هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

١
٢

تنبيه

قد وردت في آخر المطبوع الّذي أشرف على طبعه الشيخ محمّد الطهراني ـ ابن اخت المؤلّف قدس‌سرهما ـ كلمة مهمّة حول الكتاب ، رأينا أن نوردها في أوّل هذا المجلّد لنكتة ، وهي أنّ الجزء الأوّل من هذا السفر الشريف من أوّله إلى آخره وصل إلينا بخطّ المؤلّف ، وهو قدس‌سره بنفسه باشر نظمه وترتيبه وتهذيبه. وأمّا الجزء الثاني والثالث ـ من المأسوف عليه ـ ليسا بهذا الشأن ، فاللازم علينا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تلك الكلمة ليكون على بصيرة قبل الشروع في المطالعة ، وإليك نصّها :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله في الأوّل والآخر ، والباطن والظاهر ، والصلاة والسلام على محمّد وأهل بيته ، اولي المناقب والمفاخر.

وبعد فيقول أحوج المحتاجين الى عفو ربّه الغنيّ ، محمّد بن محمّد عليّ سقاهما الله كأس الغفران ، وهداهما رياض الرضوان :

إنّ هذا الكتاب المستطاب الموسوم بهداية المسترشدين ـ المعلّق على اصول معالم الدين للفاضل المحقّق الشيخ حسن بن الشيخ زين الدين حشرهما الله مع الأئمّة الطاهرين ـ من مصنّفات الإمام الهمام ، والمولى القمقام ، العالم العامل ، والفاضل الكامل ، بحر الفواضل والفضائل ، وفخر الأواخر والأوائل ، قدوة المحقّقين ، ونخبة المدقّقين ، واسوة العلماء الراسخين ، ورئيس الفقهاء والمجتهدين ، مخيّم أهل الفضل والحجى ، ومحطّ رحال أرباب العلم والنهى ، قطب

٣

رحى المجد الأثيل ، ومحيط دائرة الفعل الجميل ، منبع العدل ، وسبّاق غايات الفضل ، ملاذ الشيعة ، وموضح أحكام الشريعة ، كاشف أسرار الآثار وابن بجدتها ، ومبدع أبكار الأفكار وأبو عذرتها ، الزكي الذكي ، والتقي النقي ، والمهذّب الصفي ، والحبر الألمعي ، مولاي وعمادي ، وخالي واستاذي ، الشيخ محمّد تقي ـ أسكنه الله فراديس الجنان ، وأفاض على تربته السنيّة شآبيب الرحمة والغفران بها ـ إنّ هذا الكتاب العزيز السنيّ ، بل الدرّ البهيّ والنور الجليّ ، كأنّه كوكب درّي ، كتاب لو أنّ الليل يرمى بمثله لقلت : بدا من حجرتيه ذكاء من أجلّ الكتب وأعلاها ، وأنفسها وأغلاها ، قد تضمّن مطالب شريفة ومباحث لطيفة لم يتنبّه لها أحد من علمائنا المتبحّرين من المتقدّمين والمتأخّرين ، واشتمل على تنبيهات فائقة ، وإشارات رائقة ، خلت عنها كتب السابقين وزبر السالفين واحتوى من التحقيقات الرشيقة والتدقيقات الأنيقة ما لم يسمح بها خواطر اولي الأفكار العميقة ، ولم يعثر عليها بصائر ذوي الأنظار الدقيقة.

لله درّ صحيفة تهدي الورى

سبل الهدى ومسالك الإرشاد

لو شاهدت صحف الفضائل فضلها

شهدت به في محضر الأشهاد

كالماء صفوا غير انّ وراءها

نارا تذيب جوانح الحسّاد

ذرفت بأمطار الفضائل بعد ما

شرفت برشح أنامل الاستاد

ولعمري أنّه لحريّ بأن يوضع فوق العينين ، ويقام مقام النيّرين ، ويناط على قمم البدور ويعلّق على ترائب الحور. فجزاه الله عن العلم وأهله خيرا ، وأعطاه بكلّ حرف منه يوم القيامة نورا.

ثمّ إنّ هذا المصنّف الشريف والمؤلّف المنيف ـ على ما هو عليه من علوّ الشأن وسموّ المحلّ والمكان ـ قد طرأه القصور لأمرين ، وتطرّق إليه الخلل من وجهين :

أحدهما : خلوّه عن جملة من المباحث ونقصانه جملة اخرى ممّا اشتمل عليه من المسائل ، والسبب فيه أنّ الّذي برز في حياة المصنّف ـ طاب مراقده ـ من هذا التأليف وأفرغه في قالب التنضيد والترصيف وكان هو الّذي باشر جمعه وترتيبه

٤

ونظمه وتهذيبه مجلّدان أنهى الأوّل منهما إلى أوّل مسألة المرّة والتكرار ، وبلغ من الثاني إلى مسألة مفهوم الوصف ، فبينا يكتب المسألة المذكورة وهو يومئذ في محروسة إصبهان ، والطلبة مجتمعون عنده من كلّ مكان يقتبسون منه أنوار العلوم الدينيّة ، ويروون من رحيق المعارف اليقينيّة إذ أشار الدهر إلينا بالبنان وأصابتنا عين الزمان ، فاختفى بعد أن كان ظاهرا مشهورا ، وأصبح لفقده العلم كأن لم يكن شيئا مذكورا.

ثمّ إنّي عثرت له أعلى الله مقامه على أوراق متشتّة ، ومسودّات متفرّقة قد كتبها في سالف الزمان ، من مسألة الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه إلى مباحث الاجتهاد ، فصرفت برهة من الزمان في جمع شتاتها وترتيب متفرّقاتها ، ولم أقتصر على إيراد المسائل التامّة، بل نقلت من المباحث كلّ ما وجدت منه جملة وافية بتحقيق مقام كافية في توضيح مرام وإن كان المبحث غير تامّ ، وأسقطت كلّ مسألة لم أجد منها إلّا قليلا لا يروي غليلا ، فبلغ المجلّد الّذي جمعته قريبا من عشرين ألف بيت.

وبلغ الكتاب بأجمعه ما يقرب من خمسة وأربعين ألف بيت. وكان المصنّف قدس‌سره يقول: إنّ الكتاب لو تمّ يكون نحوا من ثمانين ألف بيت ، فيكون الناقص منه إذن نحوا من خمسة وثلاثين ألف بيت.

وثانيهما : أنّ أكثر نسخ الكتاب قد كثر فيها تحريف النسّاخ وتصحيف الكتّاب حتّى كاد أن لا ينتفع بالنسخ المذكورة لأجلها ، وتحصل المباينة الكلّية بين الفروع وأصلها ، ولا سيّما المجلّد الثالث فقد كان أسوء حالا وأشدّ اختلالا من المجلّدين الأوّلين ، بل لم يوجد منه نسخة صحيحة في البين. وعلى ذلك جرت النسخ المطبوعة وإن كانت أصحّ من جملة من النسخ المكتوبة ، فأضحت نسخ هذا الكتاب المستطاب الّذي قرن به عيون اولي الألباب غير صالحة لكامل الانتفاع ولا مقبولة لدى الطباع ، إذ كانت لا تشفي العليل ولا تروي الغليل بل لا ينتفع بها إلّا أقلّ قليل ، لكثرة ما فيها من السقط والتغيير والتبديل. فعظم ذلك على الراغبين

٥

وضاقت به صدور الطالبين. وحيث تصدّى لتجديد طبعه في هذا الزمان بعض أهل الصلاح التمسني جماعة من الإخوان أن اجيل فيه قلم الإصلاح ، فلم أر بدّا من إسعاف مسؤولهم وإنجاح مأمولهم ، فشمّرت عن ساق الجدّ ، وبلغت أقصى درجة المجد ، وأخذت في ملاحظة الكتاب ومطالعته وتصحيحه وتنقيحه ، فمتى عثرت على لفظ غلط أو كلام في البين سقط وضعت الصحيح موضع السقيم وأتيت عن الساقط بما يستقيم ، فكأنّه عين أصله أو شيء كمثله ، ونبّهت على جملة ممّا كان من هذا الباب في حواشي الكتاب. وهناك مواضع يسيرة ومواقع غير كثيرة ، ومنها بعض أخبار مرويّة وعبارات محكيّة بقيت على حالها وطويت على اختلالها ، حيث لم تحضرني النسخة ولم تساعدني الفرصة. وربما زاغ البصر وأخطأ النظر فحصل الذهول عن بعض ما يجب أن يغيّر ، فإنّ الإنسان ليس بمأمون عن الخطأ والنسيان ، إلّا أنّ ما كان من هذا القبيل قليل ، ومع ذلك فليس بحيث يخلّ بالفهم أو يوقع الناظر في الوهم.

وأسأل الله الكريم المنّان أن ينفع بتصحيحه كما نفع بتصنيفه ، وأن يكون هذا إتماما لتلك النعمة وإكمالا لهاتيك المنّة ، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، فإنّه البرّ الرؤوف الرحيم.

وقد وافق الفراغ عنه يوم الغدير سنة اثنتين وسبعين بعد الألف والمائتين من الهجرة النبويّة على هاجرها ألف ألف سلام وتحيّة.

٦

معالم الدين :

أصل

الحقّ أنّ صيغة الأمر بمجرّدها ، لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار ، وإنّما تدلّ على طلب الماهيّة. وخالف في ذلك قوم فقالوا : بإفادتها التكرار ، ونزّلوها منزلة أن يقال : «إفعل أبدا» ، وآخرون فجعلوها للمرّة من غير زيادة عليها ، وتوقّف في ذلك جماعة فلم يدروا لأيّهما هي.

لنا : أنّ المتبادر من الأمر طلب إيجاد حقيقة الفعل ، والمرّة والتكرار خارجان عن حقيقته ، كالزمان والمكان ونحوهما. فكما أنّ قول القائل : «إضرب» غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب ، كذلك غير متناول للعدد في كثرة ولا قلّة. نعم لمّا كان أقلّ ما يمتثل به الأمر هو المرّة ، لم يكن بدّ من كونها مرادة ، ويحصل بها الامتثال ، لصدق الحقيقة الّتي هي المطلوبة بالأمر بها.

وبتقرير آخر : وهو أنّا نقطع بأنّ المرّة والتكرار من صفات الفعل ، أعني المصدر ، كالقليل والكثير ؛ لأنّك تقول : اضرب ضربا قليلا ، أو كثيرا ، أو مكرّرا ، أو غير مكرّر ، فتقيّده بالصفات المختلفة. ومن المعلوم أنّ الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصيّة شيء منها. ثمّ إنّه لا خفاء في أنّه ليس المفهوم من الأمر إلّا طلب إيجاد الفعل أعني المعنى المصدريّ ؛ فيكون معنى «إضرب» مثلا طلب ضرب مّا ، فلا يدلّ على صفة الضرب ، من تكرار أو مرّة أو نحو ذلك.

٧

وما يقال : من أنّ هذا إنّما يدلّ على عدم إفادة الأمر الوحدة أو التكرار بالمادّة ، فلم لا يدلّ عليهما بالصيغة؟

فجوابه : أنّا قد بيّنا انحصار مدلول الصيغة بمقتضى حكم التبادر في طلب إيجاد الفعل. وأين هذا عن الدلالة على الوحدة أو التكرار؟

احتجّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : أنّه لو لم تكن للتكرار ، لما تكرّر الصوم والصلاة. وقد تكرّرا قطعا.

والثاني : أنّ النهي يقتضي التكرار ، فكذلك الأمر ، قياسا عليه ، يجامع اشتراكهما في الدلالة على الطلب.

والثالث : أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، والنهي يمنع عن المنهيّ عنه دائما ؛ فيلزم التكرار في المأمور به.

والجواب عن الأوّل : المنع من الملازمة ؛ إذ لعلّ التكرار إنّما فهم من دليل آخر. سلّمنا ، لكنه معارض بالحجّ ؛ فإنّه قد امر به ، ولا تكرار.

وعن الثاني من وجهين : أحدهما ـ أنّه قياس في اللغة ، وهو باطل ، وإن قلنا بجوازه في الأحكام. وثانيهما ـ بيان الفارق ، فإنّ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة ، وهو إنّما يكون بانتفائها في جميع الأوقات ، والأمر يقتضي إثباتها وهو يحصل بمرّة ، وأيضا التكرار في الأمر مانع من فعل غير المأمور به. بخلافه في النهي ، إذ التروك تجتمع وتجامع كلّ فعل.

وعن الثالث : بعد تسليم كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، أو تخصيصه بالضدّ العامّ وإرادة الترك منه ، منع كون النهي الّذي في ضمن الأمر مانعا عن المنهيّ عنه دائما ، بل يتفرّع على الأمر الّذي هو في ضمنه ؛ فإن كان ذلك دائما فدائما ، وإن كان في وقت ، ففي وقت. مثلا الأمر بالحركة دائما يقتضي المنع من السكون دائما ، والأمر بالحركة في ساعة يقتضي المنع من السكون فيها ، لا دائما.

٨

واحتجّ من قال بالمرّة بأنّه إذا قال السيّد لعبده : ادخل الدار ، فدخلها مرّة عدّ ممتثلا عرفا ، ولو كان للتكرار لما عدّ.

والجواب : أنّه إنّما صار ممتثلا ، لأنّ المأمور به ـ وهو الحقيقة ـ حصل بالمرّة ، لا لأنّ الأمر ظاهر في المرّة بخصوصها ، إذ لو كان كذلك لم يصدق الامتثال فيما بعدها. ولا ريب في شهادة العرف بأنّه لو أتى بالفعل مرّة ثانية وثالثة لعدّ ممتثلا وآتيا بالمأمور به. وما ذاك إلّا لكونه موضوعا للقدر المشترك بين الوحدة والتكرار ، وهو طلب إيجاد الحقيقة ، وذلك يحصل بأيّهما وقع.

واحتجّ المتوقّفون : بمثل ما مرّ ، من أنّه لو ثبت ، لثبت بدليل ، والعقل لا مدخل له، والآحاد لا تفيد ، والتواتر يمنع الخلاف.

والجواب : على سنن ما سبق بمنع حصر الدليل فيما ذكر ؛ فإنّ سبق المعنى إلى الفهم من اللفظ أمارة وضعه له ، وعدمه دليل على عدمه. وقد بيّنا أنّه لا يتبادر من الأمر إلّا طلب إيجاد الفعل ، وذلك كاف في إثبات مثله.

٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه ثقتي

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وأفضل المتّقين محمّد الصادق الأمين وعلى سيّد الوصيّين وإمام المتّقين عليّ أمير المؤمنين وعلى آلهما الطاهرين وأولادهما المعصومين الأئمّة المختارين.

قوله : (الحق أنّ صيغة الأمر ... الخ) قد يتراءى في المقام أنّ القائل بكون الأمر للمرّة أو التكرار قائل بكون المطلوب بالأمر الفرد ، والنافي لدلالته عليهما قائل بتعلّقه بالطبائع ، حيث يقول بدلالته على مجرّد طلب مطلق الحدث من غير دلالة على مرّة ولا تكرار.

وليس كذلك ، بل يصحّ القول بكلّ من الأقوال المذكورة على كلّ من الوجهين المذكورين ، إذ يمكن ملاحظة المرّة والتكرار قيدا للطبيعة أو الفرد ، تقول : أوجد الطبيعة مرّة أو مكرّرا ، وأوجد الفرد كذلك.

نعم إيجادها مرّة أو مكرّرا ـ كمطلق إيجادها ـ إنّما يكون بإيجاد الفرد ، وهو لا يستلزم تعلّق الأمر بالفرد.

وكذا النافي لدلالته على الأمرين ، يصحّ له القول بكون المطلوب للأمر هو الفرد في الجملة من غير دلالة على الوحدة والتكرار ، وهو ظاهر.

نعم القائل بوضع الأمر للمرّة أو التكرار لا يقول بوضعه للطبيعة المطلقة ، ضرورة تقييدها عنده بأحد القيدين المذكورين ، وهو غير القول بتعلّقه بالفرد.

١٠

وذلك لا يستلزم أيضا أن يكون القائل المذكور قائلا بتقييد الحدث المتعلق للطلب بذلك ، بل يقول بكون المقصود بالحدث نفس الطبيعة المطلقة ويكون الدلالة على المرّة أو التكرار من جهة الصيغة ؛ وهذا هو الظاهر من القائل بالتكرار ، إذ لا وجه للقول بإفادة مدلوله الحدثي ذلك. وأمّا القول بالمرّة فيتصوّر على كلّ من الوجهين المذكورين.

ثمّ إنّه يمكن تقرير النزاع في المقام في بيان ما وضع له صيغة الأمر على نحو ما مرّ في الأصل السابق ، وهو الظاهر من كلماتهم في عنوان المسألة ، ويستفاد من ملاحظة أدلّتهم ومطاوي كلماتهم وقد يقع التصريح منهم بذلك في بعض المقامات.

ويمكن أن يكون النزاع فيما يستفاد من الصيغة حين الإطلاق ، سواء كان من جهة الوضع له بخصوصه أو انصراف الإطلاق إليه. وهو الّذي يساعده ملاحظة الاستعمالات ، إذ القول بوضع الصيغة لخصوص المرّة ـ حتّى يكون الأمر بالفعل مرّتين أو ما يزيد عليه مجازا ـ في غاية البعد ، بل لا يبعد القطع بفساده. وكذا لو علّق الفعل بالمرّة بناءا على القول بوضعه للتكرار ، بل قد لا تكون المادّة قابلة للتكرار ، فينبغي أن تكون تلك الصيغة مجازا دائما. فتأمّل.

قوله : (وإنّما يدلّ على طلب الماهيّة ... الخ).

يعني : من غير أن يدل على ما يزيد على ذلك ، فلا يفيد كون (١) الماهيّة مطلوبة في ضمن المرّة أو دائما.

قوله : (فقالوا بإفادتها التكرار ... الخ).

القول به محكي عن أبي حنيفة والمعتزلة والاستاذ أبي إسحاق وأصحابه.

ثمّ إنّ الدوام والتكرار يفترقان بحسب المفهوم ، من حيث إنّ التكرار ظاهر في الأفراد المتعدّدة المنفصلة ، والظاهر من الدوام هو الفرد الواحد المستدام أو الأعمّ منه ومن الأوّل. والظاهر أنّ المراد بهما في المقام أمر واحد. فعلى القول به يتحقّق بكلّ من الوجهين ، ولا يبعد اختلاف الحال فيه على حسب اختلاف الأفعال.

__________________

(١) العبارة في ف : يعني من غير زيادة عليه ، فلا يصدق بكون الماهيّة.

١١

قوله : (ونزّلوها منزلة أن يقال : افعل أبدا) القول بالتكرار يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يراد به مطلق التكرار الشامل للمرّتين وما فوقهما أو خصوص المرّتين.

ثانيهما : أن يراد به التكرار على وجه الدوام ، وهو المحكيّ عن القائل بالتكرار ، حكاه السيّد والغزالي والعضدي وغيرهم ، وهو الّذي يقتضيه ملاحظة أدلّتهم.

وعلى كلّ من الوجهين فإمّا أن يكون التكرار مأخوذا في المأمور به على وجه لا يحصل الامتثال أصلا إلّا بالإتيان به مكرّرا على الوجه المفروض ، أو يكون عنوانا عن الأفعال المتكرّرة ، فيكون كلّ من تلك الأفراد واجبا مستقلّا يحصل بكلّ واحد منها امتثال الأمر ويكون الإتيان بكلّ منها واجبا ، فينحلّ التكليف المذكور إلى تكاليف عديدة. وكذا الحال في الفعل الواحد المستدام إذا لوحظ تجزئته على أبعاض الزمان.

والظاهر بناؤهم على الثاني على حسب التكرار الملحوظ في النهي ، فإنّ كل ترك للمنهيّ عنه امتثال مستقلّ من غير أن يتوقّف حصول الامتثال ببعضها.

ثمّ إنّ المنصوص به في كلام بعضهم تقييد التكرار المدلول بالصيغة بما يكون ممكنا ، ونصّ الآمدي : بأنّ المراد بالتكرار الممكن عقلا وشرعا. ولا يبعد أن يريد بالممكن العقلي ما يعمّ العادي فيما لو بلغ إلى حدّ يتعسّر الإتيان به جدّا بحيث يعدّ متعذّرا في العرف ، بل لا يبعد انصرافه إلى التكرار على النحو المتعارف ، فلا ينافي الاشتغال بالأكل المعتاد والنوم المعتاد ونحوهما.

وكيف كان : فلو زاحمه واجب آخر لم يمنع أحدهما من أداء الآخر ، بل إن كان الآخر واجبا مرّة أو مرّات معيّنة لزم تكرار المأمور به على وجه لا يزاحم الإتيان به كذلك وإن كان مطلوبا أيضا كان الحال فيهما سواء ، فيعتبر تكرارهما على نحو واحد ، لعدم الترجيح.

وكذا الحال في الأوامر المطلقة العديدة. ويمكن أن يكون ذلك ونحوه من

١٢

تقييد الإطلاق ، فيكون كلّ من الأمرين أو الأوامر مقيّدا لإطلاق الدوام المستفاد من الآخر. ولو كان أحد الأمرين مطلقا والآخر مقيّدا بالدوام احتمل كونهما كالمطلقين وترجيح المقيّد بالدوام فيؤتى بالآخر مرّة.

قوله : (فجعلوها للمرّة ... الخ).

القول به محكيّ عن جمع كثير ، وحكي عن أبي الحسين أيضا ، وكذا عن ظاهر الشافعي.

ثمّ إنّ القول بالمرّة يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يراد به المرّة بشرط لا ، وهي المرّة المقيّدة بالوحدة ، فينحلّ الأمر إلى أمر ونهى ، أعني طلب إيجاد الفعل مرّة وطلب تركه زائدا عليها ، ويتصوّر ذلك على وجهين :

أحدهما : أن يكون كلّ من طلب الفعل والترك مستقلّا حتّى أنّه إذا أتى بالفعل مرّتين كان مطيعا عاصيا.

ثانيهما : أن يكون طلبه للفعل مقيّدا بترك الزائد ، فيكون فعله الثاني عصيانا ومانعا من حصول الامتثال بالأوّل ، فيكون الحكم بحصول الامتثال بالأوّل مراعى بعدم الإتيان به ثانيا وحينئذ فإمّا أن يقال : بعدم إمكان الامتثال أصلا إذ لا يمكن الإتيان به مرّة بعد ذلك أو يقال : بكون فعله الثاني مبطلا للأوّل ، فكأنّه لم يأت به ، لعدم العبرة بالباطل ، فلابدّ من الإتيان بالثالث ، وحينئذ إن أتى بالرابع أبطل الثالث ، وهكذا الحال في سائر المراتب(١).

ثانيها : أن يراد به المرّة بشرط لا أيضا ، لكن من دون أن ينحلّ الأمر إلى أمر ونهي ، بل بأن يكون المطلوب هي المرّة المقيدة بعدم الزائد حتّى أنّه إذا أتى بالزائد لم يتحقّق الامتثال بالأوّل ، لفوات شرطه من دون أن يكون مجرّد الإتيان بالثاني منهيّا عنه بنفسه ، وفي تحقّق الامتثال حينئذ بالمرّة الثالثة والخامسة مثلا الوجهان المتقدّمان.

ثالثها : أن يكون المراد به المرّة لا بشرط شيء ، بأن يفيد كون المرّة مطلوبة

__________________

(١) في ق : سائر المرّات.

١٣

من غير أن يراد ترك الزائد ، فالمقصود هو الإتيان بالمرّة ، سواء أتى بالزائد أو لا ، لكن يفيد عدم مطلوبيّة القدر الزائد على المرّة ، فالمأمور به هو المرّة مع عدم إرادة ما يزيد عليها ، فيرجع في الزائد إلى حكم الأصل.

رابعها : الصورة بحالها لكن مع عدم دلالته على عدم مطلوبيّة الزائد ، بل غاية ما يفيده الأمر المذكور مطلوبيّة المرّة من غير أن يفيد مطلوبيّة ما زاد عليها ولا عدمها ، فلا يفى ذلك الطلب إلّا بمطلوبيّة القدر المذكور. والفرق بينه وبين سابقه ظاهر ، فإنّه لو دلّ دليل على مطلوبيّة الزائد كان معارضا للأمر المفروض بناء على الأوّل بخلاف الثاني ، إذ عدم وفاء الطلب المذكور بالدلالة على وجوب الزائد لا ينافي ثبوت الوجوب من الخارج.

والظاهر من مقالة أهل المرّة هو الوجه الأخير ، وعليه يشكل الحال في الثمرة بين القول بالمرّة والقول بالطبيعة ، حيث إنّه مع تعلّق الأمر بالطبيعة يحصل الامتثال بالمرّة قطعا ومع الإتيان بها يسقط التكليف ، فلا بقاء لذلك الطلب ، فلا يشمل ذلك الطلب ما عدا المرّة ، وإن صحّ كون الزائد عليها مطلوبا بطلب آخر ، كما هو الحال في القول بالمرّة. وقد يدفع ذلك بإبداء الثمرة بين القولين بوجوه لا يخفى شيء منها عن البحث ، وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.

قوله : (وتوقّف جماعة) القول بالتوقّف يقرّر بوجهين :

أحدهما : التوقف في تعيين ما وضع له من المرّة والتكرار وهو صريح كلام المصنّفرحمه‌الله، فهم حاكمون بدلالته على أحد الأمرين متوقّفون في التعيين.

ثانيهما : التوقّف في المراد دون الوضع ، وهو من لوازم القول بالاشتراك. وقد نزّل عليه السيّد كلام أصحاب الوقف ، ولا يمكن تنزيل ما حكاه المصنّف رحمه‌الله هنا عليه ، ولا يوافقه الاحتجاج المنقول عنهم ، فإنّه قاض بالوقف في أصل الوضع.

وربما يزاد فيه وجه ثالث وهو حمل كلام الواقف على إرادة الوضع لمطلق الطبيعة ، فيتوقّف إرادة المرّة أو التكرار على قيام الدليل عليها ، حيث لا دلالة في الصيغة على شيء منهما. وربما يستفاد ذلك من العلّامة في النهاية في تقرير قول

١٤

السيّد حيث حمل كلامه على إرادة الوضع لمطلق الطبيعة ، وهو قد حمل كلام الواقف على ما اختاره ، لكنّه حمل كلام الواقف على أحد الوجهين الأوّلين ، كما ردّد قوله بينهما في المنية ... وكيف كان فحمل كلامه على الوجه المذكور بعيد جدّا ، إذ مع عدم موافقته لدليلهم المعروف (١) ليس من القول بالوقف في شيء ، ولا يقتضي التوقّف في مقام الحمل حسب ما نقرّره في بيان ثمرة الأقوال ؛ وكأنّ ما ذكره السيّد كان مذهبا لواقف آخر غير من حكى عنه القول والدليل المذكوران ، قد أطلق عليه الوقف في غير هذا المقام. فيكون الأقوال في المسألة على بعض الوجوه المذكورة ثلاثة وعلى بعضها أربعة وعلى بعضها خمسة. وكلام السيّد في المقام يحتمل إرادة الاشتراك اللفظي وقد حمله على ذلك في التهذيب ، ويقتضيه التمسّك في المقام بأصله المشهور ، لكن أوّل كلامه كالصريح في إرادة الوضع للطبيعة. فتأمّل.

بقي الكلام في المقام في بيان الثمرة بين الأقوال المذكورة ، فنقول : إنّ الثمرة بين القول بالمرّة والتكرار ظاهر على كلّ من وجوه القولين ، لوضوح الاجتزاء بالمرّة على جميع وجوهها وعدم الاجتزاء بها على القول بالتكرار كذلك. والقول بالأشتراك اللفظي على فرض ثبوته تابع في الثمرة لأحد القولين المذكورين من المرّة والتكرار في أكثر وجوهها ، ففي بعضها يتبع القول بالمرّة ، وفي بعضها يأخذ بمقتضى القول بالتكرار ، وفي بعض وجوه القولين لا بدّ له من التوقّف ، حيث لا يقتضي الأصل حصول البراءة بشيء من الوجهين ، وقد يرجع حينئذ إلى التخيير.

ولا ثمرة بين القول بالاشتراك اللفظي والوقف ، لتوقّفهما في مقام الاجتهاد والرجوع إلى اصول الفقاهة في مقام العمل.

والثمرة بين القول بالطبيعة والقول بالتكرار ظاهرة وكذا بينه وبين القول بالمرّة على وجوهها ، عدا الوجه الأخير حسب ما مرّ وجه الإشكال فيه.

وقد يقرّر الثمرة بينهما في حصول الامتثال بالمرّة الثانية والثالثة وهكذا على

__________________

(١) في ق : المذكور.

١٥

القول بالطبيعة ، نظرا إلى حصول الطبيعة في ضمن الواحد والمتعدّد ؛ بخلاف ما لو قيل بالمرّة، إذ لا يعقل حصول الامتثال بما يزيد عليها. كذا ذكره المصنّف في جواب احتجاج القائل بالمرّة حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

وأورد عليه بأنّه بعد الإتيان بالطبيعة في ضمن المرّة يتحقّق أداء المأمور به قطعا ، فيحصل الامتثال وهو قاض بسقوط الأمر ، ومع سقوطه لا مجال لصدق الامتثال ثانيا وثالثا.

نعم يمكن تقرير الثمرة إذا فيما إذا أتى بالأفراد المتعددة من الطبيعة دفعة ، فعلى القول بالمرّة لا امتثال إلّا بواحد منها ، وعلى القول بالطبيعة يتحقّق الامتثال بالجميع ، لحصول الطبيعة في ضمن الجميع ، ولا يجري فيه الإشكال المذكور ، لحصولها في ضمن الجميع دفعة.

وفيه : أنّ الطبيعة وإن حصلت في ضمن الجميع دفعة وكان حصولها في ضمن كلّ من الأفراد قبل سقوط الأمر بها ، لكن حصول الطبيعة في ضمن الجميع ليس بحصول واحد ، بل هناك حصولات متعدّدة ، والإتيان بالطبيعة حاصل بواحد منها فلا داعي إلى الحكم بوجوب الجميع مع حصول الطبيعة بواحد منها القاضي بسقوط التكليف بها.

والحاصل : أنّه ليس حصولها في ضمن الجميع إلّا عين حصولها في ضمن كلّ منها ، فبعد الاكتفاء في حصول الطبيعة بواحد منها لا داعي إلى اعتبار كلّ من حصولاتها ولا باعث لوجوبها ، فيتخيّر في التعيين أو يستخرج ذلك بالقرعة إن احتيج إلى التعيين.

ويمكن دفعه بأنّه لمّا كانت نسبة الطبيعة إلى الواحد والجميع على نهج واحد وكان حصولها في ضمن الواحد كالحصول في ضمن المتعدّد وكان الحاصل في المقام هو المتعدّد ، كان الجميع واجبا ، لحصول الطبيعة في ضمنه. وحينئذ وإن أمكن القول بحصول الطبيعة بالبعض الحاصل في ضمن الجميع إلّا أنّه لمّا كان ترجيح البعض على البعض ترجيحا من غير مرجّح قلنا بوجوب الجميع ؛ وأيضا

١٦

صدق حصول الطبيعة في ضمن البعض لا ينافي صدق حصولها في ضمن الجميع ، بل يحقّقه، إذ ليس حصولها في ضمن الكلّ إلّا عين حصولاتها في ضمن الأبعاض كما عرفت ؛ وقضيّة ذلك وجوب الجميع ، لصدق حصول الطبيعة الواجبة به القاضي بوجوبه ، ولا ينافيه صدق حصول الطبيعة بالبعض أيضا ، إذ غاية الأمر أن يكون ذلك أيضا واجبا ولا مانع منه ، بل قضيّة وجوب الجميع هو وجوب كلّ منها ، إذ ليس وجوب الجميع إلّا عين وجوب الأبعاض.

ومن هنا ينقدح ابتناء ما ذكرناه على القول بتعلّق الأوامر بالكلّيّات دون الأفراد ؛ فيتفرّع الحال في هذه المسألة على تلك المسألة. فإن قلنا بتعلّقها بالطبائع ـ حسب ما قرّرناه ـ صحّ ما ذكرناه واتّصف الجميع بالوجوب ، لحصول الطبيعة الواجبة به. وأمّا إن قلنا بتعلّقها بالأفراد تعيّن حصول الامتثال بواحد منها ، إذ ليس المطلوب على القول المذكور إلّا واحدا من الأفراد أو جميعها على سبيل التخيير بينها حسب ما بيّن في تلك المسألة. وأيّا ما كان : فمقتضاه وجوب واحد ممّا أتى به من الأفراد دون جميعها ، سواء أتى بها دفعة أو متعاقبا ، من غير فرق بين الصورتين.

وفيه : أنّه ليس المقصود من تعلّق الأمر بالفرد إلّا مطلوبيّة الأمر الخارجي ـ أعني الطبيعة المتشخّصة في الخارج ـ سواء كان واحدا أو متعدّدا ، فلا وجه لالتزام القائل به كون الامتثال بإيجاد فرد واحد من الأفراد ، بل يصحّ له القول بحصول الامتثال بالجميع أيضا على نحو القائل بوضعها للطبيعة ، من غير فرق.

نعم توهّم بعض الأفاضل خلاف ذلك وزعم أنّه إنّما يقول بوجوب أحد الأفراد أو الجميع على سبيل التخيير. ولا وجه له حسب ما نشير إليه في محلّه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه يرد على البيان المذكور : أنّه إمّا أن يراد بذلك وجوب البعض في ضمن الكلّ تبعا لوجوب الكلّ أو يراد وجوبه استقلالا. فإن اريد الأوّل تمّ ما اريد من الحكم بوجوب الكلّ ، إلّا أنّه لا وجه له بعد حصول الطبيعة به استقلالا ، فإنّه قاض

١٧

بوجوبه استقلالا لا تبعا للكلّ. وإن أريد الثاني لم يجامع وجوب الكلّ ، لأداء الواجب إذا بالبعض. والتزام وجوبين في المقام يتعلّق أحدهما بالكلّ فيجب البعض تبعا له واخرى بالبعض فيجب استقلالا أيضا ممّا لا وجه له ، بل هو مخالف للتقرير المذكور ، حيث اريد به بيان حصول الواجب وأدائه في ضمن المتعدّد كما أنّه يحصل تارة في ضمن الواحد.

وقد يقرّر الثمرة بين القولين بتخيير المكلّف بين قصده أداء الواجب بالتكرار وأدائه بالمرّة على القول بوضع الصيغة للأعمّ ، نظرا إلى صدق أداء المأمور به في الصورتين سواء أتى بالجميع دفعة أو على التعاقب ، فإن قصد الامتثال بالمرّة اكتفى بها ، وإن قصده بالتكرار لم يجز له الاقتصار على المرّة ، بل لابدّ من الإتيان بما قصده من مراتب التكرار. بخلاف القول بوضعها للمرّة ، فإنّه يتعيّن عليه المرّة وليس له قصد الامتثال بالتكرار.

وفيه : أنه إذا أتى بالمرّة فقد أتى بالواجب ، لحصول الطبيعة الواجبة بأدائها وإن قصد امتثال الأمر بالتكرار ، إذ لا ربط للقصد المذكور بأداء الواجب حسب ما عرفت تفصيل القول فيه ، غاية الأمر أن يسلّم حينئذ عدم صدق امتثال الأمر بالإتيان بالمرّة على الوجه المذكور ، وأمّا أداء الواجب فلا ريب في حصوله ، وحينئذ فلا وجه للحكم بوجوب الكلّ.

والحاصل أنّ النيّة لا أثر لها في أداء الواجب على ما هو الملحوظ في المقام ؛ مضافا إلى أن تعيّن المنوي بعد قصده الامتثال بالمرّة أو التكرار فرع جواز كلّ من الشقّين وأداء الواجب بكل من الوجهين ، وقد عرفت المناقشة فيه ؛ وحينئذ فكيف يثمر النيّة في جواز قصد الامتثال بالتكرار على القول بوضعه للطبيعة؟!

والّذي يتخيّل في تحقيق المقام أن يقال : إنّا إذا قلنا بوضع الأمر لطلب الطبيعة فلا ريب في حصولها في ضمن الفرد الواحد والمتعدّد ؛ فكما أنّه يتخيّر عقلا بين آحاد الأفراد كذلك يتخيّر عقلا بين الإتيان بالواحد والمتعدّد ؛ فيرجع الأمر حينئذ إلى التخيير بين الأقلّ والأكثر ، فالتخيير الثابت بحكم العقل ـ بعد الحكم بحجّيّته شرعا ـ بمنزلة التخيير الثابت بالنصّ.

١٨

والحال في التخيير بين الأقل والأكثر يدور بين وجوه :

أحدها : أنّه يؤول الحال فيه إلى الحكم بوجوب الأقلّ واستحباب الأكثر ، لكون القدر الزائد مطلوبا على وجه يجوز تركه ، بخلاف الأقلّ ، لعدم جواز تركه على أيّ حال ، فلا تخيير في الحقيقة.

ثانيها : أن يكون التخيير فيه على نحو غيره ويكون تعيين وجوب الأقلّ أو الأكثر منوطا بقصد الفاعل ، فإن نوى الإتيان بالأقلّ وشرع فيه كان هو الواجب ، وإن نوى الأكثر وشرع فيه على الوجه المذكور تعيّن عليه ولم يجز الاقتصار على الأقلّ.

ثالثها : أن يقال أيضا بكون التخيير فيه على نحو التخيير الحاصل بين ساير الأفعال من غير أن يتعيّن عليه الأقلّ أو الأكثر بالنيّة ، فإن اقتصر على الأقلّ أجزأه وإن نوى الإتيان بالأكثر ، وإن أتى بالأكثر كان أيضا واجبا ؛ والاجتزاء بالأقلّ وجواز ترك الزائد لا يقضي باستحباب الزائد ، نظرا إلى جواز تركه ، فإنّ مجرّد جواز الترك لا يقضي بالاستحباب ، فإنّ جواز الترك إلى بدل ـ كما في المقام ـ لا ينافي الوجوب ، بل حاصل في الواجبات المخيّرة وإنّما ينافيه جواز الترك مطلقا ، فلا داعي إلى التزام البناء على الاستحباب في القدر الزائد مع منافاته لظاهر الأمر.

والحاصل : أنّه إن أتى بالأكثر كان واجبا ، وإن اقتصر على الأقلّ وترك ما زاد عليه كان كافيا أيضا ، لقيامه مقام الزائد على مقتضى التخيير.

فإن قلت : إذا كان المكلّف بمقتضى الأمر مخيّرا بين الأقلّ والأكثر وأتى بالأقلّ كان ذلك على مقتضى الأمر مجزيا مسقطا للتكليف ، للإتيان بأحد فردي المخيّر ، فكيف يتصوّر مع ذلك بقاء الوجوب حتّى يقوم بالأكثر لو أتى بالزيادة؟!

قلت : قيام الوجوب بالأقلّ مبنيّ على عدم الإتيان بالأكثر ، فإن أتى بالأكثر قام الوجوب بالجميع ، وإن اقتصر على الأقلّ قام الوجوب به ، ألا ترى أنّه لو قال : «يجب عليك ضرب زيد إمّا سوطا أو سوطين أو ثلاثة» فإن ضربه سوطا واقتصر عليه كان ذلك هو الواجب ، وان ضربه بعد ذلك سوطا آخر واقتصر عليهما قام

١٩

الوجوب بهما ، وإن أتى بالثالث قام الوجوب بالثلاثة ، وليس شيء من الأسواط الثلاثة مندوبا ، إذ ليس هناك إلّا تكليف واحد دائر بين الوجوه الثلاثة فالسوط الأوّل إنّما يجزي لو اقتصر عليه ، وأمّا لو كان في ضمن الاثنين أو الثلاثة كان جزءا من المجزي ، فيكون الحكم بإجزائه أوّلا مراعى بعدم الإتيان بالثاني على حسب ما يقتضيه ظاهر الأمر. وجواز الاقتصار عليه لا يقضي باستحباب الزائد ، لما عرفت من كون الأقلّ إذا بدلا عن الأكثر ، وجواز الترك إلى بدل لا ينافي الوجوب.

ولا فرق فيما قرّرنا بين ما إذا كان الأقلّ مع الزيادة فعلا واحدا كما إذا قال : «امسح قدر إصبع أو إصبعين أو ثلاثة» فإنّ المسح بقدر إصبعين أو ثلاثة يعدّ مسحا واحدا وإن جاز الاقتصار على بعضه ـ أعني قدر الإصبع ـ أو عدّ أفعالا عديدة ، كما في المثال المتقدّم.

وقد يتخيّل الفرق حيث إنّ كلّا من الزائد والناقص في الصورة الاولى فعل واحد مستقلّ مغاير للآخر ، بخلاف الصورة الثانية ، فإنّ الناقص فعل مستقلّ على التقديرين ، نظرا إلى انفصال البعض عن البعض ، وبالتأمّل فيما قرّرنا يظهر فساد ذلك وانتفاء الفرق بين الوجهين ؛ هذا.

وقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف الوجه الأوّل وكذا الوجه الثاني. فالتحقيق في المقام هو الوجه الثالث.

فالواجب بمقتضى الأمر نفس الفعل الدائر بين الوجهين ، وقصد الإتيان بالأكثر لا يقضي بتعيين الإتيان به ، بل يجوز العدول عنه ولو بعد الإتيان بمقدار الأقلّ بل ولو لم يعدل عنه أيضا ، إذ بعد الإتيان بالأقلّ يصدق الإتيان بالواجب فلا مانع من الاقتصار عليه.

نعم إذا قصد الإتيان بالأقلّ وأتى به اتّجه القول بسقوط الواجب وعدم جواز الإتيان بالزائد على وجه المشروعيّة ؛ وليس ذلك من جهة تعيين الأقلّ بالنيّة ، بل لصدق الامتثال مع الإتيان به كذلك ، فيحصل به أداء الواجب من غير أن يكون مراعى بالإتيان بالزائد.

٢٠