على أنّه يمكن أن يقال : إنّ الخارج من الفقه تصوّر تلك الماهيّات لا التصديق بما قرّر الشارع من حقائقها ، وخروجها عن الفقه من الحيثيّة الاولى لا يقضي بخروجها عنه بالاعتبار الثاني ، ولا يبعد حينئذ إدراجها في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الوضعيّة كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله ، ومن البيّن أنّ ذلك هو المستفاد أوّلا من تلك القواعد دون الجهة الاولى وإن تفرّعت عليها ؛ ومع الغضّ عن ذلك فلا ريب في كون المستفاد من تلك القواعد أنّ الصلاة كذا والصيام كذا ونحوهما ، ولا ريب في اندراجها في الحكم وإن لم نقل بكونها حكما شرعيّا ، فتأمّل.

هذا ، وقد يشكل الحال في الحدّ المذكور بخروج مباحث الاجتهاد والتقليد عنه مع اندراجها في مسائل الاصول.

وقد يقال باندراج كثير من المسائل المتعلّقة بالاجتهاد في البحث عن حال الأدلّة ، فإنّ المرجع فيه إلى كون الدليل دليلا بالنسبة إلى المجتهد دون غيره.

وحينئذ ربّما يلتزم الاستطراد في ذكر المباحث المتعلّقة بالتقليد كبعض مباحث الاجتهاد ممّا لا يتعلّق بالبحث عن الأدلّة ، كاشتراط العدالة في المفتي ونحوه. ولا يخلو عن بعد ، لتصريح جماعة من الأعاظم باندراجها في الفنّ ؛ ولذا زادوا في الحدّ ما يدلّ صريحا على اندراجها في الاصول ، كما هو الظاهر من عدّهم ذلك من مطالب الفنّ.

وما قد يتخيّل في إدراج الجميع في الحدّ المذكور من كون البحث عن أحوال المستفتي أيضا بحثا عن حال الدليل فممّا لا يعقل وجهه.

٩٩
١٠٠