هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

منظورا في شيء من العلوم كما ذكرنا ، فظهر ممّا قرّرنا ضعف ما ذكره من وجهين.

الثاني : أنّ المتداول في المباحث العلمية هو البحث عن الامور العارضة لموضوعاتها بتوسّط أمر أعمّ من تلك الموضوعات ، ألا ترى أنّ الفقهاء يبحثون عن وجوب الأفعال وحرمتها ونحوهما مع أنّ تلك الأحكام إنّما تعرض للأفعال باعتبار تعلّق طلب الشرع لفعلها أو تركها ونحو ذلك ، وهي امور تعمّ خصوص كلّ من تلك الموضوعات وغيرها.

واجيب عنه : بأنّه يعتبر عندهم في الأمر الأعمّ في الفرض المذكور أن لا يكون أعم من موضوع العلم ، والحال كذلك في المحمولات المفروضة ونحوها ، إذ ليست الاعتبارات المفروضة أعمّ من موضوع العلم.

ويدفعه : أنّ مجرّد عدم أعميّته من موضوع الفنّ غير نافع في المقام ، إذ ليست حينئذ أعراضا ذاتيّة لخصوص ما يتعلّق بها من موضوعاتها ، إذ المفروض عروضها لأمر أعمّ منها ، ولا بالنسبة إلى موضوع الفنّ ، إذ لا يلزم أن تكون من الامور المساوية له بل قد يكون أخصّ منه كما في المثال المفروض.

فالتحقيق في الجواب عن الإيرادين المذكورين أن يقال : إنّ مجرّد أخصيّة العرض أو أعمّيته عن معروضه لا يقضي بكونه عرضا غريبا بالنسبة إليه ، كيف وقد عرفت أنّ العارض بتوسّط الأمر الأعمّ أو الأخصّ أو المباين من الأعراض الذاتيّة؟ إذا كانت الواسطة ثبوتية ، ومن البيّن أنّ أخصّية الواسطة قاضية بأخصّية العرض ، والأعمّ والمباين ممّا يمكن معهما وجود ذلك العرض في غير ذلك الموضوع أيضا ، فقد يكون أعمّ من المعروض ، ألا ترى أنّ عروض الفصل للجنس وعروض العرض المصنّف أو المشخّص للطبيعة النوعيّة من الأعراض الذاتية بالنسبة إلى معروضاتها ، مع أنّ الكلّ عارضة لنفس الذات من دون واسطة في العروض ولا مساواة لشيء منها للمعروض.

نعم ، العارض بتوسّط تلك العوارض في عروضه من الأعراض الغريبة وإن كانت الواسطة ذاتية ، بل مستندة إلى نفس الذات بذاتها ، بأن تكون نفس الذات

١٢١

كافية في عروضها ، لما عرفت من أنّ عروض تلك الصفة لها ليس لخصوصيّة في ذلك الموضوع ، فليس عروض تلك العوارض لاستعداد حاصل في ذات المعروض ، وإنّما هو من جهة الاستعداد الحاصل في الواسطة التي هي أعمّ أو أخصّ من الموضوع ، وحيث لم يكن لخصوصية تلك الذات استعداد للعروض لم يكن العرض ذاتيّا بالنسبة إليها حسب ما مرّ من التحقيق في معناه ، وليس تهيؤها لعروض المعروض باعثا على التهيؤ لعروض ما يعرضه ، إذ مع العموم يكون التهيؤ في الأعمّ ، ومع الخصوص لا تكون متهيّئا له إلّا بعد تخصيصها بما يجعلها مستعدّا لذلك ، فلا استعداد لنفس الذات ، وهذا بخلاف ما لو كانت الواسطة مساوية للمعروض على ما مرّ.

إذا تقرّر ذلك فقد ظهر اندفاع الإيرادين ، فإنّ ما ذكر من كون تلك الأعراض لاحقة بتوسّط الأعمّ أو الأخصّ لا ينافي كونها أعراضا ذاتية بالنسبة إلى الموضوع ؛ لكون الواسطة فيها واسطة في الثبوت ، فتلك العوارض تكون لاحقة لذات الموضوع بتوسّط تلك الامور فصولا كانت أو عوارض ، ألا ترى أنّ الرفع العارض للفاعل عارض لذات الكلمة وإن كان بتوسّط الفاعلية في ثبوته ، وكذا نصب المفعول وسائر عوارض الكلمات بسبب ما يعرض لها من الخصوصيات ، وكذا الحال في عروض الحركة بالإرادة للجسم في ضمن الحيوان فإنّها من الأعراض الذاتية للجسم ، وإن كان المبدأ لعروضها هو الإرادة التي هي أخصّ منه ، وهي من العوارض الذاتية للحيوان ، فالحركة المفروضة من العوارض الذاتية للجسم ، والواسطة فيها من الأعراض الذاتية للحيوان الغريبة بالنسبة إلى الجسم.

فقد ظهر بما ذكرنا أنّ كون الموضوع في المسائل هو جزئيات موضوع الفنّ من الأنواع أو الأصناف المندرجة تحته لا ينافي كون الأعراض المذكورة أعراضا ذاتيّة بالنسبة إلى موضوع الفنّ ، وكذا الحال فيما ذكروه من كون الموضوع في المسائل هو أجزاء الموضوع أو عوارضه الذاتية ، فإنّهم يعنون بهما الأجزاء والعوارض المساوية ، وقد عرفت أنّ الأعراض اللاحقة لهما من العوارض الذاتية للموضوع. فتأمّل.

١٢٢

قوله : (ولا بدّ له من مقدّمات ... الخ)

كأنّه أراد بالمقدّمات التصديقات التي يتوقّف عليها التصديق بمسائل العلم ، وظاهر إطلاقه يعمّ ما لو كان التوقّف عليها قريبا أو بعيدا ، اخذت جزء من القياسات المرتّبة في العلم أو لا ، فيشمل مسائل سائر الفنون المستقلّة التي يتوقّف عليها مسائل الفنّ والمقدّمات التي تستعمل في الفنّ لإثبات المطالب المذكورة ؛ ولذا عدّ العلوم الآتية من مبادئ الفقه.

قوله : (ومن تصوّرات الموضوع ... الخ)

قضية ما ذكر من التعميم في التصديقات تعميم التصوّرات أيضا لسائر التصورات التي يتوقّف عليها التصديق بمسائل الفنّ ، سواء كانت حدودا للموضوع أو لأجزائه أو لجزئيّاته أو لعوارضه الذاتيّة ممّا يقع موضوعا في مسائل العلم ، وكذا حدود محمولات المسائل وسائر التصورات التي يتوقّف عليها التصديق بالمقدّمات ، قريبة كانت أو بعيدة ، مذكورة في ذلك الفنّ أو غيره ، فاقتصاره في التصوّرات على ذكر التصورات الثلاثة ليس على ما ينبغي ، وربّما يحمل ذلك على المثال.

قوله : (ويسمّى مجموع ذلك بالمبادئ)

لا يخفى أنّ المبادئ على ما ذكر هو ما يتوقّف عليه التصديق بمسائل الفنّ ، فإن كانت تصديقات كانت مبادئ تصديقيّة ، وإن كانت تصوّرات كانت مبادئ تصوّرية ، وحينئذ يشكل الحال في عدّ المبادئ من أجزاء العلوم كما هو المعروف بينهم ، إذ يلزم حينئذ جعل كثير من مسائل سائر العلوم جزء من العلم الذي يتوقّف عليها ، وهو خلاف المعهود، وكأنّ المعدود من أجزاء العلوم غير المعنى المذكور ؛ ولذا خصّ بعضهم المبادئ التصديقيّة بالقضايا التي يتألّف منها قياسات العلم والمبادئ التصوّرية بحدود الموضوع وأجزائه وجزئياته وعوارضه الذاتية.

وبالجملة : المناسب أن يراد من المبادئ المجعول جزء من العلوم التصورات والتصديقات المذكورة في الفنّ ممّا يتوقّف عليه التصديق بمسائل ذلك الفنّ ،

١٢٣

فالاولى هي حدود الامور المذكورة والمحمولات وحدود سائر التصورات المأخوذة في التصديقات المذكورة في الفنّ ، والثانية هي التي يتألف منها قياسات العلم ، فيكون للمبادئ إطلاقان ، والمراد منها في المقام هو الأخير ؛ ولذا قوبل بالموضوع والمسائل ، إذ هما الجزءان الآخران للعلوم ، وحينئذ فالتعميم المذكور في المبادئ التصديقيّة ليس على ما ينبغي ، وإنّما المناسب لذلك هو المبادئ بالمعنى الأوّل ، فلا تغفل.

وهناك إطلاق ثالث للمبادئ ذكره ابن الحاجب ، وهو إطلاقه على ما يبتدأ به قبل الشروع في المقصود من الفنّ ، والنسبة بينه وبين كلّ من الإطلاقين المتقدّمين هي العموم من وجه.

قوله : (عن الأحكام الخمسة ... الخ)

قد يقال : إنّه يبحث في علم الفقه عن سائر الأحكام الوضعية كالسببيّة والمانعيّة والشرطيّة وغيرها ، فلا وجه لتخصيص المبحوث عنه بالامور السبعة.

وقد يدفع : بأنّه ليس في كلامه ما يفيد الحصر في المذكورات ، وإنّما اقتصر عليها ، إذ هي الأحوال المتعلقة بأفعال المكلّفين في الغالب.

وقد يقال برجوع السببيّة والشرطيّة ونحوهما إلى الأحكام المذكورة ، فإنّ مرجع سببية الدلوك مثلا لوجوب الصلاة هو وجوب الصلاة عند الدلوك وعدم وجوبها قبله ، ومعنى اشتراط البيع بالملك أو إجازة المالك عدم صحّته مع انتفائهما ... وهكذا.

وفيه : أنّ مرجع الصحّة والفساد أيضا إلى الأحكام التكليفيّة كما نصّ عليه غير واحد منهم ؛ ولذا قيل بانحصار الأحكام في الخمسة التكليفيّة ، فإن بني على استقلال كلّ من التكليفيّة والوضعيّة في كونه حكما شرعيّا ـ كما هو المختار ـ لزم ذكر الجميع ، وإلّا كان المتّجه ترك ذكر الصحّة والفساد أيضا.

قوله : (من حيث كونها عوارض لأفعال المكلّفين)

يرد عليه : أنّ اعتبار خصوص أفعال المكلّفين يقضي بخروج ما كان من

١٢٤

الأحكام المذكورة متعلّقا بأفعال الأطفال والمجانين ، كالحكم بفساد عقودهم وإيقاعاتهم وفساد عبادات المجنون ، واستحباب سائر العبادات للصبيّ المميّز بناء على شرعيّة عباداته كما هو الأظهر ، ونحو ذلك من الأحكام المتعلّقة بأفعالهم وقد يذبّ عنه بالتزام الاستطراد في المباحث المذكورة.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ كثيرا من مباحث الفقه قد لا يتعلّق بأفعال المكلّفين كمباحث الميراث ، سيّما إذا كان الوارث والمورّث غير مكلّف ، والتزام الاستطراد فيه بعيد جدّا. وقد يوجّه ذلك بأنّ المقصود هناك هو الأحكام المتفرّعة عليه المتعلّقة بالمكلّفين. فتأمّل.

قوله : (من حيث الاقتضاء والتخيير)

فيه : أنّه لا وجه لقصر جهة البحث في الوجهين المذكورين مع تعميمه في المحمولات اللاحقة ، فكان ينبغي ذكر جهتي الصحة والفساد ، وقد يؤوّل بالتعميم في لفظ الاقتضاء بحيث يشمل ذلك ، وكان الأولى أن يقول : من حيث كونها متعلّقات خطاب الشرع.

* * *

١٢٥
١٢٦

معالم الدين :

المقصد الثانی

في تحقيق مهمّات المباحث الاصولية الّتي هي الأساس لبناء الأحكام الشرعيّة ، وفيه مطالب :

المطلب الأوّل

في نبذة من مباحث الألفاظ

تقسيم :

اللفظ والمعنى ، إن اتّحدا ، فامّا أن يمنع نفس تصوّر المعنى من وقوع الشركة فيه ، وهو الجزئيّ ، أو لا يمنع ، وهو الكلّيّ ثم الكلّي : إمّا أن يتساوى معناه في جميع موارده ، وهو المتواطي ؛ أو يتفاوت ، وهو المشكّك.

وإن تكثّرا ، فالألفاظ متباينة ، سواء كانت المعاني متّصلة كالذات والصفة ، أو منفصلة كالضدّين.

وإن تكثّرت الألفاظ واتّحد المعنى فهي مترادفة.

وإن تكثّرت المعاني واتّحد اللفظ من وضع واحد ، فهو المشترك.

وإن اختصّ الوضع بأحدها ، ثمّ استعمل في الباقي ، من غير أن يغلب فيه ، فهو الحقيقة والمجاز. وإن غلب ، وكان الاستعمال لمناسبة ، فهو المنقول اللغويّ ، أو الشرعيّ ، أو العرفيّ. وإن كان بدون المناسبة فهو المرتجل.

١٢٧

قوله : (اللفظ والمعنى إن اتّحدا)

المراد بالمعنى هو المفهوم الذي يقصد من اللفظ دون ما يلاحظ حين الوضع ، سواء كان ذلك اللفظ موضوعا بإزائه على جهة الخصوص أو العموم أو لم يكن موضوعا له.

والمراد باتّحادهما أن يكونا متّحدين في الملاحظة وإن كان اللفظ المعيّن لذلك المعنى متعدّدا في الواقع أو تعدّد المعنى المعيّن بإزائه ، فيجري التقسيم المذكور بالنسبة إلى اللفظ والمعنى في جميع الأقسام الآتية ، إلّا أنّ الاختلاف بين الأقسام بحسب الملاحظة ؛ للزوم ملاحظة الكثرة من جانب واحد أو جانبين في تلك الأقسام بخلاف هذا وإن لم يكن ملاحظة الوحدة معتبرة في المقام أيضا ، إلّا أنّه لما كانت الكليّة والجزئيّة باعتبار ملاحظة نفس المفهوم من حيث تجويز صدقه على الكثرة وعدمه لزمه اتّحاد المعنى الملحوظ من تلك الجهة وإن فرض ضمّ غيره إليه ، إذ لا مدخل له في الاتصاف المذكور أصلا ، فليس الملحوظ في تلك الملاحظة إلّا معنى واحدا ، ولو فرض ضمّ معنى آخر إليه فهو بملاحظة اخرى لا ربط له بتلك الملاحظة ومن ثمّ لا حظ الوحدة في المقام ليتقابل الأقسام.

ثمّ إنّ المتّصف بالصفات المذكورة بالذات هو المعاني خاصّة ، وإنّما تتّصف الألفاظ بها على سبيل التبعية ، كما أنّ الصفات الآتية يتّصف بها الألفاظ بالذات ، ولا تتّصف المعاني بها إلّا بالتبعية على فرضه.

قوله : (إمّا أن يمنع نفس تصوّر المعنى ... الخ)

أراد بذلك أن تكون نفس تصوّر المعنى مانعة من الصدق على الكثرة مع قطع النظر عن جميع ما هو خارج عنه ، فيكون المعتبر في القسم الآخر أن لا تكون نفس تصوّر المعنى مانعة عن الصدق على الكثرة وإن امتنع صدقه عليها بحسب الواقع ؛ نظرا إلى غير الجهة المذكورة ، إمّا بامتناع صدقه على شيء من الأفراد أو امتناع صدقه على ما عدا الواحد.

١٢٨

وهذا البيان في التقسيم أولى ممّا ذكر من بناء التقسيم على امتناع فرض صدقه على كثيرين وعدمه في القسمين المذكورين ، لما في لفظ الفرض من الاشتراك بين التقدير والتجويز ، ولا يصحّ الحدّ إلّا على الأخير ، ولخروج الكلّي الذي يمتنع صدقه على شيء مطلقا كشريك الباري أو على ما يزيد على الواحد كواجب الوجود عن حدّ الكلّي واندراجه في الجزئي لعدم تجويز صدقه على كثيرين.

وقد يذبّ عنه بإمكان تصحيح الحدّ بالفرق بين استحالة الفرض وفرض المستحيل ، والمذكور في الحدّ هو امتناع الفرض ، والممتنع في الكلّي المفروض إنّما هو المفروض دون الفرض.

وفيه ما لا يخفى ؛ نظرا إلى امتناع تجويز العقل ذلك في بعض الكليّات ممّا يكون امتناع صدقها على الأفراد ضروريّا كاللاشيء والممتنع ، وأيضا يلزم اختلاف حال المفهوم في الكلية والجزئية باختلافه في التجويز المذكور ، فإنّه قبل قيام البرهان على امتناع صدقه على كثيرين يندرج في الحدّ المذكور ، وبعد قيام البرهان عليه عند العقل يخرج عنه.

ثمّ إنّه قد يورد على التقسيم المذكور تارة : بأنّ الشبح المرئي من البعيد ممّا يجوّز العقل صدقه على امور عديدة مع أنّه ليس بكلّي ، وقد نصّ الشيخ على أنّ الطفل يدرك شبحا واحدا من امّه بحيث يصدق على غيرها ؛ ولذا يتخيّل أن يكون كلّ وارد عليه هي امّه ، فيصدق ذلك على كثيرين مع كونه جزئيا حقيقيّا.

واخرى : بأنّ كلّا من المفاهيم الجزئية مطابق لصورها التي في أذهان الجماعة ، فيلزم أن يكون كليّا.

وما يقال من أنّ الكليّة والجزئيّة من العوارض الذهنيّة فهي إنّما تعرض للمفاهيم الحاصلة في الذهن دون الامور الخارجيّة.

مدفوع : بأنّا لا نلاحظ المفهوم المذكور من حيث وجوده في الخارج ، بل من حيث تصوّر المتصوّر له ، فإنّ ذلك المفهوم الحاصل في العقل مع كونه جزئيّا

١٢٩

حقيقيّا منطبق على جميع تلك الصور الكثيرة الحاصلة في الأذهان العديدة.

ويندفع الأوّل : بأنّ المقصود امتناع صدق المفهوم على الكثرة على سبيل الشمول كالإنسان الصادق على أفراده لا على سبيل البدليّة ، إذ مصداقه حينئذ واحد شخصي بحسب الواقع لا تكثّر فيه ، وإنّما يقوم الاحتمال في العقل لعدم تعيّن المصداق عنده ، والصورة الشبحيّة يمتنع صدقها عند العقل على ما يزيد على الواحد ، إلّا أنّه لعدم تعيّنه عند المدرك يدور بين آحاد من نوع واحد أو أنواع عديدة على سبيل البدليّة ، وكذا الحال في الصورة المدركة للصبي ، إلّا أنّه لعدم ادراكه تعدّد الآحاد المنطبقة عليها يحسب الجميع واحدا.

ومن ذلك يعلم أنّ النكرة التي يراد بها ـ باعتبار عدم تعيين مدلوله ـ فرد ما على سبيل الإبهام تندرج في الجزئي وإن كان هناك شيوع في معناها ، وإطلاق الكلّي عليها في كلماتهم إمّا مجاز ؛ نظرا إلى ملاحظة شيوعها تنزيلا لها من تلك الجهة منزلة الكلّي الصادق على كثيرين ، أو بملاحظة مدخول التنوين لوضعه للطبيعة الكلّية المطلقة.

والثاني : بأنّ المراد امتناع صدقها على كثيرين بحسب الوجود الأصيل دون الظلّي ، فإنّه بناء على ما ذهب إليه المحقّقون من وجود الأشياء بحقائقها في الأذهان تكون حقيقة الجزئي موجودة في أذهان عديدة ، مع كونها حقيقة واحدة غير قابلة للصدق على كثيرين في الخارج. وهذا مقصود من أجاب بأنّ المراد هنا هو امتناع الصدق على الكثرة باعتبار الوجود الخارجي دون الوجود الذهني.

فما اورد عليه من انتقاضه بالكليّات التي لا وجود لأفرادها إلّا في الأذهان ـ كالعلم ـ مدفوع بأنّ ذلك هو الوجود الخارجي بالنسبة إليها ، فعلى هذا يتّحد المقصود من الوجود الخارجي والوجود الأصيل ، كالوجود الذهني والوجود الظلّي.

فإن قيل : لو كانت الصورة المنتزعة من زيد مثلا جزئيّا حقيقيا ـ كما هو المدّعى ـ لزم قيام الجزئي الحقيقي بمحالّ متعدّدة ، وهو محال.

١٣٠

قلت : الجزئي ـ كما عرفت ـ ما يستحيل صدقه على كثيرين بحسب الوجود الأصيل ، وقيام الجزئي الحقيقي من حيث الوجود الظلّي بمحالّ متعدّدة لا مانع منه ؛ لرجوعه إذن إلى أشخاص متعدّدة من العلم وإن كان المعلوم شخصا واحدا ، والمحال حينئذ قيام شخص واحد من العلم بمحالّ عديدة.

قوله : (إمّا أن يتساوى معناه)

لا يذهب عليك أنّه لا يجري شيء من القسمين المذكورين في الكليّات الفرضية ، إذ لا صدق هناك حتّى يتساوى أو يتفاوت ، فتكون واسطة بين القسمين المذكورين ، وإنّما لم يتعرّضوا لها نظرا إلى أنّه لا فائدة في البحث عن الامور الممتنعة ، وقد يدرج ذلك في المتواطئ ؛ لتساويها في الصدق على الأفراد الفرضيّة ؛ نظرا إلى صدق تلك المفاهيم على أفرادها على نهج واحد مع قطع النظر عمّا هو خارج عنها ، نظير ما قرّرنا صدق الكلّي عليها ، أو يقال: إنّ المراد بالتساوي عدم حصول التفاوت في الصدق ، فيصدق مع انتفاء الصدق أيضا.

قوله : (أو يتفاوت)

سواء كان الاختلاف بأوّلية ، بأن يكون صدقه على أحدهما قبل صدقه على الآخر قبليّة زمانيّة أو غيرها ، والمقصود أن يكون بعض أفراده متقدّما على غيره في صدق ذلك الكلّي عليه بنفس ذلك الكلّي لا بغيره ، فليس من ذلك تقدّم صدق الإنسان على الأب بالنسبة إلى صدقه على الابن ، إذ التقدّم هناك إنّما هو في صدق الإنسان عليه خارجا لا بنفس الإنسانيّة ، فهو من التقدّم في الوجود نظرا إلى توقّف وجود الابن على وجود الأب ، ولا تقدّم له بالنسبة إلى نفس الإنسانية ، إذ ليس صدق المفهوم مطلقا على الابن متوقّفا على صدقه على الأب.

أو بأولويّة ، بأن يكون صدقه على بعض الأفراد بالذات دون بعض آخر.

أو بأشدّيّة ، بأن يكون ذلك المفهوم في بعض الأفراد أقوى من البعض.

وقد يعبّر عن الثلاثة بالأولويّة ؛ لحصولها بكلّ من الاعتبارات المذكورة ،

١٣١

والوجوه الثلاثة من التشكيك حاصلة في الوجود ، فإنّ صدقه على الواجب أولى بالوجوه الثلاثة من صدقه على الممكن.

قوله : (سواء كانت المعاني ... الخ)

المدار في تعدّد المعنى على اختلافه بحسب المفهوم ، سواء اندرج أحد المعنيين في الآخر أو لا ، وسواء اتّحدا في المصداق كليّا كما في المتساويين أو جزئيّا كما في العام المطلق أو من وجه ، أو تباينا فيه مع اتّصال أحدهما بالآخر كالصفة والموصوف أو مفارقته له ، فإنّ جميع الصور المفروضة مندرجة في المتباينة وإن لم يكن هناك تباين بين المعنيين في كثير من صوره ، فلا ربط للتباين المعروف بالمقصود في المقام.

ثمّ إنّ ذلك يعمّ ما لو تعدّد الوضع فيها أو اتّحد كما في المشتقات (١) ، وما لو وضع اللفظ لهما أو لأحدهما أو لم يوضع لشيء منهما ، فيعمّ الحقائق والمجازات منفردة وملحوظة مع الآخر.

قوله : (وإن تكثّرت الألفاظ واتّحد المعنى)

سواء كان لكلّ من اللفظين وضع مستقلّ أو كان الجميع موضوعا بوضع واحد كما في «جالس» و «قاعد» في وجه ، وكذا الحال لو كان الوضع في أحدهما شخصيّا وفي الآخر نوعيّا لو فرض حصوله ، وليس منه نحو زيد ، وهذا وإن كان الموضوع له في المبهمات خاصّا ، إذ الموضوع له هناك خصوص أفراد المشار إليه من حيث إنّه مشار إليه ، فالمفهومان متغايران وإن اتّحدا في المصداق.

ثمّ إنّ إطلاق العبارة قاض بصدق الترادف بالنسبة إلى المجازات والملفق من الحقيقة والمجاز ، وهو خلاف ظاهر الاصطلاح.

قوله : (من وضع واحد)

فسّر المصنّف رحمه‌الله ذلك بما لم ينظر فيه إلى الوضع الآخر ، فالمقصود توحّد كلّ

__________________

(١) إذ ليس شيء من خصوص تلك الألفاظ موضوعا بالوضع الشخصي لمعناه ، بل كلّ منها موضوع لمعناه الخاصّ به بالوضع المشترك بين الكلّ ، حسب ما فصّل في محلّه. (منه رحمه‌الله).

١٣٢

من الأوضاع وتفرّده بأن لا يكون تابعا لغيره ولا منظورا فيه حال الغير ، وكأنّ القرينة عليه أنّ مقتضى العبارة كون تعدّد المعنى حاصلا من الوضع الواحد ، فلا يلائمه اتحاد الوضع على النحو المعروف ، إذ هو قاض باتّحاد المعنى لا تعدّده ، نعم على القول بثبوت الوضع العامّ مع كون الموضوع له خاصّا ينصرف ظاهر العبارة إليه ، إلّا أنّ القول به إنّما شاع بين المتأخّرين ، وليست التقسيمات مبنيّة عليه ؛ ولذا لا يذكرون ذلك في الأقسام ، وأيضا وضوح الحال في تعدّد الأوضاع في المشترك كاف في الصرف عنه.

وكيف كان ، فعدم إرادة الوحدة بمعناه المعروف ظاهر في المقام ، وأنت خبير بأنّ مجرّد ذلك لا يعيّن حمله على المعنى المذكور إن اريد به ظاهره من عدم النظر إلى الوضع الآخر مطلقا ، ويومئ إليه عدّه المرتجل فيما يقابله على التوجيه الآتي.

وما يقال من أنّ تفسيره له بذلك بمنزلة جزء التعريف بيّن الفساد ، على أنّه يرد عليه خروج اللفظ الموضوع وضعا مستقلا لمعنى آخر بملاحظة مناسبته للمعنى الأوّل ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في إدراجه في المشترك مع خروجه عن الحدّ المذكور ، بل ظاهر تقسيمه خروجه عن جميع الأقسام المذكورة ؛ لعدم اندراجه في شيء من الأقسام الآتية أيضا ، وعلى ظاهر عبارته بناء على الوجه المذكور يندرج في المجاز.

ولو حمل العبارة على إرادة الوضع المنفرد الذي لا يكون تابعا لوضع آخر مترتّبا عليه كما في المنقول التخصّصي وإن لوحظ فيه المناسبة للمعنى الأوّل فهو ـ مع بعده عن ظاهر التفسير المذكور ـ يقتضي فساد ما ذكره في المرتجل ، إذ لا يمكن تصحيحه ظاهرا بالتعسّف الآتي أيضا ، على أنّه لو فرض بلوغ المجاز إلى حدّ الحقيقة من جهة الغلبة مع عدم هجر الأوّل كان من المشترك مع خروجه عن الحدّ المذكور قطعا ، وعلى ظاهر كلامه يندرج في المجاز في وجه وفي المنقول في آخر كما سيأتي الإشارة إليه. والأوّل واضح الفساد ، والثاني بعيد جدّا مخالف لظاهر الاصطلاح ؛ لاعتبارهم تحقّق الهجر في حصول النقل.

١٣٣

ثمّ إنّ اعتبار تعدّد الوضع في المشترك قاض بعدم شموله لما إذا تصوّر الواضع معنيين ووضع اللفظ لكلّ منهما ، أو تصوّر معاني مختلفة على سبيل الإجمال ووضع اللفظ بإزاء كلّ منها ؛ لاتّحاد الوضع هناك وإن تعدّد الموضوع له ، مع أنّ الظاهر إدراج ذلك في المشترك ، إذ لا فرق في الحقيقة بين إبراز الوضع بصيغة مخصوصة به أو بنحو يتعلّق بكلّ واحد من المعاني المختلفة.

ويجري الإشكال المذكور في المشتقات التي تكون مبادئها مشتركة ، فإنّه يسري الاشتراك إليها مع عدم تعدّد الوضع فيها ، إذ هي موضوعة بوضع واحد نوعيّ ، إلّا أن يقال : إنّ لها وضعين : أحدهما شخصي وهو وضعها بحسب المادّة ، والآخر نوعيّ وهو وضعها الهيئي ، وهو كلام ظاهريّ مخالف للتحقيق وإن أوهمه بعض العبارات ، إذ من البيّن أنّ وضع المادّة مخصوص بتلك المادّة المأخوذة على الهيئة المخصوصة الملحوظة في مبادئها ولا يعمّ تلك المادّة على أية هيئة كانت ليعمّ المشتقات ، فالوضع الحاصل في المادّة المأخوذة في المشتقات إنّما يأتي من الوضع النوعي المتعلّق بها ، غاية الأمر أن يكون الوضع النوعي هناك مختصّا بما إذا كان المبدأ موضوعا ، فتكون موضوعيّة المبدأ في نفسه قيدا ملحوظا في وضع المشتق ، ولا يقضي ذلك بكون المادة في ضمنها موضوعة بذلك الوضع ، فلفظة «ضارب» موضوعة بالوضع النوعي لمن قام به الضرب ، ويكون انفهام مجموع ذلك المعنى بذلك الوضع لا غير وإن توقّف معرفة مفاد المادّة على العلم بوضع الضرب ؛ نظرا إلى ترتّب الوضع المذكور عليه وتسرية المعنى بهذا الوضع إليه من الموضوع بالوضع الأوّل.

وقد يقال بتنزيل الوضع المذكور منزلة وضعين : أحدهما بالنسبة إلى الهيئة ، والآخر بالنظر إلى المادّة ، حيث إنّ الملحوظ عند الواضع كون الهيئة مفيدا لشيء والمادّة لآخر ، فمعناه الهيئي إنّما يحصل بنفس هذا الوضع استقلالا ، ومعناه المادّي إنّما يسري إليه من اللفظ الموضوع بوضع آخر ، فاللفظ الموضوع ملحوظ على

١٣٤

سبيل العموم بالنسبة إلى الأمرين ، إلّا أنّ الوضع نوعيّ بالنسبة إلى الهيئة شخصيّ بالنظر إلى المادة ، والاشتراك المفروض إنّما لوحظ بالنسبة الى الأخير ، وبهذا الوجه يمكن تنزيل بعض العبائر الدالّة على تعدّد الوضع في المشتقات.

فإن قلت : كيف يصحّ القول بكون الوضع بالنظر إلى المادّة خاصا مع أنّ معناها المادي ملحوظ على جهة العموم أيضا ، إذ ليس شيء من معاني المبادئ ملحوظا هناك بالخصوص؟

قلت : الحال كما ذكرت إلّا أنّ هناك فرقا بين اللحاظين ، فإنّه قد يكون الملحوظ في الوضع هو الجهة العامّة ، ويكون كلّ من الخصوصيّات ممّا وضع اللفظ بإزائه من جهة كونه من أفراد المعنى الملحوظ ومن حيث صدق المفهوم المفروض عليه ، كما هو الحال في أسماء الإشارة ونحوها على القول بوضعها للخصوصيّات وقد يكون الموضوع له هو خصوص كلّ من المعاني الخاصّة ، ويكون المعنى العامّ ملحوظا لمجرّد كونها آلة لملاحظتها ووجها من الوجوه الباعثة لإحضارها في الذهن ، من غير أن يكون لخصوصيّة ذلك المفهوم العامّ مدخلية في المعنى الموضوع له كما في الصورة المفروضة ، فإنّ كلّا من خصوصيّات المواد الحاصلة في ضمنها إنّما وضعت لخصوصيّات معانيها الخاصّة وإن كان إحضار كلّ منها في الذهن حال الوضع على وجه عامّ.

وكذلك الحال في الصورة المتقدّمة فإنّ الوضع هناك وإن تعلّق بأمر يعمّ الكلّ إلّا أنّ كلّا من تلك الخصوصيّات ممّا وضع اللفظ بإزائها لخصوصها ، فهو إذن كالوضع المستقل المنفرد من غير فرق أصلا ، وحينئذ فيمكن إدراج ذلك في العبارة من حيث إنّ تحقّق الوضع لكلّ منها غير منظور فيه الوضع للآخر وإن حصل الوضع للكلّ بجعل واحد. هذا غاية الكلام في توجيه هذا المقام.

ثمّ إنّ ظاهر العبارة يعمّ ما لو بقي الوضعان على حالهما أو هجر أحد المعنيين أو كلاهما ؛ نظرا إلى حصول الوضع بالنسبة إليهما ، وكذا لو وضع اللفظ لأحدهما

١٣٥

في اللغة ثمّ وضع للآخر في العرف ابتداء من دون ملاحظة الوضع للأوّل مع بقاء ذلك المعنى أو هجره ، وإدراج ذلك كلّه في المشترك محلّ خفاء ، والظاهر إدراج الأخير في المرتجل.

هذا ، ويعمّ الاشتراك ما لو كان الوضعان شخصيّين أو نوعيّين أو مختلفين ، ولو اتّحد اللفظان من جهة إعلالهما أو إعلال أحدهما فلا يبعد إدراجهما في المشترك ك «أنّ» الفعلية والحرفيّة ، إذ الأظهر تعلّق الوضع بما بعد الإعلال إلّا أن يكون الإعلال عارضيّا ، فالظاهر عدم اندراجه فيه ولو كان أحد اللفظين موضوعا بوضعين والآخر بوضع واحد ك «أنّ» الحرفية والمركّبة من فعل الأمر ونون التأكيد ففي إدراجهما في المشترك وجهان ، وظاهر الحدّ الخروج وإن لحقهما أحكام الاشتراك ، ويجري ذلك في المركّبات الموضوعة للأعلام ك «عبد الله» علما ومركّبا إضافيّا و «تأبّط شرّا» ثمّ إنّ ظاهر الحدّ المذكور يعمّ ما لو كان الوضعان في لغة واحدة أو لغتين وفي عرف واحد أو عرفين ، إلّا أنّه لا يلحقه أحكام الاشتراك غالبا مع الاختلاف ؛ لحمله مع الإطلاق على اصطلاح القائل ، ويجري التعميم المذكور في المترادفين أيضا.

قوله : (وإن اختصّ الوضع بأحدهما)

لا يخفى أنّه لا يعتبر في المجاز ولا في المنقول والمرتجل اختصاص الوضع بأحد المعاني ، بل يعمّ صورة التعدّد أيضا ، كما لو كان للفظ معنيان أو معاني ثمّ استعمل في غيرها مجازا أو نقل إليه ، فلا وجه لاعتباره اختصاص الوضع بواحد منها.

ثمّ إنّه إن أراد اختصاص مطلق الوضع به لزم أن يكون المنقول خاليا عن الوضع بالنسبة إلى معناه المنقول إليه ، بل يلزم أن يكون المرتجل مستعملا من دون الوضع والمناسبة ، وهو من الغلط قطعا ؛ لانحصار الاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز.

وإن أراد به الوضع الواحد بالمعنى الذي فسّره به ليكون اللام للعهد لزم أن

١٣٦

يكون اللفظ الموضوع لأحد المعنيين بمناسبة الآخر إذا لم يغلب استعماله فيه مندرجا في المجاز ، نعم لو حمل الوضع الواحد على الوجه الأخير من الوجهين المذكورين ـ فيما حكي عنه من التفسير ـ اندفع ذلك ، إلّا أنّه لا يصحّ عدّ المرتجل من جملة ذلك ؛ لوضوح تعدّد الوضع فيه بالمعنى المذكور ، كيف ولو لا ذلك لزم أن يكون استعمالاته قبل الغلبة غلطا ؛ لوقوعها من دون الوضع والمناسبة.

قوله : (من غير أن يغلب فيه)

قيل : المراد بالغلبة أن يهجر المعنى الأوّل ، فلا يراد إلّا مع القرينة بخلاف المعنى الثاني.

قلت : فيرد عليه : أن يكون اللفظ الذي كثر استعماله في المعنى الثاني إلى أن وصل إلى حدّ الحقيقة مع عدم هجر الأوّل مندرجا في الحقيقة والمجاز ، وهو واضح الفساد.

وقد يفسّر الغلبة بشيوع استعماله في المحاورات إلى أن يتبادر من اللفظ من دون ملاحظة شيء من القرائن الخاصّة والعامّة ، سواء ساوى الحقيقة الاولى أو غلب عليها ، وإنّما أطلقها اتّكالا على وضوح الحال ، إذ لا مجال لتوهّم الاكتفاء بمطلق الشيوع وغلبة الاستعمال ، وإلّا لا نتقض حدّ المنقول والمجاز طردا وعكسا بالمجاز المشهور ، فالمراد بها خصوص الغلبة البالغة إلى الحدّ المذكور ، سواء حصل معها هجر الأوّل أو لا ، وحينئذ فيندفع اندراج الفرض المذكور في المجاز ، لكن يلزم اندراجه في المنقول ، ولا يقولون به لما عرفت من اعتبارهم فيه حصول الهجر.

وقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف ما قد يورد في المقام من لزوم اندراج المجاز المشهور في المنقول وخروجه عن المجاز ؛ نظرا إلى تحقّق الغلبة فيه لمساواته الحقيقة أو رجحانه عليها ، فيفتقر فيه حمل اللفظ على الحقيقة على قيام القرينة ، وذلك لما عرفت من أنّ المراد بالغلبة في المقام ما يوجب تعيّن اللفظ لذلك المعنى ، فيقضي بالتوقّف في الحمل أو رجحان المعنى الغالب ، مع قطع النظر عن جميع

١٣٧

القرائن حتّى ملاحظة الشهرة ، وهو غير حاصل في المجاز المشهور.

هذا ، ولا يذهب عليك أنّ استعمال المنقول في كلّ من معنييه على سبيل الحقيقة ؛ لحصول الوضع بالنسبة إلى كلّ منهما ، غير أنّ إطلاقه مع انتفاء القرائن ينزّل على المعنى الأخير ، والحمل على الأوّل يتوقّف على قيام القرينة ، وربّما يتوهّم زوال أثر الوضع بالنسبة إلى الأوّل ، فإذا استعمل فيه كان مجازا فينعكس فيه الأمر ، وهو فاسد ، إذ لا رافع هناك للوضع بعد تحقّقه ، ومجرّد انصراف إطلاقه إلى الأخير وافتقار حمله على الأوّل على القرينة من جهة الغلبة المفروضة لا يقضي بكون الأوّل مجازا ، كيف ولو كان مجازا لما اتّجه جعله قسما برأسه وانتقض به حدّ المجاز ، ومن هنا يعلم أنّ الألفاظ المتروكة في العرف لا يلحق بالمهملات مع حصول الهجر بالنسبة إليها. هذا إذا استعمل في الأوّل من جهة الوضع له ، وأمّا إذا كان بملاحظة العلاقة الحاصلة بينه وبين الأخير ـ كما هو الظاهر من استعماله فيه بعد تحقّق النقل ـ فلا شكّ في كونه من المجاز ، ويجري الوجهان في استعمال المشترك في أحد معنييه مع هجره أو بقائه على حاله ؛ ولذا اعتبرت الحيثيّة في حدّي كلّ من الحقيقة والمجاز.

قوله : (فهو الحقيقة والمجاز)

المعروف أنّ التسمية بالحقيقة والمجاز فرع الاستعمال ؛ ولذا عرّفتا في المشهور بالكلمة المستعملة فيما وضع له في اصطلاح به التخاطب أو ما يؤدّي ذلك ، كما هو مذكور في الكتب الاصوليّة والبيانية ، وهو غير مأخوذ في الحقيقة على ما ذكره ، فلا يستقيم إطلاقه.

ولو قيل باختصاص المقسم بما إذا تحقّق الاستعمال إذ المراد بالمعنى هو الأمر المقصود من اللّفظ ، ففيه ـ مع عدم دلالته عليه إذ لا يفيد ذلك كونه مقصودا بالفعل ـ أنّه يلزم من ذلك تخصيص سائر الأقسام كالمشترك والمترادف بذلك ، وظاهر تحديداتهم لها يعمّ المستعمل وغيره.

ثمّ إنّ في العبارة إشكالا آخر ، فإنّ تخصيص المجاز بالذي لم يغلب على

١٣٨

الحقيقة يقتضي خروج الغالب عليها مع اندراجه في المجاز أيضا ، فإنّ المنقول العرفي أو الشرعي مجاز لغويّ ولو بعد النقل والغلبة.

وقد يذبّ عنه : بأنّ الحيثيّة معتبرة في المقام ، فيكون من حيث غلبته منقولا ، ومع قطع النظر عن غلبته وتعيّن اللّفظ له إذا لوحظ في الاستعمال علاقته لمعناه الأوّل يكون مجازا ، لكن استفادة ذلك من العبارة مشكل ، وكأنّه تسامح في التعبير اتّكالا على وضوح الأمر.

قوله : (فهو المنقول اللغوي ... الخ)

ينسب إلى ما وقع النقل بحسبه من الشرع أو اللغة أو العرف العامّ أو الخاصّ ، وثبوت المنقول بالوجه الأخير ممّا لا كلام فيه ، والنزاع في المنقول الشرعيّ معروف يأتي الكلام فيه إن شاء الله.

والمنقول اللغوي لم يثبت وجوده ، فهو مجرّد فرض ولذا تركه جماعة ، ومثّل له بعضهم بالغائط ، فإنّه اسم للأرض المنخفضة وقد جعل إسما للحدث المعروف ، وهو كما ترى ، وكأنّه مبنيّ على تعميم اللغة للعرف القديم.

وأمّا المنقول العرفي العامّ فالمعروف وجوده ، وربّما ناقش فيه بعضهم لشبهة ركيكة بيّنة الاندفاع ، ثمّ الظاهر أنّ المراد به ما يعمّ عرف معظم أهل اللسان بأن لا يختصّ بطائفة دون اخرى ولا يعتبر فيه العموم لسائر الأفراد ، فلا ينافيه عدم ثبوته عند شرذمة قليلة ، ولا ينافي العلم بثبوته الجهل بتحقّقه عند جميع الآحاد.

ثمّ إنّه قد يكون الوضع في المنقول تعيينيّا حاصلا من وضع اللفظ للمعنى الثاني ؛ لمناسبته لما وضع له أوّلا ، وهل يكتفى فيه بمطلق المناسبة الملحوظة أو يعتبر أن تكون مصحّحة للتجوّز؟ وجهان ، وظاهر إطلاقهم يومئ إلى الأوّل وهو الأوجه. وقد يكون تعينيا حاصلا من كثرة استعمال اللفظ فيه ، وحينئذ قد يكون الاستعمال فيه أوّلا على سبيل المجاز إلى أن يصل إلى حدّ الحقيقة ، وقد يكون إطلاقه عليه على سبيل الحقيقة كما إذا كان من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد لا بإرادة الخصوصيّة من اللفظ ، فشاع الإطلاق المذكور إلى أن تعيّن اللفظ له

١٣٩

وانسبق إلى الفهم بخصوصه ، كما يحتمل ذلك في الدابّة والقارورة ، فلا يكون النقل إذن مسبوقا بالمجاز.

وفي كلام العلّامة رحمه‌الله في النهاية إشارة إلى ذلك ، حيث قال : «واعلم أنّ العرف العام منحصر في أمرين : الأوّل : اشتهار المجاز بحيث يصير حقيقة عرفية ـ إلى أن قال : ـ الثاني : تخصيص الاسم ببعض مسمّياته كالدابّة المشتقّة من الدبيب واختصّ ببعض البهائم ، فإنّ مقابلته بالمجاز يومئ إلى عدم كون الاستعمال في الثاني مجازا ، بأن يكون الخصوصية ملحوظة في استعمالاته» فتأمّل.

قوله : (وإن كان بدون المناسبة فهو المرتجل)

قضيّة كلامه حصول الغلبة في المرتجل على نحو المنقول وخلوّه عن المناسبة فهو الفارق بينه وبين المنقول ، والفارق بينه وبين المجاز أمران : أحدهما ذلك ، والآخر حصول الغلبة فيه بخلاف المجاز.

وأنت خبير بلزوم خلوّ استعمالات المرتجل قبل حصول الغلبة المفروضة عن الوضع والمناسبة حسب ما مرّ ، فلا يندرج في الاستعمال الصحيح.

وغاية ما يتعسّف في تصحيح ذلك أن يقال بثبوت الوضع فيه في الجملة ، ويدّعى اعتبار ملاحظة عدم المناسبة بينه وبين المعنى الأوّل ، فمن جهة تلك الملاحظة يحصل نوع تبعيّة للوضع الحاصل فيه بالنسبة إلى وضعه الأوّل ، فيختصّ الوضع المنفرد فيه بأحد معانيه.

وفيه مع ما فيه من التكلّف البيّن : أنّ اعتبار ذلك في المرتجل غير معلوم ولا منقول في كلماتهم ، وإنّما المعتبر فيه عدم ملاحظة المناسبة وإن كانت موجودة ، وأين ذلك من اعتبار ملاحظة عدم المناسبة ، مضافا الى أنّ اعتبار الغلبة فيه غير ظاهر ، إذ لم يعتبروا ذلك في حدّه ، ومع البناء على اعتبارها فيه يلزم خروجه قبل الغلبة عن جميع الأقسام المذكورة ، وظاهر العبارة اندراجه إذن في المجاز ، وهو بيّن الفساد.

هذا ، وظاهر إطلاقات المرتجل في كلامهم يعطي اعتبار مغايرة واضعه للثاني

١٤٠