هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

حسب ما فصّلناه في المشترك.

وربّما يحتمل في المقام حمله على جميع المعاني المجازيّة نظير ما قيل من ظهور المشترك في إرادة الجميع عند انتفاء القرينة المعيّنة.

وهو فاسد جدّا ؛ أمّا على القول بعدم جواز استعمال اللفظ في المعنيين ولو كان محاذيين فظاهر ، وأمّا على القول بجوازه فلأنّ حمل اللفظ على الكلّ أيضا مجاز ولا دليل على تعيينه ، مضافا إلى أنّه على فرض جوازه من أبعد المجازات في الاستعمالات ، فكيف يحمل اللفظ عليه مع الإطلاق.

وربّما يقال بلزوم حمل اللفظ عليها بأسرها على سبيل البدليّة ، حكاه العلّامة رحمه‌الله في النهاية حيث قال : «وإن انحصرت وجوه المجاز وتساوت حمل اللفظ عليها بأسرها على البدل ، أمّا على الجميع فلعدم أولويّة البعض بالإرادة ، وأمّا البدليّة فلعدم عموم الخطاب حتّى يحمل على الجميع ، هذا عند من يجوّز استعمال المشترك في مفهوميه» إنتهى.

وهذا أيضا كسابقه في الوهن ؛ لبعد الاستعمال المذكور جدّا عن ظاهر المخاطبات العرفيّة ، فحمل المطلق عليه فاسد جدّا.

ومجرّد جواز استعمال المشترك في معنييه غير قاض به عند القائل به ، ولذا ذهب معظم القائلين به إلى إجمال المشتركات حتى يقوم دليل على التعيين أو إرادة الكلّ ، بل نصّ جماعة منهم بكون إطلاقه على الكلّ أبعد الوجوه ، فكيف يصحّ على القول به حمل اللفظ هنا مع الإطلاق على جميع المجازات؟ ففي إسناده رحمه‌الله القول المذكور إلى من جوّز استعمال المشترك في مفهوميه ما لا يخفى ، وكأنّه تخريج منه رحمه‌الله ، تفريعا على القول المذكور.

وأنت خبير بأنّه إن صحّ التفريع في المقام فإنّما يتفرّع ذلك على ما يتراءى من كلام صاحب المفتاح في المشترك حسب ما مرّت الإشارة إليه أو على القول بظهور المشترك في جميع معانيه ، إلّا أنّ الظاهر حينئذ البناء على ظهور المجاز أيضا في الجميع تنزيلا للمعاني المجازيّة منزلة المعاني الحقيقيّة ، وحينئذ فما ذكره

٣٢١

في بيان كون إرادتها على سبيل البدليّة من انتفاء العموم في الخطاب ليس في محلّه ، كيف! وهو جار في المشترك أيضا.

ثمّ إنّ قضيّة ما ذكره هو الحمل على الجميع على سبيل الاستغراق لو كان هناك ما يفيد العموم ، كما إذا كان اللفظ نكرة واردة في سياق النفي أو النهي أو دخل عليه أحد أدوات العموم.

وكيف كان ، فالوجه المذكور أيضا بيّن الفساد ، لا حاجة إلى إطالة الكلام فيه.

وأمّا إذا اختلفت المجازات فإمّا أن يكون اختلافها من جهة قرب بعضها من الحقيقة وشدّة علاقته لها وبعد الباقي وضعفه في العلاقة ، أو من جهة اشتهار بعضها وتداوله في الاستعمالات دون الباقي ، وكلّ من الوجهين المذكورين باعث على تعيّن المجاز بعد وجود القرينة الصارفة عن الحقيقة من غير حاجة إلى ضمّ القرينة المعيّنة للمراد.

أمّا الأوّل فلما فيه من كمال الارتباط والمناسبة الجليّة الباعثة على فهم ذلك بحسب العرف بعد تعذّر الحقيقة ، ففهم العرف هو المناط في ذلك ، والمنشأ له هو الأقربيّة وشدّة الارتباط والمناسبة.

وفي كلام بعض المحقّقين أنّ السبب فيه الغلبة والاشتهار المقتضي للتعيّن بنفسه أو بواسطة التبادر ، فإنّ قوة العلاقة في المجاز وشدّة المناسبة من أعظم دواعي الرغبة في استعماله المفضية إلى الغلبة والاشتهار.

وأنت خبير بأنّ انفهام أقرب المجازات بعد تعذّر الحقيقة ليس إلّا من جهة ملاحظة نفس المعنى من غير ملاحظة لغلبته واشتهاره أصلا ، ولو كان الفهم من الجهة المذكورة للزم اعتبارها وملاحظتها حال الانتقال إليه ، ومن البيّن خلافه.

وأيضا كون الأقربيّة باعثة على شهرة المجاز محلّ منع ، وإنّما الباعث عليه شدّة الحاجة إلى المعنى ووفور الاحتياج إليه في المحاورات ، وهي قد تكون بالنسبة إلى غير الأقرب دونه ، إذ من الواضح أنّ مجرّد القرب من الحقيقة لا يقتضي شدّة الحاجة إليه ، فالظاهر أنّ نفس قرب المعنى هو الباعث على

٣٢٢

الانتقال إليه ، والحمل عليه بعد تعذّر الحقيقة ، وليس ذلك استنادا في الفهم إلى التخريجات العقليّة والمناسبات الاعتباريّة بل إلى فهم أهل اللسان ، وتبادر ذلك عندهم بعد تعذّر الحقيقة حسب ما ذكرناه.

فالمناط في الأقربية الملحوظة في المقام هي التي تكون باعثة على انصراف اللفظ إليه حينئذ بمقتضى فهم العرف ، لا مطلق الأقربيّة في الجملة وهو ظاهر.

فمن ذلك : انصراف اللفظ الدالّ على نفي الحقيقة بعد العلم بوجودها إلى نفي الصحّة عند دوران الأمر بينه وبين نفي الكمال.

ومنه أيضا : انصراف نفيها فيما لا تتصف بالصحّة إلى نفي الآثار والفوائد المطلوبة ، كما في لا علم إلّا ما نفع ، ولا كلام إلّا ما أفاد.

ومنه أيضا : انصراف التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان إلى تحليل المنافع المقصودة الغالبة وتحريمها ، فلا إجمال في شيء من ذلك.

وأمّا الثاني فلإلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، وعليه يجري الأمر في المخاطبات العرفيّة ، فلا بدّ حينئذ من كون الشهرة بحيث توجب انصراف اللفظ إليه في العرف بعد قيام الصارف عن الحمل على الحقيقة فمجرّد الأشهريّة غير كاف فيه ، بل لا بدّ من كونها بحيث توجب انفهام المعنى من اللفظ عند الإطلاق ، وكون الشهرة والغلبة باعثة على ذلك ممّا لا ريب فيه ، بل ربّما يقتضي اشتهار المجاز إلى مساواته للحقيقة أو رجحانه عليها ، فتكون قرينة صارفة ومعيّنة ، فكيف لا تكون معيّنة للحمل عليه ومرجّحة له على سائر المجازات بعد وجود القرينة الصارفة عن الحقيقة؟ وهذا أيضا ظاهر.

ومن ذلك حمل الألفاظ التي استعملها الشارع في المعاني الشرعيّة على القول بنفي الحقيقة الشرعيّة فيها ، بعد قيام القرينة الصارفة عن إرادة معانيها اللغويّة ودوران الأمر فيها بين إرادة المعاني الشرعيّة أو مجاز آخر ، فيحمل على الاولى نظرا إلى غلبة استعمالها في كلام الشارع في المعاني المذكورة واشتهارها فيها حتى قيل بحصول النقل ، ومن البيّن أنّ ما عداها ليس كذلك فيقدّم الحمل عليها ،

٣٢٣

ولا يكون اللفظ مجملا ، كذا ذكره بعض المحقّقين.

وأنت خبير بأنّ الدعوى المذكورة على إطلاقها في محل المنع ، إذ ليس جميع الألفاظ المتداولة عندنا ممّا ثبت كثرة استعمال الشارع لها بحيث يحصل الظنّ بإرادة تلك المعاني منها بعد وجود القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة.

نعم ، هو ظاهر في الألفاظ المتداولة في كلامه كالصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها ، والقول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها لا يتعيّن أن يكون من جهة الشهرة والغلبة ، بل ظاهر المشهور خلافه ، كما سيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

هذا ، ولو اجتمعت الجهتان المذكورتان ـ أعني الشهرة والقرب إلى الحقيقة في بعض المجازات ـ فتقديمه على الخالي عنهما واضح ، وكذا على الخالي عن أحدهما.

ولو تعارضت الجهتان بأن كان بعض المجازات مشهورا في الاستعمالات وبعضها أقرب إلى الحقيقة فربّما يشكل الحال إذن في الترجيح ، والظاهر حينئذ مراعاة أقوى الوجهين وأقربهما إلى الفهم ، لاختلاف مراتب الشهرة والقرب إلى الحقيقة ، فلا بدّ من ملاحظة الراجح منهما والأخذ بمقتضاه.

ومنها : أنّه إذا دار الأمر يبن حمل اللفظ على الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح ولم يكن هناك قرينة دالّة على تعيين المراد فهل يقدّم الحقيقة أو المجاز؟ أقوال.

فعن أبي حنيفة ترجيح الحقيقة.

وعن الشافعي ترجيح المجاز.

وعن جماعة من العامّة والخاصّة منهم الغزالي والبيضاوي والعلّامة والسيّد العميدي والشهيد الثاني والمصنّف والفاضل الخراساني والعلّامة الخوانساري وجماعة من المتأخّرين البناء على الوقف وعدم ترجيح أحد المعنيين في الحمل إلّا بقرينة دالّة عليه ، وحكي القول به عن الشافعي أيضا.

حجّة الأوّل أصالة الحمل على الحقيقة حتّى يتبيّن المخرج ، ومجرّد الشهرة لا يصلح صارفا عنها ، كيف! وقد شاع تخصيص العامّ في الاستعمال حتّى جرى

٣٢٤

قولهم : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» مجرى الأمثال ، ومع ذلك لا يستراب في حمله على العموم حتّى يقوم صارف عنه.

وحجّة الثاني أنّ الغلبة وشهرة الاستعمال باعثة على انصراف الإطلاق إلى المعنى الشائع ، وهي من أعظم الأمارات المفيدة للظنّ.

وحجّة الثالث تكافؤ الظنّ الحاصل من الشهرة للظنّ الحاصل من الوضع ، فلا يحصل معه ظنّ بالمراد ومع عدمه لا يمكن الحكم بأحد الوجهين ؛ لابتناء مداليل الألفاظ وفهم المراد منها على حصول الظنّ ، إذ لا أقلّ منه في حصول الفهم ، فلا وجه لحمله على أحدهما إلّا مع قيام قرينة خارجيّة على التعيين.

والتحقيق في المقام : أنّ مراتب الغلبة مختلفة ودرجاتها متفاوتة ، فإنّ شهرة استعمال اللفظ في المعنى ورجحانه قد يكون بحيث يوجب فهمه من اللفظ وترجيحه على سائر المجازات من غير حاجة إلى قيام قرينة معيّنة عليه ، لكن بعد قيام القرينة الصارفة عن معناه الحقيقي ، ولا تكون تلك الغلبة بالغة إلى حيث يكافؤ الظنّ الحاصل منها الظنّ المتفرّع على الوضع ، فلا ريب إذن في ترجيح الحمل على الحقيقة مع إطلاق اللفظ.

وقد يكون غلبة استعماله فيه فوق ذلك بأن يكون الظنّ الحاصل من ملاحظة الشهرة مكافئا لظنّ الحقيقة ، ولا ريب إذن في الوقف وعدم جواز حمله على أحدهما من دون قرينة دالّة عليه.

وقد تكون الغلبة فوق ذلك أيضا فيكون اللفظ بملاحظتها ظاهرا في ذلك المعنى فيكون الظنّ الحاصل من الشهرة غالبا على ظنّ الحقيقة فيتعيّن القول حينئذ بترجيح المجاز الراجح ، وتكون الشهرة إذن قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي معيّنة لحمله على ذلك ، فإنّ دلالة القرائن لا تعتبر أن تكون علميّة بل يكتفى فيها بالمظنّة ؛ لابتناء مداليل الألفاظ على الظنون ، وقيام الإجماع على حجّية الظنّ فيها.

ويجري ما ذكرناه في مراتب الشهرة بالنسبة إلى سائر القرائن المنضمّة

٣٢٥

إلى اللفظ ، فإنّ الظنّ الحاصل منها قد لا يعادل ظنّ الحقيقة فلا يوجب صرف اللفظ عن الموضوع له ، نعم توجب وهن الظنّ الحاصل منه.

وقد يترجّح مفادها على ذلك فيعادل ظنّها الظنّ الحاصل من الوضع ، فيقضي حينئذ بالوقف عن الحمل على الحقيقة أو المجاز ، فلا يمكن الحكم بشيء منهما ، فهي وإن لم توجب الحمل على المجاز إلّا أنّها مانعة من الحمل على الحقيقة أيضا.

وقد يترجّح على ذلك أيضا فيقضي بصرف اللفظ عن معناه الحقيقي وحمله على المجازي على اختلاف مراتبه في الظهور.

فليس الأمر في اللفظ دائرا بين حمله على الحقيقة أو المجاز بأنّه إن وجدت قرينة صارفة حمل على المجاز وإلّا فعلى الحقيقة ، كما قد يتراءى من ظاهر كلماتهم بل هناك واسطة بين الأمرين ، وهو الوقف عن الحملين ؛ لدوران الحمل مدار الفهم بحسب العرف بعد ملاحظة المقام ، فإذا حصل هناك مانع عن الفهم من شهرة أو قيام قرينة اخرى توجب ترديد الذهن فلا دليل على لزوم الحمل على الموضوع له.

والحاصل : أنّ حمله على الموضوع له أو غيره يدور مدار المتفاهم بحسب العرف ، وأقل مراتبه الظنّ ، وليس الأمر مبنيّا على التعبّد حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

فظهر بما قرّرنا ضعف كلّ من الوجوه الثلاثة المذكورة التي هي المستند للأقوال المتقدّمة.

وهناك درجتان اخريان للغلبة فوق ما ذكر قد مرّت الإشارة إليهما ، وهما خارجتان عن محلّ الكلام ؛ لخروج اللفظ معهما عن حدّ المجاز واندراجه في الحقيقة.

وما قد يقال من أنّ مجرّد الغلبة لا يكون باعثا على حمل اللفظ عليه من دون البلوغ الى حدّ الحقيقة ، كيف! ولو كان قاضيا بذلك لزم رجحان المجاز على الحقيقة مطلقا ، نظرا إلى غلبة مطلق المجاز على الحقيقة حتّى اشتهر أنّ أكثر اللغة

٣٢٦

مجازات ، والبناء على كون العامّ مخصّصا قبل ظهور المخصّص ، نظرا إلى شهرة التخصيص وغلبته في الاستعمالات.

مدفوع بأنّه ليس المدار في المقام على مطلق الغلبة ، بل الغلبة القاضية بانصراف اللفظ إلى ذلك المعنى أو الباعثة على توقّف الذهن عن الحمل على الحقيقة بحسب المتفاهم بين الناس ، ومن البيّن أنّ استعمال المجازات والعمومات المخصّصة ليس كذلك.

وكأنّ الوجه فيه أنّ اشتهار الاستعمال في غير المعنى الحقيقي هناك نوعيّ لا شخصيّ ؛ لعدم شيوع استعمال اللفظ في خصوص مجاز أو مرتبة من التخصيص.

مضافا إلى كون الاستعمالات هناك مقرونة في الغالب بالقرينة الصارفة ، ومثل تلك الغلبة لا يوجب صرف اللفظ غالبا عند الإطلاق على نحو ما إذا اشتهر اللفظ في مجاز مخصوص ، سيّما اذا كان كثير من استعمالاته خاليا عن القرينة المقارنة ، ويعلم الحال فيه من ملاحظة الخارج ، كما لا يخفى على المتأمّل.

على أنّ دعوى اشتهار المجازات وغلبتها على الحقائق غير ظاهرة ، بل من الظاهر فساده ؛ فإنّ من البيّن أنّ غالب الاستعمالات العرفيّة والمخاطبات المتداولة من قبيل الحقائق دون المجازات ، وإنّما يؤتى بالمجاز في بعض المقامات لمراعاة بعض النكات ، فإن اريد بما اشتهر من أنّ أكثر اللغة مجازات هذا المعنى فهو بيّن الفساد ، وقد مرّت الإشارة إليه ، وإلّا فلا دلالة فيه على ذلك.

ومنها : أنّه لو كان أحد معنيي المشترك مهجورا وقامت قرينة على عدم إرادة الآخر ، فدار الأمر بين إرادة معناه المهجور أو الحمل على المجاز ، فإن كان معناه المجازي مشهورا في الاستعمالات فالظاهر تقديمه على الحقيقة المهجورة ، ومع عدمه ففي تقديم الحقيقة المهجورة نظرا إلى كونه معنى حقيقيا ، أو التوقّف بين الحمل عليه وحمله على معناه المجازي وجهان؟

ومنها : أنّه اذا ثبت نقل اللفظ إلى معنى ودار المعنى المنقول إليه بين كونه الأقرب إلى الحقيقة أو الأبعد منه تعيّن الأوّل مع كون الوضع حاصلا بالتعيّن ،

٣٢٧

لكون النقل المفروض مسبوقا بالتجوّز ، والغالب فيه مراعاة الأقرب إلى الحقيقة ؛ ولذا يحمل اللفظ عليه عند الإطلاق قبل حصول النقل بعد تعذّر الحقيقة.

وبالجملة : يجب الحكم بأنّ المنقول إليه هو المجاز الّذي يجب حمل اللفظ عليه مع عدم ثبوت النقل ، سواء كان باعتبار غلبة استعمال اللفظ فيه الّتي هي أحد وجوه الأقربيّة ، أو باعتبار المناسبة الاعتباريّة التي هي أحد وجوهها أيضا ، كذا قيل.

وأنت خبير بأنّه إن علم تحقّق الغلبة بالنسبة إلى أحدهما بخصوصه فلا مجال للشك ، وإلّا فمجرّد الأقربيّة غير قاض بذلك ؛ لتفرّع النقل على غلبة الاستعمال ، وهي إنّما تتبع شدّة الحاجة لا مجرّد القرب من الحقيقة كما مرّ.

وليس الوجه في حمل اللفظ على أقرب المجازات بعد تعذّر الحقيقة كونه غالبا في الاستعمالات ، بل لكون نفس الأقربية معيّنة له عند انتفاء القرينة المعيّنة والمفروض انتفاء العلم في المقام بوجود القرينة المعيّنة وعدمه ، فكيف يمكن الحكم بحصول الغلبة في المعنى المفروض بمجرّد ما ذكر؟.

إلّا أن يقال : إنّ الأصل عدم الحاجة إلى القرينة المعيّنة لما استعمل فيه فيتعيّن بملاحظة ذلك كون المعنى المذكور هو الشائع في استعماله ، لافتقار غيره إلى القرينة المعيّنة. وفيه ما لا يخفى.

ومنها : أنه إذا ورد لفظ في كلام الشارع أو الأئمّة عليهم‌السلام واختلف معناه بحسب اللغة والعرف العامّ فلا إشكال في حمله على الأوّل لو علم بتأخّر العرف ، كما أنّه لا إشكال في حمله على الثاني مع ثبوت تقدّمه ، وإنّما الإشكال فيما إذا لم يثبت أحد الوجهين ودار الأمر بين الحمل على كلّ من المعنيين ، فهل يحكم بتقديم اللغة أو العرف قولان؟

فالمحكي عن بعضهم ترجيح الأوّل.

وعن الشيخ والعلّامة والشهيدين والبيضاوي القول بالثاني ، وهو الأظهر ؛ إذ الغالب في المعاني العرفيّة العامّة ثبوتها من قديم الزمان كما يعرف ذلك بعد

٣٢٨

ملاحظة المعاني العرفيّة وتتبّع موارد استعمالها في كلمات الأوائل وملاحظة كتب اللغة لبيانهم غالبا للمعاني العرفيّة العامّة ، ويكشف عن ذلك حكم الأكثر ممّن عرف آراؤهم بتقديم العرف ؛ إذ ليس ذلك إلّا من الجهة المذكورة الباعثة على الظنّ بالمراد ، وقد حكى بعضهم عليه الشهرة ، بل ربّما يعزى القول به إلى جميع الاصوليين ، وهو في الحقيقة حجّة اخرى على ذلك لبعثه على المظنّة الكافية في المقام.

وربّما يستدلّ على ذلك أيضا باستبعاد استقرار العرف العامّ في المدّة القليلة من بعد زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبأنّه لا مجال للتأمّل في حمل اللفظ على معناه الثابت في العرف العامّ إذا لم يعرف له معنى آخر بحسب اللغة مع قيام احتمال وجوده ، وهو مبنيّ على تقديم العرف ؛ إذ لو لا ذلك لوجب الوقف فيه والحكم بإجمال اللفظ لاحتمال وجود معنى آخر له في اللغة واستمراره إلى وقت صدور الرواية ، وهو باطل بالاتّفاق.

وأنت خبير بوهن الوجهين ؛ إذ لا بعد في استقرار العرف العامّ في المدّة المذكورة بل وفيما دونها أيضا ، ولو سلّم فليضمّ إليه زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما قبله ليحكم باستقرار العرف بملاحظة الجميع ، فلا عرف إذن في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل وكذا في أزمنتهم ، إذ المفروض في الاحتمال المذكور حصول النقل بملاحظة الكلّ.

والوجه في الحمل على المعنى العرفي في الصورة المفروضة من جهة استظهار اتّحاد العرف واللغة ؛ نظرا إلى أصالة عدم النقل ، ولذا تداول بينهم إثبات اللغات بمجرّد ثبوت المعنى في العرف على ما هو شأن نقلة اللغات وطريقة علماء الاصول في إثبات مداليل الأمر والنهي وألفاظ العموم وغيرها.

حجّة القول بتقديم اللغة أصالة تأخّر الحادث ، إذ المفروض عدم ثبوت مبدأ النقل.

ويضعّفه أنّ الأصل المذكور لا معوّل عليه في المقام إلّا بعد إفادته الظنّ بمؤدّاه ، لما عرفت من ابتناء اللغات على المظنّة وحصول الاستفادة من العبارة ،

٣٢٩

فمجرّد الأصل المذكور لا تعويل عليه مع الظنّ بخلافه من التتبّع ومصير الأكثر إليه كما عرفت.

ولا يذهب عليك أنّ قضيّة ما ذكرناه أنّه لو شكّ في خصوص بعض المقامات في مبدأ النقل ولم يكن هناك مظنّة بحصوله حال صدور الخطاب لزم التوقّف في الحمل ، والحكم بإجمال اللفظ والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول الفقهيّة ، فيؤخذ حينئذ بما وافق الأصل من المعنيين المذكورين إن وافقه أحدهما ، وليس ذلك من جهة حمل اللفظ عليه ليكون إثباتا للغة بالترجيح ، بل من جهة استقلال الأصل إذن بإثباته وعدم مزاحمة النصّ له لإجماله.

ومنها : أنّه لو اختلف عرف المتكلّم والمخاطب في لفظ فدار المراد بين ذينك المعنيين ـ لعدم قيام قرينة على كون الخطاب بأيّ من العرفين ـ فهل يقدّم الأوّل أو الثاني أو يتوقّف بينهما؟ أقوال.

والأوّل مختار الشريف الاستاذ قدس‌سره ويحكى القول به عن ظاهر السيّد.

والثاني محكيّ عن العلّامة والشهيد الثاني.

والثالث مختار جماعة من المتأخّرين منهم صاحب المدارك ، واختاره في الفوائد الحائريّة.

وتفصيل الكلام في المرام مع خروج عن خصوص المقام أن يقال : إنّه إذا صدر الخطاب من المتكلّم وكان عرفه وعرف المخاطب وعرف المحلّ الّذي وقع الخطاب فيه متّحدا فلا إشكال في حمله مع الإطلاق على ذلك العرف ، وكذا إذا لم يكن للمحلّ أو المخاطب أو المتكلّم عرف مع اتّحاد الآخرين ، أو انحصر الحال فيه في عرف المحلّ أو المتكلّم أو المخاطب ، فهذه وجوه سبعة لا إشكال فيها ، حيث لا دوران هناك نظرا إلى انحصار العرف في معنى واحد.

وإن اختلف الحال فإمّا أن يكون باختلاف عرف المتكلّم لعرف المخاطب مع انتفاء العرف في المحلّ ، أو موافقته لأحد العرفين ، أو باختلاف عرف المتكلّم لعرف المحلّ مع انتفاء عرف المخاطب ، أو موافقته لعرف المتكلم ، أو باختلاف

٣٣٠

عرف المخاطب لعرف المحل مع انتفاء عرف المتكلّم ، أو باختلاف كلّ منها للآخر ، فهذه أيضا وجوه سبعة يقع التأمّل فيها.

فإن اختلف عرف المتكلّم والمخاطب مع انتفاء العرف في محلّ الخطاب فالأظهر تقديم عرف المتكلّم ؛ إذ الظاهر من المخاطبات الدائرة بين الناس مراعاة المتكلّم لعرف نفسه والوضع الحاصل بملاحظة اصطلاحه إن ثبت له عرف ، ولذا يقدّم العرف الخاصّ على اللغة والعرف العامّ من غير خلاف يظهر بينهم ، وليس ذلك إلّا من جهة ظهور جريه في الكلام على وفق مصطلحه ، وهو بعينه جار في المقام.

ومتابعته في الاستعمال لعرف المخاطب مجرّد احتمال لا ظهور فيه ليزاحم الظهور المذكور ، حتّى يقضي بالوقف بين الأمرين.

فالظاهر المذكور متّبع في المقام حتى يجيء هناك ما يزاحمه من ملاحظة الخصوصيّات في بعض المقامات ، لما عرفت من أنّ المدار في أمثال هذه المسائل على حصول الظنّ كيف كان.

وقد يقرّر الاحتجاج المذكور بملاحظة الغلبة فإنّ عادة الناس جارية على المكالمة بمقتضى عرفهم وعدم متابعتهم لاصطلاح الغير في محاوراتهم ، إلّا لقصد التعلّم أو فائدة اخرى.

واورد عليه بأنّ المسلّم من الغلبة المذكورة ما إذا كانت المكالمة مع من يوافق عرفه عرف المتكلّم ، وأمّا إذا كانت مع من يخالف عرفه لعرفه فالغلبة المدّعاة ممنوعة ، بل الظاهر عدمها ، وإلّا لما خفيت على من يذهب إلى خلاف القول المذكور.

وفيه : أنّه لمّا تحقّقت الغلبة في معظم المحاورات فمع حصول الشكّ في الصورة المفروضة ـ وهو ما إذا كانت المخاطبة مع من يخالف عرفه ـ قضى ذلك بإلحاقه بالأعمّ الأغلب ، ولا يعتبر ثبوت الغلبة في خصوص الصورة المفروضة ، بل حصولها في معظم المحاورات كاف في تحصيل المظنّة في محلّ الكلام.

٣٣١

نعم ، يعتبر أن لا يحصل هناك غلبة في خصوص المورد على عكس الغالب في سائر الموارد ليزاحم بها الغلبة المفروضة ، وهي غير متحقّقة في المقام ولو على سبيل الظنّ قطعا.

ثمّ دعوى انتفاء الغلبة في خصوص المقام من جهة ذهاب المخالف إلى عدم الحمل عليه غير متّجهة ، وأيّ بعد في خفاء الغلبة المذكورة عليه؟ وكم له من نظائر في سائر المباحث؟

على أنّه قد يكون ذلك من جهة اعتقادهم ما يعارض ذلك ممّا يعادله أو يترجّح عليه، وقد يومئ إليه ملاحظة ما احتجّوا به في المقام.

وربّما يحتجّ لذلك أيضا بأنّه لو حمل الكلام على عرف المخاطب لزم المجاز ، وهو مخالف للأصل فلا يحمل عليه إلّا بعد دلالة القرينة.

وهو في وضوح الفساد بمكان لا يحتاج إلى البيان.

حجّة القول بتقديم عرف المخاطب أنّ في تكلّمه بمقتضى عرفه إغراء بالجهل حيث إنّ المخاطب يحمله على عرف نفسه فلا يصدر من الحكيم.

وأيضا قد ورد أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام إنّما يخاطبون الناس بما يعقلونه فينبغي أن يكون مخاطبتهم بمقتضى عرف مخاطبيهم.

ولا يذهب عليك وهن كلّ من الوجهين المذكورين ، فلا حاجة إلى إطالة الكلام فيما يرد عليهما.

حجّة القول بالوقف كون اللفظ إذن مشتركا بين المعنيين ، وصحّة تكلّم المتكلّم على كلّ من عرفه وعرف مخاطبه ، فلا يحكم بأحدهما إلّا بعد قيام القرينة عليه.

وقد ظهر ما فيه ممّا قرّرناه ؛ إذ صحّة التكلّم على الوجهين لا ينافي ظهوره في أحدهما مع انتفاء القرائن حسب ما بيّناه.

ثمّ إنّه لو كان عرف المتكلّم موافقا لعرف البلد فالأمر فيه حينئذ أظهر ، وظهور الحمل على العرف المذكور حينئذ ممّا لا ينبغي التأمّل فيه كما لا يخفى بعد ملاحظة

٣٣٢

الاستعمالات. فتوقّف بعض الأفاضل في هذه الصورة أيضا ليس على ما ينبغي.

نعم ، لو وافق عرف المخاطب عرف المحلّ فلا يخلو المقام عن إشكال ؛ لاتّباعهم عرف المحلّ كثيرا في المخاطبات سيّما مع طول المكث فيه ، فللتوقّف فيه إذن مجال سواء وافق عرف المخاطب أو لا وإن كان الإشكال في الثاني أظهر ، إلّا أن يكون الحكم متعلّقا ببلد المتكلّم ، فيحتمل قويّا ترجيح عرفه أيضا ، وكذا لو لم يتحقّق مكثه في المقام قدرا يعتدّ به سيّما مع اتّحاد عرف المتكلّم والمخاطب.

ولو دار الأمر بين عرف المحلّ وعرف المخاطب من غير أن يكون للمتكلّم عرف فيه فلا يخلو الحال أيضا عن إشكال وإن كان ترجيح عرف المحلّ قويّا مع طول مكثه فيه.

ولو دار الأمر بين الوجوه الثلاثة قوي تقديم عرف المتكلّم أيضا ، إلّا مع مكثه في المحلّ ففيه الإشكال المذكور.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الدوران فيما إذا كان المتكلّم عالما بعرف المخاطب أو المحلّ وأمّا مع جهله بهما فلا تأمّل في حمل كلامه على عرفه ، وكذا لو كان جاهلا بأحدهما في عدم حمل كلامه على العرف المجهول ، وكذا لو كان عالما بعرف المخاطب مع علمه بعدم علمه بعرفه وعرف المحلّ ، فإنّه لا شبهة في حمله على عرف المخاطب إذا كان المقام مقام بيان ، ومع جهله بعلمه وعدمه وجهان ، وكذا لو شكّ في الحال.

هذا ، ولا فرق فيما ذكرناه بين ما إذا كان لكلّ من المتكلّم أو المخاطب أو المحلّ عرف خاصّ في اللفظ المفروض ، أو يكون المعنى الثابت عند بعضهم هو المعنى اللغوي أو العرفي العامّ.

وبالجملة : المراد بالعرف المنسوب الى المتكلّم أو المخاطب أو المحلّ أعمّ من الوجوه الثلاثة ؛ لاتّحاد المناط في الجميع وإن اختلف الحال فيها ظهورا وخفاء بحسب المقامات.

٣٣٣

الحادية عشر

أنّهم اختلفوا في كون الألفاظ موضوعة للامور الخارجيّة ، أو للصور الذهنيّة ، أو غيرهما ، على أقوال :

ثالثها : أنّها غير موضوعة لشيء من الأمرين وإنّما هي موضوعة لنفس المفاهيم والماهيّات مع قطع النظر عن الوجودين.

رابعها : التفصيل بين الكلّيات والجزئيّات ، فالكلّيات موضوعة بإزاء المفاهيم الكلّية مع قطع النظر عن الوجودين ، والجزئيّات الخارجيّة بإزاء الموجودات الخارجيّة ، والجزئيّات الذهنيّة بإزاء الموجودات الذهنيّة ، وحيث إنّ الأقوال المذكورة غير خالية عن إبهام فبالحري توضيح الحال فيها في المقام.

فنقول : إنّ القول بوضع الألفاظ للامور الخارجيّة يحتمل في بادئ الرأي وجوه.

أحدها : أن يقال بوضعها للموجودات الخارجيّة على أن يكون الوجود الخارجي معتبرا في الموضوع له على سبيل الجزئيّة.

ثانيها : أن يكون ذلك قيدا فيه على أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا.

ثالثها : أن يقال بوضعها للمفاهيم باعتبار وجودها الخارجي ومن حيث تحقّقها كذلك ، فالموضوع له هو نفس المفاهيم بتلك الملاحظة أعمّ من أن تكون موجودة في الخارج أو لا ، ويحتمل أن يعتبر الوجوه الثلاثة المذكورة باعتبار كونها خارجيّة وإن لم تكن موجودة في الخارج ، أو يفصّل بين ما يكون موجودة في الخارج فيؤخذ وجودها الخارجي على أحد الوجوه المذكورة ، وما يكون نفسها خارجيّا فيؤخذ خارجيّتها كذلك.

رابعها : أن يراد بذلك وضعها للمفاهيم من حيث كونها عنوانات لمصاديقها في الواقع ، سواء كان من شأن مصاديقها أن تكون خارجيّة أو ذهنيّة أو أعمّ منهما ولو كان تقديريّا كما في الممتنعات ، أو لم يكن تقديرها إلّا بنحو من الاعتبار ، كما في «اللا شيء» و «اللاموجود المطلق» ونحوهما فكونها خارجيّة باعتبار مقابلتها

٣٣٤

للصور الذهنيّة وخروجها عن الإدراكات المفروضة وإن كانت مدركات للعقل على فرض تصوّرها.

والمراد بوضعها للصور الذهنيّة إمّا نفس الصور الحاصلة في العقل من حيث كونها مرآة لما يطابقها في الخارج إن كان ما يطابقها امورا خارجيّة ، أو لما يطابقها في الذهن إن كانت ذهنيّة ، فتكون الألفاظ دالّة على الصور الذهنيّة الدالّة على ما يطابقها حسب ما ذكر ، فتكون تلك الامور الخارجيّة أو الذهنيّة مدلولة للّفظ بتوسّط تلك الصور.

وإمّا المفاهيم المعلومة عند العقل من حيث تقيّدها بكونها معلومة ، وإنّما عبّر عنها بالصور لاتّحادها معها في الذهن وإن أمكن الانفكاك بينها بتحليل العقل ، وإطلاق الصورة على ذلك ممّا لا مانع منه ، وقد تكرّر إطلاقها عليه في كلماتهم.

ويحتمل هناك وجوه اخر في بادئ الرأي كأن يكون المراد وضعها بإزاء الصور والإدراكات بنفسها ، أو يكون المراد وضعها بإزاء المفاهيم المقيّدة بالوجود الذهني مع اندراج القيد في الموضوع له أو خروجه ، أو بملاحظة حصولها في الذهن من دون أن يؤخذ ذلك شطرا أو شرطا على حسب الاحتمالات المتقدّمة. لكنّها ضعيفة جدّا ، بل فاسدة قطعا.

والظاهر أنّ شيئا من ذلك ممّا لا يقول به أحد أصلا ، إذ لا معنى لكون الألفاظ أسامي للامور الذهنيّة بنفسها ؛ ضرورة دلالتها على الامور الخارجيّة قطعا ، والصور الذهنيّة بنفسها غير مقصودة بالإفادة والاستفادة غالبا ، والوجوه المذكورة مشتركة في ذلك.

وكذا الحال في الوجهين الأوّلين للقول بوضعها للامور الخارجيّة ، إذ كون الوجود الخارجي جزء من الموضوع له أو قيدا فيه واضح الفساد ؛ إذ لا دلالة في اللفظ عليه أصلا كما لا يخفى ، وسيجيء توضيح الكلام في ذلك إن شاء الله.

والمراد بوضعها للمفاهيم إمّا مطلق المفهوم الشامل للحاصل منها في الذهن ، أو الخارج وإن لم يكن الأوّل من مصاديقه الحقيقيّة ، أو المراد بها المفاهيم من حيث كونها عنوانات لمصاديقها حسب ما ذكر في الوجه الرابع ، فيرجع ذلك اليه.

٣٣٥

ويعرف ممّا ذكرنا الحال في القول الرابع ، ويجري فيه عدّة من الاحتمالات المذكورة ، كما لا يخفى على المتأمّل فيما ذكرنا.

ثمّ إنّه قد يستشكل فيما ذكر من التفصيل في وضع الجزئيّات بأنّه ليس عندنا ألفاظ موضوعة بإزاء الجزئيّات الذهنيّة ليكون الوجود الذهني ملحوظا في وضعها على أحد الوجوه المذكورة.

نعم ، هناك معان لا وجود لها إلّا في الأذهان كالكلّية والجنسيّة والفصليّة ونحوها ، لكنّها امور كلّية أيضا فلا يتّجه التعبير عنها بالجزئيّات.

وقد يقال بأنّ أسماء الإشارة اذا اشير بها الى المعاني الحاصلة في الأذهان كانت موضوعة لتلك الجزئيّات الذهنيّة ، بناء على كون الموضوع له فيها خاصّا كما هو المعروف بين المتأخرين. إلّا أنّ حمل كلام المفصّل على ذلك لا يخلو عن بعد.

وكأنّ المقصود منه هو الوجه الأوّل وإن كان التعبير عنه بما ذكر غير خال عن التعسّف.

لكن يرد عليه عدم ظهور فرق بينها وبين سائر الكلّيات ؛ إذ عدم قبولها للوجود الخارجي لا يقضي باعتبار الوجود الذهني في وضع اللفظ بإزائها.

هذا ، ولا يذهب عليك بعد التأمّل فيما قرّر من الأقوال المذكورة الفرق بين هذه المسألة وما وقع الخلاف فيه من اعتبار الاعتقاد في مداليل الألفاظ وعدمه ، حيث يمكن القول بكلّ من الوجهين على كلّ من الأقوال المذكورة ، وليس اعتبار الاعتقاد في الموضوع له مبنيّا على كون الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية.

بل يمكن القول بنفيه ولو مع البناء على القول المذكور ، والقول بإثباته على القول بوضعها للامور الخارجيّة أيضا ، فإنّ القائل المذكور يجعل ما وضع اللفظ له بحسب الواقع هو ما يعتقد أنّه ذلك المفهوم سواء كان المعنى الملحوظ في الوضع هو الأمر الخارجي أو الذهني.

فالخلاف في المقام في كون المعاني المتعلّقة للأوضاع هل هي الامور الخارجيّة ، أو الصور الذهنيّة ، أو غيرهما؟ وهذا القائل قد زاد عليه زيادة فجعل الموضوع له هو الأمر الخارجي ، لكن على حسب الاعتقاد أو الصورة الذهنيّة

٣٣٦

للشيء على حسب الاعتقاد وإن لم يطابقه بحسب الواقع.

ويشهد بالفرق بين المقامين أنّه لم ينقل هناك قول بالتفصيل ، والقول بالتفصيل معروف في المقام ، مضافا الى أنّ القول بملاحظة الاعتقاد في مداليل الألفاظ مذهب سخيف قد أعرض المحقّقون عنه وأطبقوا على فساد القول به ، ولم يقل به إلّا شذوذ من الناس ممّن لا تحقيق له ، ومع ذلك فهو في غاية الوضوح من الفساد ، ولا يدرى أنّ العبرة عندهم في الاعتقاد المأخوذ في مدلول اللفظ هل هو اعتقاد المتكلّم ، أو المخاطب ، أو المكلّف؟ وظاهر ما حكي عنهم الأخير ، وهو لا يجري في الإخبارات إلّا أن يفصّل في ذلك بين المقامين. وأمّا الخلاف في المقام فهو معروف بين الأفاضل الأعلام. فتأمّل.

والحقّ في المقام هو القول بوضع الألفاظ للامور الخارجيّة مطلقا بالتفسير الرابع.

وتوضيح القول في ذلك : أنّ الألفاظ إنّما وضعت للماهيّات بالنظر الى حصولها اللائق بها وإن لم يكن ذلك حاصلا لها بالفعل ، فلفظ الإنسان ـ مثلا ـ قد وضع بإزاء الحيوان الناطق من حيث حصوله في الخارج ، وبملاحظة كونه أمرا خارجيّا وإن لم يتحقّق له حصول في الخارج ، فهو ملحوظ في الوضع على نحو ملحوظيّة الموضوع في القضيّة المقدّرة ، فإنّ المراد بالإنسان في قولك : «كلّ إنسان حيوان» هو الإنسان الخارجي حيث حكمت على جميع أفراده بالحيوانيّة ، وكذا الحال في قولك : «النار حارّة» و «الماء بارد» و «التراب ثقيل» ونحو ذلك فإنّ المقصود بالنار والماء والتراب ليس إلّا الامور الخارجيّة وإن لم تكن موجودة بالفعل ، حيث إنّ الوجود اللائق بحالها هو الوجود الخارجي ، فالموضوع له هو تلك الماهيّات بملاحظة حصولها في الخارج من غير أن يكون الوجود الخارجي جزء من الموضوع له ، ولا قيدا فيه ، لكنّه ملحوظ في وضع اللفظ بإزاء تلك الماهيّات بمعنى أنّها قد وضع اللفظ بإزائها بملاحظة كونها عنوانات لمصاديقها الخارجيّة ، فالمفهوم الملحوظ حال الوضع لم يوضع له اللفظ بملاحظة صورته

٣٣٧

الحاصلة في الذهن ولا بملاحظة نفسه ـ سواء كانت حاصلة في الذهن أو في الخارج ـ ليكون حكاية عن الأعمّ من الموجود في الذهن أو في الخارج ، بل من حيث كونه حكاية وعنوانا للأمر الخارج.

فالمفاهيم الّتي من شأنها الاتّصاف بالوجود الخارجي على فرض وجودها كالمذكورات ونحوها إنّما وضعت الألفاظ بإزائها بملاحظة كونها خارجيّة وإن لم توجد في الخارج أصلا كالعنقاء ، بل ولو كانت ممتنعة في الخارج كشريك الباري ، فإنّه إنّما يراد به الأمر الخارجي المشارك للباري في صفات الكمال.

وأمّا ما لم يكن من شأنها الاتّصاف بالوجود الخارجي كالكلّية والجنسيّة والفصليّة ونحوها فهي أيضا قد وضعت لها الألفاظ من حيث كونها عنوانا للأفراد الموجودة بوجودها اللائق بحالها وإن كان حصولها في الذهن.

والحاصل أنّ الكلّية ليست موضوعة لمفهوم جواز الصدق على كثيرين بملاحظة نفسه ، ليصدق على ذلك بملاحظة كونه متصوّرا عند العقل ، بل من حيث كونه عنوانا لملاحظة تلك الحيثيّة الحاصلة في المفاهيم الكلّية من الإنسان والحيوان وغيرهما وإن كان حصول تلك الحيثيّة في الذهن خاصّة.

وأمّا ما كانت من شأنها أن تكون في الخارج وفي الذهن معا فهي موضوعة بإزائها بكلّ من الاعتبارين كالزوجيّة ، فإنّها موضوعة بإزاء المفهوم المذكور من حيث كونه عنوانا للأفراد الذهنيّة أو الخارجيّة ، فالمفاهيم إنّما وضعت لها الألفاظ بملاحظة تحصّلها في ظرفها اللائق بحالها من الذهن أو الخارج ، من غير أن يكون ذلك التحصّل جزء من الموضوع له ولا قيدا فيه ، بل قد وضع الألفاظ بإزائها بتلك الحيثيّة ومن تلك الجهة ، سواء كانت تلك الحيثيّة حاصلة لها في الواقع أو لا ، وذلك ممّا لا إشكال فيه بالنسبة الى ما يكون له وجود كذلك إمّا في الذهن ، أو الخارج ، أو ما يصحّ تقدير وجوده كذلك كما في العنقاء وشريك الباري.

وأمّا ما لا يكون له وجود في نفسه مع قطع النظر عن تصوّره ولا يصحّ أن يفرض له مصاديق خارجيّة أو ذهنيّة يصدق عليها على حسب التقدير

٣٣٨

«كاللا شيء» و «اللا موجود» ونحوهما فقد يشكل الحال فيها ؛ إذ ليس لتلك المفاهيم تحقّق في ذاتها من حيث كونها مدلولة لتلك الألفاظ ، ومقصودا إفهامها بها ولو على سبيل التقدير ، وليس حصولها في الذهن هو وجودها اللائق بحالها ، وليست تلك الألفاظ موضوعة بإزائها من تلك الحيثيّة.

قلت : لا شكّ أنّ الوجود الخارجي أو الذهني غير ملحوظ فيما وضع له لفظ العدم والنفي وأمثالهما ، بل الملحوظ فيه هو مفهوم العدم المحض ، وبطلان الذات فليس مفهوم العدم من حيث كونه حاصلا في العقل قد وضع له لفظ العدم ، بل من حيث كونه أمرا باطل الذات لا تحقّق له في الكون أصلا ، فحيثيّته هي حيثيّة البطلان ، فذلك المفهوم من حيث كونه عنوانا لتلك الحيثيّة قد وضع اللفظ له فحيثيّة حقيقة العدم هي حيثيّة البطلان والليس المحض ، وهي بتلك الحيثيّة مراد من تلك اللفظة ، فالحال فيما وضع تلك الألفاظ بإزائه على نحو سائر المفاهيم ، غاية الأمر أنّ حيثيّة الحقيقة في سائر المفاهيم متحصّلة ولو تقديرا بخلاف هذه ؛ فإنّها حيثيّة العدم وبطلان الذات.

فإن قلت : إذا كانت تلك الحيثيّة فيها هي حيثيّة العدم الصرف والليس المحض فكيف يمكن ارتباط أمر وجودي به بأن يتعلّق به الوضع؟.

قلت : لا مانع من ذلك ، فإنّ المفهوم المذكور ممّا يمكن أن يتصوّره العقل ويتعقّله ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أن يتعلّق الوضع به وإن كانت حيثيّة كونه موضوعا له هي حيثيّة اخرى ، يظهر ذلك بملاحظة ما قرّروه في الجواب عن شبهة الحكم على المعدوم المطلق بعدم إمكان الحكم عليه.

فصار المتحصّل أنّ تلك المفاهيم إنّما تكون متعلّقة للأوضاع من حيث كونها عنوانات لحقائقها في نفس الأمر ، من غير فرق بين أن يكون حقائقها قابلة للوجود الخارجي أو الذهني أو لكليهما معا ، أو غير قابلة لشيء منهما ، سواء كانت ممكنة الاتّصاف به ، أو ممتنعة ، ولا بين أن تكون حقيقتها هي حيثيّة الوجود والتحقّق كما في مفهوم الوجود أو حيثيّة العدم والبطلان كما في مفهوم العدم ، فتلك

٣٣٩

المفاهيم من حيث كونها عنوانات لمصاديقها قد وضع الألفاظ بإزائها من غير فرق بين الصور المذكورة أصلا ، ويدلّ على ذلك وجوه :

أحدها : أنّ المتبادر من الألفاظ عند التجرّد عن القرائن هو ذلك ، إذ لا ينساق منها الى الذهن إلّا نفس المفاهيم على النحو المذكور ، مع قطع النظر عن وجودها في الذهن أو الخارج ، ولا أخذها بحيث يشمل تصوّراتها الذهنيّة ، بل انّما ينصرف الى تلك المفاهيم من حيث كونها عناوين لمصاديقها ، فليس حصول تلك المفاهيم في الذهن إلّا من جهة كونه آلة لملاحظة ما عيّن اللفظ بإزائه ومرآة لمعرفته ، فهي من حيث حصولها عند العقل مرآة لملاحظتها في نفسها من حيث كونها عنوانا لمصاديقها ، وهي بالحيثيّة الثانية قد وضع اللفظ لها إلّا أنّ حصولها في الذهن إنّما يكون على الوجه الأوّل.

ثانيها : أنّا نجد مفاد الألفاظ والمفهوم منها في العرف قابلا للحكم عليه بالوجود الذهني أو الخارجي ، على حسب اختلاف المفاهيم في قبول الوجود غير متحقّق الحصول بالوجود اللائق به ، ولذا يصحّ حمل المعدوم عليها من غير تناقض ولا لزوم تجوّز ، ولو كان الوجود مأخوذا فيه شرطا أو شطرا لما صحّ ذلك ، فإذا انضمّ الى ذلك صحّة سلب المعنى المفهوم من تلك الأسامي بحسب العرف عن صورها الذهنيّة وتصوّراتها الحاصلة عند العقل ـ كما هو واضح بعد ملاحظة العرف ولو بالنسبة الى الامور الذهنيّة فإنّ تصوّر العقل لها غير حصولها في العقل ـ دلّ ذلك على عدم وضعها للصور الذهنيّة ولا للمفاهيم على النحو الأعمّ بحيث يشمل تلك الصور أيضا ، وحيث عرفت أنّ الحقائق التي يراد الانتقال اليها من تلك الألفاظ قد تكون امورا خارجيّة وقد تكون غيرها فلا وجه للقول بملاحظة خصوص الوجود الخارجي في وضعها ، فتعيّن القول بوضعها للمفاهيم على النحو الّذي ذكرنا.

فإن قلت : كما أنّه يصحّ ما ذكر مع كون الألفاظ موضوعة بإزاء المفاهيم على الوجه المذكور كذا يصحّ لو قيل بكونها موضوعة لنفس الصور من حيث كونها

٣٤٠