هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

بل الأمر الحاصل في الواقع شيء واحد يختلف بحسب الاعتبارين حسب ما ذكر.

وإيراد المدقّق المحشّي عليه بأنّ القول بكون الإيجاب والوجوب متّحدين بحسب الحقيقة وبالذات ، ومختلفين بالاعتبار من مزخرفات الأشاعرة ولا محصّل له أصلا ليس على ما ينبغي، وإسناده ذلك الى الأشاعرة ممّا لم يتّضح وجهه ولا ربط له بشيء من اصولهم.

وكأنّ ملحوظه في ذلك أنّه لمّا كان الوجوب عند الأشاعرة عبارة عن مجرّد كون الفعل مطلوبا للشارع ـ وهو معنى الحسن عندهم من غير حصول أمر آخر ـ لم يكن الوجوب الحاصل عندهم إلّا المعنى الأوّل ، وقد عرفت أنّه متّحد مع الإيجاب بالذات مغاير له بالاعتبار ، بخلاف العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين وحصول وجوب عقلي متبوع لأمره تعالى أو تابع له ، إذ لا معنى لاتّحاد الإيجاب معه بحسب الحقيقة حسب ما عرفت.

وهذا هو مقصود السيّد العميدي حيث ذكر بعد بيان الفرق بين الإيجاب والوجوب : أنّ الفرق يتمّ على مذهب المعتزلة دون الأشاعرة.

لكنك خبير بأنّ ذلك ممّا لا ربط له بالمقام ، فإنّ الوجوب المقصود في المقام متّحد مع الإيجاب على القولين ، من غير فرق فيه بين المذهبين ، فالإيراد المذكور ليس في محلّه.

هذا ، وقد أورد أيضا على ما ذكر في وجه النظر بأنّه لو سلّم اعتبار استحقاق الذمّ في مفهوم الوجوب الملحوظ في المقام فلا يلزم من كون السؤال دالّا عليه ترتّب الذمّ عليه بحسب الواقع ، لجواز التخلّف في الدلالة اللفظية.

فكأنّ مقصود المجيب أنّ الأمر والسؤال يدلّان على الوجوب بالمعنى المذكور ، إلّا أنّ حصول الوجوب وثبوته في الواقع يتبع الشرع دون دلالة اللفظ ، فلذا لا يكون حاصلا في السؤال دون الأمر ، فما ذكر في وجه النظر اشتباه نشأ من الخلط بين دلالة اللفظ على الشيء وتحصيله وإيجاده.

وفيه : أنّ ما ذكر من جواز تخلّف المدلول عن الدالّ في الدلالات اللفظية إنّما

٦٤١

يتمّ في الإخبارات وأمّا الإنشاءات فيمتنع تخلّف المدلول عنها ، كما هو معلوم من ملاحظة التمنّي والترجّي والنداء وغيرها ، فلو كان مدلول الأمر هو وجوب الفعل بمعنى كونه على وجه يستحقّ تاركه الذمّ لم يمكن تخلّفه عنه.

ويمكن دفعه بأنّ الإنشاء وإن لم يكن يتخلّف مدلوله عنه عند استعمال اللفظ فيه لكون اللفظ هناك آلة لإيجاد معناه إلّا أنّه ليس مفاد الأمر بناء على تفسير الوجوب بالمعنى المعروف إيجاد ذلك الوجوب في الخارج ، بل مفاده حينئذ هو إنشاء إيجاده على حسب جعل الجاعل ، وهو لا يستلزم وجوده في الخارج إلّا مع اقتدار الجاعل على إيجاده في الخارج بمجرّد الإنشاء المذكور.

ألا ترى أنّه لو صدر منه إنشاء الوجوب بنحو قوله : «أوجبت عليك الفعل» مريدا به الوجوب المصطلح كان اللفظ مستعملا في ذلك مع عدم تفرّع الوجوب عليه في الخارج إلّا مع حصول ما يتوقّف وجوده عليه.

ويوضح الحال فيما ذكرناه ملاحظة الأمر التكويني الصادر عن غير القادر على الجعل والإيجاد ، فإنّ مفاد الأمر الصادر منه ومن القادر عليه بمجرّد التوجّه اليه واحد ، إلّا أنّه لا يتفرّع الوجود على إنشائه المفروض ويتفرّع على إنشاء الآخر ويجري نحو ذلك أيضا في غيرها من الإنشاءات ، كما في إنشاء البيع والإجارة والنكاح ونحوها ، فإنّ الإنشاء المفروض حاصل في البيوع الصحيحة والفاسدة ، فالإنشاء في جميع المذكورات إنّما يتعلّق بالذات بالأمر النفسي دون الخارجي ، فإن اجتمع شرائط وجوده الخارجي تفرّع عليه ذلك وإلّا فلا.

قوله : (والتحقيق : أنّ النقل المذكور ... الخ)

قد عرفت ممّا قرّرناه اتّجاه الجواب الأوّل ، ويؤيّده ملاحظة استقراء سائر الألفاظ ، إذ لا يعرف لفظ يختلف معناه الموضوع له بحسب اختلاف المتكلّمين به مع عدم اختلاف العرف ، بل لا يعرف ذلك في سائر اللغات أيضا ، وعلى فرض وقوعه في اللغة فهو نادر جدّا ، وذلك كاف في إثبات اتّحاد معنى الصيغة في المقامين حسب ما مرّت الإشارة اليه.

٦٤٢

فبناء تحقيقه في الجواب على المنع من ثبوت النقل المذكور مشيرا بذلك الى التزام اختلاف وضع الصيغة في الصورتين ضعيف جدّا.

مضافا الى أنّه كما يتبادر الإلزام من الأمر كذا يتبادر من السؤال والالتماس من غير فرق ، فإنّ المنساق من إطلاق الأمر والالتماس والسؤال ليس إلّا الطلب الحتمي الّذي لا يرضى ذلك الطالب تركه ، فظهر أنّ النقل المذكور معتضد بما ذكرناه فمنعه في المقام غير متّجه.

قوله : (وإلّا لزم الاشتراك المخالف للأصل)

كأنّه أراد بذلك بيان كون القول بكونها مجازا في الندب والقدر المشترك بينهما على وفق الأصل بعد إثبات كونها حقيقة في خصوص الوجوب فأراد بذلك قلب الدليل على المستدلّ ، فلا يرد عليه أنّ ما دلّ من الأدلّة على كونها حقيقة في الوجوب على فرض صحّتها ، كما دلّت على كونها حقيقة فيه دلّت على كونها مجازا في غيره ، فلا حاجة في الاستناد الى مجازيته فيهما الى الأصل المذكور ، فإنّ ذلك دليل آخر على بطلان ما ذكره والمقصود هنا الرجوع الى الأصل فقلب الدليل عليه بعد الضميمة المذكورة.

قوله : (لأنّ استعماله في كلّ من المعنيين بخصوصه مجاز)

اورد عليه بأنّ استعماله في كلّ من المعنيين بخصوصه وإن كان مجازا إلّا أنّه لا يلزم من القول بكونه حقيقة في القدر المشترك كون استعماله فيهما على النحو المذكور ، إذ قد يكون استعماله فيهما من حيث حصول الكلّي في ضمنها واتّحاده بهما ، فيكون استفادة الخصوصية من الخارج وحينئذ فلا مجاز.

وبالجملة : أنّ الكلام في الاستعمالات الواردة ولا يلزم فيها شيء من الاشتراك والمجاز بناء على القول المذكور ، بخلاف ما لو قيل بكونه موضوعا لكلّ من الخصوصيتين أو باختصاصه بأحدهما ، ولزوم التجوّز على فرض استعماله في خصوص كلّ من المعنيين ممّا لا ربط له بما هو الملحوظ في المقام.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ القول بوضع الصيغة للقدر المشترك واستعمالها فيه

٦٤٣

لا ينافي ما تقرّر عند المتأخّرين من وضع الأفعال بحسب هيئتها لخصوص الجزئيات حيث إنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ كالحروف ، فإنّهما من قبيل واحد بحسب الاستعمال ، فكما أنّ الحروف لا تستعمل إلّا في خصوص الجزئيات ولا يصحّ استعمالها في المعنى الكلّي فكذا الحال في هيئات الأفعال فإنّ لفظة «اضرب» مثلا لا يراد بها إلّا الطلب الجزئي القائم بنفس المتكلّم لا المفهوم العامّ ، ولذا أطبق المتأخّرون على كونها حقيقة في تلك الخصوصيات لئلّا يلزم ارتكاب التجوّز في جميع تلك الاستعمالات ، كما قد يلتزم به من يجعل الموضوع له هناك عامّا ، وذلك للفرق البيّن بين كون المستعمل فيه طلبا خاصّا بملاحظة كونه حصّة من حصص مطلق الطلب أو جزئيا من جزئياته وكونه إيجابا مخصوصا وفردا من أفراد الإيجاب أو حصّة منه ، فعدم ملاحظة خصوصية الوجوب أو الندب في الموضوع له وكونه ملحوظا لا بشرط كون الطلب إيجابيا أو ندبيا لا ينافي خصوصيته بالنظر الى ما جعل مرآة لملاحظته له واعتبار تلك الخصوصية فيما وضع له.

ألا ترى أنّ قولك : «هذا الحيوان» إنّما يفيد ملاحظة الحيوان الخاصّ من حيث كونه حيوانا خاصّا فإذا اطلق على الإنسان أو الحمار من حيث كونه حيوانا خاصّا كان حقيقة لا بملاحظة خصوصية كونه إنسانا خاصّا أو حمارا خاصّا فهو بحسب الوضع يعمّ الأمرين ، ويكون حقيقة فيهما مع عدم أخذ تينك الخصوصيتين في مفهوم الحيوان ، وإلّا كان خارجا عن مقتضى الوضع.

وكذلك الحال في سائر الألفاظ الموضوعة بالوضع العامّ للجزئيات حسب ما اختاروه، فإنّ لفظة «هذا» مثلا إنّما وضعت لجزئيات المشار اليه من حيث إنّها مشار اليها ، لا من حيث كونها إنسانا أو حمارا أو شجرا ، فالموضوع له هناك ممّا لم يلحظ فيه شيء من تلك الخصوصيات فهو مطلق بالنسبة اليها وإن كان مقيّدا بملاحظة كونه جزئيا من المشار اليه.

فما اورد على الإيراد المذكور بما محصّله أنّ الاستعمال المذكور ليس من

٦٤٤

قبيل استعمال العامّ في الخاصّ ليكون حقيقة مع عدم ملاحظة الخصوصية نظرا الى كون وضعه بإزاء الخصوصيات واستعماله في الجزئيات وليس على ما ينبغي ، لما عرفت من عدم ابتناء الإيراد على استعمالها في المعنى العامّ مطلقا وإنّما الملحوظ فيه إطلاقه بالنسبة الى اعتبار خصوصية الوجوب أو الندب ، وقد عرفت أنّه لا منافاة بين كون المعنى مأخوذا على سبيل الخصوصية من حيث كونه فردا من الطلب وملحوظا على وجه الإطلاق بالنظر الى عدم اعتبار خصوصية الوجوب أو الندب فيه.

قوله : (فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك)

نظرا الى كون استعمال الكلّي في خصوص الفرد مجازا فحيث لم توضع الصيغة لخصوص الوجوب أو الندب إذا استعمل في الخاصّ مع ملاحظة الخصوصية في المستعمل فيه يكون مجازا مستعملا في غير ما وضعت له.

وقد نبّه المصنّف رحمه‌الله في الحاشية على أنّ كون استعمال الكلّي في خصوص الفرد مجازا ظاهر عند من لا يقول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده ، نظرا الى وضوح كون استعماله في الفرد استعمالا له في غير ما وضع له سواء قيل حينئذ بوجود الكلّي في ضمن الفرد أو بعدم وجوده في الخارج مطلقا ، لظهور استعماله في الأوّل في مجموع ما وضع له وغيره وفي الثاني فيما يغايره رأسا ، وأمّا لو قلنا بوجود الكلّي الطبيعي بعين وجود أفراده بمعنى اتّحادهما في الخارج وكون الفرد الخارجي عين الطبيعة المطلقة فقد يشكل الحال ، نظرا الى كون الفرد المراد عين الطبيعة الموضوع لها فلا مجاز ، فأجاب بأنّ إرادة الخصوصية يتضمّن نفي صلاحية اللفظ في ذلك الاستعمال للدلالة على غير الفرد المخصوص ، وظاهر أنّ هذا النفي معنى زائد على ما وضع اللفظ له وقد اريد معه فيكون مجازا.

وكأنّ مقصوده بذلك أنّ الخصوصية المتّحدة مع الطبيعة الكلّية النافية لصلاحية ذلك المعنى للصدق على الغير أمر زائد على الموضوع له ، وقد لوحظت في الاستعمال حيث بعثت على عدم صدق ذلك المعنى على غير ذلك الفرد الخاصّ ، وإلّا فمن الواضح أنّ نفي صلاحية اللفظ للغير ليس ممّا استعمل اللفظ فيه فكيف

٦٤٥

يتعقّل اندراجه في المستعمل فيه؟ كما قد يتراءى من ظاهر كلامه.

فالإيراد عليه بأنّ ذلك من عوارض الاستعمال لا أنّه جزء من المستعمل فيه ليس على ما ينبغي.

وكذا ما اورد عليه من أنّه لا فرق في كون إطلاق الكلّي حقيقة أو مجازا بين القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج وعدمه ، للاتّفاق على اتّحاده مع الفرد نحوا من الاتّحاد وكذا مغايرتهما في الجملة ، فالاستعمال فيه بالملاحظة الاولى حقيقة وبالثانية مجاز ، سواء قيل بوجود الكلّي الطبيعي أو لا لما هو ظاهر من عدم إباء ما ذكره المصنف رحمه‌الله عن ذلك ، إلّا أنّه لمّا كان وجه المجازية على الفرض الأوّل ظاهرا وعلى التقدير الثاني خفيا من جهة ما ذكره من الإشكال ـ فقد يتوهّم الفرق بين الصورتين ـ أراد بذلك بيان تصوير المجازية على الفرض الثاني أيضا بما قرّره.

وكذا الإيراد عليه بأنّ ما ذكر في وجه التجوّز إنّما يتمّ لو كانت الوحدة مندرجة فيما استعمل اللفظ فيه وإلّا فلا مدخلية لنفي صلاحية اللفظ في ذلك الاستعمال لغير المصداق المذكور فيما استعمل اللفظ فيه.

وقد عرفت فساده عند تعرّض المصنف لاعتبار الوحدة في معاني المفردات ، إذ من الواضح أنّ عدم صلاحية المعنى إذن لغير ذلك المصداق ليس من جهة اعتبار الوحدة في المستعمل فيه ، ضرورة عدمها مع عدمه أيضا ، فليس مقصوده إلّا ما بيّناه وإن كان قد تسامح في التعبير نظرا الى وضوح الحال.

وقد اورد عليه أيضا بأنّه لا مدخل لوجود الكلّي الطبيعي وعدمه بالمقام على ما سيحقّقه المصنف رحمه‌الله من كون الوضع في الأمر وغيره من الأفعال عامّا والموضوع له خاصّا ، فليس الموضوع له هناك كلّيا حتّى يكون فيه مجال للكلام المذكور.

وأنت خبير بأنّ غاية ما يلزم على القول بكون الموضوع له هناك خاصّا هو وضع الصيغة لخصوص حصص الطلب أو أفراده من حيث كونها فردا من الطلب حسب ما مرّ بيانه.

وحينئذ فما تخيّله من الإشكال قائم في المقام ، فإنّا إن قلنا بكون الكلّي

٦٤٦

الطبيعي عين أفراده كانت الحصّة المفروضة عين الخصوصية الملحوظة في الفرد من الوجوب أو الندب بحسب الخارج فيلزم انتفاء التجوّز ، ويندفع ذلك حينئذ بما قرّره ، إلّا أنّ ظاهر عبارته يأبى عن الحمل على ما قرّرناه ، وكأنّه جرى في ذلك على ما يقتضيه ظاهر عبارة المجيب.

قوله : (فعلى غاية الندرة والشذوذ)

لبعد وقوعه نظرا الى أنّ الطالب إذا لم يكن غافلا عن الترك ، فإمّا أن يريد المنع منه ، أو لا يريده ، فلا يخلو الحال عن إرادة الوجوب أو الندب فلا يتصوّر إرادة الطلب المجرّد عن القيدين إلّا عند الغفلة عن ملاحظة الترك ، وهو في غاية الندرة بل لا يمكن حصوله في أوامر الشرع ، ففرض استعماله في القدر المشترك غير معقول ، كذا حكي عن المصنف رحمه‌الله معقّبا له بالأمر بالتأمّل.

وذكر الفاضل المدقّق في وجه التأمّل أنّه فرق بين إرادة المعنى في الضمير وإرادته من اللفظ ، واللازم لغير الغافل هو الأوّل والمعتبر في الاستعمال هو الثاني ، وهو غير لازم من البيان المذكور ، فالاشتباه إنّما نشأ من الخلط بين الأمرين.

وفيه : أنّ المنشئ للطلب إنّما ينشئ الطلب الخاصّ الواقع منه بالصيغة الخاصّة فإنشاؤه الوجوب أو الندب إنّما يكون بالصيغة المذكورة ، إذ مجرّد الإرادة النفسية لا يقضي بإنشاء المعنى في الخارج ، كيف! ومن البيّن أنّ الطالب للشيء إنّما يوقع طلبه غالبا على أحد الوجهين المذكورين إلّا أن يكون غافلا حسب ما قرّره ، فالطلب الخاصّ مراد من اللفظ قطعا ، فما ذكره في الجواب غير مفيد في المقام.

ويمكن أن يقال : إنّ كلّا من الوجوب والندب نوع خاصّ من الطلب والمنشئ للطلب إنّما ينشئ غالبا أحد الأمرين المذكورين ، لكنّ إنشاءه أحد ذينك الأمرين بواسطة الصيغة الخاصّة أعمّ من استعمال اللفظ فيه بملاحظة الخصوصية ؛ إذ قد يكون من جهة كونه مصداقا للطلب ينطبق عليه مطلقه.

وإنشاؤه للطلب الخاصّ من حيث انطباق المطلق عليه وكونه جزئيا من جزئياته لا يقتضي أخذ الخصوصية في مفهوم اللفظ واستعمال اللفظ فيه بملاحظة تلك الخصوصية ، كيف! ولو بني على ذلك لكان إطلاق المطلقات على جزئياتها

٦٤٧

مجازا.

بل لو تمّ ما ذكره في وجه الشذوذ لكان معظم الاستعمالات مجازا ولا يكاد يوجد حقيقة في الألفاظ إلّا على سبيل الندرة.

ألا ترى أنّك لو قلت : «أكلت الخبز وشربت الماء» فإنّما أردت بالأكل والشرب خصوص الأكل والشرب المنسوبين اليك ، وأردت بالخبز والماء ما هو مأكولك ومشروبك ، فيكون مجازا ، وعلى هذا القياس غير ذلك من الألفاظ الدائرة في الاستعمالات ، وهو بيّن الفساد بمكان لا يحتاج الى البيان ، والحلّ هو ما قرّرناه وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في إطلاق الكلّي على الفرد في المحلّ اللائق به.

هذا ويمكن إرادة القدر المشترك في كلام الشارع فيما إذا تعلّق الأمر بشيئين يكون أحدهما واجبا والآخر مندوبا ، كما لو قيل : «اغتسل للجنابة والجمعة» إذ لا يمكن إرادة الوجوب منه ولا الندب ، والقول باستعماله في المعنيين بناء على جوازه في غاية البعد ؛ لندوره في الاستعمالات فليحمل على القدر المشترك ، فتكون الخصوصيان مستفادتين من جهة القرينة الدالّة عليهما باعتبار المتعلّقين ، فتأمّل.

قوله : (بأنّه لا شبهة في استعمال ... الخ)

مبنى الاستدلال المذكور على استعمال صيغة الأمر في خصوص كلّ من الوجوب والندب ، وأنّ ظاهر الاستعمال قاض بالحقيقة من غير فرق بين متّحد المعنى ومتعدّده.

وفيه : أنّ كلّا من المقدّمتين المذكورتين في محلّ المنع ؛ إذ قد يقال بكون الأمر مستعملا في العرف واللغة في الطلب ، إلّا أنّ ذلك الطلب قد يقع على سبيل الإلزام كما هو الظاهر من إطلاقه ، وقد يقع على غير سبيل الإلزام ، ولا يلزم من ذلك استعمال الصيغة في خصوص كلّ من المعنيين ، لإمكان إطلاق اللفظ على المعنيين الخاصّين ، لانطباق كلّ منهما على الطلب واتّحاده معه كما مرّت الإشارة اليه.

وقد تقدّم الكلام فيما بنى السيّد عليه من أصالة الحقيقة في متعدّد المعنى ، وأنّ الأظهر منع الأصل المذكور وترجيح المجاز على الاشتراك كما هو المشهور.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ مفاد المقدّمتين المذكورتين بعد تسليمهما هو كون

٦٤٨

الأمر مشتركا بين الوجوب والندب في الجملة لا على انحصار معناه الحقيقي فيهما ، كما هو المدّعى بل يقضي الدليل المذكور بكونه حقيقة في جميع مستعملاته سوى ما قام الدليل على كونه مجازا فيه ، فكان عليه بيان الدليل على كونه مجازا في سائر مستعملاته.

قوله : (وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء ... الخ)

ظاهر كلامه الاحتجاج على دلالة الاستعمال على الحقيقة في متعدّد المعنى بعدم الفرق بينه وبين متّحده في تحقّق الاستعمال وظهوره في الحقيقة ، وقضية كلامه كون دلالة الاستعمال على الحقيقة في متّحد المعنى من المسلّمات عندهم ، وإلّا لما اتّجه الكلام المذكور مع عدم إقامته دليلا على دلالته على الحقيقة في متّحد المعنى ، وقد مرّت الإشارة الى ذلك.

قوله : (بالنسبة الى العرف الشرعي ... الخ)

الظاهر أنّه يريد بالعرف الشرعي هو اصطلاح الشارع بالنسبة الى عرف الشريعة ، فيكون الأمر عند الشارع في مخاطباته المتعلّقة بالشريعة حقيقة في الوجوب خاصّة ، بخلاف ما إذا تعلّقت مخاطباته بالامور العادية ممّا لا مدخل لها بالشريعة ، فيكون في تلك الاستعمالات تابعا للعرف واللغة ، كما هو الحال في سائر الاصطلاحات الخاصّة كاصطلاح النحاة وأهل الصرف والمنطق وغيرهم.

ويحتمل أن يكون مقصوده نقل الشارع لتلك اللفظة الى الوجوب مطلقا فتحمل في كلامه على الوجوب مطلقا ، سواء وقع في مقام بيان الشريعة أو سائر الأحكام العادية.

قوله : (وأمّا أصحابنا معشر الإمامية ... الخ)

ما ادّعاه أوّلا هو إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من الخاصّة والعامّة المأخوذ من ملاحظة سيرتهم في كيفية الاستنباط ، وما ادّعاه ثانيا هو إجماع الإمامية على الحكم المذكور ، وقد وافقه على النقل الثاني السيّد ابن زهرة وأنكر الأوّل ، وعلى الأوّل جماعة من العامّة منهم الحاجبي والعضدي.

وقد يورد عليه تارة بأنّ الإجماع المذكور إنّما يفيد حملهم أوامر الشرع

٦٤٩

عليه ، وهو أعمّ من كونها موضوعة لذلك أو حقيقة فيه خاصّة ؛ إذ قد يكون ذلك من جهة قضاء قرائن عامّة على حملها على ذلك مع كونها موضوعة لمطلق الطلب ، أو كونها مشتركة بين المعنيين ، كما اختاره في وضعها بحسب اللغة.

وقد بنى بعض المتأخّرين على الوجه المذكور ، فقال : إنّ غاية ما يقتضيه الإجماع المذكور ، هو الحمل على الوجوب ، واختار كون الصيغة لغة وشرعا لمطلق الطلب بل جعل كثيرا من الأدلّة المذكورة للقول بكون الأمر للوجوب من الآيات الشريفة وغيرها شاهدا على الحمل على الوجوب وقرينة عامّة قائمة عليه ، مدّعيا أنّ ذلك أقصى ما يستفاد منها دون الوضع للوجوب حسب ما ادّعوه ، كما مرّت الإشارة اليه.

وأنت خبير ببعد الدعوى المذكورة ؛ إذ لو كان ذلك مستفادا من القرائن الخارجية لم يستندوا فيه الى مجرّد الأمر ولوقع الإشارة منهم ولو تارات الى دليله.

وكون ذلك من الامور الواضحة عند الجميع حتّى لا يحتاج الى إقامة الدليل عليه ممّا يستبعد جدّا ، سيّما بعد ملاحظة الأدلّة ، إذ لا يوجد في الشريعة دليل ظاهر يدلّ على لزوم حمل الأوامر الشرعية على الوجوب ، وما احتجوا به من الآيات قد عرفت ما يرد عليه.

وتارة بأنّه لا دلالة في الإجماع المدّعى على استناد الفهم المذكور الى نفس اللفظ ، بل قد يكون من جهة ظهور الطلب في الوجوب كما هو معلوم من فهم العرف أيضا بعد الرجوع الى المخاطبات العرفية حسب ما مرّ بيانه.

وثالثا : أنّه إذا دلّ الإجماع على كونه حقيقة في عرف الشرع في الوجوب خاصّة ، فقضية أصالة عدم تعدّد الاصطلاح وعدم تحقّق الهجر أن يكون كذلك بحسب اللغة أيضا.

نعم ، لو دلّ دليل على الاشتراك بحسب اللغة توجه ما ادّعاه من الفرق ، إلّا أنّ المفروض عدم استناده في ثبوت الاشتراك بحسب اللغة الى ما يزيد على مجرّد الاستعمال وهو لا يعارض الدليل الدالّ على المجازية ، وقضية الأصل إذن ثبوت ذلك بحسب اللغة أيضا ، لأصالة عدم اختلاف الحال في اللفظ إلّا أن يقوم دليل

٦٥٠

على خلافه ، ومع الغضّ عنه فلا أقلّ من معارضة ظهور الاستعمال في الحقيقة بالأصل المذكور ، فلا يتم له ما ادعاه.

قوله : (إنّما يصحّ إذا تساوت نسبة اللفظ ... الخ)

ظاهر كلامه يعطي تسليم ما أصله السيّد من دلالة الاستعمال على الحقيقة في متّحد المعنى ومتعدّده ؛ إذ من البيّن أنّ السيّد لا يقول بذلك مع قيام أمارة المجاز.

وقد يحمل كلامه على التسليم من باب المماشاة ، وقد نصّ قبيل ذلك على كون المجاز خيرا من الاشتراك.

ويحتمل حمل كلامه على التفصيل بين ما إذا ظهر كونه حقيقة في بعض المستعملات فيقدّم المجاز ، وما إذا تساوى الحال في الاستعمال من دون ظهور أمارة على الحقيقة أو المجاز فيقدّم الاشتراك ، إلّا أنّ التفصيل بذلك غير معروف في كلماتهم.

قوله : (ولا يذهب عليك ... الخ)

لا يخفى أنّ مقصوده من حمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب هو خصوص الأوامر المطلقة ، وإلّا فاستعمال الأمر في الشريعة في غير الوجوب من الضروريات الّتي لا مجال لإنكاره فلا منافاة.

نعم ، بعد بنائه على كون الأمر في الشريعة حقيقة في الوجوب خاصّة لا وجه لاستناده في كونه مشتركا في اللغة والعرف بين الوجوب والندب الى استعماله في القرآن أو السنة فيهما ؛ إذ المفروض كون استعماله في الندب هناك مجازا فلا فائدة في ذكره في المقام ، وبعد فرض استعماله في الوجوب بحسب اللغة لا فائدة في ملاحظة استعماله فيه بحسب الشرع مع خروجه عن محلّ الكلام.

وكون المقصود من ذلك إفادة وضعه له في اللغة ـ نظرا الى أصالة عدم النقل ـ كما ترى ، مضافا الى بعده عن سياق العبارة المذكورة.

ويمكن الجواب عنه بما مرّ من كون مقصوده اختصاص الأمر بالوجوب في عرف الشريعة ، فيكون مشتركا بينهما عنده في كلام الشارع أيضا في المخاطبات المتعلّقة بغير الشريعة ، فيكون المراد استعماله في القرآن والسنّة في الوجوب

٦٥١

والندب في غير ما يتعلّق بالأحكام الشرعية ، ومنه يظهر وجه آخر لدفع المناقضة الّتي ذكرها المصنف رحمه‌الله.

وقد يجاب عنه أيضا تارة بأنّ ذكر استعماله فيهما في القرآن والسنّة لبيان قضاء الأصل بكونه حقيقة فيهما في الجميع ، إلّا أنّه لزم الخروج عن مقتضى الأصل المذكور بالنسبة الى الندب في عرف الشارع للدليل الدالّ عليه فبقي الباقي.

واخرى بأنّ المراد استعماله في المعنيين في مجموع المذكورات ولو على سبيل التوزيع فالمقصود أنّ استعماله في مجموع المذكورات في الوجوب والندب دالّ على الاشتراك ، فإنّ استعماله بحسب اللغة إمّا في المعنيين ، أو أحدهما ، وعلى كلّ من الوجهين أمّا يثبت المطلوب ، أو بعض منه ، وكذا الحال في العرف بضميمة أصالة عدم النقل ، بل وكذا الحال بالنسبة الى استعماله في الكتاب والسنّة ، إلّا أنّه لمّا كان الاستعمال الّذي يحتمل الحقيقة بالنسبة اليهما هو الوجوب دون الندب كان الثابت به جزء المعنى خاصّة ، كذا ذكره المدقّق المحشي رحمه‌الله.

وأنت خبير ببعد الوجهين سيّما الأخير فإنّه مع ما فيه من التعسّف الشديد لا يفي بإثبات المقصود على كلّ الوجوه ؛ إذ لو فرض استعماله في الوجوب أو الندب بحسب اللغة وثبت استعماله فيهما بحسب العرف أو الشرع لم يتّجه إثبات الاشتراك بحسب اللغة أيضا ، لأصالة تأخّر الحادث وتجدّد المعنى ، ولا يمكن دفع ذلك بأصالة عدم النقل ، إذ لا نقل في المقام.

مضافا الى أنّه رحمه‌الله لم يتمسّك فيما ذكره بالأصل المذكور ولا أشار اليه في المقام فضمّ ذلك الى الدليل المذكور خروج عن ظاهر كلامه بل صريحه كما لا يخفى.

قوله : (بامتناع عدم الاطلاع على المتواتر ممّن يبحث ويجتهد)

كأنّه أراد بذلك دفع احتمال أن يكون متواترا عند قوم دون آخرين ، وذلك لأنّه إنّما يتصوّر ذلك مع المساهلة في البحث والاجتهاد ومع عدمها تقضي العادة بامتناع الغفلة عنه مع حصوله.

وهو كما ترى ، إذ موانع العلم لا تنحصر في عدم الاطلاع على الأخبار ،

٦٥٢

بل قد يكون من جهة سبق الشبهة.

على أنّ عدم الاطلاع على بعض تلك الأخبار ممّا لا مانع منه بحسب العادة ، فقد يكون ذلك مكمّلا لعدد التواتر فلا يحصل التواتر بالنسبة اليه.

قوله : (والجواب منع الحصر)

يحتمل أن يريد بذلك منع حصر الدليل في العقلي والنقلي ؛ إذ قد يكون مركّبا من الأمرين كالرجوع الى الأمارات الدالّة على الحقيقة ، فإنّ العلم بتلك الأمارات إنّما يكون بالنقل والانتقال منها الى المقصود بالعقل بملاحظة اللزوم بينهما.

وقد يورد عليه بإرجاع الكلام المذكور بالنسبة الى جزئه النقلي ، فإنّه إمّا أن يكون متواترا ، أو آحادا ، والأوّل يقضي بانتفاء الخلاف ، والثاني غير كاف في الإثبات ، إذ المركّب منه ومن غيره يكون ظنّيا ، كذا أورده في الإحكام.

ويدفعه جواز الالتزام بالأوّل ولا يلزم معه انتفاء الخلاف ؛ إذ ذاك إنّما يلزم لو قلنا باكتفاء النقل فيه ، وأمّا مع الحاجة الى ضمّ العقل اليه فقد يكون ذلك نظريا يختلف فيه الأنظار.

ويحتمل أن يريد به منع حصر الدليل النقلي في المتواتر والآحاد ، لحصول الواسطة بينهما وهو الرجوع الى الاستقراء ، إذ لا يندرج في الخبر المتواتر ولا الآحاد ، وإنكار ثبوت الواسطة بين الأمرين كما ذكره بعض الأعلام بيّن الفساد.

والقول بقيام الإشكال في ذلك أيضا ، فإنّه إن أفاد القطع فذاك إلّا أنّ إفادة الأدلّة المذكورة له محلّ نظر ، وإن أفاد الظنّ عاد الإشكال.

مدفوع بأنّه لا دليل على عدم حصول العلم منه حتّى يقوم شاهدا على تعيّن القول بالوقف ، ومجرّد احتمال عدم إفادته له في بادئ الرأي لا يقضي بما ذكر ، إلّا أن يقال بأنّ مقصود المتوقّف بيان عدم علمه بالمسألة وعدم حصول القطع له وهو لا يفتقر الى الاستدلال وأخذ ما ذكر من المقدّمات.

وقد ظهر بما قرّرنا ضعف ما ذكره في الإحكام حيث قال : ـ بعد ما أورد على نفسه بأنّ ما ذكرتموه مبني على أنّ مدار ما نحن فيه على القطع ـ قلنا : نحن في هذه المسألة غير متعرّضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقّفون فمن رام إثبات اللغة فيما

٦٥٣

نحن فيه بطريق ظنّي أمكن أن يقال له : هل يكتفى بذلك فيما نحن فيه إذا كان شرط إثباته القطع أم لا؟ ولا بدّ عنه توجّه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع أو المسلّم ، وكلّ واحد منهما متعذّر لما سبق ، انتهى.

فإنّ من الظاهر أنّ من يقول بحجيّة الظنّ فلا بد أن ينتهي حجّية ذلك الظنّ عنده الى اليقين ، لوضوح عدم حجيّة الظنّ في نفسه في شيء من الموضوعات والأحكام ، وقضية ما ذكره عدم نهوض دليل قاطع عنده على حجيّة الظنّ هنا ، فليس توقّفه في المقام إلّا من جهة عدم قيام دليل على الترجيح ، لا من جهة قيام الدليل على عدم إمكان الترجيح ليلزم البناء على الوقف.

وحينئذ فلا وجه للاستناد الى ما ذكره من الدليل فإنّ مفاده إن تمّ هو لزوم البناء في المقام على الوقف ، لعدم إمكان الترجيح كما هو أحد الوجهين في الوقف ، وهو الّذي يعدّ قولا في المسألة ويتوقّف إثباته على إقامة الدليل ، وإلّا فعدم العلم بأحد الشقّين ممّا لا يحتاج الى البيان وإقامة البرهان ، بل أقصى ما يراد له تزييف الأدلّة المذكورة لسائر الأقوال.

قوله : (ومرجعها الى تتبّع مظانّ ... الخ)

قد يكون مراده بذلك الاستقراء بملاحظة مواقع استعمال اللفظ والأمارات الخارجية الدالّة على ما يفهم من اللفظ عند الإطلاق فيستنبط به الوضع ، وهو أحد طرق إثبات الأوضاع حسب ما مرّ بيانه ، إلّا أنّ ذلك ليس شيئا من الوجوه المذكورة المتقدّمة.

وقد يقال : إنّ مراده بالأمارات الأدلّة المتقدّمة الدالّة على كونه حقيقة في الوجوب.

لكنّك خبير بأنّ كلّا من تلك الأدلّة ظنيّة فهي مشاركة لما ذكره المستدلّ من أخبار الآحاد في المفسدة ، إلّا أن يدّعى قطعية بعضها ، أو يقال بحصول القطع من ضمّ بعضها الى البعض ، أو يكون مبنى الجواب على منع اعتبار القطع في المقام ، وحينئذ وإن لم يحتج الى منع الحصر للاكتفاء حينئذ بنقل الآحاد ، إلّا أنّ كلامه مبني على بيان ما هو الواقع ، إذ لم يستند أحد في المقام الى نقل الآحاد.

٦٥٤

معالم الدين :

فائدة

يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة عليهم‌السلام : أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوى احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجيّ ؛ فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم‌السلام.

٦٥٥

قوله : (بحيث صار من المجازات الراجحة ... الخ)

المقصود صيرورة المجاز المذكور من المجازات المشهورة في عرفهم عليهم‌السلام الراجحة على سائر المجازات بحسب الحمل ، أو على الحقيقة من جهة الاستعمالات المساوية إرادتها من اللفظ لإرادة الحقيقة عند انتفاء القرائن الخارجية ، وهو مبني على اختيار التوقّف عند دوران الأمر بين المجاز المشهور والحقيقة المرجوحة ، حسبما عزي اليه اختيار ذلك كما مرّت الإشارة اليه ، وكأنّه استنبط ذلك من العبارة المذكورة فتكون الصفة المذكورة كاشفة.

وقد يجعل ذلك وصفا مخصّصا بدعوى بلوغ الشهرة الى الحدّ المذكور وعدم تجاوزه عن تلك الدرجة ، فيوافق ما حقّقناه في بيان الحال في المجاز المشهور ، إلّا أنّه غير معروف بينهم.

وكيف كان ، فقد اورد عليه بأنّ شيوع استعماله في المعنى المذكور إن كان بانضمام القرينة المقارنة فذلك لا يستلزم تساوي الاحتمالين في المجرّد عنها ، إذ لا غلبة هناك.

وإن كان مع التجرّد عن القرينة المقارنة بانكشاف المقصود من الخارج بملاحظة القرائن المنفصلة أمكن القول بذلك ، لكن إثبات شيوع استعماله على الوجه المذكور مشكل.

قلت : لا يخفى أنّ شيوع استعمال اللفظ في معناه المجازي قاض برجحان المجاز على ما كان عليه قبل الشيوع ، سواء كان استعماله فيه على الوجه الأوّل أو الثاني أو الملفّق منهما ، فكلّما زاد الشيوع قوي المجاز الى أن يبلغ حدّ المساواة مع الحقيقة أو الرجحان عليه في صورة الإطلاق أيضا حملا له على الأعمّ الأغلب ، وذلك أمر ظاهر بعد الرجوع الى العرف ، ومجرّد كون الغلبة مع انضمام القرينة لا يقضي بعدم التردّد بينه وبين المعنى الحقيقي مع الخلوّ عنها ، نظرا الى اختصاص الغلبة بصورة مخصوصة فلا يسري الى غيرها ، إذ من الظاهر أنّ الغلبة

٦٥٦

قد تنتهي الى حدّ لا يلحظ معها تلك الخصوصية بل تقضي شيوع استعماله فيه بالتردّد بينه وبين المعنى الحقيقي أو غلبته عليه في صورة الإطلاق أيضا.

كيف! ومن البيّن أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي ولو مع القرينة قاضية بقرب ذلك المجاز الى الأذهان ولو في حال الإطلاق فيستقرب المخاطب إرادة ذلك المعنى حينئذ عند التفطن له وإن كان حمله على المعنى الحقيقي أقرب عنده ، وكلّما قويت الشهرة والغلبة ازداد القرب المفروض ، فأيّ مانع حينئذ من بلوغه الى الحدّ المذكور؟.

ويشهد لذلك ملاحظة غلبة الاستعمال الحاصلة في بعض الموارد الخاصّة ، كما إذا استعمل المتكلّم لفظا في محلّ خاصّ مرّات كثيرة متعاقبة في معنى مجازي مخصوص مع نصب قرينة على إرادة ذلك المعنى ، فإذا استعمله مرّة اخرى عقيب تلك الاستعمالات من غير أن يقيم قرينة خاصّة على إرادة ذلك المعنى كان تقدّم تلك الاستعمالات المتكثّرة ولو كانت مقترنة بالقرينة باعثا على التوقّف في حمل اللفظ على الحقيقة أو صارفا له الى المعنى المجازي ، يشهد بذلك التأمّل في الاستعمالات ، فجريان ذلك في الشهرة المطلقة الحاصلة بملاحظة استعماله فيه في الموارد المتكثّرة أولى.

فالقول بعدم قضاء غلبة الاستعمال في المعنى المجازي مع القرينة بالتوقّف في فهم المراد مع انتفائها غير متّجه.

نعم ، غاية الأمر أن يختلف الحال في الغلبة الباعثة على التوقّف في اعتبار درجة الشيوع والكثرة ، فإنّه إن كان ذلك بانضمام القرينة المقارنة افتقر مقاومة المجاز للحقيقة حال الإطلاق الى شيوع زائد وغلبة شديدة ، بخلاف ما لو شاع استعماله فيه من دون ضمّ قرينة مقارنة أو كان الشيوع الحاصل فيه بانضمام القرينة تارة وعدمه اخرى ، فإنّه لا يتوقّف الوقف بين المعنيين حينئذ مع الإطلاق الى اعتبار تلك الدرجة من الغلبة والشهرة المدّعاة في كلام المصنف دائرة بين

٦٥٧

الوجوه الثلاثة ، وأيّا ما كان يمكن بلوغها الى الحدّ المذكور وإن اختلفت درجات الشهرة بحسب اختلاف الوجوه المذكورة ، فظهر بذلك اندفاع الإيراد المذكور.

وأبين منه في الاندفاع ما في كلام الفاضل المدقّق من إلحاق الدليل المنفصل القاضي بإرادة الندب بالقرينة المتّصلة ، حيث جعل دلالة أحد الحديثين المتعارضين في الظاهر على كون المراد من الآخر معناه المجازي من قبيل القرائن المتّصلة القائمة على ذلك في عدم البعث على صرف اللفظ اليه أو الوقف بينه وبين الحقيقة مع حصول الشيوع والغلبة.

وأنت خبير بأنّه مع البناء على ذلك يلزم امتناع حصول المجاز المشهور ، بل النقل الحاصل من الغلبة ، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي إنّما يكون مع القرينة المتّصلة أو المنفصلة ، إذ بدونها لا يحمل اللفظ إلّا على معناه الحقيقي ، والمفروض أنّ الغلبة الحاصلة بأيّ من الوجهين المذكورين لا يقضي بمساواة المجاز للحقيقة أو ترجيحه عليها ولو بملاحظة تلك الشهرة ، فكيف يحصل المجاز المشهور أو النقل على الوجه المذكور؟

هذا ، وأمّا البناء على الاستحباب من جهة ضعف الرواية وقصورها عن إثبات الوجوب للتسامح في أدلّة السنن فممّا لا ربط له بالمقام ، وكذا حمل الرواية على الندب عند التعارض بمجرّد ترجيح إعمال الدليلين على طرح أحدهما من غير أن يحصل هناك فهم عرفي يقضي بذلك ـ كما ذهب اليه البعض ـ فذكر ذلك في المقام ليس على ما ينبغي ، لوضوح خروجه عن محلّ الكلام ؛ إذ ليس شيء من ذلك قرينة متّصلة ولا منفصلة على إرادة الندب من اللفظ ، والمفروض في كلام المصنف رحمه‌الله شيوع استعمال الأوامر في الندب وأين ذلك ممّا ذكر؟.

ثمّ إنّه قد وافق المصنّف رحمه‌الله في الدعوى المذكورة جماعة من أجلّة المتأخّرين كصاحب المدارك والذخيرة والمشارق لكن لا يخفى أنّ الدعوى المذكورة لا بيّنة ولا مبيّنة ، ومجرّد حصول الغلبة في الجملة على فرض تحقّقها لا يقضي بذلك.

٦٥٨

وتوضيح المقام : أنّ المعتبر من الغلبة الباعثة على الوقف أو الصرف هو ما إذا كانت قاضية بفهم المعنى المجازي مع الإطلاق وكونه في درجة الظهور مكافئة للمعنى الحقيقي حتّى يتردّد الذهن بينهما أو يكون راجحا على معناه الحقيقي ، وحصول ذلك في أخبارهم عليهم‌السلام غير ظاهر ، بل من الظاهر خلافه ؛ إذ الظاهر أنّ الأوامر الواردة عنهم عليهم‌السلام على نحو سائر الأوامر الواقعة في العرف والعادة والمفهوم منها في كلامهم هو المفهوم منها في العرف.

ويشهد له ملاحظة الإجماع المذكور في كلام السيّد وغيره ، فإنّه يشمل كلام الأئمّةعليهم‌السلام أيضا ، وملاحظة طريقة العلماء في حمل الأوامر على الوجوب كافية في ذلك.

ولم نجد الدعوى المذكورة في كلام أحد من متقدّمي الأصحاب مع قرب عهدهم ووفور إطّلاعهم ، بل لم نجد ذلك في كلام أحد ممن تقدّم على المصنّف ، ولو تحقّقت الغلبة المذكورة لكان اولئك أولى بمعرفتها.

فاتّفاقهم على حملها على الوجوب كاشف عن فساد تلك الدعوى ، بل في بعض الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام دلالة على خلاف ذلك حسب ما مرّت الإشارة اليه.

ومع الغضّ عن ذلك فالشهرة المدّعاة إمّا بالنسبة الى أعصارهم عليهم‌السلام ليكون اللفظ مجازا مشهورا في الندب عند أهل العرف في تلك الأزمنة ، أو بالنسبة الى خصوص الأوامر الواردة عنهم عليهم‌السلام فيكون مجازا مشهورا في خصوص ألسنتهم عليهم‌السلام دون غيرهم.

وعلى الثاني فإمّا أن تكون الشهرة حاصلة بملاحظة مجموع أخبارهم المأثورة عنهمعليهم‌السلام ، أو بملاحظة الأخبار المروية عن بعضهم ، أو بالنسبة الى كلام كلّ واحد منهم ليكون الاشتهار حاصلا في كلام كلّ منهم استقلالا.

فإن تمّ الوجه الأوّل وظهر حصول الاشتهار على ذلك الوجه في عهد أيّ

٦٥٩

منهم عليهم‌السلام تفرّع عليه الثمرة المذكورة في الأخبار الواردة بعد تحقّق تلك الشهرة ، إلّا أن دعوى الشهرة المذكورة بعيدة جدّا ، ولم يدّعه المصنّف أيضا ، ومع ذلك فليس التأريخ فيه معلوما.

وعلى الوجه الثاني فالشهرة المدّعاة لا تثمر شيئا بالنسبة الى أخبارهم عليهم‌السلام ، إذ من البيّن أنّ ذلك لو أثّر فإنّما يؤثّر بالنسبة الى ما بعد حصول الاشتهار وأمّا بالنسبة الى تلك الأخبار الباعثة على حصول الاشتهار فلا.

وعلى الوجه الثالث لا إشكال في الأوامر الواردة عمّن تقدّم على من حصل الاشتهار في كلامه ، بل وكذا بالنسبة الى من تأخّر عنه ؛ إذ المفروض عدم تحقّق الشهرة العرفية وإنّما الشهرة المفروضة شهرة خاصّة بمتكلّم مخصوص ، ومن البيّن أنّ الشهرة الحاصلة في كلام شخص خاصّ لا يقضي بجري حكمها في كلام غيره مع عدم تحقّقها بالنسبة اليه.

وكونهم عليهم‌السلام بمنزلة شخص واحد وأنّ كلام آخرهم بمنزلة كلام أوّلهم ممّا لا ربط له بالمقام ، فإنّ ذلك إنّما هو في بيان الشرائع والأحكام دون مباحث الألفاظ وخصوصيات الاستعمالات.

بل وكذا بالنسبة الى الأوامر الصادرة عمّن حصل الاشتهار في كلامه إذا استند الشهرة الى مجموع الاستعمالات الحاصلة منه ، إذ لا توقّف حينئذ في نفس تلك الاستعمالات الّتي يتحقّق بها الاشتهار حسب ما عرفت.

نعم يثمر ذلك في كلامه لو صدر بعد تحقّق الاشتهار المفروض إن تبيّن تأريخ الغلبة.

وقد يسري الإشكال في جميع الأخبار المأثورة عنه عليه‌السلام مع جهالة التأريخ أيضا ، إلّا أن يقال بأصالة تأخّر الشهرة الى آخر أزمنته عليه‌السلام مع الظن بورود معظم الأخبار المروية عنه قبل ذلك ، فيلحق المشكوك بالغالب.

ويجري التفصيل المذكور أخيرا على الوجه الرابع أيضا ، ودعوى الشهرة

٦٦٠