هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

في المرتجلات مع عدم ملاحظة مناسبتها للمعاني اللغويّة ليحصل لها بذلك نوع تبعيّة لواضع اللغة.

وأمّا الثاني فبأنّ ذكر المعاني المجازيّة ليس لاستقصاء المجازات حتّى لا يصحّ استعمال مجاز غيرها كما هو شأنهم في بيان المعاني الحقيقيّة ، بل إنّما يذكرون المعاني الدائرة بين الحقيقة والمجاز لاحتمال كونها من الحقيقة ، أو يشيرون إلى بعض المجازات المتداولة عند أهل اللغة والمجازات الخفيّة ممّا يكون العلاقة فيها غير واضحة ، ليكون باعثا على سهولة الخطب في معرفة المعاني المستعملة فيها في الإطلاقات الواقعة في الآيات القرآنيّة والروايات المأثورة والأشعار والخطب والرسائل ونحوها ، فإنّ في ذكرها توضيحا لتفسيرها ، كما لا يخفى.

حجّة القائل باعتبار النقل في أنواع العلاقة ووقوع الترخيص بالنسبة إلى كلّ نوع منها من غير حاجة إلى نقل آحاد المجاز ، أمّا على عدم التوقّف على نقل الآحاد فبما يقرب ممّا ذكرناه في حجّة ما اخترناه ، وأمّا على اعتبار نقل النوع فبعدم جواز التعدّي عن مقتضى الوضع ولزوم الاقتصار في الاستعمال على حسب ما عيّنه الواضع ، وإنّما يجوز التعدّي عنه بعد ترخيصه وإجازته لكونه أيضا نحوا من الوضع ، فلا بدّ أيضا من الاقتصار فيه على القدر الذي قامت عليه الشواهد من النقل ، وثبت الترخيص فيه لابتناء الأمر في باب الألفاظ على التوقيف ، والقدر الثابت من الترخيص هو ما ذكرناه فلا بدّ من الاقتصار عليه.

ولا يخفى وهنه بعد ملاحظة ما أشرنا إليه.

على أنّه قد يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان التصرّف في المجاز بإطلاق اللفظ من أوّل الأمر على غير ما وضع بإزائه ، فإنّ ذلك خروج عن مقتضى الوضع متوقّف على ترخيص الواضع حسب ما ذكر ، وأمّا إذا كان التصرف فيه بواسطة إرادة معناه الحقيقي والانتقال منه إلى المعنى المجازي ـ كما مرّ القول فيه ـ فلا حاجة فيه إلى الترخيص ، إذ ليس ذلك تصرّفا في اللفظ.

٢٠١

ويشكل : بأنّ ذلك أيضا نحو من التصرف في اللفظ ، حيث إنّ المقصود منه حقيقة غير معناه الحقيقي وإن جعل إرادة معناه الحقيقي واسطة في الانتقال إليه.

وقد يناقش فيه : بأنّه إنّما يتمّ إذا قلنا بكون دلالة اللفظ على كون مدلوله هو المقصود بالإفادة من جهة الوضع ، وهو غير ظاهر ، وأمّا إن قلنا بدلالة ظاهر الحال عليه فلا حاجة في التعدّي عنه إلى التوقيف بعد إرادة الموضوع له من اللفظ.

وفيه : أنّ معاني الألفاظ وكيفيّة استعمالها فيها امور توقيفيّة لا بدّ من الجري فيها على النحو المألوف والطريقة المتلقّاة عن أهل اللغة ، وإلّا لكان غلطا بحسب تلك اللغة ، وقد عرفت أنّ إرادة المعاني المجازيّة من الألفاظ إنّما تكون باستعمالها فيها وإن كان بتوسّط إرادة معانيها الحقيقيّة ، فيتوقّف جواز استعمالها كذلك على التوقيف.

حجّة المفصّل : أمّا على عدم الافتقار إلى نقل الآحاد فبما عرفت من عدم توقّف استعمال المجازات في شائع الاستعمالات على ورود الخصوصيّات من أهل اللسان وثبوت الترخيص في الأشخاص وجريان السيرة واستمرار الطريقة عليه حسب ما أشرنا إليه.

وأمّا على الافتقار إلى نقل الآحاد في الحروف والظروف ونحوهما من الأفعال والأسماء الناقصة فباعتناء علماء العربية في تعيين مستعملاتها وبيان معانيها الحقيقيّة والمجازيّة من غير فرق بينهما في ذلك ، وفي إيراد الشواهد والأدلّة لإثبات كلّ من معانيها ولو كانت مجازيّة ، ووقوع النزاع في بعض منها على نحو المعاني الحقيقيّة واستناد كلّ من الطرفين إلى الشواهد والمرجّحات ، فلو لا الحاجة إلى النقل وتوقّف الاستعمال فيها على التوقيف لم يتّجه ما ذكروه ، ولم يترتّب فائدة على ما بيّنوه ، بل لم ينحصر معانيها المجازيّة فيما شرحوه ؛ لاتّساع الدائرة فيها وعدم توقّف صحّة الاستعمال على نقلهم لها.

وفيه : أنّ ذلك لا يفيد توقّف المجاز على النقل ، فقد يكون ذلك لمزيد عنايتهم بشأنها لكثرة دورانها في الاستعمالات وشيوع استعمالها في المحاورات ، وقد كان

٢٠٢

معظم ما يصحّ استعماله فيه من معانيها المجازيّة جاريا في استعمالاتهم واقعا في إطلاقاتهم ، فأرادوا بيان معانيها المجازيّة ليسهل تفسير استعمالاته الواردة في كلامهم.

وحصرهم لمعانيها فيما ذكروه لو سلّم فإنّما هو لعدم حصول ما ذكرناه من المناط في صحّة التجوّز إلّا بالنسبة إليها في الغالب ، لا لتوقّف الأمر فيها على النقل.

وقد يورد على ذلك : بأنّ استنادهم فيما ذكروه من المعاني إلى الشواهد النقليّة نظير المعاني الحقيقيّة ، ومناقشتهم فيما يستندون إليه في ثبوت الإطلاق على بعض المعاني المفروضة ممّا يدلّ على توقّف الاستعمال فيها على النقل دون القاعدة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ ما كان من هذا القبيل قد يدّعى كونه من المعاني الحقيقيّة ، إذ لا يتّجه المناقشة في صحّة التجوّز مع حصول العلاقة بين المعنيين بعد ملاحظة ما هو ظاهر من طريقتهم في المجاز ، فلا يبعد حينئذ أن يكون ما ناقشوا في ثبوته من جملة المعاني الحقيقيّة وإن كان من المعاني القديمة المهجورة.

أو يقال : إنّه لمّا كانت العلاقة هناك خفيّة أرادوا بالرجوع إلى الشواهد معرفة كون تلك العلاقة معتبرة عندهم مصحّحة للاستعمال في نظرهم حيث وقع الاستعمال من جهتها في كلامهم.

وربّما يقال : بأنّ التجوّز في الحروف وما ضاهاها ليس على حدّ غيرها من سائر الأسماء والأفعال ، بل يصحّ الخروج عن مقتضى أوضاعها باستعمالها في غير ما وضعت له ممّا أجاز الواضع استعمالها فيه بملاحظة القرائن وإن لم يكن مناسبا لمعانيها الحقيقيّة كاستعمال «إلى» بمعنى مع ، و «الباء» بمعنى من ، و «أو» بمعنى بل ، ونحو ذلك ، بل كثير من المعاني المذكورة لها من هذا القبيل ، فإذا التزم بمجازيّتها اتّجه البناء على ما ذكرنا ، وهو وإن كان خلاف ما هو المعروف في المجاز إلّا أنّه غير بعيد عن الاعتبار ، ولا مانع منه بعد إذن الواضع وترخيصه فيه ،

٢٠٣

فيكون اعتبار العلاقة والمناسبة حاصلا في القسم الشائع من المجاز ، ويكون إطلاق كلام القوم في اعتبار العلاقة محمولة على ذلك ، ويكون الوضع الترخيصي الحاصل هناك نوعيّا كلّيا بخلاف التجوّز على الوجه المذكور ؛ لعدم إناطة الترخيص فيه بالعلاقة ، فيكون الوضع الترخيصي فيه شخصيّا متعلّقا بلفظ خاصّ ومعنى مخصوص على نحو الأوضاع الحقيقيّة الشخصيّة ، فلا بدّ من ثبوت التوقيف فيه كذلك ، فإنّ الحاجة إلى نقل الآحاد أو النوع يتبع الوضع الحاصل من أهل اللغة ، فإن كان الوضع هناك نوعيّا كلّيا لزم حصول التوقيف فيه بالنسبة إلى النوع من غير حاجة إلى نقل الآحاد كما في الوجه الأوّل ، وإن كان شخصيّا خاصّا فلا بدّ من ثبوته كذلك كما في الثاني ، من غير فرق في ذلك بين الحقيقة والمجاز.

ومن ذلك يظهر وجه آخر في عدم توقّف صحّة التجوّز على الوجه الأوّل على نقل خصوص آحاد المجاز ولا أنواع العلائق ، إذ الظاهر كون الوضع الترخيصي الحاصل هناك أمرا واحدا كلّيا لا أنّ هناك أوضاعا ترخيصيّة شخصيّة متعلّقة بآحاد المجازات ، أو نوعيّة متعلّقة بأنواع العلائق متعدّدة على حسبها ؛ ليفتقر صحّة التجوّز بالنسبة إلى كلّ منها على نقله وثبوته عن الواضع.

وكيف كان ، فالتحقيق في المقام دوران الأمر هناك بين أحد الوجهين المذكورين من التزام كونها من المعاني الحقيقيّة ، أو التزام صحّة التجوّز مع الخلوّ عن العلاقة المعتبرة من جهة الترخيص الخاصّ المتعلّق به ، نظرا إلى خلوّ معظم المعاني المذكورة لها عن العلاقة المسوّغة.

وتعنّى بعض التعسّفات الركيكة في إبداء المناسبة بينها وبين المعاني الحقيقيّة لو أمكن فممّا لا داعي إليه ، وتوقّف ثبوتها إذن على التوقيف ، ونقل الآحاد على كلّ من الوجهين المذكورين واضح.

وأمّا غيرها من المعاني المناسبة لمعناه الحقيقي فقد يكون تعرّضهم له من جهة احتمال ثبوت الوضع فيه ، أو من جهة بنائهم على استيفاء معانيها المستعملة ، أو لتوضيح المراد منها في الاستعمالات الواردة حسب ما أشرنا إليه. فتأمّل.

٢٠٤

الثامنة

الأصل في الاستعمال حمل اللفظ على معناه الحقيقي فيما إذا دار الأمر بين الحمل عليه وعلى المعنى المجازي ، فيحكم بكون المعنى الحقيقي هو المقصود بالإفادة ، المطلوب إفهامه من العبارة ، إلّا أن يقوم هناك قرينة صارفة عن ذلك قاضية بحمل اللفظ على غيره ، إمّا باستعمال اللفظ فيه ابتداء ، أو باستعماله في المعنى الحقيقي لينتقل منه إلى المجازي ، كما في الكناية وغيرها حسب ما مرّ.

ويدلّ عليه بعد قيام السيرة القاطعة المستمرّة من بدو وضع اللغة إلى الآن عليه النظر إلى الغاية الباعثة على التصدّي للوضع ؛ إذ الغرض من الأوضاع تسهيل الأمر في التفهيم والتفهّم حيث إنّ الإنسان مدني الطبع يحتاج في أمر معاشه ومعاده إلى أبناء نوعه ، ولا يتمّ له حوائجه من دون الاستعانة بغيره ، ولا يحصل ذلك إلّا بإبداء ما في ضميره وفهمه ما في ضمير غيره ممّا يحتاج إليه ، ولا يتسهّل له ذلك إلّا بواسطة الموضوعات اللفظيّة ؛ حيث إنّ سائر الطرق من الإشارة ونحوها لا يفي بجميع المقاصد ولا يمكن الإفهام بها في كثير من الأوقات ، ويتعسّر إفهام تمام المقصود بها في الغالب ، مضافا إلى ما يقع فيها من الخطأ والالتباس ، فلذا قضت الحكمة بتقرير اللغات وبناء الأمر في التفهيم والتفهّم على الألفاظ.

ومن البيّن أنّ الفائدة المذكورة إنّما تترتّب على ذلك بجعل الألفاظ كافية في بيان المقاصد من غير حاجة إلى ضمّ شيء من القرائن ، إذ لو توقّف الفهم على ضمّها لزم العود إلى المحذور المذكور ، مضافا إلى كونه تطويلا بلا طائل ؛ لإمكان حصول المقصود من دونه.

نعم ، قد يطلب الإجمال وعدم التصريح بخصوص المقصود في بعض المقامات ، ولذلك وغيره من الفوائد وقع الاشتراك في بعض الألفاظ ، إلّا أنّه ليس في المشترك قصور في الدلالة على المعنى وإنّما طرأه قصور في الدلالة على خصوص المراد من جهة تعدّد الأوضاع ، ولذا جعلوه مخالفا للأصل ؛ نظرا إلى منافاته للحكمة المذكورة في الجملة.

٢٠٥

وبالجملة : أصالة حمل اللفظ على المعنى الحقيقي والحكم بكونه مرادا للمتكلّم عند الدوران بينه وبين المعنى المجازي ممّا لا كلام فيه في الجملة ، وعليه مبنى المخاطبة وهو المدار في فهم الكلام من لدن زمان آدم عليه‌السلام إلى الآن في كافّة اللغات وجميع الاصطلاحات.

نعم ، قد يتأمّل في أنّ القاعدة المذكورة هل هي من القواعد الوضعيّة المقرّرة من الواضع بتعيينه ووضعه سوى وضعه المتعلّق بالألفاظ؟ فيكون مستفادا من ملاحظة السيرة والطريقة المستمرّة حسب غيره من الأوضاع العامّة والقواعد الكلّية المتلقّاة منه. أو أنّه لا حاجة فيها إلى وضع سوى وضع الألفاظ لمعانيها ؛ إذ بعد دلالة الألفاظ على المعاني يكون التصدّي لاستعمالها في مقام البيان مع شعور المتكلّم وعدم غفلته وذهوله شاهدا على إرادة معناه ومدلوله ، فيكون كدلالة الإشارات على مقصود المشير ، فيكون الأصل المذكور متفرّعا على الوضع من غير أن يكون متعلّقا لوضع الواضع وإن كان الغاية الملحوظة في الأوضاع هو فهم المراد ؛ إذ لا يلزم من ذلك أن يكون ترتّبها عليه بلا واسطة.

وقد يقال بكون الألفاظ موضوعة للدلالة على معانيها من حيث كونها مرادة للمتكلّم مقصودة منها فالوضع هو تعيين اللفظ أو تعيّنه ليدلّ على كون المعنى مرادا للمتكلّم ، لا لمجرّد الدلالة على المعنى وإحضاره بالبال كما هو الظاهر ، وكان ذلك مراد القائل بكون الدلالة تابعة للإرادة ؛ لانتفاء الدلالة المذكورة في المجاز بعد قيام القرينة الصارفة لا ما يتراءى من ظاهره ؛ لوضوح فساده ، وعلى هذا الوجه أيضا تكون دلالة الألفاظ على كون معانيها مقصودة للمتكلّم وضعيّة ، فيكون الأصل المذكور مستندا إلى الوضع أيضا.

إلّا أنّ الوجه المذكور بعيد عن ظاهر الأوضاع ؛ فإنّ الظاهر كون الحاصل من نفس الوضع مجرّد الإحضار ، ودلالة اللفظ على كون ذلك مرادا للمتكلّم حاصلة بعد ذلك بأمر آخر فيتعيّن حينئذ أحد الوجهين الآخرين.

وكيف كان ، فنقول : إنّ إجراء الأصل المذكور إمّا أن يكون من المخاطب ،

٢٠٦

أو غيره ، وعلى التقديرين فإمّا أن يعلم انتفاء القرائن المتّصلة أو المنفصلة أو لا ، فمع العلم بالخلوّ عن القرينة المانعة لا تأمّل في إجراء الأصل من المخاطب وكذا من غيره ، وأمّا مع انتفاء العلم بها وعدم اطّلاعه على قيامها فهو أيضا حجّة بالنسبة إلى المخاطب ؛ لجريان الطريقة عليه من غير توقف على الاستفسار ولو مع إمكانه حسب ما بيّناه. وورود السؤال حينئذ عن حقيقة الحال في بعض الموارد من جهة الاحتياط والأخذ بالجزم ، لا لعدم جواز الأخذ بالظاهر.

وأمّا بالنسبة إلى غير المخاطب سيّما مع عدم الحضور في مجلس الخطاب فقد يتأمّل في جريان الأصل المذكور ، خصوصا مع طول المدّة وتعارض الأدلّة وظهور القرائن المنفصلة الباعثة على الخروج عن الظاهر بالنسبة إلى كثير من الخطابات الواردة ؛ إذ الأخذ بالأصل المذكور في ذلك غير ظاهر من الدليل المتقدّم لعدم ابتناء المخاطبات العرفيّة على مثل ذلك ليمكن الاستناد فيه إلى الوجه المذكور.

نعم ، الدليل على الأخذ بالظنون المتعلّقة بالأحكام الشرعيّة منحصر عندنا فيما دلّ على حجّية مطلق الظنّ بعد انسداد باب العلم ، فيتفرّع ذلك على الأصل المذكور دون ما ذكر من قيام السيرة القاطعة والإجماع المعلوم على حجّية الظواهر ؛ فإنّ القدر الثابت من ذلك هو القسم الأوّل خاصّة ، كذا يستفاد ممّا ذكره بعض أفاضل العصر.

قلت : من الواضح المستبين أنّ علماء الأعصار في جميع الأمصار مع الاختلاف البيّن في آرائهم وطرائقهم والتفاوت الواضح في كيفيّة استنباطهم وسلايقهم اتّفقوا على الرجوع إلى الظواهر المأثورة ، والاستناد إلى ما يستفاد منها والأخذ بما تدلّ عليها وإن اختلفوا في تعيين الحجّة منها بحسب الإسناد ، وما يصلح من تلك الجهة للاعتماد.

نعم ربّما وقع خلاف ضعيف لبعض متأخّري الأخباريّين في الظواهر القرآنية لامور اتّضح فسادها في محلّه.

٢٠٧

وقد اعترف بذلك الفاضل المذكور بالنسبة إلى الكتاب ، نظرا إلى أنّ الظاهر أنّ الله تعالى يريد من جميع الامّة فهمه والتدبّر فيه والعمل به ، وقال : إنّ ذلك طريقة أهل العرف في تأليف الكتب وإرسال المكاتيب والرسائل إلى البلاد النائية ، ومن البيّن أنّ هذا الوجه بعينه جار في سائر الروايات والأخبار الواردة بعد فرض حجّيتها ووجوب العمل بمضمونها ؛ إذ هو الطريق في استنباط المطالب من الألفاظ.

وبالجملة : أنّ جواز العمل بالظواهر اللفظية ممّا قام عليه إجماع الفرقة من قدمائها ومتأخّريها ومجتهدها وأخباريها ، بل الظاهر إجماع الامّة عليه على مذاهبها المتشعّبة وآرائها المتفرّقة ، وقد حكى الإجماع عليه جماعة من الأجلّة حتى أنّه قد صار عندهم من المشهورات المسلّمات حجّية الظنّ في الموضوعات ، يعنون بها الموضوعات اللفظيّة ، إذ سائر الموضوعات يعتبر فيها القطع أو الأخذ بالطرق الخاصّة المقرّرة في الشريعة.

فما ادّعاه الفاضل المذكور من الفرق بين الصورتين وقصره مورد الإجماع على الأوّل من الوجهين المذكورين بيّن الفساد (١).

نعم ، غاية الأمر المناقشة في إجراء الوجه المتقدّم في الأخير ، إذ قد يتأمّل في جريان طريقة أهل اللسان عليه ؛ إذ القدر الثابت من طريقتهم جريان ذلك بالنسبة إلى المتخاطبين دون غيرهما إذ المدار في التفهيم والتفهّم على فهمهما.

وأمّا ما ذكرناه من الإجماع فهو جار في المقام قطعا ، فليس حجّية الظنّ المذكور محلّ كلام أصلا بل هو من الظنون الخاصّة الّتي دلّ على حجّيتها إجماع الامّة.

على أنّه لا يبعد القول بجريان طريقة الناس في العادات على ذلك أيضا ،

__________________

(١) ومن الغريب ما صدر عن الفاضل المذكور من حمل الموضوعات هنا على موضوعات الأحكام سواء كانت من الألفاظ أو غيرها ، فجعل حجّية الظنّ فيها موردا للإجماع إلّا أنّه قصر الحكم بحجّية الظنّ المتعلّق للموضوعات اللفظية على الظنّ الحاصل للمخاطبين ، وقد عرفت وهن كلّ من إطلاقه وتقييده. (منه رحمه‌الله).

٢٠٨

كما يظهر من ملاحظة تفاسيرهم للأشعار والعبارات المنقولة عن السلف ، وكذا الحال في المكاتيب المرسومة والوصايا المكتوبة في الدفاتر ونحوها وإن كان المخاطب بها خصوص بعض الأشخاص ، فإنّهم لا زالوا يفسرونها على مقتضى قانون اللغة وقواعد العربية ويحكمون بإرادة ما يظهر منها بمقتضى الاصول المقرّرة.

وبالجملة : لا نجد منهم فرقا بين المتخاطبين وغيرهما في حمل العبائر على ظواهرها وإجراء أحكامها عليها ، بل نجدهم مطبقين على الحكم بها من غير فرق بين المقامين ، وقد أشار غير واحد منهم إليه ونبّه على جريان الطريقة عليه.

بقي الكلام في أنّ الأصل المذكور هل يناط بوضع اللفظ فلا نخرج عن مقتضاه إلّا بعد قيام الدليل على الخروج عنه ، أو أنّه إنّما يدور مدار الظنّ فلا يصحّ البناء عليه بعد انتفاء المظنّة بالمراد ولو من غير حجّة شرعيّة صالحة للاعتماد؟ كما إذا عارض القياس أو الاستحسان إطلاق الخبر الصحيح وقضى الظنّ الحاصل من ذلك بانتفاء الظنّ بإرادة الظاهر من العبارة ، فحصل الشكّ بعد تصادمهما أو غلب الظنّ الحاصل من الجهة الاخرى.

وكذا الحال ما لو دلّ خبر ضعيف على تخصيص العامّ وحصل الشكّ في صدق الخبر وكذبه ، فإنّ الشكّ في ذلك قاض بالشكّ في البناء على العامّ.

بل وكذا ما لو شكّ في ورود مخصّص للعامّ لم يصل الينا [كما](١) إذا كان هناك من الشواهد ما يقضي بالشكّ المذكور فيتساوى احتمال وجوده وعدمه.

وبالجملة : أنّه لا يبنى على حمل اللفظ على ما يقتضيه الوضع إلّا مع حصول الظنّ بإرادة الموضوع له وانتفاء ما يقضي بالشكّ في إرادته ، نظرا إلى أنّ الحجّة في المقام هو الظنّ الحاصل من ذلك فإذا فرض انتفاء المظنّة لم ينهض حجّة ، فالامور المذكورة وإن لم تكن حجّة إلّا أنّها مانعة عن الاستناد إلى الحجّة مسقطة لها عن الحجّية.

وقد نبّه على ذلك بعض أفاضل المتأخّرين حيث قال : إنّ أصالة الحقيقة لم

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المطبوع (١).

٢٠٩

يثبت دليل على اعتبارها ولو مع انتفاء المظنّة ؛ لأنّ القدر الثابت هو حجّية ما هو ظاهر مظنون بالنسبة إلى العالم بالاصطلاح وأمّا أزيد منه فلم يثبت ، فظاهر كلامه المنع من الحجية مع انتفاء المظنّة.

والظاهر من جماعة من الأصحاب البناء على الأصل المذكور مطلقا إلى أن يقوم دليل على خلافه ، كما يظهر من ملاحظة كلماتهم في طيّ المسائل. وفي كلام بعض الأفاضل أنّ التحقيق القول بلزوم العمل بظواهر الألفاظ إذا حصل الظنّ منها بالواقع وبإرادة المتكلّم منها ظواهرها ، وأمّا مع الشكّ في ذلك فلا يجوز التعويل عليها إلّا أن يقوم دليل على لزوم العمل بها من باب التعبّد ، والقدر الثابت هو ما إذا عارضها ما يوجب الشكّ أو الظنّ بخلافها ممّا لم يقم دليل من الشرع على حجّيته.

والحاصل أنّ الأصل المنع من العمل بها بدون الظنّ إلّا أن يقوم دليل على لزوم العمل من باب التعبّد ، فيقتصر على مورد الدليل.

قلت : والذي يقتضيه التحقيق في المقام : أن يقال بالفرق بين ما يكون باعثا على الخروج عن الظاهر بعد حصول الدلالة بحسب العرف وانصراف اللفظ إليه في متفاهم الناس، وما يكون مانعا من دلالة العبارة بملاحظة العرف وباعثا على عدم انصراف اللفظ إليه بحسب المتعارف في المخاطبة وإن لم يكن ظاهرا في خلافه صارفا إليه عن ظاهره ، وقد ينزّل عليه ما حكيناه عن بعض أفاضل المتأخّرين من المنع عن الأخذ بالأصل المذكور إلّا مع الظنّ بمقتضاه.

وما حكيناه عن الجماعة من البناء على الأخذ به إلّا مع قيام الدليل على خلافه ولو فرض إجراؤهم له في غير المحلّ المذكور فهو من الاشتباه في مورده ، كما يتّفق كثيرا في سائر الموارد من نظائره ، وفي طيّ كلمات الأصحاب شواهد على التنزيل المذكور فيرتفع الخلاف في المعنى.

وكيف كان ، ففي الصورة الاولى يصحّ الاستناد إلى ظاهر العبارة حتّى يثبت المخرج ، ومجرّد الشكّ في حصوله أو الظنّ الغير المعتبر لا يكفي فيه ، فلو شكّ في ورود مخصّص على العامّ أو ظنّ حصوله من غير طريق شرعيّ وجب البناء على

٢١٠

العامّ ، ويدلّ عليه عمل العلماء خلفا عن سلف بالعمومات وسائر الظواهر على النحو المذكور حتّى يثبت المخرج بطريق شرعيّ ، كيف! ومن المسلّمات بينهم حجّية استصحاب العموم حتّى يثبت التخصيص واستصحاب الظاهر حتّى يثبت التأويل ولم يخالف فيه أحد من القائلين بحجّية الاستصحاب في الأحكام والمنكرين له ، وقد حكوا الإجماع عليه من الكلّ كما سيجيء الإشارة إليه في محلّه إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّه بعد قيام الحجّة ودلالتها على شيء لا بدّ من الأخذ بمقتضاها والوقوف عليها حتّى تقوم حجّة اخرى قاضية بالخروج عن ظاهرها وترك ما يستفاد منها ، والظاهر أنّ ذلك طريقة جارية بالنسبة إلى التكاليف الصادرة في العادات من المولى لعبده والوالد لولده والحاكم لرعيّته وغيرهم ، بل وكذا الحال في غير التكاليف من سائر المخاطبات الواقعة بينهم.

وأمّا الثانية فلا يتّجه فيها الاستناد إلى ظاهر الوضع ، أو الحجّة في المخاطبات العرفية إنّما هي ظاهر العبارة على حسب المفهوم في العرف والعادة ، فإذا قام هناك ما يرجّح الحمل على المجاز لا بأن يرجّحه على الحقيقة ، بل بأن يجعل ذلك مساويا للظهور الحاصل في جانب الحقيقة لم يحصل التفاهم بحسب العرف ؛ لتعادل الاحتمالين وإن كان الظهور الحاصل في أحدهما وضعيّا وفي الآخر عارضيّا فيلزم التوقف عن الحكم بأحدهما حتى ينهض شاهد آخر يرجّح الحمل على أحد الوجهين ؛ إذ ليس انفهام المعنى من اللفظ مبنيّا على التعبّد وإنّما هو من جهة حصول الظهور والدلالة العرفيّة على المراد والمفروض انتفاؤها في المقام.

ومن هنا ذهب جماعة إلى التوقّف في المجاز المشهور ، فلا يحمل اللفظ عندهم على خصوص الحقيقة أو المجاز إلّا بعد قيام القرينة على إرادة أحد المعنيين ، منهم المصنّف رحمه‌الله في ظاهر كلامه في الكتاب كما سيجيء إن شاء الله.

وقد خالف فيه جماعة فرجّحوا الحمل على الحقيقة ، وآخرون فحملوه مع الإطلاق على المجاز.

٢١١

والأظهر بمقتضى ما بيّناه التفصيل والقول بكلّ من الأقوال المذكورة بحسب اختلاف مراتب الشهرة ، فإن لم تكن بالغة إلى حدّ يعادل الظهور الحاصل من ملاحظتها ظهور الحقيقة تعيّن الحمل على الحقيقة ، وإلّا فإن كان معادلا للحقيقة في الرجحان لزم الوقف فلا يحمل اللفظ على أحد المعنيين إلّا لقرينة دالّة عليه ، وإن كانت ملاحظة الاشتهار مرجّحة للحمل على المجاز بأن كان الظهور الحاصل منها غالبا على الظهور الحاصل من الوضع كان المتعيّن حمله على المجاز.

ويجري ما ذكرناه من التفصيل بالنسبة إلى سائر القرائن القائمة في المقام ممّا تنضمّ إلى ظاهر الكلام ، فإنّها قد تقرّب المعنى المجازي إلى الفهم من غير أن يبلغ به في الظهور إلى درجة الحقيقة ، فيتعيّن معها الحمل على الحقيقة أيضا وإن ضعف بها الظهور الحاصل قبلها ، أو تجعله مساويا لإرادة الحقيقة أو غالبا عليها فيتوقّف في الأوّل ولا يحمل اللفظ على الحقيقة مع عدم كون القرينة صارفة عنها إلى غيرها ، وإن صرفته عن الحمل عليها وجعلت إرادة المجاز مكافئة لإرادتها فدار الأمر بين إرادته وإرادتها ويتعيّن حمله على المجاز في الأخير ؛ لبناء المخاطبات على الظنون الحاصلة من العبارات سواء كانت حاصلة بملاحظة الأوضاع أو إنضمام القرائن على اختلاف مراتبها في الوضوح والخفاء ، إذ لا يعتبر في القرينة أن تكون مقيّدة للقطع بالمراد.

فظهر بما قرّرناه أنّه لا وجه لاعتبار حصول الظنّ بالفعل بما هو مقصود المتكلّم في الواقع ولا الالتزام بالخروج عن مقتضى قاعدة عدم حجّية الألفاظ مع عدم ظهورها في المقصود ودلالتها عليه دلالة ظنّية لوجود ما يعارضها ؛ نظرا إلى وجود الدليل على لزوم الأخذ بها في بعض المقامات مع انتفاء الظنّ أيضا حسب ما قدّمناه حكايته عن الفاضل المذكور ، بل قد عرفت أنّ الأصل المذكور معوّل عليه في الصورة الاولى مطلقا ولا معوّل عليه في الثانية مطلقا من غير حاجة إلى التزام الخروج عن الأصلين في شيء من المقامين.

هذا كلّه مع العلم بوجود الشواهد المفروضة المقارنة لتأدية العبارة أو العلم

٢١٢

بانتفائها أو الظنّ بأحد الجانبين ، أمّا لو لم يعلم بمقارنة القرائن ولا بعدمها واحتمل وجودها بحسب الواقع ولم يحصل مظنّة بأحد الجانبين فهل يحكم بأصالة الحمل على ظاهر اللفظ من دون ظنّ بالمراد وبما هو مدلول العبارة بحسب الواقع أو لا بدّ من التوقّف لعدم العلم أو الظنّ بانفهام المعنى المفروض من العبارة حين التأدية وبدلالتها عليه بحسب العادة حتّى يستصحب البناء عليه كما في الفرض المتقدّم؟ وجهان ، أوجههما الأوّل ؛ أخذا بظاهر اللفظ مع عدم ثبوت ما يوجب العدول عنه أو الشكّ فيه ، والظاهر جريان الطريقة المتداولة في الأحكام العادية والبناء في فهم المخاطبات الجارية بين الناس ، كالخطاب الواصل من الموالي إلى العبيد والحكّام إلى الرعيّة على ذلك وهو الطريقة الجارية في العمل بالروايات الواردة من غير أن يجعل احتمال مقارنتها لما يوجب الصرف عن ظواهرها باعثا على التوقّف عن العمل بها.

فصار المتحصّل من الأصل هو الأخذ بظاهر اللفظ ملحوظا مع القرائن والأمارات المنضمّة إليه عند من يرد الخطاب عليه من غير التفات إلى احتمال حصول ما يوجب الخروج عنه من القرائن المتأخّرة أو المقارنة الصارفة عن الظنّ. فتأمّل.

التاسعة

لمعرفة كلّ من الحقيقة والمجاز طرق عديدة :

أحدها : تنصيص الواضع بالوضع أو بلوازمه أو بنفيه أو نفي لوازمه.

ثانيها : النقل المتواتر وما بمنزلته من التسامع والتظافر أو الآحاد ، وحجّية الأوّل ظاهرة ، إلّا أنّه قد يناقش في وجوده ويدفعه : ملاحظة الوجدان.

ويدلّ على حجّية الثاني عموم البلوى باستعلام اللغات وعدم حصول الغنى عنها مع انسداد طريق القطع في كثير منها ، فلا مناص عن الأخذ بالظنّ فيها ، وجريان الطريقة من الأوائل والأواخر على الاعتماد على نقل النقلة والرجوع

٢١٣

إلى الكتب [المعتمدة](١) المعدّة لذلك من غير نكير فكان إجماعا من الكلّ.

والقول بعدم إفادة كلامهم للظنّ ـ لاحتمال ابتنائه على بعض الاصول الفاسدة كالقياس في اللغة أو لعدم التحرّج عن الكذب لبعض الأغراض الباطلة مع انتفاء العدالة عنهم في الغالب وفساد مذهب أكثرهم ـ فاسد ؛ بشهادة الوجدان والدواعي على التحرّج عن الكذب قائمة غالبا سيّما في الكتب المتداولة لو لا قيام الدواعي الإلهيّة. نعم ، لو فرض عدم إفادته للظنّ لقيام بعض الشواهد على خلافه فلا معوّل عليه.

وربّما يناقش في حجّية الظنّ في المقام لأصالة عدمها وعدم وضوح شمول أدلّة خبر الواحد لمثله.

وضعفه ظاهر ممّا عرفت ، مضافا إلى أنّ حجّية أخبار الآحاد في الأحكام مع ما فيها من وجوه الاختلال وشدّة الاهتمام في معرفتها يشير إلى حجّيتها في الأوضاع بطريق أولى.

وثالثها : الاستقراء وهو تتبّع موارد الاستعمالات كما في استنباط الأوضاع النوعيّة والقواعد الكلّية الوضعيّة كأوضاع المشتقات ، وما قرّروه من رفع الفاعل ونصب المفعول ونحوها ؛ فإنّ تلك الأوضاع والقواعد إنّما تستنبط من تتبّع الموارد ، والطريق إلى معرفتها منحصر في ذلك في الغالب وعليه جرت طريقة علماء الأدب في معرفة ما قرّروه من قواعد العربية وما بيّنوه من الأوضاع الكلّية.

وأمّا الأوضاع الشخصيّة فيمكن استفادتها من ذلك أيضا بملاحظة موارد إطلاقات اللفظ وإطلاقه على جزئيّات ما وضع له لو كان كلّيا ونحو ذلك ، كما احتجّوا به في إثبات الحقائق الشرعيّة.

ثمّ الاستقراء إن كان مفيدا للقطع كما في الحكم برفع الفاعل ونصب المفعول فلا كلام، وإن كان مفيدا للظنّ فكذلك أيضا ؛ لما دلّ على حجّية الظنّ في مباحث الألفاظ وإطباق أهل الأدب عليه من غير نكير كما ينادي به ملاحظة كلماتهم.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المطبوع (١).

٢١٤

ورابعها : الترديد بالقرائن وملاحظة مواقع الاستعمال ، وهو طريقة معروفة في الأوضاع كما في الأطفال يتعلّمون اللغات والجاهلين بالأوضاع يتعلّمونها عن أربابها ، وهو أيضا قد يفيد القطع وقد يفيد الظنّ ، ويمكن إدراج بعض صورة في الاستقراء. وقد يجعل الاستناد في بعضها إلى الوجه الآتي ، إلّا أنّ الظاهر أنّ في الترديد بالقرائن زيادة دلالة على الوضع بالنظر إلى ما سنذكره من الأصل ، فهو وجه آخر يغاير الوجوه المذكورة.

خامسها : أصالة الحقيقة فيما إذا استعمل اللفظ في معنى مخصوص ولم يعلم كونه موضوعا بإزائه أو مستعملا فيه على سبيل المجاز على المعروف من المذهب مع اتّحاد المستعمل فيه أو تعدّده والعلم بكونه مجازا في غيره ، بل ظاهر الاصوليّين الإطباق على الحكم بدلالته على الحقيقة ، وإنّما اختلفوا فيما إذا تعدّد المستعمل فيه.

وقد ذهب السيّدان رحمهما‌الله وغيرهما من المتقدّمين إلى جريان الأصل المذكور في ذلك أيضا ، ولذا اشتهر عنهم تقديم الاشتراك على المجاز كلّما دار الأمر بينهما بعد ورود الاستعمال في المعنيين ، وجروا على ذلك في إثبات ما يدعونه من الاشتراك في المباحث الآتية.

والمشهور تقديم المجاز عليه ؛ ولذا قالوا : «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة» يعنون به مع تعدّد المعنى ، فلا يتوهّم منافاة بينه وبين الأصل المذكور ، فهناك موردان لإجراء أصل الحقيقة :

أحدهما : فيما إذا علم الموضوع له وشكّ في المعنى المراد.

وثانيهما : إذا علم المستعمل فيه وشكّ في الموضوع له مع اتّحاد ما استعمل اللفظ فيه ممّا يحتمل تعلّق الوضع به ، ومورد للحكم بكون الاستعمال أعمّ من الحقيقة وهو ما إذا تعدّد المستعمل فيه الّذي يحتمل الوضع له.

وقد خالف فيه الجماعة المذكورة فحكموا هناك أيضا بأصالة الحقيقة فهم ينكرون القاعدة الأخيرة ولا يقولون بها في شيء من المقامات ، وقد مرّ الكلام

٢١٥

في إجراء الأصل المذكور في الصورة الاولى وهي ليست من مورد البحث في المقام ، إذ ليس فيها استعلام الوضع من الاستعمال بل بالعكس ، فالكلام إنّما هو في الصورتين الأخيرتين.

ولنوضّح القول فيهما في مقامين :

الأوّل : في دلالة الاستعمال على الحقيقة مع اتّحاد المعنى ولا كلام ظاهرا في تحقّق الدلالة المذكورة في الجملة ، وقد حكى الإجماع عليه جماعة من الأجلّة منهم العلّامة في النهاية ، وقد يستفاد من كلام السيّد في الذريعة أيضا كما سيأتي الإشارة إليه.

ويدلّ عليه بعد ذلك جريان طريقة أئمّة اللغة ونقلة المعاني اللغوية على ذلك.

فعن ابن عبّاس الاستناد في معنى «الفاطر» إلى مجرد الاستعمال. وكذا عن الأصمعي في معنى «الدهاق». وكذا الحال فيمن عداهم فإنّهم لا زالوا يستشهدون في إثباتها إلى مجرّد الاستعمالات الواردة في الأشعار وكلمات العرب ويثبتون المعاني اللغوية بذلك، ولا زال ذلك ديدنا لهم من قدمائهم إلى متأخّريهم كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بطريقتهم.

وأنّ ظاهر الاستعمال قاض بارادة الموضوع له بعد تعيّنه والشكّ في إرادته بغير خلاف فيه كما مرّت الإشارة إليه ، وذلك قاض بجريان الظهور المذكور في المقام ؛ إذ لا فرق في ذلك بين العلم بالموضوع له والجهل بالمراد أو العلم بالمراد والجهل بما وضع له لاتّحاد المناط في المقامين ، وهو استظهار أن يراد من اللفظ ما وضع بإزائه من غير أن يتعدّى في اللفظ عن مقتضى وضعه إلّا أن يقوم دليل عليه.

مضافا إلى ما في المجاز من كثرة المؤن لتوقّفه على الوضع والعلاقة والقرينة الصارفة والمعيّنة ، بل ويتوقّف على الحقيقة على ما هو الغالب وإن لم يستلزمه على التحقيق.

فإن قلت : إنّ مجرّد وجدان اللفظ مستعملا في معنى كيف يدلّ على كونه

٢١٦

حقيقة فيه مع احتمال كونه مستعملا في معاني عديدة غير المعنى المفروض؟ ومجرّد أصالة العدم لا يفيد ظنّا به ، وليس الأمر في المقام مبنيّا على التعبّد ليؤخذ فيه بمجرّد الأصل.

قلت : فيه ـ بعد ما عرفت من الوجه في ظهور الاستعمال في الحقيقة القاضي بكون المستعمل فيه معنى حقيقيّا حتّى يتبيّن أنّ هناك معنى آخر استعمل اللفظ فيه ـ أنّه ليس المراد هو الحكم بالحقيقة بمجرّد ما يرى في بادئ الرأي من استعمال اللفظ في معنى مخصوص من دون خبرة بسائر استعمالاته ، بل المقصود هو الحكم بها بعد ملاحظة إستعمالاته المعروفة وانحصار الأمر فيما يحتمل الوضع له من مستعملاته لو فرض استعماله في غيره أيضا في المعنى المفروض ؛ لبعد وجود معنى آخر غيره يكون اللفظ موضوعا بإزائه ممّا لا يوجد في الاستعمالات المعروفة ولا يكون له عين ولا أثر في الإطلاقات المتداولة.

وبذلك يظهر وجه آخر في الحكم بكونه هو الموضوع له ، نظرا إلى دوران الحكم في إثبات الأوضاع مدار الظنّ ، وحصول الظنّ حينئذ بكونه هو الحقيقة ظاهر ممّا ذكرنا إذا لم يقم شيء من الشواهد على كونه مجازا فيه كما هو المفروض.

وقد ظهر ممّا قرّرناه وجه آخر في قولهم : «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة» بأن يكون المراد به أنّ مجرّد الاستعمال من دون ملاحظة كونه في معنى واحد أعمّ من الحقيقة. فتأمّل.

الثاني : في بيان الأصل فيما يتعدّد فيه المعنى مع قيام احتمال كونه حقيقة في الجميع أو فيما يزيد على المعنى الواحد ، والمشهور حينئذ كما عرفت عدم دلالة مجرّد الاستعمال على كونه حقيقة فيهما وهو الأظهر ؛ إذ القدر الثابت حينئذ هو تحقّق الوضع لواحد منهما فقضيّة الأصل حينئذ عدم تحقّق الوضع بالنسبة إلى ما عداه ، مضافا إلى أغلبية المجاز بالنسبة إلى الاشتراك وكونه أقلّ مؤنة منه ، وذهاب الجمهور إلى ترجيحه عليه فيغلب في الظنّ البناء عليه.

٢١٧

فإن قلت : أيّ فرق بين متعدّد المعنى ومتّحده في استظهار الحمل على الحقيقة؟ مع أنّ عمدة الوجوه المذكورة لرجحان الحمل على الحقيقة في متّحد المعنى جار في متعدّده أيضا ، فإنّ استظهار استعمال اللفظ فيما وضع له وعدم خروج المستعمل عن مقتضى الوضع إلّا أن يقوم دليل عليه ممّا لا يفرّق فيه بين متّحد المعنى والمتعدّد ، وكذا كثرة المؤن وقلّتها جار في المقام ؛ لعدم احتياج المشترك إلّا إلى وضع وقرينة ، بخلاف المجاز لاحتياجه إلى وضع وعلاقة وملاحظة للعلاقة المجوّزة للاستعمال وقرينة صارفة وقرينة معيّنة.

وكذا الحال في جريان الطريقة على إثبات الأوضاع بالاستعمالات ، فإنّهم يستندون إليها في إثبات المعاني المتعدّدة على نحو غيرها من غير فرق بين المقامين.

قلت : جريان الوجوه المذكورة في متعدّد المعنى ممنوع ؛ إذ استظهار كون المستعمل فيه ممّا وضع اللفظ له مع تعدّد ما استعمل اللفظ فيه غير ظاهر ، بل الاستعمال كما عرفت أعمّ من الحقيقة وإنّما يسلّم ذلك مع اتّحاد المستعمل فيه كما مرّ.

وظهور الاستعمال في إرادة الموضوع له مع العلم بالموضوع له والجهل بالمراد واحدا كان الموضوع له أو متعدّدا لا يقضي بظهوره فيها مع الجهل بالموضوع له ، واحدا كان المستعمل فيه أو متعدّدا ؛ إذ لا مانع من مرجوحية الاشتراك بالنسبة إلى المجاز في نفسه ورجحان إرادة أحد المعاني المشتركة بالنسبة إلى [المعنى](١) المجازي بعد تحقّق الاشتراك ، فإنّ ثبوت الوضع المتعدّد إذا كان مرجوحا في نفسه لا ينافي رجحان إرادة الموضوع له بعد ثبوت ما يخالف الظاهر من التعدّد ؛ ولذا اتّفقوا على رجحان الأخير مع أنّ المشهور مرجوحيّة الأوّل ولا يجري ذلك في متّحد المعنى ؛ ضرورة لزوم تحقّق وضع ذلك اللفظ لمعنى في الجملة ، نظرا إلى توقّف كلّ من الحقيقة والمجاز عليه ، فيستظهر

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المطبوع (١).

٢١٨

إذن من الاستعمال فيه كون ذلك هو الموضوع له ، فتعيين الموضوع له بالاستعمال بعد العلم به إجمالا غير إثبات الموضوع له مع عدم العلم بتعدّد الوضع لا إجمالا ولا تفصيلا كما هو المفروض في المقام ، فيكون ظاهر الاستعمال هناك شاهدا على تعيين الموضوع له بعد تحقّق حصول الوضع ، وأين ذلك من إثبات أصل الوضع به مع قضاء الأصل عدمه؟

ودعوى ظهور عدم خروج المستعمل عن مقتضى الوضع لو سلّم حصوله فليس بمثابة يمكن أن يخالف الأصل من جهته ويحكم بحدوث حادث جديد لأجله ، مع ما في الاشتراك من مخالفة الظاهر لوجوه شتى.

نعم ، لو علمنا تعدّد الموضوع له إجمالا في خصوص بعض الألفاظ ووجدناه مستعملا في معنيين لا غير أمكن إثبات تعلّق الوضع بهما واشتراكه بينهما ، نظرا إلى ما ذكرناه فيثبت بذلك وضعه لهما ، وليس في كلام الجماعة ما ينافي ذلك فهو الموافق لما ذكرناه دون ما هو المفروض في محلّ البحث.

ثمّ إن دعوى قلّة المؤن في الاشتراك ممنوعة ، بل الظاهر العكس ؛ لافتقاره إلى وضع ثان وملاحظة له حال الاستعمال وقرينتين بالنظر إلى استعماله في كلّ من المعنيين ، بخلاف المجاز ؛ إذ لا يفتقر إلّا إلى ملاحظة العلاقة المسوّغة للاستعمال وقرينة مفهمة له ، إذ الغالب اتّحاد القرينة الصارفة والمعيّنة ، وأمّا الوضع الترخيصي والعلاقة فالمفروض (١) حصولهما على كلّ حال.

مضافا إلى ما في الاشتراك من الإخلال بالتفاهم الذي هو الحكمة في الوضع ، بخلاف المجاز.

وما ذكر من استناد أهل اللغة في إثبات تعدّد الأوضاع إلى مجرّد الاستعمالات الواردة عن العرب غير ظاهر.

وما يتراءى من استنادهم إلى بعض الإطلاقات لا يفيد تعويلهم على مجرّد

__________________

(١) إذ بعد وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز يجوز استعماله فيه مجازا بملاحظة علاقته للمعنى الآخر ، سواء قلنا بثبوت وضعه له ليجوز استعماله فيه على سبيل الحقيقة أيضا أولا. (منه رحمه‌الله).

٢١٩

الاستعمال ، فقد يكون الملحوظ هناك تبادر ذلك المعنى من كلامهم أو الرجوع إلى غيره من علائم الحقيقة ، كيف والبناء على أصالة الحقيقة مطلقا ليس معروفا بين أهل اللغة ولا منقولا عنهم في الكتب الاصوليّة!.

وقد ظهر بما ذكرنا ما قد يستدلّ به للقائل بأصالة الحقيقة في المتعدّد أيضا ، والوجه في تضعيفه ، إلّا أنّه لا ثمرة بين القولين إلّا في بعض الصور.

وتوضيح المرام : أنّه مع استعمال اللفظ في المعنيين إمّا أن يقوم بعض أمارات الحقيقة على وضعه لكلّ منهما أو بعض علائم المجاز على عدم تحقّق الوضع لشيء منهما ، أو تقوم الأمارة على كونه حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ، أو تقوم أمارة المجاز في أحدهما من غير قيام أمارة الحقيقة أو المجاز بالنسبة إلى الآخر ، أو تقوم أمارة الحقيقة في أحدهما كذلك ، أو لا يقوم شيء من الأمارتين على شيء من الأمرين.

فعلى الثلاثة الاول لا كلام وكذا على الرابع ، لخروجه أيضا عن محلّ الكلام ؛ لكونه من متّحد المعنى كما عرفت.

وعلى الخامس يحكم بالتجوّز في الآخر ، لأصالة انتفاء الوضع فيه وأغلبيّة المجاز وقلّة مؤنته وغير ذلك ممّا مرّ.

والثمرة بين القولين هنا ظاهرة وربّما يتوهّم خروجه عن محلّ البحث وهو ضعيف ؛ لإطلاق القائلين بالبناء على الحقيقة من غير إشارة إلى التفصيل.

وعلى السادس قد عرفت الحال فيه إلّا أنّه لا يتفرّع هنا ثمرة على القولين ، لوجوب التوقّف في فهم المراد مع انتفاء القرينة على الوجهين وتوقّف حمله على أحدهما على قيام القرينة في كلّ من المذهبين.

هذا ، وقد يحكى قولان آخران في المقام :

أحدهما : القول بتقديم المجاز على الحقيقة وظهور الاستعمال في المجاز في متّحد المعنى ومتعدّده ، فقد عزي إلى بعض المتأخّرين الميل إليه ، لما حكي عن ابن جنّي من غلبة المجاز على الحقيقة وأنّ أكثر اللغة مجازات ، فالظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

٢٢٠