هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

ثمّ إنّك بعد ما عرفت ما قرّرناه في تبيين المرام تعرف ضعف ما قرّره بعض الأفاضل في المقام ، حيث إنّه رأى القول بوضع الألفاظ المذكورة للأعمّ من الصحيح الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ـ بحيث يعمّ صدقه حال انتفاء الجزء أو الشرط ـ مشكلا.

فقرّر النزاع تارة في الأعمّ بحسب الشرائط دون الأجزاء فجعل مدلول اللفظ على القول المذكور هو المستجمع لجميع الأجزاء من غير اعتبار استجماع الشرائط ، فهي على هذا معتبرة في الصحّة خاصّة ، وحينئذ فالقائل بالوضع للصحيح والوضع للأعمّ متوافقان في اعتبار استجماع الأجزاء ، وإنّما التفاوت بينهما في اعتبار الشرائط.

واخرى عمّم النزاع في الكلّ ، ودفع الإشكال المذكور بأنّ مبنى كلام القوم على العرف وليس كلّ جزء ممّا ينتفي الكلّ بإنتفائه عرفا ، بل منها ما ينتفي الكلّ بإنتفائه كالرقبة للإنسان ، ومنها ما لا ينتفي كالإصبع والظفر له لبقاء الكلّ في العرف مع انتفائهما ، فالصلاة وإن كانت موضوعة للماهيّة التامّة الأجزاء لكن لا يصحّ سلبها عنها بمجرّد النقض في بعض الأجزاء.

وظاهر كلامه المذكور أنّه وإن انتفى الكلّ حقيقة في حكم العقل بإنتفاء ذلك إلّا أنّه لا ينتفي ذلك بالنظر الى العرف ، وهو المناط في مباحث الألفاظ.

وأنت خبير بأنّ تخصيص النزاع بالشرائط خلاف ما هو المعروف ، بل خلاف ما هو الواقع في المقام.

ومن الغريب أنّه قرّر النزاع أوّلا في الأعمّ من الجزء والشرط ، وردّ ما ربما يظهر من بعضهم من التفصيل بينهما بما ذكره في الوجه الثاني من الوجهين المذكورين ، وحينئذ فلا وجه لتقريره النزاع على الوجه المذكور وتفسيره قول القائل بالأعمّ بما ذكره ، ففي كلامهرحمه‌الله اضطراب لا يخفى على الناظر فيه.

ثمّ إنّه بعد فرض الشيء جزء ووضع اللفظ لتمام الأجزاء لا بدّ من انتفاء الكلّ بانتفاء أيّ جزء منها ، لقيام الضرورة على انتفاء الكلّ بانتفاء الجزء ، والحكم ببقاء

٤٤١

الكلّ عرفا بعد فرض الجزئيّة إنّما هو من باب المسامحة العرفيّة ، ولا يناط بها الأحكام الشرعيّة ، كما قرّر في محلّه ، وإن فرض كونه جزء من المسمّى لا مأخوذا في التسمية فليس المسمّى خصوص ذلك المفروض كلّا حسب ما قرّرناه آنفا ، فانتفاء ذلك الجزء لا يستلزم انتفاء أصل المسمّى عقلا ولا عرفا ، وهو كلام آخر وقد يرجع كلامه الى ذلك ، إلّا أنّ ظاهر تعبيره بما ذكر يأباه كما لا يخفى.

المقام الثالث في بيان حجج الأقوال المذكورة :

أمّا القول بكونها للصحيحة فيحتجّ له بوجوه :

الأوّل : التبادر فإنّ أسامي العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل والتيمّم وغيرها إذا اطلقت عند المتشرّعة انصرفت الى الصحيحة ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «صلّيت الصبح أو صمت الجمعة أو توضّأت أو اغتسلت» لم ينصرف إلّا الى الصحيح من تلك الأعمال ولم يفهم منها في عرف المشترّعة إلّا ذلك ، فاطلاق تلك الألفاظ لا ينصرف إلّا الى الصحيحة ولا يحمل على الفاسدة إلّا بالقرينة ، كما هو واضح من ملاحظة الإطلاقات الدائرة ، وذلك من أقوى الأمارات على كونها حقيقة في الاولى مجازا في الثانية.

وممّا يوضح ذلك أنّ المتشرّعة إنّما يحكمون بكون الصلاة وغيرها من الألفاظ المذكورة عبارة عن الامور الراجحة والعبادات المطلوبة لله تعالى ولا يجعلونها أسامي لما يعمّ الطاعة والمعصية فقد تكون طاعة وقد تكون معصية بل الأغلب فيها المعصية ، بل لا يمكن عدّها مطلقا من الطاعات أصلا ؛ إذ لا يتعلّق الأمر حينئذ بما هو مفهوم الصلاة مثلا وإنّما يتعلّق ببعض أنواعها خاصّة ، وكأنّ هذا بيّن الفساد بعد الرجوع الى عرف المتشرّعة ؛ إذ لا يعدّون الصلاة والزكاة ونحوهما إلّا من الطاعات والعبادات.

واورد عليه بأنّ تبادر الصحيحة من تلك الألفاظ مسلّم ، إلّا أنّه ليس كلّ تبادر أمارة على الحقيقة بل ما لا يكون لغير اللفظ فيه مدخليّة فإنّ سبق المعنى من اللفظ إذا استند الى مجرّد إطلاقه من غير ملاحظة شيء من الامور الخارجيّة معه دلّ

٤٤٢

على حصول الوضع له ، وأمّا إذا انضمّ اليه شيء آخر أو احتمل انضمامه اليه احتمالا متساويا لم يكن دليلا على الحقيقة ؛ إذ لا ملازمة حينئذ بين الفهم المذكور والوضع كما مرّ بيانه ، ألا ترى أنّ المتبادر من سائر العقود كالبيع والإجارة والمزارعة والمساقاة وغيرها إذا اطلقت ليس إلّا الصحيحة مع أنّها موضوعة للأعمّ فكذا الحال في التبادر الحاصل في ألفاظ العبادات ، فإنّ الظاهر أنّ التبادر الحاصل في المقامين من قبيل واحد والباعث عليه في العقود والإيقاعات هو الباعث على الانصراف في العبادات.

وما يتوهم من أنّ الأصل في التبادر أن يكون دليلا على الحقيقة إلّا أن يدلّ دليل على خلافه وهو ثابت في المعاملات فنقول بمقتضاه ، بخلاف ما نحن فيه.

فممّا لا دليل عليه بل ليس الدليل على الوضع إلّا التبادر على النحو المذكور بعد تحقّقه والمعرفة بحصوله ولو على سبيل الظنّ.

ودعوى كون الأصل في كلّ تبادر أن يكون مستندا الى نفس اللفظ ممنوعة.

والقول بأصالة عدم ضمّ شيء آخر الى اللفظ في حصوله معارض بأصالة عدم استقلال اللفظ في إفادته.

على أنّ الأصل لا حجّة فيه في هذه المقامات إلّا من جهة إفادة الظنّ دون التعبد ومع حصول الظنّ لا كلام وإنّما الكلام في حصوله في المقام ، وهو ممنوع إن لم نقل بكون المظنون خلافه ، كما يشهد به ملاحظة نظائره من المعاملات كما عرفت.

ويشهد له أيضا أنّه لو كان التبادر هنا ناشئا عن الوضع لكان ذلك منساقا الى الذهن في سائر المقامات وليس كذلك ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «رأيت فلانا يصلّي ، أو جماعة يصلّون» لم يدلّ ذلك على كون ما وقع صحيحا كيف! ولو لم يكن كذلك لصحّ الإخبار بأنّ زيدا لا يصلّي ولا يصوم ولا يغتسل من الجنابة إذا كانت أعماله المذكورة فاسدة ومن الظاهر أنّه يحكم بكذب القائل إذا أطلق حينئذ في الإخبار بخلاف ما إذا قيّدها بالصحيحة ، فلو كانت تلك الألفاظ منساقة الى

٤٤٣

خصوص الصحيحة لم يكن فرق بين الإطلاق والتقييد ومن الواضح خلافه.

وأيضا لو كان الأمر كما ادّعى لما صحّ الإخبار عن أحد بانّه صلّى أو صام أو أتى بشيء من العبادات إلّا مع العلم بصحّة فعله ، وهو ممّا لا يمكن عادة ولو تحقّق ففي غاية الندرة مع صحّة الإخبار بها بحسب العرف من غير إشكال ولا زال بعضهم يخبر عن بعض بما ذكر.

فظهر من جميع ذلك أنّ التبادر المدّعى ليس من جهة الوضع وإنّما هو من جهة قضاء خصوص المقام ، أو ظهور الإطلاق فيه في بعض المقامات.

والجواب عنه أنّ مجرّد احتمال كون التبادر المذكور ناشئا من الخارج غير دافع للاستدلال ؛ إذ لو كان انفتاح أبواب الاحتمالات باعثا على المنع من الأخذ بالظاهر في مباحث الألفاظ لانسدّ باب إثبات الأوضاع بالتبادر أو غيره في سائر المقامات.

وظاهر الحال هنا استناد التبادر الى نفس اللفظ ؛ إذ ليس ذلك من جهة شيوع الصحيحة ، إذ الفاسدة أكثر منها بكثير.

ولا من جهة شيوع استعمالها فيها ؛ إذ قلّة استعمالها في الفاسدة على فرضها بحيث يوجب صرف الإطلاق عنها لو كانت حقيقة فيها غير ظاهرة ، لإطلاقها كثيرا على الفاسدة أيضا.

ولا من جهة انصراف المطلق الى الكامل وإلّا لانصرفت الى الفرد الكامل الجامع لمعظم الآداب والمندوبات ، ومن البيّن خلافه.

ودعوى بعض الأفاضل انصراف الإطلاق اليها غريب ، فدوران الانصراف مدار الصحّة شاهد على استناده الى نفس اللفظ.

وما توهّم من انتقاض ذلك بسائر العقود والإيقاعات لانصرافها أيضا الى الصحيحة مع أنّها موضوعة للأعمّ فهو على إطلاقه ممنوع.

والقول بوضعها للأعمّ مطلقا غير مسلّم أيضا وإن لم تكن موضوعة لخصوص الصحيح الشرعي ، كما سنبيّن الحال فيها إن شاء الله تعالى.

٤٤٤

ثمّ إنّ ما ذكر من عدم انصراف الألفاظ المذكورة في الأمثلة المفروضة الى الصحيحة مع الخلوّ عن القرينة ممنوع ، بل الظاهر خلافه.

توضيح ذلك : أنّ الصلاة مثلا إنّما وضعت للأفعال المعهودة المتكرّرة في اليوم والليلة المطابقة لأمره تعالى ، لكن حصل هناك اختلاف في تعيين مصداقها فهو في كلّ من المذاهب والآراء شيء غير ما يقوله الآخر ، بل العاملون على مذهب واحد يختلف الحال فيهم من جهة المعرفة بالأحكام وتأدية القراءة والأذكار الواجبة وغيرها ، كما يشاهد ذلك في صلوات العوام ، إذ كلّ يعتقد أنّ ما يؤدّيه مصداق لتلك الماهيّة الصحيحة المطلوبة لله تعالى مع ما بينها من الاختلاف الفاحش ، بل لا يبعد القول بكون اختلاف صلاة اليهود والنصارى للصلاة الثابتة عندنا من هذا القبيل أيضا ، كما مرّت الإشارة اليه ، فإنّ المفهوم الإجمالي الملحوظ في وضع الصلاة صادق عليها أيضا حال صحّتها ، غير أنّ النسخ الطارئ عليها أخرجها من ذلك المفهوم من جهة طريان الفساد عليها وارتفاع الأمر بها ، فلفظة «الصلاة» مستعملة في معنى واحد وكلّ يطلقها على المصداق الثابت عنده لاعتقاد مطابقته لتلك الطبيعة ، وإطلاق كلّ من الفرق تلك على ما هو باطل عنده صحيح عند غيره يصحّ من جهة تبعيّته له ، كما أنّه يصحّ التبعية في الوضع من غير لزوم تجوّز ليصحّ بملاحظة ذلك إطلاق الصلاة على الصحيحة عندنا وعلى الصحيحة عند سائر الفرق من المخالفين كالنواصب والخوارج بل واليهود والنصارى ، إلّا أنّ صدقها على الواقعة من الفرقة المحقّة المطابقة لأمره تعالى واقعي وعلى غيرها من جهة التبعيّة لمعتقده.

وكذا الحال في كلّ فرقة بالنسبة الى ما يعتقده ذلك فإنّ إطلاق اللفظ عليه بملاحظة الواقع وعلى ما يعتقده غيره من جهة تبعيّته له من غير لزوم تجوّز في اللفظ ؛ إذ المفروض استعماله فيما وضع له ـ أعني تلك العبادة الصحيحة ـ وإطلاقه على المصداق المعيّن من جهة حصولها فيه واقعا أو في اعتقاد عاملها تبعا لما يعتقده ، وهذه التبعيّة وإن كانت خلاف الظاهر أيضا إلّا أنّ في الأمثلة المذكورة

٤٤٥

قرينة عليه ، فإنّ نسبة الصلاة فيها الى أشخاص معيّنة تفيد إيقاعها على ما هو معتقدهم ؛ فإنّه لما اختلفت الآراء في تعيين تلك الطبيعة واختلفت الأشخاص في أدائها فحيث ما نسب الى شخص فإنّما ينصرف الى تلك العبادة المأتيّ بها على حسب معتقد الفاعل ، سواء كان من أهل الحقّ أو من سائر الفرق حتّى اليهود والنصارى.

والحاصل : أنّها تنصرف حينئذ الى الأفعال المعهودة ممّا يعتقد الفاعل كونه مصداقا للصلاة المطلوبة ، ولذا يصحّ أن يقال : ما صلّى إذا صلّى صلاة فاسدة باعتقاده كأن صلّى مع الحدث عالما عامدا ، وكذا إذا أتى المسلم بصلاة اليهود أو النصارى بخلاف ما إذا أتوا بها ، وليس ذلك إلّا من جهة كون النسبة قرينة على إطلاقها على الصحيحة في نظر الآتي بها ، ومن هذه الجهة لا يصحّ سلبها مع أدائه لها كذلك ، وكذا الحال في سائر العبادات.

وأمّا ما ذكر من عدم صحّة الإخبار بأدائه لتلك الأفعال إذا لم يعلم صحّتها بالخصوص فأوهن شيء ؛ إذ مبنى الإخبار بالمذكورات شرعا وعرفا على ظاهر الحال ، وسيجيء إن شاء الله ما يزيد المقام توضيحا. فتأمّل.

الثاني : صحّة السلب ، فإنّه يصحّ سلب كلّ من العبادات عن الفاسدة فيصحّ أن يقال لمن صلّى مع الحدث متعمّدا أو بدون القراءة كذلك : إنّه لم يصلّ حقيقة ، وإنّما وقع منه الصورة ، وكذا الحال في غيرها من الوضوء والغسل والتيمّم ونحوها ، وصدق تلك العبادات على الفاسدة منها ليس إلّا من جهة المشاكلة ، وإلّا فصحّة السلب عنها عند التأمّل في العرف ظاهر ، وذلك دليل على عدم كون الفاسدة من الأفراد الحقيقيّة لها ، فلا تكون أسامي لما يعمّها فينحصر الأمر في كونها أسامي لخصوص الصحيحة منها ، وهو المدّعى.

ويمكن أن يقرّر ذلك بوجه آخر بأن يستند الى عدم صحّة السلب بناء على ما تقرّر فيما مرّ من كون عدم صحّة السلب على بعض الوجوه مثبتا لنفس الموضوع له ابتداء دون مصاديقه الحقيقيّة ، وذلك بأخذ الحمل ذاتيّا لا متعارفيّا وأخذ معنى

٤٤٦

اللفظ في الموضوع أو المحمول على جهة الإجمال ، فإنّه إذا لم يصحّ سلب الحيوان الناطق عن الانسان أو سلب الانسان عنه بحسب العرف دلّ على أنّ ذلك هو معناه ، ضرورة صحّة سلب كلّ مفهوم عن مفهوم مغاير له على الوجه المذكور وإن اتّحدا في الصدق ، وبهذا الوجه يصحّ سلب الخاصّ عن العامّ وبالعكس ، تقول : «الحيوان ليس بانسان ، والانسان ليس بحيوان» وإن لم يصحّ ذلك بحسب الحمل الشائع فنقول في المقام إنّه إذا اخذت الماهيّة مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في صحّتها فلا يصحّ سلب الصلاة عنها بالمعنى المذكور في عرف المتشرّعة ، كما لا يخفى على من أجاد التأمّل في ملاحظة عرفهم فيكون ذلك هو عين معناها.

والجواب عن ذلك بمنع الدعويين المذكورتين ، والقول بعدم صحّة السلب على الوجه الأول وصحّته في الثاني كما ترى ؛ إذ من أمعن النظر في العرف يجد الأمر على ما ذكرنا.

الثالث : ظواهر الآيات والأخبار كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) وقوله عزوجل : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(٢) وقوله عليه‌السلام: «الصلاة عمود الدين» (٣) و «الصلاة قربان كلّ تقي» (٤) و «الصوم جنّة من النار» (٥) و «الصوم لي» (٦) الى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة جدّا الواردة في الأبواب المتفرّقة ، فإنّ حمل تلك المحمولات على مطلق الصلاة معرّفا باللام ظاهر جدّا في أنّ الطبيعة المقرّرة من الشارع المحدثة منه هي المتّصفة بذلك ، لا أنّ نوعا منها كذلك والبواقي امور محرّمة متّصفة بما يضادّ الصفات المذكورة كالزنا والسرقة ، فإنّه في غاية البعد عن ظواهر تلك التعبيرات الواردة في تلك الآيات والروايات كما لا يخفى.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٥.

(٢) سورة النساء : ١٠٣.

(٣) المحاسن : ص ٤٤.

(٤) عيون أخبار الرضا : ج ٢ ص ٧ ح ١٦.

(٥) المحاسن : ص ٢٨٩.

(٦) بحار الأنوار : ج ٩٦ ص ٢٥٥ ح ٣١.

٤٤٧

الرابع : ما دلّ من الأخبار على نفي الصلاة مع انتفاء بعض الأجزاء والشرائط كقولهعليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) وقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) وقوله عليه‌السلام : «لا صلاة لمن لم يقم صلبه» (٣) و «لا صلاة إلّا الى القبلة» (٤) وقولهعليه‌السلام في حدّ الركوع والسجود : «ومن لم يسبّح فلا صلاة له» (٥) وقوله : «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» (٦) ... الى غير ذلك ممّا ورد في الأخبار في الصلاة وغيرها ممّا يقف عليه المتتبّع ، فإنّ قضيّة ذلك بحسب ظاهر اللفظ هو نفي الحقيقة ، وقد أخبر به صاحب الشريعة ، ولو كانت أسامي للأعمّ لما صحّ ذلك بل لزم حملها على نفي صفة من صفاتها كالكمال أو الصحّة مع بقاء الحقيقة ، وهو خروج عن ظاهر العبارة.

ثمّ إنّ هذه الروايات وإن كانت واردة في خصوص بعض الألفاظ وبعض الأجزاء والشرائط إلّا أنّه يتممّ الكلام في المقامين بعدم القول بالفصل ، إذ لا فارق بين تلك الألفاظ وغيرها ولا تلك الأجزاء والشرائط وما عداها ، مضافا الى عدم فرق في العرف الّذي هو عمدة معتمد القائلين بوضعها للأعمّ بين تلك الأجزاء والشرائط وتلك الألفاظ وغيرها.

وقد أورد عليه بوجوه :

أحدها : المنع من كون العبارة المذكورة حقيقة في نفي وجود الماهيّة وإنّما مفادها نفي وجود صفة من صفاتها الظاهر ذلك في بقاء الحقيقة. نعم قضيّة وضعها القديم هو نفي الحقيقة لكن قد هجر ذلك المعنى بالنسبة الى التركيب المذكور وحصل النقل الى المعنى الثاني، كما يظهر ذلك من ملاحظة استعمالاته كما في «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» و «لا قراءة إلّا من مصحف» و «لا علم إلّا

__________________

(١) عوالي اللآلي : ج ١ ص ١٩٦ ح ٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٥٨ ح ١٢٩.

(٣) الوسائل : ب ١٨ من أبواب الركوع ح ٦ ص ٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٧٨ ح ٨٥٥.

(٥) الوسائل : ب ٤ من أبواب الركوع ح ٧ ص ٩٢٤.

(٦) عوالي اللآلي : ج ٣ ص ١٣٢ ح ٥.

٤٤٨

ما نفع» و «لا عمل إلّا بنيّة» و «لا كلام إلّا ما أفاد» ... الى غير ذلك ، فعلى هذا تكون تلك الأخبار أدلّة على القول بوضعها للأعمّ على عكس ما أراد المستدلّ.

ثانيها : أنّ العبارة المذكورة قد شاع استعمالها في نفي الكمال أو الصحّة من غير أن يراد بها نفي الحقيقة ، فإن سلّمنا بقاء وضعها لنفي الحقيقة فلا أقلّ من شهرة استعمالها في نفي الصفة ، فبملاحظة تلك الشهرة تكون من المجازات الراجحة على الحقيقة فيقدّم الحمل عليه على الحمل على الحقيقة ، ومن التنزّل فلا أقلّ من مساواة الظنّ الحاصل من الشهرة للظنّ بإرادة الموضوع له فيحصل الإجمال الباعث على سقوط الاستدلال.

ويضعّف هذين الوجهين أنّه لا شكّ في كون مفاد العبارة المذكورة بحسب اللغة بل العرف أيضا هو نفي الحقيقة.

ودعوى نقلها أو كونها مجازا راجحا أو مساويا للحقيقة في نفي وجود الصفة مع انتفاء القرائن الخاصّة مجرّد دعوى خالية عن الحجّة ، بل ملاحظة فهم العرف في استعمالها مجرّدا عن القرينة تنادى بخلافه ، كما في قولك : «لا وصول الى الدرجة العالية إلّا بالتقوى ، ولا روح للعمل إلّا بالإقبال ، ولا قبول للطاعة إلّا بالولاية» الى غير ذلك من الأمثلة المتكثّرة.

ومجرّد استعمالها في عدّة مقامات قضت القرائن الداخلة أو الخارجة بإرادة نفي صفة من الصفات ـ نظرا الى القطع ببقاء الذات ـ لا يقضي بعدم انصرافها الى ما وضعت له مع انتفاء القرينة ، كيف! وليس بأشيع من تخصيص العامّ واستعمال الأمر في الندب ولم يقل أحد فيهما بالنقل.

نعم ، ربما قيل بصيرورة الثاني مساويا للحقيقة ، إلّا أنّه موهون مردود عند المعظم.

فدعوى مرجوحية الحمل على المعنى المذكور أو مساواته للآخر عجيب. وأعجب منه دعوى الحقيقة العرفيّة في ذلك كما لا يخفى على من أعطى النظر حقّه في استعمالات تلك العبارة في مواضع الخلوّ عن القرينة.

٤٤٩

وممّا يوضح ما ذكرناه أنّه قد احتجّ جماعة من الخاصّة والعامّة في مبحث المجمل والمبيّن على نفي الإجمال في : «لا صلاة إلّا بطهور» ونحوه بأنّ مفاد العبارة نفي الحقيقة وهو ممكن ، وقد أخبر الشارع به فيحمل على الحقيقة ولم يتفوّه أحد هناك بمنع دلالة العبارة على ذلك حتّى أنّ من ذهب الى الإجمال فيها لم يتشبّث بذلك بل ادّعى صدق الصلاة على الفاسدة ، فأثبت بذلك عدم إمكان صرف النفي الى الحقيقة ، فالتزم بصرف النفي الى الصفة ، وحينئذ بنى على إجمال العبارة من جهة تعدد الصفات كالكمال والصحّة ، ولم يقع منهم مناقشة في دلالتها على نفي الحقيقة كما هو معلوم من ملاحظة الباب المذكور من كتب الاصول.

ومن غريب الكلام ما ذكره بعض الأعلام في المقام حيث استشهد على عدم دلالة العبارة المذكورة على نفي الحقيقة بأنّه لم يتمسّك أحد من العلماء الفحول في ذلك المبحث لإثبات نفي الإجمال بأصالة الحقيقة وتمسّكوا بكونها موضوعة للصحيحة من العبادات ، لما عرفت من أنّ الحال على خلاف ما ذكره مصرّحين بخلافه وهي مذكورة في معظم الكتب الاصوليّة منصوص به في كلام الأجلّة ولو لا مخافة الإطناب في الكلام لذكرنا جملة من عبائرهم في المقام.

ثمّ الظاهر انّها في معظم الموارد الّتي لم يرد بها نفي الحقيقة على الحقيقة فإنّما اريد بها ذلك أيضا على سبيل المبالغة فإنّ المقصود بالتعبير المذكور حصر الموضوع في المحمول ادّعاء ، جعلا لما عداه بحكم العدم كما هو واضح بعد ملاحظة موارد تلك الاستعمالات.

ومجرّد شيوع استعمالها كذلك لا يوجب هجر وضعها لنفي الحقيقة ونقلها الى نفي الصفة ؛ إذ المفروض ابتناء المعنى المذكور عليه وعدم استفادة ما هو المقصود إلّا بذلك.

على أنّه لو ادّعي النقل أو الشهرة فإنّما يدّعى في نحو «لا صلاة إلّا بطهور» حيث إنّ له نظائر كثيرة استعملت في المعنى المذكور ، وأمّا نحو «لا صلاة له ، ولا صيام له» ونحوهما كما في عدّة من الأخبار المذكورة وغيرها فلا وجه لهذه

٤٥٠

الدعوى بالنسبة اليه أصلا ، وفيه كفاية في الدلالة على المدّعى.

ثالثها : أنّ ظاهر تلك العبارة وإن كان ذلك إلّا أنّ ظاهر المقام يصرفها عن ذلك ، فإنّ شأن الشارع بيان الأحكام الشرعيّة لا مجرد انتفاء الحقيقة والماهيّة وعدم حصول مسمّى الموضوعات اللفظيّة ، فينصرف الى نفي الكمال أو الصحّة ، كما قيل نحوه فيما أثبت فيه ذلك كقوله عليه‌السلام : «الطواف بالبيت صلاة» (١) و «الإثنان فما فوقها جماعة» (٢) حيث حمل على إرادة الفضيلة.

وفيه أنّه لا مانع من إرادة نفي الحقيقة في المقام ؛ إذ الحقيقة المذكورة من مقرّرات صاحب الشريعة فليس بيان ذلك إلّا من شأنه ، والفرق بينه وبين المثالين المذكورين ظاهر لا يخفى.

رابعها : أنّه لو بنى على ظاهر العبارة لزم أن لا تكون الصلاة الخالية عن الفاتحة صلاة ولو كانت متروكة نسيانا أو لعذر ولا قائل به ، والقول بتقييدها بصورة القدرة والعمد خروج عن ظاهر اللفظ فليس بأولى من حملها على نفي الكمال من غير التزام بالتخصيص ؛ إذ لا بعد في كون صلاة الناسي للفاتحة أو غير القادر عليها دون صلاة الآتي بها عن الكمال ، بل الظاهر ذلك.

ودعوى ترجيح التخصيص على المجاز غير جارية في المقام ؛ لشيوع التجوّز هنا حتّى قيل فيه بالنقل ، مضافا الى ما في التخصيص المذكور من الخروج عن الظاهر ؛ لكونه تخصيصا بالأكثر وهو على فرض جوازه بعيد جدّا ، ولا أقلّ من مساواته لما ذكر من الإحتمال ، وهو كاف في هدم الاستدلال.

وفيه ـ مع اختصاص المناقشة ببعض الروايات المذكورة فلا مانع في غيره من تلك الجهة ـ أنّه لا بدّ من التقييد المذكور قطعا ، للأدلّة الدالّة عليه ، فالمراد أنّه لا صلاة للقادر الغير الغافل إلّا بالفاتحة.

ودعوى معارضة ذلك بالحمل على نفي الكمال ولا حاجة إذن الى التقييد فيتقاوم الاحتمالان غير متّجهة ؛ ضرورة كون الحمل عليه في غاية البعد من اللفظ.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ج ٢ ص ١٦٧ ح ٣.

(٢) عيون أخبار الرضا : ج ٢ ص ٦١ ح ٢٤٨.

٤٥١

ويشهد له فهم كافّة الأصحاب وغيرهم حيث اتّفقوا على دلالتها على وجوب الفاتحة في الصلاة ، ولو حمل على المعنى المذكور لم يكن دالّا على وجوب الفاتحة أصلا ، وهو كما ترى إسقاط للرواية عن الإفادة ، فعلى فرض الخروج عن حقيقة اللفظ فلا مناص حينئذ من حملها على نفي الصحّة ، فلا بدّ من الالتزام بالتقييد ، وحينئذ فيلزم الخروج عن الظاهر من وجهين ، بخلاف ما إذا حمل على ما قلناه فيقدّم عليه.

وما ذكر من لزوم التخصيص بالأكثر فممّا لا يعرف الوجه فيه ، فإنّ نسيان الفاتحة في كمال الندرة ، وكذا عدم القدرة عليها كما يشاهد ذلك بالنظر الى أحوال المسلمين.

خامسها : أنّها معارضة بقوله عليه‌السلام : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة» (١) فإنّ ظاهر العطف قاض بالمغايرة ، وتحقّق مفهوم كلّ منهما بدون الآخر وقوله عليه‌السلام : «الصلاة : ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود» (٢) ونحو ذلك ممّا ورد فإنّ ظاهر العبارة تحقّق الماهيّة بذلك ، وهو يعمّ الصحيح والفاسد.

وفيه أنّ الرواية الاولى لا دلالة فيها على ذلك بوجه ؛ لظهور مغايرة الشرط للمشروط، وليس القائل بوضع الصلاة للصحيحة قائلا باندراج الشرائط في مسمّى اللفظ كما قد يتوهّم.

فإن قلت : إذا حكم بوجوب الصلاة فقد دلّ ذلك على وجوب ما اشترط في مسمّاه، فأيّ فائدة في ذكره؟

قلت : أوّلا : أنّ ذلك مبني على القول بوجوب المقدّمة ، فلا دلالة فيها على ذلك على القول بعدمه ، كما هو مذهب المعترض وإن اخذ في التسمية.

وثانيا : أنّ في التصريح بالحكم زيادة دلالة على المقصود ؛ إذ قد يخفى الحكم بالوجوب لعدم اندراجه في الدلالات اللفظيّة ، مضافا الى ما فيه من الدلالة على

__________________

(١) الوسائل : ب ٤ من أبواب الوضوء ح ١ ج ١ ص ٢٦١.

(٢) الوسائل : ب ١ من أبواب الوضوء ح ٨ ج ١ ص ٢٥٧.

٤٥٢

عدم وجوب المقدّمة قبل تعلّق الوجوب بذيها.

وثالثا : أنّ المذكور أولا هو وجوب الطهور ، وهو لا يغني عن الحكم بوجوب الصلاة، ولو كان المذكور أوّلا وجوب الصلاة فربما أغنى عنه.

والرواية الثانية غير مشتملة على سائر الأركان ولا سائر الواجبات ، وظاهرها إدراج الطهور في الصلاة فلا بدّ من تنزيلها على بعض الوجوه الصحيحة ، ومثل ذلك لا ينهض حجّة في مقام الاستدلال ، مضافا الى أنّ ظاهرها عدم صدق الصلاة بدون الطهور ، ولا يقول به القائل بوضعها للأعمّ بل وكذا الركوع والسجود على ما مرّ القول فيه ، فهي بالدلالة على الوضع للصحيح أقرب من خلافه.

سادسها : المنع من عدم القول بالفصل فغاية الأمر أن تدلّ تلك الروايات على كون ما ذكر فيها من الأجزاء والشرائط مأخوذة في التسمية ، وأين ذلك من القول بوضعها للصحيحة؟ وأيضا غاية ما يدلّ عليها كون ما وردت في تلك الروايات كالصلاة والصيام موضوعة بإزاء الصحيحة ولا يستلزم ذلك ثبوته في سائر ألفاظ العبادات.

وفيه : أنّا لم نجد الى الآن مفصّلا في شيء من المقامين ، ولا تخيّله أحد في المقام ، فبعد ثبوت اعتبار ما ذكر فيها في تحقّق الماهيّة يكتفى به في اعتبار سائر الشرائط والأجزاء وفي ثبوته في سائر الألفاظ وان لم يتحقّق هناك اجماع ؛ إذ المسألة متعلّقة بمباحث الألفاظ فيكتفى فيها بالظنّ ولو كان دون ذلك.

على أنّ عمدة أدلّة القائل بوضعها للأعمّ هو العرف ، ومن الواضح عدم فرق العرف بين ما ذكر وغيره ، فإذا ثبت فساد ما استند اليه انهدم به أساس القول المذكور.

الخامس : أنّ الأمر المهتمّ به في الشريعة الّذي يشتدّ اليه الحاجة وبه ينوط معظم الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة ويكثر التعبير عنه في المخاطبات الدائرة في كلام الشارع والمتشرّعة إنّما هي الصحيحة ، إذ بها ينوط المثوبات الاخرويّة وعليها بنيت أساس الشريعة ، فالطبيعة المقرّرة من الشارع هي تلك ،

٤٥٣

كيف! وهي الأمر المجعول عبادة والمعدود من الفروع الشرعيّة ، فهي الماهيّة المحدثة من صاحب الشريعة ، وأمّا الفاسدة فهي خارجة عن العبادة مندرجة في أنواع البدعة ولا حاجة الى التعبير عنه في الغالب ، ولو احتيج اليه فإنّما هو بواسطة بيان الصحيحة ، ولو فرض تعليق بعض الأحكام عليها فإنّما هو في كمال الندرة.

وعلى ما اخترناه من ثبوت الحقيقة الشرعيّة فالأمر أوضح ؛ إذ قضيّة الحكمة وضع اللفظ بإزاء ما يشتدّ اليه الحاجة ويعتدّ بشأنه سيّما بعد إثبات عرف خاصّ لأجل بيانه ، وذلك ظاهر. ويرشد اليه التعبير عن تلك الألفاظ بأسامي العبادات ، إذ ليست الفاسدة مندرجة في العبادة على سبيل الحقيقة.

السادس : ما أفاده بعض المحقّقين من أنّا نعلم أنّ للعبادات أجزاء معتبرة فيها يتألّف منها ماهيّاتها ، كما هو ظاهر من ملاحظة الشرع ولو كانت للأعمّ لما كانت كذلك ، إذ صحّة إطلاقها حينئذ مع فقد كلّ واحد منها يستلزم انتفاء جزئيّتها أو تحقّق الكلّ بدون الجزء ، هذا خلف.

وأورد عليه بمنع الملازمة ، فإنّ القائل بوضعها للأعمّ يسلّم وجود أجزاء معتبرة في الماهية ولا يقول بحصول الماهية مع عدمها ، سواء اعتبرت على نحو الإجمال أو التعيين ، وانما القول بأن جميع الأجزاء ليس من ذلك القبيل بل هناك أجزاء اعتبرت بخصوصها في خصوص الصحيح ، كالتشهّد والقراءة ونحوهما ، أو يقول بصدق الصلاة على ما هو فاسد من جهة انتفاء الشرائط ، أو وجود الموانع من الصحّة والدليل المذكور لا يبطل شيئا من ذلك.

ويدفعه أنّ المقدّمة المذكورة أوّلا كافية في دفع ذلك ، فإنّ من راجع عرف المتشرّعة وجد حكمهم بجزئيّة جميع الأجزاء المقرّرة للصلاة على سبيل الإطلاق من غير حاجة الى التقييد.

وبالجملة : أنّه بعد ثبوت الجزئيّة في الجملة يحكمون بكونه جزء لمطلق الصلاة ، فالمنع المذكور موهون بعد الرجوع الى عرف المتشرّعة ، والتفصيل بين الأجزاء والشرائط ليس مذهبا معروفا ، فلا معوّل عليه بعد إبطال كونها للأعمّ مطلقا.

٤٥٤

السابع : ما أفاده المحقّق المذكور أيضا ، وهو أنّ كلّ واحد من العبادات متعلّق لطلب الشارع وأمره ، ولا شيء من الفاسدة كذلك فلا شيء من تلك العبادات بفاسدة ، ويمكن تقريره بالشكل الأوّل بأن يقال في الكبرى : ولا شيء من متعلّق طلب الشارع بفاسدة فينتج النتيجة المذكورة.

واورد عليه أنّه إن اريد أنّ كلّا من العبادات مأمور به في الجملة فمسلّم ولا يجدي نفعا ، وإن اريد أنّه مأمور به على كلّ حال فهو ممنوع ، ولو استند فيه الى إطلاقات الأمر ففيه مع منع ورودها في جميع الموارد أنّها لا تقاوم ما دلّ على الوضع للأعمّ ، القاضي بتقييدها بما إذا كانت جامعة لجميع الأجزاء والشرائط ممّا ثبت اعتبارها في الصحّة.

ويدفعه : أنّه لا ريب في تعلّق الأوامر أو ما بمعناها بجميع العبادات ؛ إذ قوام العبادة بالأمر ومن البيّن أنّ الأوامر لا تتعلّق بالفاسدة ، فقضيّة ذلك كون ما تعلّق به تلك الأوامر صحيحة ، ولمّا كانت متعلّقة بها على إطلاقها يثبت صحّتها كذلك فتكون الفاسدة خارجة عنها.

ودعوى عدم مقاومته لما دلّ على الوضع للأعمّ تسليم لدلالة ذلك على المدّعى ، فيتشبّث في دفعه الى كون ما يدلّ على الوضع للأعمّ أقوى ، وستعرف إن شاء الله تعالى أنّ ما احتجّ به لذلك غير ناهض عليه في نفسه ، فكيف بمقاومته لذلك؟!.

الثامن : ما أفاده المحقّق المذكور أيضا من أنّها لو كانت موضوعة للأعمّ لم تكن توقيفيّة بل كان المرجع فيها الى العرف ؛ إذ هو المناط فيها على القول المذكور والتالي باطل ضرورة كونها امورا توقيفيّة متلقّاة من صاحب الشريعة لا يصحّ الرجوع فيها الى عرف ولا عادة.

واورد عليه تارة بالنقض فإنّ القائل بوضعها للصحيحة يرجع أيضا في إثباته الى العرف، ولذا استدلّوا عليه بالتبادر وصحّة السلب كما مرّ.

واخرى بمنع الملازمة ؛ إذ مجرّد الرجوع الى العرف لا يقضي بعدم كونها توقيفيّة.

٤٥٥

نعم إنّما يلزم ذلك لو كان المرجع فيها الى العرف العامّ كما هو الحال في المعاملات ، وليس كذلك بل المرجع فيها الى عرف المتشرّعة الكاشف عن مراد صاحب الشريعة ، وهو أخذ بالتوقيف ، وكما أنّه يرجع في الألفاظ اللغويّة والعرفيّة العامّة الى اللغة والعرف العامّ ولا ينافي كون ذلك توقيفيّا بل يحقّقه فكذا في المقام ، غاية الأمر أنّ المعتبر هناك التوقيف من أهل اللغة والعرف العامّ والمعتبر هنا التوقيف من الشرع وهو حاصل بالرجوع الى عرف المتشرّعة ؛ للاتّفاق على اتّحاد المعنى العرفي لما استعمل فيه في كلام الشارع ولا فارق بين التوقيفين والعلّة المجوّزة هناك مجوّزة هنا أيضا ، لاشتراكهما في التوقّف على التوقيف وعدم سبيل للعقل في الحكم به ، وهو ظاهر.

قلت : لا يخفى أنّ هنا توقيفيّا في معرفة المعنى في الجملة ككونه العبادة المعروفة المستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصحّة أو الأعمّ من ذلك ومن الفاسدة ، وتوقيفيّا في معرفة تفاصيل ذلك المعنى من أجزائه وشرائطه المعتبرة فيه فيتميّز به خصوص المصاديق.

ولا ريب أنّ الأوّل ممّا يتحصّل من ملاحظة عرف المتشرّعة ولا مانع من الرجوع اليه ، ولذا استند الفريقان فيما ادّعوه الى العرف حيث احتجّوا بالتبادر وغيره.

وأمّا الثاني فهو الّذي عناه المستدلّ في المقام ، ولا ريب أنّ العرف لا يفي بتلك التفاصيل بل يرجع فيه المقلّد الى المجتهد ، والمجتهد الى الأدلّة التفصيليّة من غير رجوع في تعيين شيء من واجباته وشرائطه الى العرف ، سواء قلنا بكون تلك الألفاظ موضوعة بإزاء المعنى الإجمالي ـ حسب ما أشرنا اليه في الصلاة من غير أن يؤخذ في نفس ما وضع اللفظ له تلك التفاصيل كما هو الظاهر ، فيدور الأمر في صدقه مدار صحّته وكونه مقرّبا سواء زادت أجزاؤه أو نقصت ، حتّى أنّه يقال بصدق الصلاة مثلا على الصلوات المقرّرة في الشرائع المتقدّمة بملاحظة زمان صحّتها ـ أو قلنا بكونها موضوعة بإزاء ما اعتبر فيه الأجزاء، على التفصيل بأن

٤٥٦

يجعل كلّا من الأجزاء والشرائط معتبرا في الموضوع له.

أمّا على الأوّل فظاهر ، إذ معرفة المصداق حينئذ ليس من شأن العرف ، ألا ترى أنّ القيمة السوقيّة ونحوها يرجع في فهم معناها الى العرف ، لكن في تعيين ما هو قيمته أنّما يرجع الى أهل الخبرة ، فكذا في المقام.

وأمّا على الثاني فلأنّه لمّا كانت الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها متكثّرة والعرف لا يفي غالبا بمعرفة تلك التفاصيل ـ فهم إنّما يتصوّرون المعنى الموضوع له في أمثال ذلك على وجه يميّزه من غيره من غير أن ينتقل الى التفصيل ، فهم إنّما يعرفون من الموضوع له في أمثال المقام أنّه معنى شأنه كذا مثلا ـ فلا بدّ في معرفة التفصيل أيضا من الرجوع الى الأدلّة التفصيليّة.

والحاصل : أنّ كون المعنى موضوعا له عند أهل العرف للفظ لا يستلزم تصوّرهم لذلك المعنى على سبيل التفصيل حتّى يتميّز تفاصيله بالرجوع اليهم ، بل الغالب فيه في مثل المقام هو تصوّر المعنى بالوجه وعلى سبيل الإجمال حسب ما ذكر ، وهو كاف في فهمه ، وحينئذ فلا وجه لما ذكر من الرجوع في تمييز تفصيل المعنى الى العرف ؛ إذ ليس ذلك من شأنهم وإنّما شأن أهل العرف الرجوع في ذلك الى العلماء وأهل المعرفة ، كما هو ظاهر من ملاحظة الحال في كلّ واحد من العبادات ، كيف! ولو كان العرف مرجعا في معرفة التفصيل لما كانت حاجة الى الرجوع الى الأخبار وغيرها من الأدلة الشرعيّة في معرفة أجزاء الصلاة وغيرها ، وهو واضح البطلان ، وليس الوجه فيه إلّا ما عرفت من الفرق بين الإجمال والتفصيل ، والمستفاد من تلك الألفاظ ليس إلّا الامور المجملة هو الّذي يستفاد من العرف ، ولا يعرف التفصيل إلّا بالرجوع الى الأدلّة ، وهذا كلّه واضح بناء على القول بوضعها للصحيحة.

وأمّا القائل بوضعها للأعمّ فيذهب الى تعيين المعنى بحسب عرف المتشرّعة على التفصيل ، ولذا يذهب الى جريان الأصل في كلّ ما شكّ في جزئيته أو شرطيّته بعد إحراز ما يصدق معه الاسم في العرف.

٤٥٧

فمحصّل الاستدلال أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للأعمّ لكان الرجوع الى عرف المتشرّعة كافيا في معرفة تفاصيل معاني العبادات المقرّرة في الشريعة ، مع أنّه ليس كذلك بل لا يعرف تلك التفاصيل إلّا بالرجوع الى الأدلّة التفصيليّة المقرّرة في الكتب الاستدلاليّة.

والمراد من كونها توقيفيّة هو هذا المعنى ، وهو الفارق بين ألفاظ العبادات وغيرها حيث جعلوا الاولى توقيفيّة والثانية محوّلة الى العرف ، كيف! ولو كان الأمران ممّا يحال الى العرف لم يكن هناك فرق بينهما.

وكون إحديهما محالة الى العرف العامّ والاخرى الى عرف المتشرّعة الّذي هو بمنزلة العرف العامّ بعد انتشار الإسلام لا يصلح فارقا في المقام ، وسياق كلامهم يأبى عنه غاية الإباء ، كما لا يخفى على المتأمّل فيما قرّرنا.

حجّة القائلين بكونها للأعمّ وجوه :

أحدها : قضاء أمارات الحقيقة به ، وهو من وجوه :

منها : التبادر فإنّ المنساق في العرف من نفس تلك الألفاظ مع قطع النظر عن الامور الخارجية هو ما يعمّ القسمين ، ولا دلالة فيها على خصوصية أحد الوجهين ، ولذا يصحّ الإخبار بأنّ فلانا يصلّي وإن لم يعلم صحّة فعله ، بل وإن علم فساده ، ولو لا تبادر الأعمّ لكان ذلك كذبا.

ومنها : عدم صحّة سلبها عن الفاسدة ، ولذا لا يصحّ الإخبار عمّن كان وضوؤه وغسله فاسدا أو عباداته فاسدة : إنّه لا يتوضّأ ولا يغتسل من الجنابة. ولا يصلّي ولا يصوم، ولو أخبر كذلك من دون قيام قرينة على إرادة خلاف الظاهر عدّ كذبا ، بخلاف ما لو قيّد بالصحيحة.

والحاصل : أنّ الفرق بين نفي المطلق ونفي المقيّد في العرف ـ كما هو معلوم من ملاحظته ـ دليل على عدم صحّة سلب المطلق عن الفاسدة عندهم.

ومنها : صحّة تقسيمها الى الصحيحة والفاسدة ، وهو ظاهر في كونها حقيقة في المقسم.

٤٥٨

ومنها : أنّها تقيّد بالصحّة تارة ، وبالفساد اخرى ، والأصل فيما هو كذلك أن يكون حقيقة في القدر المشترك بين القيدين.

ومنها : صحّة استثناء الفاسدة منها إذا دخل عليها أداة العموم ، كما في قولك : «كلّ صلاة توجب التقرب الى الله تعالى إلّا الفاسدة ، وكلّ صلاة صلّاها فلان كانت مجزية إلّا صلاته الكذائية» وهي دليل على اندراج المستثنى في المستثنى منه ، إذ الأصل فيه الاتصال.

ومنها : حسن الاستفهام فيما لو أخبر أحد بوقوع شيء من تلك العبادات ، أو حكم عليه بشيء أنّها هل كانت صحيحة أو فاسدة ، والأصل في ذلك كون المستفهم عنه مشتركا لفظيا بين ذينك الأمرين أو معنويا ، وحيث إنّ الأوّل منفي في المقام بالإجماع فيتعيّن الثاني.

ومنها : أنّها تطلق على الصحيحة تارة ، وعلى الفاسدة اخرى ، والأصل فيما هو كذلك أن يكون حقيقة في القدر المشترك بين الأمرين ، حذرا من الاشتراك والمجاز.

والجواب : أمّا عن الأوّل فبمنع التبادر ، بل الأمر فيه بالعكس ؛ إذ ليس المتبادر إلّا الصحيحة حتّى أنّه اعترف به القائل بوضعها للأعمّ إلّا أنّه ادّعى كونه إطلاقيا ، وما ذكر من المثال فمحمول على الوجه المتقدّم من جهة إسنادها الى معيّن ، لما عرفت من كون ذلك قرينة على إطلاق المفهوم على ما هو مصداق له عند العامل ، لما في تعيين مصداق تلك المفاهيم من الاختلاف في الآراء والأداء ، وكلّ عامل فإنّما يأتي بها على حسب ما يعتقده فيها أو جرى عمله عليها ، فإذا اسند ذلك اليه قضى ذلك بأدائها على حسب ما عنده ، والمتبادر منه حينئذ هو الصحيحة بزعم العامل ، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف ، ولو لا ما قلناه من كون المتبادر هو الصحيح وكون الانصراف هنا من الجهة المذكورة لما كان فرق بين الأمرين ، بل كان الصحيح بزعمه الفاسد في الواقع كالفاسد بزعمه أيضا من غير فرق في الانصراف مع وضوح الفرق ، وهو شاهد على ما ذكرناه.

٤٥٩

ويومئ الى ما قلناه أنّه يقال : إنّ المخالفين يأتون بالعبادات ويؤدّون الواجبات ويواظبون على السنن مع أنّ العبادة والواجب والسنّة ليست إلّا الصحيحة ، فقد اطلق المذكورات على خصوص ما يعتقدونه كذلك ، فاللفظ في تلك الإطلاقات قد استعمل في معناه الموضوع له ـ أعني العبادة المخصوصة الصحيحة وإنّما اطلقت على المصداق المخصوص تبعا لاعتقاد عاملها كونه مصداقا لها ـ وذلك لا يقضي بتجوّز في المقام كما لا تجوّز فيما إذا استعمل اللفظ في غير الموضوع له عنده تبعا للوضع الثابت في عرف آخر ، غاية الأمر أنّ فيه مخالفة للظاهر ، وتكفي النسبة المذكورة شاهدة عليه حسب ما عرفت.

وممّا يشهد على ما ذكرنا أنّه يصحّ سلب الصلاة الحقيقية عن تلك الأعمال الفاسدة وأن يقال : إنّها ليست بصلاة أتى بها الشرع وليست من الماهية المجعولة في الشريعة ، ومن البيّن أنّ القائل بالوضع للأعمّ يقول بكون الأعمّ هي الصلاة المجعولة المقرّرة من الشارع ، ويقول بكون المستعمل فيه للفظ الصلاة والموضوع لفظها بإزائه (١) هو ذلك ، لنصّه على كون المعنى الشرعي قابلا للصحّة والفساد ، وكون المقرّر من الشرع قدرا جامعا بين القسمين وإن لم يقل بكونها مطلوبة كذلك.

ومن غريب الكلام ما وجدته في كلام بعض الأعلام حيث إنّه بعد ما نفى الريب عن كون الماهيات المحدثة امورا مخترعة من الشرع قال : «ولا شكّ أنّ ما أحدثه الشارع متّصف بالصحّة لا غير ، بمعنى أنّه بحيث لو أتى به على ما اخترعه يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهية من حيث إنّه أمر بالماهية» ونصّ أيضا على أنّه : إذا وضع الشارع اسما لهذه المركّبات أو استعمله فيها لمناسبة فهو يريد تلك الماهية على الوجه الصحيح بالمعنى المذكور. وبعد ذلك كلّه ذهب الى كونها أسامي للأعمّ فيكون الموضوع له أو المستعمل فيه هو الأعمّ. وهل هذا إلّا تدافع بيّن وتناقض ظاهر؟!.

وقد ظهر ممّا ذكرنا الجواب عمّا ذكر في الوجه الثاني ، ووجه الفرق بين نفي

__________________

(١) وما وضعت بإزائه. (خ. ل).

٤٦٠