هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

قد يقال : إنّ دعوى تبادر تلك المعاني منها لمّا كانت من قدماء الاصوليين وكانت أعصارهم قريبة من عهد الشارع فلا يبعد علمهم بالحال بالنسبة الى زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمجرّد منعه من التبادر من جهة بعد العهد وخفاء الحال لا يكون دافعا للاستدلال بالنسبة اليهم مع علمهم بها ، بل هو الظاهر عندنا أيضا ، كما يظهر من تتبع موارد استعمالاتها في المنقول من كلام الشارع والمتشرّعة في ذلك العصر ، غاية الأمر أن لا يتمّ ذلك بالنسبة الى كلّ الألفاظ فيتمّ الاحتجاج بعدم القول بالفصل حسب ما مرّ.

قوله : (لفهّمها المخاطبين بها)

فيه : أنّ ذلك إنّما يلزم لو قلنا بحصول النقل على سبيل التعيين وأمّا لو قيل به على سبيل التعيّن فلا ، بل ملاحظة الغلبة كافية بالنسبة اليهم والى من بعدهم ممّن يقف على استعمالاتهم ، كما هو الحال في سائر المنقولات الحاصلة بالغلبة سيّما إذا قلنا باستناد النقل الى مجموع استعمالات الشارع والمتشرّعة.

واورد عليه أيضا بأنّ ما يقضي به الوجه المذكور لإثبات هذه المقدّمة هو وجوب تفهيم المراد من تلك الألفاظ ، وهو كما يحصل ببيان الوضع كذا يحصل ببيان المراد من الألفاظ المذكورة ، وقد حصل ذلك بالبيانات النبويّة حيث روي في تفسير الألفاظ المستعملة في غير المعاني اللغويّة أحاديث كثيرة.

واجيب عنه بأنّ ثمرة الخلاف إنّما تظهر في الألفاظ الخالية عن القرينة المتّصلة أو المنفصلة كما سبق ، فلو ثبت نقل الشارع لهذه الألفاظ من معانيها اللغويّة كانت تلك المعاني مرادة من الألفاظ الخالية عن القرينة كما هو شأن الحقائق ، فلا بدّ إذن من بيان كون تلك المعاني مرادة ، وذلك إمّا ببيان المراد ، أو بيان الوضع ، والمفروض انتفاء الأوّل فتعيّن الثاني وهو ما أردناه.

واجيب أيضا بأنّ فائدة الوضع أن يستغنى عن القرينة في الاستعمال ؛ إذ لو نصب القرينة كلّما استعمل في تلك المعاني لعرى الوضع عن الفائدة ، ومن البيّن أنّه مع عدم إفهام الوضع وإعلامه المخاطبين لا يستغنى عن القرينة في الاستعمال.

٤٢١

واورد عليه أنّه لو تمّ ذلك لكان دليلا آخر لا تتميما لهذا الدليل ؛ إذ بعد أخذ هذه المقدّمة ـ أعني انتفاء فائدة الوضع على تقدير عدم الإعلام ـ يلغو حديث كوننا مكلّفين واشتراط التكليف بالفهم ، إذ يمكن تقرير الدليل مع طرح تينك المقدّمتين ، بأن يقال : لو ثبت النقل لزم الإعلام به ، وإلّا لعرى الوضع عن الفائدة والتالي باطل لما ذكر من انتفاء التواتر الخ ، وبناء الإعتراض على الدليل المذكور في الأصل لا على هذا الدليل ، ففي هذا الجواب تسليم للإعتراض وتغيير للدليل.

قلت : مبنى هذا الجواب والجواب المتقدّم أمر واحد ، ولا يتمّ الاحتجاج في شيء منهما بدون أخذ المقدّمتين المذكورتين ؛ لابتناء الأمر في الجواب الأوّل على كون المراد من الألفاظ الخالية عن القرائن هو المعنى الشرعي دون المعنى اللغوي.

وهذا المجيب قد اعتبر ذلك أيضا وإن لم يصرّح به ، ضرورة أنّ هناك ألفاظا خالية عن القرائن وأنّه اريد منها أحد المعنيين ، إلّا أنّه قد استند الأوّل في حملها على المعاني الشرعيّة الى اتّفاق الفريقين عليه حيث جعلوا ذلك ثمرة للنزاع ، وفي الجواب المذكور قد استند فيه الى ما هو المنشأ لذلك الاتّفاق ، فإنّه لو التزم في إفهام تلك المعاني بالإتيان بالقرائن ليكون المراد بالألفاظ الخالية عنها هو المعنى اللغوي لعرى الوضع عن الفائدة ؛ لوضوح أنّه مع عدم الإعلام بالوضع يفتقر إفهام الموضوع له الى الإتيان بالقرينة بخلاف إفهام المعنى الأوّل على ما كان الحال عليه قبل الوضع.

وإذا بطل حمل الألفاظ العارية عن القرينة على المعاني اللغويّة في صورة تحقّق الوضع لها إمّا لاتّفاق الفريقين عليه ، أو لزوم عراء الوضع عن الفائدة فلا بدّ إذن من إفهام الوضع ؛ إذ لا شكّ في كوننا مكلّفين بما تضمّنه وأنّ الفهم شرط التكليف ... الى آخر الدليل ، فجعل هذا الجواب مبنيّا على تغيير الدليل بخلاف الوجه الأوّل ليس على ما ينبغي ؛ إذ لو كان الاستناد الى عدم حمل المطلقات حينئذ على المعنى اللغوي موجبا لذلك فهو مشترك بين الوجهين ، وإلّا فلم يعتبر في

٤٢٢

الثاني ما يزيد على ذلك عند التحقيق وإن كان ظاهر تقريره قد يوهم خلاف ذلك.

وقد ظهر بما ذكرنا أنّ ما ذكر من إمكان تقرير الدليل بطرح المقدّمتين المذكورتين ليس بمتّجه ، وما ذكر في بيانه من الاكتفاء في إثبات الملازمة بانتفاء فائدة الوضع إنّما يتمّ مع أخذ هاتين المقدّمتين ، فإنّه حينئذ إمّا أن يلتزم في إرادة الموضوع له من مراعاة القرينة فيراد من المطلقات هو المعنى السابق ففيه خلوّ الوضع عن الفائدة ، وإمّا أن يراد منها المعنى الموضوع له بمجرّد الوضع له من غير إعلام وهو باطل ؛ إذ لا يفهم المقصود حينئذ بمجرّد ذلك ، ولا شكّ في كوننا مكلّفين بما تضمّنه وأنّ الفهم شرط التكليف ، فإبطال هذه الصورة يتوقّف على ملاحظة المقدّمتين المذكورتين وبذلك يتمّ الدليل. فتأمّل.

قوله : (لمشاركتنا لهم في التكليف)

لا يخفى أنّ مجرّد المشاركة في التكليف لا يقضي بنقل الوضع الينا ، ووجوب ذلك عليهم غير معلوم ؛ لاحتمال اكتفائهم في معرفة ذلك بما يظهر من استقراء كلام الشارع واستعمالاتهم ، وعلى فرض التسليم فلا عصمة فيهم يمنع من ترك الواجب أو الغفلة عنه ، ومع الغضّ عن ذلك فالواجب بيانهم لما هو مراد الشارع منها وهو حاصل بتفسيرهم لما أطلقه الشارع ممّا أراد به المعاني الشرعيّة ، وإطلاقهم ما اريد به المعاني اللغويّة ولو بترك القرينة المنضمّة اليها ، لانتفاء الحاجة اليها مع عدم بيان النقل.

لا يقال : إنّه مع وضع الشارع لتلك الألفاظ لا بدّ من حمل المطلقات عليه اتّفاقا ، فكيف يقال بحملها حينئذ على المعاني اللغويّة؟.

إذ نقول : إنّ الاتّفاق إنّما هو بعد ثبوت الوضع لا بمجرّد احتماله ، والمقصود ممّا ذكرنا عدم صحّة الاستناد الى الوجه المذكور في لزوم بيان النقل الينا على تقدير حصوله ، نظرا الى قيام الاحتمال المذكور.

قوله : (وإلّا لما وقع الخلاف فيه)

فيه : أوّلا : أنّه منقوض بوقوع الخلاف في كثير من المتواترات ، وثانيا :

٤٢٣

أنّ مجرّد كون الشيء متواترا لا يقضي بانتفاء الخلاف فيه ؛ لإمكان حصوله عند قوم دون آخرين أو عدم إفادته القطع للبعض أو الكلّ نظرا الى وجود ما يمنع منه ، كما بيّن في محلّه.

ويجاب عنه بأنّا ننقل الكلام إذن الى الفرقة الّتي لم يتواتر بالنسبة اليهم ، فنقول : إنّ التواتر مفقود والآحاد غير مفيد.

وفيه : أنّ الكلام في عدم صحّة الاستناد في انتفاء التواتر بلزوم انتفاء الخلاف ، وهذا الكلام على فرض صحّته لا يصحّح الاستناد اليه ، فالإيراد بحاله.

قوله : (والثاني لا يفيد العلم)

اورد عليه بأنّ تفهيم المعنى المراد كاف في المقام ، وليس ذلك مسألة اصولية ليعتبر فيه القطع ، بل هو بيان لما اريد من اللفظ ، والمسألة الاصولية هي معرفة وضع الشارع لها ، وهو غير لازم.

ويدفعه أنّ هذا راجع الى منع إحدى المقدّمتين المذكورتين من لزوم إعلام الشارع بالوضع ولزوم نقل المخاطبين الينا ، وقد مرّ الكلام فيه ، ولا ربط له يمنع هذه المقدّمة بعد تسليم المقدّمتين المتقدّمتين.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ادّعاه من اعتبار القطع في المقام كلام في غاية السقوط ؛ لكون المسألة من مباحث الألفاظ وهي ممّا يكتفى فيها بالظنّ اتّفاقا ، ولو استند فيه الى ما اشتهر من وجوب القطع في الاصول.

ففيه أوّلا : أنّه لم يقم حجّة عليه ؛ إذ ليست المسائل الاصوليّة إلّا كغيرها من الأحكام الشرعيّة ، ولا بدّ فيها من القطع أو الظنّ المنتهى اليه.

وثانيا : أنّ المراد بالاصول هناك اصول الدين لا اصول الفقه.

وثالثا : بعد التسليم فمباحث الألفاظ خارجة عنها قطعا ، والتفصيل بين الأوضاع الشرعيّة وغيرها من اللغويّة والعرفيّة ، كما قد يحتمل في المقام غير معقول ؛ لاتّحاد المناط في الكلّ ، بل الظاهر الاتّفاق عليه كذلك.

ثمّ إنّ عدم إفادة الآحاد للعلم لا يقضي بعدم حصول النقل الّذي هو تكليف

٤٢٤

الحاضرين ، فغاية الأمر عدم ثبوته بذلك عندنا ، وهو لا يقضي بانتفائه في الواقع ، كما هو المقصود.

فإن قلت : إنّ الواجب على الحاضرين إبلاغه بطريق التواتر ؛ إذ لا فائدة في نقل الآحاد في المقام.

قلت : لا معنى لوجوب نقله متواترا على كلّ من الآحاد ، فغاية الأمر وجوب النقل آحادا على كلّ منهم لحصول التواتر بالمجموع ، وليس الجميع عدولا لئلّا يتهاونوا بالتكليف ، على أنّه قد يحصل مانع آخر من حصول التواتر في الطبقات.

قوله : (إنّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها)

إن أراد بذلك حصول الوضع في تلك اللغة من أرباب اللسان فمسلّم ولا يثبت به المدعى ؛ إذ المفروض كون الشارع من العرب وسيّدهم ، ولو فرض كون الواضع لها هو الله تعالى فكون النقل بحسب ذلك اللسان كاف فيه ، كما أنّ وضعه كذلك كاف في الانتساب الى اللغة لو قلنا بكون واضع اللغات هو الله سبحانه لاتّحاد الواضع اذن في الكلّ ، وإن اعتبر وقوع الوضع من واضع أصل اللغة فممنوع ، بل ظاهر الفساد ؛ لوضوح كون المنقولات العرفيّة العامّة والخاصّة مندرجة في العربيّة مع كون الوضع فيها من غيرهم ، على أنّه لا يتمّ لو قلنا بأنّ واضع اللغات هو الله تعالى ، وقلنا بكون الوضع في الحقيقة الشرعيّة منه تعالى.

قوله : (باعتبار الترديد بالقرائن)

اورد عليه بأنّ العلم بالترديد بالقرائن لو حصل للكلّ لم يقع خلاف ، وإلّا لنقلنا الكلام الى من لم يحصل له العلم ، فنقول : إنّ علمه إمّا بالتواتر ، أو بالآحاد ... الخ.

ويدفعه أنّ الترديد بالقرائن قد حصل بالنسبة الى الحاضرين ، وهم قد نقلوا تلك الأخبار على حالها ليقف من بعدهم على الحال ، فإن لم يحصل هناك علم لبعضهم فلا مانع ، وكون طريق معرفته حينئذ منحصرا في التواتر والآحاد وعدم حصول الأوّل وعدم الاكتفاء بالثاني لا يقضي بعدم حصول التفهيم لهم ونقلهم ما يفيد ذلك ، فكيف يمكن تتميم الاحتجاج بمجرّد ذلك؟.

٤٢٥

قوله : (كيف! وقد جعلها الشارع حقائق شرعيّة في تلك المعاني مجازات لغويّة في المعنى اللغوي)

لا يخفى أنّ الألفاظ المذكورة إنّما تكون حينئذ مجازات لغويّة في المعنى الشرعي لا في المعنى اللغوي ، ولو اريد به صيرورتها مجازات في معناها اللغوي بعد النقل فهو ممّا لا ربط له بالمقام ، مع أنّها حينئذ تكون مجازات شرعيّة لا لغويّة.

وقد يتكلّف في توجيهه بأنّ المراد من قوله : «في المعنى اللغوي» بالنسبة الى المعنى اللغوي أي بملاحظة ما وضع لها في اللغة ، فالمراد أنّ تلك الألفاظ صارت حقائق شرعيّة في المعاني الحادثة بالنسبة الى العرف الشرعي مجازات لغويّة فيها بالنسبة الى اللغة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الألفاظ المذكورة إذا استعملها الشارع حينئذ في المعاني الشرعيّة كانت حقائق شرعيّة ، وليست بهذه الملاحظة مجازات أصلا ، وإن استعملها غيره في تلك المعاني من غير تبعيّته ـ بل من جهة مناسبتها لمعناها اللغوي ـ كانت مجازات لغويّة ولم تكن حينئذ حقائق شرعيّة.

فإن أراد المصنّف بذلك اجتماع تينك الصفتين في لفظ واحد في آن واحد بالاعتبارين كما هو الظاهر من العبارة المذكورة فذلك فاسد قطعا ؛ إذ لا يمكن اجتماع الأمرين كذلك ، كما هو ظاهر من حدّيهما لاعتبار الحيثيّة في كلّ منهما.

وإن أراد كونها مجازات لغويّة لو استعملت فيها بمناسبة المعاني اللغويّة من غير ملاحظة لوضعها في الشرع فهو غير مجد فيما هو بصدده ، فإنّ كونها مجازات لغويّة من تلك الجهة يقضي بكونها عربيّة لو استعملت على تلك الجهة ، فمن أين ثبت كونها عربيّة لو استعملت فيها من جهة الوضع لها مع الفرق الظاهر بين الجهتين؟ فإنّ الاستعمال في الاولى من جهة تبعيّة الواضع بخلاف الثانية.

وغاية ما يوجّه به ذلك أن يقال : إنّ مراده من ذلك بيان تقريب للحكم ، فإنّ تلك الألفاظ بالنظر الى استعمالها في تلك المعاني إذا كانت عربيّة لم يخرجها الوضع الشرعي من ذلك ، لعدم تصرّف الشارع حينئذ في اللفظ ولا في المعنى ، وهو كما ترى.

٤٢٦

ومن الغريب ما قيل (١) في توجيهه من أنّ تلك الألفاظ حال استعمالها في المعاني الشرعيّة حقائق شرعيّة فيها مجازات لغويّة عند صدور استعمالها فيها من أهل اللغة ، فيكون المراد أنّ تلك الألفاظ حقائق شرعيّة بالفعل مجازات لغويّة بالقوّة ، وهذا القدر كاف في اتّصافها بوصف العربيّة ، إذ بعد صيرورة القوّة فعلا تكون عربيّة لا محالة.

قلت : فهي إذن غير عربيّة لكنها قابلة لأن تكون عربيّة لو استعملت على غير هذا النحو ، وأين ذلك من الحكم بكونها عربيّة بالفعل؟ كما هو المفروض في كلام المجيب ، إلّا أن يحمل ما ذكره المجيب على المجاز ويجعل ذلك علاقة للتجوّز ، وهو مع ما فيه من التعسّف ـ لعدم ملائمته لسوق كلامه ـ غير كاف في دفع الاستدلال.

قوله : (ومع التنزّل نمنع ... الخ)

لا يخفى أنّ هذا الكلام صدر من المجيب في مقام المنع لإبداء المناقشة فيما استند اليه المستدلّ وإن لم يكن موافقا للتحقيق ، فإنّ كون القرآن كلّه عربيّا أمر واضح غنيّ عن البيان ، وقد قال الله تعالى : (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ)(٢).

فالأولى مع التنزّل أن يقال بأنّ وجود غير العربي فيه لا يقضي بعدم كونه عربيّا ؛ إذ المناط في صدق العربي والعجمي على النظم والاسلوب كما هو ظاهر ، كيف! وقد ورد المعرّب والرومي والأعلام العجميّة وغيرها في القرآن وليست بأقرب الى العربيّة من الحقائق الشرعيّة.

قوله : (والتحقيق أن : يقال ... الخ)

ما حقّقه في المقام إنّما يتمّ إذا أفاد الظنّ بانتفاء الوضع تعيينا وتعيّنا ، وأمّا مع الشكّ في ذلك ـ نظرا الى شيوع الخلاف فيه من قديم الزمان وذهاب المعظم الى

__________________

(١) ذكره بعضهم في كتاب له في المبادئ اللغوية. (منه رحمه‌الله).

(٢) سورة فصلت : ٤٤.

٤٢٧

الثبوت وقيام بعض الشواهد على النقل ـ فإنّه وإن فرض عدم إفادتها الظنّ في مقابلة الأصل لتنهض حجّة على الإثبات إلّا أنّه لا أقلّ من الشكّ كما هو معلوم بالوجدان بعد الغضّ عن الأدلّة المفيدة للظنّ.

وكأنّه الظاهر من آخر كلامه حيث قال : «إنّه لا يبقى لنا وثوق بالإفادة مطلقا» فلا وجه للحكم بالنفي من جهة الأصل ، إذ ليست حجّية الأصل في مباحث الألفاظ من باب التعبّد وإنّما هي من جهة إفادة الظنّ ، فمع عدم حصول الظنّ من جهته لا وجه للرجوع اليه والحكم بمقتضاه مع عدم حصول ظنّ بما هو مراد الشارع من تلك الألفاظ.

والحاصل : أنّه لا شكّ في حمل تلك الألفاظ على المعاني اللغويّة بالنسبة الى ما قبل الشرع ، وكذا في الحمل على المعاني الشرعيّة في عرف المتشرّعة ، وقد حصل الشكّ في زمان الشارع في كون الحال فيه حال زمان المتشرّعة أو حال ما قبل الشريعة ، فمع الشكّ لا وجه لتعيين أحد الوجهين وحمل الحديث على أحد المعنيين مع عدم انفهام أحدهما منه حينئذ وحصول الشكّ في فهم أهل ذلك العصر ، فلا بدّ إذن من التوقّف ، وقد مرّت الإشارة الى ذلك في المسائل المتقدّمة ، فبناؤه على النفي والرجوع الى الاصول الفقهيّة محتجّا بما بيّنه رحمه‌الله ليس على ما ينبغي.

نعم إن قام هناك دليل على حجّية الأصل المذكور في مباحث الألفاظ على سبيل التعبّد اتّجه ذلك ، لكنّه ليس في الأدلّة ما يشمل ذلك ، بل الحجّة في باب الألفاظ هو الظنّ حسب ما قرّروه ، والمفروض انتفاؤه في المقام.

فظهر ممّا قرّرناه أنّ احتجاج النافين بمجرّد الأصل غير كاف في المقام ، بل لا بدّ بعد العجز عن إقامة الدليل على أحد الطرفين وحصول الشكّ في النقل وعدمه من التوقّف في الحكم والحمل.

ثمّ إنّ هنا أدلّة اخر غير ما ذكروه تدلّ على حصول الوضع فيها في زمان الشارع بل من أوّل الأمر.

٤٢٨

منها : أنّ المسألة لغويّة متعلّقة بالأوضاع ومن البيّن حجّية النقل فيها وإن كان مبنيّا على الاجتهاد وملاحظة العلامات ، كما هو الحال غالبا في إثبات اللغات وانّا إذا راجعنا كلمات أهل الخبرة في المقام وجدنا معظم العامّة والخاصّة قائلين بثبوتها ، حتّى أنّه لا يعرف فيه مخالف من العامّة سوى القاضي وبعض آخر ممّن تبعه ، ولا من الخاصّة سوى جماعة من متأخّريهم ، بل الإجماع منقول عليه في الجملة من جماعة من متقدميهم حسب ما مرّت الإشارة اليه وعدم ظهور قائل بالفصل مع اعتضاده بعدم ظهور خلاف فيه بينهم ، وقد اكتفي بما دون ذلك في مباحث الألفاظ فلا مجال لإنكاره في المقام.

مضافا الى تقديم قول المثبت على النافي ، فبعد فرض تكافؤ القولين ينبغي ترجيح قول المثبت أيضا ، وليس في المقام دليل على النفي سوى الأصل ففي الحقيقة لا معارض لأقوال المثبتين ، فمرجع هذا الوجه عند التأمّل الى وجوه ثلاثة.

ومنها : الاستقراء فإنّ من تتبع موارد استعمالات كثير من الألفاظ المستعملة في المعاني الجديدة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء والغسل ونحوها وجد استعمال الشارع لها في تلك المعاني على نحو استعمال الحقائق ، بحيث يحصل الظنّ من ملاحظة استعمالاتها بالبناء فيها على النقل.

والحاصل أنّه يفهم ذلك من ملاحظة استعمالات الشارع على نحو ما يفهم أوضاع اللغة ونحوها من ملاحظة استعمالات العرب وأرباب الاصطلاح ، ويعبّر عنه بالترديد بالقرائن، وذلك طريقة جارية في فهم الأوضاع بل هو الغالب في المعرفة باللغات ، فيستفاد من ذلك ثبوت الحقيقة الشرعيّة في الألفاظ الّتي حصل الاستقراء في موارد استعمالها دون جميع الألفاظ ممّا فرض فيه النزاع ، وحينئذ فلا بدّ في تتميم الدليل من ملاحظة عدم القول بالفصل حسب ما مرّت الإشارة اليه.

وهناك طريق ثان للاستقراء يستفاد منه شمول الحكم للكلّ تقريره : أنّ المستفاد من تتبّع الألفاظ وملاحظة نقل الشارع لجملة منها الى المعاني الجديدة هو بناء الشارع فيما يعبّر عنه من المعاني الجديدة المتداولة على نقل اللفظ اليها ،

٤٢٩

وتعيين تلك الألفاظ للتعبير عن تلك المعاني ، كيف! والأمر الباعث على النقل فيما عرفت نقلها بالاستقراء المذكور أولا هو الباعث على النقل في الباقي.

وبالجملة : أنّ استفادة ذلك من ملاحظة جملة من الألفاظ المذكورة غير بعيد لمن تأمّل في المقام بعد استنباط جهة النقل فيها من استقراء خصوصيّاتها.

وفيه أيضا طريق ثالث يستفاد منه أيضا عموم الوضع ، وهو أنّا إذا استقرأنا طريقة أرباب العلوم المدوّنة كالنحو والتصريف والبيان والمنطق وغيرها وكذا أرباب الحرف والصناعات على كثرتها وجدناهم قد وضعوا ألفاظا خاصّة بإزاء كلّ ما يحتاجون الى بيانها ويتداول بينهم ذكرها ، لئلّا يقع الخلط والاشتباه ولا يطول المقام بذكر القرينة من غير طائل ، ومن البيّن أنّ اهتمام الشارع في بيان الشريعة أعظم من اهتمامهم في حرفهم وصنائعهم ، وملاحظته للحكم أكثر من ملاحظتهم والاحتياج الى أداء تلك المعاني أعظم من الاحتياج اليها والاهتمام بشأنها أشدّ من الاهتمام بغيرها ، وقضيّة ذلك وقوع النقل من صاحب الشريعة بالأولى.

وبالجملة : أنّ المستفاد من استقراء الحال في سائر أرباب الصناعات العلميّة والعمليّة الظنّ بوقوع ذلك عن صاحب الشريعة أيضا ، فمرجع الاستقراء أيضا الى وجوه ثلاثة وإن كان الوجه الأوّل منها مأخوذا في الثاني.

ومنها : أن ذلك هو المستفاد مما ورد في الأخبار في بيان جملة ، منها : كقوله عليه‌السلام : «الصلاة : ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود» (١) والتعبير بنحو ذلك وما يقرب منها كثير في الأخبار وقد وردت في عدّة من الألفاظ وهو ظاهر فيما قلناه ، فإنّ ظاهر الحمل قاض بكونه حقيقة في المعنى المذكور كما يستفاد ذلك من تعبيرات أهل اللغة.

ومنها : دليل الحكمة ، فإنّ من المقرّر في مباحث الألفاظ أنّ كلّ معنى تشتدّ الحاجة اليه يجب في الحكمة وضع لفظ بإزائه ، ومن البيّن شدّة الحاجة الى المعاني

__________________

(١) الوسائل ١ : ب ١ من أبواب الوضوء ص ٢٥٧ ح ٨.

٤٣٠

الجديدة الشرعيّة وكثرة دورانها في الشريعة فكيف يهمل الشارع الحكيم وضع الألفاظ بإزائها؟ مع ما يرى من شدّة اهتمامه بالشريعة وعظم حاجة الناس اليها وقوام امور الدين والدنيا بها.

ومنها : أنّ جملة من تلك الألفاظ قد صارت حقائق في المعاني الشرعيّة في الشرائع السابقة ، كالصلاة والصوم والزكاة وقد عبّر بها في القرآن حكاية عن الأنبياء السابقين ، وهو معلوم أيضا من الخارج فهي حقيقة فيها قبل مجيء هذه الشريعة أيضا.

وما يورد عليه من مخالفة هذا اللسان للغاتهم فغاية الأمر أن يكون للمعاني المستحدثة عندهم ألفاظ موضوعة من لغاتهم ، ولا يلزم من ذلك وضع هذه الألفاظ بإزائها ، ومن أنّ هذه المعاني امور جديدة لم يكونوا يعرفونها وإنّما اتي بها في شرعنا ، فعلى فرض كون هذه الألفاظ حقيقة في المعاني الثابتة في شرائعهم لا يثبت به كونها حقيقة فيما ثبت في شرعنا ، بل لا بدّ في ثبوته عندنا من وضع جديد.

مدفوع ، أمّا الأوّل فبانّ الظاهر أنّ العرب كانوا يعبّرون عنها بهذه الألفاظ ، ولذا وقع التعبير بها في الكتاب العزيز ، وقد كان كثير من العرب متدينين ببعض تلك الأديان وكانت تلك الألفاظ معروفة عندهم وإن كان المعبّر به عنها في أصل شرعهم من غير اللغة العربيّة.

وأمّا الثاني فبما مرّت الإشارة اليه من أنّ الاختلاف إنّما وقع في المصداق كاختلاف كثير من تلك العبادات في شرعنا بحسب اختلاف الأحوال ، وأمّا المفهوم العامّ المأخوذ في وضع تلك الألفاظ فهو يعمّ الجميع.

فقد ظهر ممّا قرّرناه من الوجوه قوّة القول بالثبوت مطلقا ، ولو نوقش في استقلال كلّ واحد من الوجوه المذكورة في إفادة الظنّ فلا مجال للإنكار بعد ضمّ بعضها الى البعض ، لحصول المظنّة بمؤدّاها ، وهي كافية في المقام قطعا ، بل يكتفى بما دون ذلك في مباحث الألفاظ.

٤٣١

وأمّا حجج القائلين بالتفاصيل المذكورة فهي مبنية على كون الوضع فيها تعينيّا لا تعيينيّا ، فيختلف الحال فيه باختلاف الألفاظ في شدّة الحاجة وكثرة الدوران وعدمها وطول المدّة وقصرها ، وكلّ ذهب على حسب ما اعتقده في البلوغ الى حدّ الحقيقة.

نعم ، التفصيل بين العبادات والمعاملات ليس مبنيّا على ذلك وإنّما احتجّ عليه بأنّ ألفاظ المعاملات باقية على معانيها اللغويّة ولم يستعملها الشارع في معان جديدة ، وإنّما ضمّ الى معانيها اللغويّة شروطا لصحّتها من غير أن يعتبر ذلك في تسميتها ، ولذا يرجع فيها الى العرف ولا يتوقّف تفسيرها على توقيف الشرع ، بخلاف العبادات لكونها من الامور المجعولة الشرعيّة والماهيات المقرّرة من صاحب الشريعة ، ولذا حكموا بأنّها توقيفيّة يعنون به توقيفيّة موضوعاتها ، وإلّا فالأحكام توقيفيّة في العبادات والمعاملات من غير فرق اتّفاقا ، فالألفاظ الدالّة عليها موضوعة بالأوضاع الشرعيّة على خلاف المعاملات.

ويدفعه أنّ المناط في المقام حسب ما ذكره وتقدّمت الإشارة اليه هو كون المعنى من الامور المجعولة الشرعيّة دون المعاني القديمة الثابتة قبل الشريعة ، لكن لا اختصاص لذلك بالعبادات كما زعمه ؛ إذ للشارع في غيرها أيضا ماهيّات مخترعة وامور مجعولة لم يكن قبل ورود الشريعة كالإيمان والكفر ، والطهارة والنجاسة ، والفسق والعدالة ، والخلع والايلاء واللعان ونحوها ، فلا اختصاص للمعاني المستحدثة بالعبادات ولا تمتاز العبادة بذلك عن غيرها ، بل لا امتياز لها إلّا بالتوقّف على القربة بخلاف غيرها ، وهذا ممّا لا ربط له في ثبوت الحقيقة الشرعيّة ونفيها.

نعم لو لم يكن للشارع ماهية مجعولة ومعنى جديد في غير العبادات صحّ ما ذكره ، لكن ليس الحال على ذلك كما عرفت.

وأنت خبير بأنّ مقتضى الكلام المذكور خروج المعاملات عند هذا القائل عن محلّ النزاع في الحقيقة الشرعيّة ؛ إذ قد عرفت أنّ محلّ النزاع هو الألفاظ

٤٣٢

المستعملة في المعاني الجديدة المقرّرة في الشريعة ، وهو حينئذ قائل بثبوتها في ذلك مطلقا ، إلّا أنّه يعتقد انتفاء ذلك في المعاملات فلذا حكم بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بالنسبة اليها.

ولو اعتقد ثبوت معان جديدة هناك يقال بثبوتها فيها أيضا بمقتضى ما نسب اليه من الاحتجاج فهو في الحقيقة مفصّل في أمر آخر غير هذه المسألة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما استند اليه لا ينهض دليلا على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في العبادات ؛ إذ ما ذكره من كونها امورا جعليّة وماهيّات جديدة متوقّفة على بيان صاحب الشريعة ممّا لا خلاف فيه بين الفريقين ، ولا دلالة فيه على حصول الوضع ؛ ولذا وقع الخلاف فيه مع الاتّفاق على ذلك فلا وجه للاستناد اليه ، إلّا أن يضمّ اليه غيره ممّا مرّ في الاحتجاج.

وكأنّ مقصود القائل من ذلك إبداء الفرق بين العبادات والمعاملات بأنّه لم يقرّر الشارع في المعاملات معان جديدة ليضع الألفاظ بإزائها بخلاف العبادات ، ثمّ يحتجّ لثبوتها فيها بما يحتجّ به المثبتون لها.

وكيف كان ، فقد عرفت ما فيه ، وقد عرفت أيضا أنّ الأمر في الحقيقة الشرعيّة ليس متوقّفا على كون الوضع فيها تعينيّا كما زعموه ، بل الظاهر القول بكونه تعيينيّا كما هو ظاهر كلام القوم حسب ما عرفت.

وقد يستبعد من وقوع ذلك ؛ إذ لو وقع لصرّح به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصعد على المنبر لإبلاغه لما يترتّب عليه من الثمرة العظيمة ، ولو كان كذلك لما خفي على أحد من الامّة لتوفّر الدواعي الى نقله كيف! ولم ينقل ذلك أحد من أرباب التواريخ ولا غيرهم ولا حكوا إيقاعه بشيء من تلك الأوضاع.

ويدفعه أنّ وقوع الوضع لا يستتبع شيئا من ذلك ؛ إذ هو تعيين قلبي لا يفتقر الى عقد ولا إيقاع ، وإفهام ذلك للمخاطبين لا يتوقّف على صعود على المنبر ولا تصريح بالحال ، بل يحصل بالترديد بالقرائن كما هو الحال في سائر الاصطلاحات واللغات ، وهو ظاهر.

٤٣٣

ولنتبع الكلام في المرام بمسألة اخرى تداول ذكرها بين الأعلام يناسب إيرادها في المقام، وهي أنّ ألفاظ العبادات كالصلاة والزكاة والصيام هل هي أسامي للصحيحة المستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة في الصحّة وشرائطها ، أو يعمّها والفاسدة؟ وقد اختلفوا في ذلك على قولين ، أو أقوال ، ولنوضح الكلام في المسألة برسم مقامات أربعة :

الأوّل في بيان محلّ النزاع في ذلك :

فنقول : إنّ النزاع في المقام إنّما هو في ألفاظ العبادات ممّا استعملها الشارع في المعاني الجديدة المستحدثة كالصلاة والزكاة والصوم والوضوء والغسل ونحوها ، دون ما كان من ألفاظ العبادات مستعملة في معانيها اللغويّة كالزيارة والدعاء وتلاوة القرآن ونحوها ، فلا ريب في وضعها في اللغة للأعمّ ، والمفروض استعمالها في المعاني اللغويّة فتكون مستعملة في الأعمّ من الصحيحة والفاسدة. نعم هناك شرائط اعتبرها الشارع في صحّتها كما اعتبر نظير ذلك في المعاملات.

ثمّ إنّ الخلاف في أنّ المعاني المقرّرة من الشرع الّتي استعمل فيها تلك الألفاظ هل هي خصوص الصحيحة ، أو هي أعمّ منها ومن الفاسدة؟ فيصحّ النزاع فيها من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ونفاتها ، إذ لا كلام في استعمال تلك الألفاظ في المعاني الجديدة كما عرفت، وإنّما الكلام هناك في كونه على وجه الحقيقة أو لا كما مرّ.

فإن قلت : على هذا يكون النزاع بناء على القول بنفي الحقيقة الشرعيّة في المعنى المستعمل فيه في كلام الشارع وليس ذلك قابلا للخلاف ، لوضوح استعمالها في كلّ من الصحيحة والفاسدة كصلاة الحائض وصوم الوصال وصيام العيدين ونحوها.

وبالجملة : أنّ صحّة استعمالها في كلّ من المعنيين ووقوعه ولو على القول المذكور ليس ممّا يقبل التشكيك ليقع محلّا للكلام ، وإنّما القابل لوقوع النزاع فيه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو تعيين ما وضع اللفظ له ، سواء كان على سبيل

٤٣٤

التعيّن أو التعيين ، ومع البناء على نفيها فلا مجال للنزاع فيها ؛ إذ وضوح استعمالها في كلّ من الأمرين بمكان لا يحتاج الى البيان.

قلت : ليس النزاع في المقام في تعيين المعنى الحقيقي ليبتني على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ولا في مجرّد ما استعمل اللفظ فيه لئلّا يكون قابلا للخلاف والمنازعة ، بل الخلاف في أنّ المعاني المحدثة من الشارع المقرّرة في الشريعة المستعملة فيها تلك الألفاظ المخصوصة هل هي خصوص الصحيحة ، أو الأعمّ منها ومن الفاسدة؟ ولا ينافي ذلك استعمالها في الفاسدة أيضا ، لغرض من الأغراض.

والفرق واضح بين الأمرين وإن كان استعمالها مجازا على الوجهين ، فإنّ الأوّل هو الشائع في الاستعمال حتّى أنّها صارت حقيقة عند المتشرّعة بخلاف الثاني ، لبقائه على المجازيّة في ألسنة المتشرّعة ، إذ لا قائل باشتراكها لفظا عند المتشرّعة بين الأمرين.

ويظهر الثمرة في ذلك فيما إذا قامت القرينة الصارفة عن إرادة المعنى اللغوي ، فإنّه يتعيّن حملها على ما هو المختار في المقام من غير حاجة الى القرينة المعيّنة ، ولا تبقى دائرة بين حملها على الأعمّ أو خصوص الصحيحة ، كما مرّت إليه الإشارة.

وإن أبيت عن ذلك فقرّر الخلاف في المقام في تعيين ما هي حقيقة فيه عند المتشرّعة، إذ هو المعنى المستعمل فيه عند صاحب الشريعة ، ولا مجال للإيراد المذكور فيه ومرجعه الى ما تقدّم.

وما في كلام بعض الأفاضل بعد حكمه بعدم ابتناء المسألة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة : «أنّه لا ريب في أنّ الماهيّات المحدثة امور مخترعة من الشارع ، ولا شكّ أنّ ما أحدثه الشارع متّصف بالصحّة لا غير بمعنى أنّه بحيث لو أتى به على ما اخترعه الشارع يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهية من حيث هو أمر بالماهية».

غير مفهوم المعنى سيّما مع ذهابه الى القول بكونها للأعمّ فإنّه إن أراد أنّ

٤٣٥

الماهيّات المحدثة من الشارع الّتي استعمل الشارع فيها تلك الألفاظ متّصفة بالصحّة لا غير ـ إذ لا يحدث الشارع أمرا فاسدا ـ فهذا هو عين القول بكون تلك الألفاظ بإزاء الصحيحة مع الإشارة الى دليله ، وإن أراد أنّ الماهيّات الّتي أحدثها الشارع متّصفة بالصحّة قطعا فالشارع على القول بالأعمّ لم يستعمل تلك الألفاظ فيما أحدثه وإنّما استعملها في شيء آخر أعمّ منه فهو كما ترى ومع ذلك فالعبارة لا تفي به.

ثمّ إنّ اعتباره الحيثيّة في الأمر في قوله : «للأمر بالماهيّة من حيث إنّه أمر بالماهيّة» غير مفهوم الجهة.

والحاصل : أنّ الكلام في أنّ ما أحدثه الشارع وقرّره من تلك الطبائع الجعليّة وعبّر عنها بتلك الألفاظ الخاصّة هل هو خصوص الصحيحة ، أو الأعمّ منها ومن الفاسدة؟ وإن حكمنا بأنّ مطلوب الشارع هو قسم منها بعد ما قام الدليل على فساد بعضها فهذا هو عين المتنازع فيه في المقام ، فكيف ينفى عنه الريب في بيان محلّ الكلام؟.

المقام الثاني في بيان الأقوال في المسألة :

وهي عديدة :

منها : القول بوضعها للصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء المعتبرة وسائر شروط الصحّة، واليه ذهب جماعة من الخاصّة والعامّة.

فمن الخاصّة : السيّد والشيخ في ظاهر المحكي عن كلاميهما ، والعلّامة في ظاهر موضع من النهاية ، والسيد عميد الدين في موضع من المنية والشهيدان في القواعد والمسالك ، واستثنى الأوّل منه الحجّ لوجوب المضي فيه ، ومن فضلاء العصر الشريف الاستاذ قدس‌سره وعزاه الى أكثر المحقّقين ، والفقيه الاستاذ رفع مقامه وغيرهما.

ومن العامّة : أبو الحسين البصري وعبد الجبار بن أحمد ، وحكي القول به عن الآمدي والحاجبي وغيرهما ، وحكاه الإسنوي عن الأكثرين ، وحكى في

٤٣٦

المحصول عن الأكثرين القول بحمل النفي الوارد على الأسماء الشرعيّة كقوله : «لا صلاة إلّا بطهور» على نفي الحقيقة ، لإخبار صاحب الشرع به.

ومنها : القول بوضعها للمستجمعة لجميع الأجزاء المعتبرة فيها من غير اعتبار للشرائط في وضعها ، وهو محكيّ عن البعض ، وكأنّ ملحوظ القائل به مراعاة دخول الأجزاء في الكلّ فلا يمكن الحكم بصدق الكلّ مع انتفاء شيء منها ، وأنّ الشرائط خارجة عن المشروط فلا وجه لأخذها فيه ، وإلّا لكانت أجزاء ، هذا خلف. وستعرف وهنه.

ومنها : أنّها موضوعة بإزاء الأعمّ من الصحيحة والفاسدة من غير مراعاة لاعتبار جميع الأجزاء ولا الشرائط ، بل إنّما يعتبر ما يحصل معه التسمية في عرف المتشرّعة ، واليه ذهب من الخاصّة العلّامة في غير موضع من النهاية وولده في الإيضاح والسيد عميد الدين في موضع من المنية والشهيد الثاني في تمهيده وروضته وشيخنا البهائي وجماعة من الفضلاء المعاصرين ، ومن العامّة القاضي أبو بكر وأبو عبد الله البصري وغيرهم.

ثمّ إنّه يمكن تقرير القول المذكور على وجوه :

أحدها : أن يقال بوضعها لخصوص أجزاء مخصوصة من غير اعتبار وجود سائر الأجزاء معها ولا عدمها في التسمية ، فيقال : إنّ الصلاة مثلا اسم لخصوص الأركان المخصوصة وسائر الأجزاء لا يعتبر وجودها في التسمية ، فإذا انتفى أحد الأركان انتفت التسمية بخلاف غيرها.

ويشكل حينئذ بأنّ سائر الأجزاء ممّا عدا الأركان تكون خارجة عن المسمّى فتكون كالشرائط فلا يصحّ عدّها أجزاء ، كيف ومن الواضح انتفاء الكلّ بانتفاء جزئه فكيف يلتزم في المقام بخلافه؟!.

ويمكن الجواب بأنّ القدر الثابت هو كونها أجزاء في الجملة لا كونها أجزاء لمطلق الصلاة ، فنقول : إنّها أجزاء للصلاة الصحيحة ولا منافاة ؛ فإنّ كون الشيء جزء للأخصّ لا يستلزم أن يكون جزء للأعمّ ، ضرورة كون الناطق جزء للإنسان دون الحيوان.

٤٣٧

وفيه : أنّه مع عدم اعتبار تلك الأجزاء في مسمّى مطلق الصلاة يكون استعمالها في المستجمع للأركان وغيرها كما هو الغالب مجازا ؛ لكونه استعمالا للّفظ فيما وضع له وغيره، إذ المفروض خروج الباقي عن الموضوع له.

وقد يجاب عن ذلك بأنّه مع كون ما اندرج فيه ذلك أنواعا أو أصنافا لذلك الكلّي لا يلزم أن يكون إطلاق الكلّي عليه مجازا ، كما يشاهد ذلك في إطلاق الحيوان على الإنسان وإطلاق الإنسان على الرومي والزنجي.

ويدفعه أنّ إطلاق الحيوان على الإنسان ونحوه إنّما يكون حقيقة إذا اريد به معناه المطلق ، فيكون استعماله في المقيّد من جهة حصول المطلق فيه ، ومع التنزّل نقول به إذا استعمل في خصوص الحصّة المقيّدة بتلك الخصوصيّة ، وأمّا استعماله في مجموع الحيوان والناطق فلا ريب في كونه مجازا ، بل قد يشكّ في صحّة استعمال الكلّي فيه ، وقد يقطع بعدم جوازه كما إذا استعمل لفظ «الجسم» في مفهوم الجسم النامي الحسّاس الناطق ، فإنّ إرادة هذا المفهوم المركّب منه غير صحيح ولو على سبيل المجاز. والتزام التجوّز في المقام ممّا لا وجه له.

كيف! ويصحّ القول بكون القراءة جزء من الصلاة ، كما هو ظاهر من ملاحظة الشرع بل الظاهر قضاء الضرورة به ، وكذا الحال في غيرها من أجزائها ، ولا يصحّ أن يقال : إنّ الناطق جزء من الحيوان أو الحسّاس جزء من الجسم النامي أو الجسم المطلق ... وهكذا ، وهو ظاهر.

وأيضا فأجزاء الصلاة ونحوها أجزاء خارجيّة متباينة وليست من الأجزاء التحليليّة المتّحدة في المصداق ، فإطلاق اللفظ الموضوع لبعضها على الكلّ مجاز ، بل قد يكون غلطا وليس من قبيل إطلاق الجنس على النوع أو النوع على الصنف أو الفرد.

ثانيها : أن يقال بكون جميع الأجزاء المفروضة للعبادة جزء لمطلق تلك العبادة ولا يلزم من ذلك انتفاؤها بانتفاء كلّ منها ؛ إذ الأجزاء على قسمين :

فإنّ منها : ما يكون بقاء الكلّ وقوامه مرتبطا بها كالأعضاء الرئيسيّة ونحوها

٤٣٨

للإنسان ، ولا ريب حينئذ بانتفاء الكلّ مع انتفاء كلّ منها.

ومنها : ما لا يكون كذلك كاليد والإصبع والظفر للإنسان ، لعدم انتفاء الكلّ بانتفائها ، وصدق الإنسان بعد قطع كلّ منها كصدقة قبله.

فإن قلت : بعد فرض شيء جزء لشيء كيف يعقل وجود الكلّ حقيقة مع انتفائه؟ إذ من الفطريّات الحكم بانتفاء الكلّ بانتفاء جزئه.

قلت : إنّما يرد ذلك إذا قلنا بكون ذلك جزء معتبرا في معنى اللفظ على كلّ حال ، وأمّا إذا قلنا بجزئيّته حين حصوله دون عدمه فلا ، ويتصوّر ذلك بأن يقال بوضع اللفظ لما يقوم به الهيئة العرفيّة المخصوصة من تلك الأجزاء مثلا ، فإن قامت بعشرين منها مثلا كان ذلك كلّا ، وإن قامت بعشرة منها كان ذلك أيضا كلّا ، ولا ينتفي مسمّى اللفظ مع انتفاء الباقي وإن انتفت الخصوصيّة السابقة ؛ إذ هي غير مأخوذة في معنى اللفظ وقد وقع نحو ذلك في كثير من الأوضاع ، فإنّ لفظ «البيت» إنّما وضع لما قام به هيئة البيت المخصوصة المعروفة في العادة ، وتلك الهيئة قد تقوم بجميع الأركان والجدران والروازن والأبواب والأخشاب وغيرها ممّا يندرج في اسم البيت مع وجوده ، وقد تقوم بمجرّد الأركان وبعض الجدران ، وقد تقوم بذلك وببعض آخر على اختلاف وجوهه ، إلّا أنّ وجود الأركان ونحوها قد اعتبر في تحقّق مفهومه لتقوّم الهيئة بها بحيث لا حصول لها بدونها ، وأمّا البواقي فغير مأخوذة بالخصوص فإن حصلت كانت جزء لقيام الهيئة بها حينئذ أيضا ، وإلّا فلا.

واختلاف الهيئة مع زيادة ما تقوم به ونقصه لا يوجب اختلاف المعنى ؛ فإن خصوصيّة شيء منها غير مأخوذة في الوضع وإنّما اعتبرت على وجه يعمّ الجميع.

ونحوه الكلام في الأعلام الشخصيّة ، نظرا الى عدم اختلاف التسمية مع اختلاف المسمّى جدّا فإنّ البدن المأخوذ في وضعها مختلف في نفسه جدّا من زمن الرضاع الى حين الشيخوخة ، مع قطع النظر عن ورود سائر الطوارئ عليه ، والتسمية على حالها من غير اختلاف وليس ذلك إلّا لكون الوضع فيها على ما ذكرنا.

٤٣٩

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّ الوضع في المقام إنّما كان على النحو المذكور ، فهناك أجزاء قد اخذت في تحقّق المفهوم وبها قوامه ، فإذا انتفى شيء منها انتفى ذلك المفهوم بانتفائه ، وأجزاء ليست على تلك الصفة فهي أجزاء مادامت موجودة وإذا انعدمت لا ينعدم الكلّ بانعدامها ، فالصلاة مثلا قد اخذت الأركان المعروفة في تحقّق مفهومها على كلّ حال ، وأمّا سائر الأجزاء فإن وجدت كانت أجزاء ، لقيام الهيئة حينئذ بالمجموع ، وإلّا لم ينتف الكلّ بانتفائها لقيام الهيئة حينئذ بالأركان ، وهذا الوجه قد مال اليه بعض الفضلاء وإن لم يذكر في بيانه ما فصّلناه.

ويضعّفه أنّه لا فرق بين أركان الصلاة وغيرها من الأجزاء في صدق اسم الصلاة عرفا مع انتفاء كلّ منها إذا تحقّق هناك من الأجزاء ما يصدق معه الاسم.

والحاصل : أنّ كلّ واحد من أجزاء الصلاة إذا انتفى وحصل الباقي صدق معه الاسم بحسب العرف قطعا من غير فرق بين الأركان وغيرها ، فليس هناك أجزاء معيّنة للصلاة تعتبر هي بخصوصها في تحقّق مفهومها ، فهي بناء على وضعها للأعمّ موضوعة بإزاء جملة من تلك الأفعال المخصوصة ممّا يقوم بها الهيئة المعروفة من غير تعيين لخصوص ما يقوم به ، وقد يكون الحال كذلك في غيرها من العبادات أيضا.

وكيف كان ، فينبغي أن يقال حينئذ بكونها أسامي لما يقوم به هيئاتها بحسب العرف ممّا يصدق معها الاسم ، سواء اعتبر في حصولها تحقّق بعض الأجزاء بخصوصها كما قد يقال به في بعض العبادات ، أو لا كما هو الحال في الصلاة ، وهذا ثالث الوجوه في المقام.

ويشكل ذلك أيضا مع بعد الوجه المذكور في نفسه أنّه لا معيار حينئذ لتعيين المعنى المراد ، والرجوع فيه الى العرف إنّما يكون بعد حصول الغلبة والاشتهار ، وأمّا قبله فلا يكاد يتعيّن الموضوع له أو المستعمل فيه بوجه ، لعدم إمكان الإحالة الى العرف حينئذ ، بل لا يكاد يحصل في العرف معنى جامع بينها بحيث يشمل الصحيح والفاسد عندنا أيضا ، وسيجيء تتمّة الكلام.

٤٤٠