هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

معالم الدين :

فصل

واعلم : أنّ لبعض العلوم تقدّما على بعض ، إمّا لتقدّم موضوعه ، أو لتقدّم غايته ، أو لاشتماله على مبادي العلوم المتأخّرة ، أو لغير ذلك من الامور التي ليس هذا موضع ذكرها.

ومرتبة هذا العلم متأخرة عن غيره ، بالاعتبار الثالث ؛ لافتقاره إلى سائر العلوم واستغنائها عنه.

أمّا تأخّره عن علم الكلام ، فلأنّه يبحث في هذا العلم عن كيفيّة التكليف ، وذلك مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلّف.

وأمّا تأخّره عن علم اصول الفقه ، فظاهر ، لأنّ هذا العلم ليس ضروريّا ، بل هو محتاج الى الاستدلال ، وعلم اصول الفقه متضمّن لبيان كيفيّة الاستدلال.

ومن هذا يظهر وجه تأخّره عن علم المنطق أيضا ، لكونه متكفّلا ببيان صحّة الطرق وفسادها.

وأمّا تأخّره عن علم اللّغة والنحو والتصريف ، فلأنّ من مبادي هذا العلم الكتاب والسنّة ، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر. فهذه هي العلوم التي يجب تقدّم معرفتها عليه في الجملة. ولبيان مقدار الحاجة منها محلّ آخر.

١٠١

قوله : (واعلم أنّ لبعض العلوم تقدّما على بعض ... الخ)

لا يخفى أنّ العلوم المدوّنة لها مراتب مختلفة في التقديم والتأخير بحسب الشرافة وبحسب التعليم.

أمّا الأوّل فيختلف الحال بحسب اختلاف الموضوعات في الشرافة واختلاف الغايات في ذلك وفي شدّة الاهتمام ، كما في علم الإلهي وعلم الفقه بالنسبة إلى ما عداهما من العلوم.

وأمّا الثاني فقد يكون التقديم والتأخير فيه استحسانيّا ، وقد يكون من جهة توقّف العلم المتأخّر عليه.

أمّا الأوّل فمن وجوه :

منها : أن يكون أحد العلمين سهل التناول بيّنة المقدّمات دون الآخر ، فيناسب تقديمه في التعليم لسهولة تحصيله على المتعلّم ، فإذا قوي استعداده للعلوم وحصل له ملكة في الإدراكات سهل عليه الاشتغال بالآخر.

ومنها : أن يكون أدلّة العلم المتقدّم أحكم من غيره وأبعد عن حصول الخطأ ، فيقدّم في التعليم حتّى يتعوّد المتعلم على عدم الإذعان بالمطالب إلّا بعد وضوح البرهان والوصول إلى كمال الإيقان ، فلا يعتقد الحكم بأدنى شاهد أو استحسان يشبه البرهان ، لأداء ذلك غالبا إلى اعتقاد ما يخالف الواقع. وهاتان الجهتان حاصلتان في تقديم العلوم الرياضيّة على سائر فنون الحكمة ، كما كان متداولا في تعاليم الفلاسفة.

ومنها : أن يكون موضوع أحد العلمين متقدما بحسب الرتبة على موضوع العلم المتأخّر ، كعلم النحو الباحث عن أحوال الكلام من حيث صحّة التركيب وسقمه بالنسبة إلى علوم البلاغة الباحثة عن محسّناته ، فإنّ الحيثية الاولى متقدّمة في الرتبة على الأخيرة.

ومنها : أن يتقدّم غايته على غاية العلم الآخر كذلك ، كما في المثال المفروض ، فإنّ المقصود من النحو حفظ اللسان عن الغلط في البيان ، ومن علوم البلاغة أداء

١٠٢

الكلام جامعا للمحسنات على مقتضى الحال ، ومن البيّن تقدّم الغاية الاولى على الأخيرة.

وأمّا الثاني فإنّما يكون مع اشتمال أحد العلمين على مبادئ الآخر ، فيتوقّف التصديق بمسائله عليه ، وذلك قد يكون من جهة اشتمال أحدهما على إثبات الموضوع للآخر كما في تقدّم العلم الإلهي على الطبيعي والرياضي ، وقد يكون لاشتماله على إثبات مواد المقدّمات المأخوذة في أقيسة العلم الآخر كما في تقدّم الاصول على الفقه ، وقد يكون من جهة تكفّله لبيان كيفيّة النظر والاستدلال وإثبات انتاج صور الأقيسة المأخوذة في العلوم كما في المنطق بالنسبة إلى ما عداها من العلوم.

هذا ، ولا يذهب عليك أنّ التقدّم في التعليم من الجهات الأخيرة وإن كان لازما ؛ لتوقّف التصديق لمسائل العلم الآخر عليه ، إلّا أنّه قد يكون هناك جهة اخرى تمنع من التقديم وحينئذ فإمّا أن يبيّن ما يتوقّف عليه ذلك العلم من مطالب العلم الآخر في مقدّماته ، أو يؤخذ فيه على سبيل التسليم أو حسن الظنّ بالاستاذ إلى أن يتبيّن في العلم المتأخّر ، وقد يعبّر عنه بالاصول الموضوعة.

ثمّ إنّه لمّا كان بيان مرتبة العلم من المطالب التي تذكر في المقدّمة أراد المصنّف رحمه‌الله بذلك الإشارة إلى بيانه ، وأشار بعد ذلك إلى مبادئه من سائر العلوم.

قوله : (ومرتبة هذا العلم متأخّرة عن غيره بالاعتبار الثالث).

وعن بعض النسخ «بالاعتبارات الثلاثة» وهو لا يناسب التعليل ، إذ هو إنّما يفيد تأخّره بالوجه الأخير ، ومع ذلك فالوجه في تأخّره بالوجوه الثلاثة عن جميع العلوم المذكورة غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه. وقد يوجّه ذلك بجعل الاعتبارات الثلاثة وجها في تأخّره عن مجموع العلوم المذكورة وإن لم يجر الكلّ في كلّ منها. وقد يتعسّف في إجراء الجميع في الجميع ببعض التوجيهات البعيدة ولا داعي إليه.

قوله : (فهذه هي العلوم الّتي يجب تقدّم معرفتها ... الخ)

أشار بذلك إلى كون العلوم المذكورة مبادئ للفقه كما نصّ عليه جماعة منهم.

١٠٣

وربّما زاد على ذلك بعض علوم اخر ، وسيجيء تفصيل الكلام فيه في مباحث الاجتهاد إن شاء الله.

هذا ، ولا يذهب عليك أنّ القدر الذي يتوقّف عليه الفقه من علم الكلام هو ما يتحقّق به الإسلام والإيمان ، ومن البيّن أنّ ذلك لا يتوقّف على علم الكلام وإن كانت المطالب المذكورة من المطالب الكلاميّة ، إلّا أنّ العلم بها إن كان بالأدلّة الإجماليّة الإقناعيّة ـ على ما هو المتداول بين العوام ـ لم يعدّ من علم الكلام ؛ ولذا لا يعدّون العوام عارفين بشيء من الكلام. وكذا الكلام في المنطق وغيره ، إذ لو اخذت تلك المسائل على نحو الطرق المعروفة في تلك الصناعات صدق معه أسامي تلك العلوم ، وأمّا بدونه كالمسائل المعلومة منها بالفطرة على جهة الإجمال فلا. وحينئذ فعدّ جملة من الفنون المذكورة ممّا يتوقّف عليها الفقه ليس على ما ينبغي ، فتأمّل.

* * *

١٠٤

معالم الدين :

فصل

ولا بدّ لكلّ علم أن يكون باحثا عن امور لاحقة لغيرها. وتسمّى تلك الامور مسائله ، وذلك الغير موضوعه. ولا بدّ له من مقدّمات يتوقّف الاستدلال عليها ، ومن تصوّرات الموضوع وأجزائه وجزئياته. ويسمّى مجموع ذلك بالمبادي.

ولمّا كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة ، أعني : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة ، والحرمة ، وعن الصحّة والبطلان من حيث كونها عوارض لأفعال المكلّفين ، فلا جرم كان موضوعه هو أفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير. ومباديه ما يتوقّف عليه من المقدّمات ، كالكتاب والسنّة والاجماع ، ومن التصوّرات ، كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئياته ؛ ومسائله هي المطالب الجزئيّة المستدلّ عليها فيه.

١٠٥

قوله : (لا بدّ لكلّ علم أن يكون باحثا ... الخ)

لمّا جرت الطريقة على بيان أجزاء العلم في المقدّمة أراد المصنّف رحمه‌الله الإشارة إلى ذلك. وأجزاء العلوم على ما ذكروها ثلاثة : المسائل والموضوع والمبادئ ، كما سيجيء تفصيل الكلام فيها.

فإن قلت : إنّ أسامي العلوم إنّما وضعت لنفس المسائل أو العلم بها ، فكيف يجعل المسائل أحد أجزاء العلوم ويدرج الموضوع والمبادئ في أجزائها مع خروجها عن نفس المسائل والعلم بها؟

قلت : المراد بالعلم في المقام هو الفنّ الموضوع المشتمل على إثبات المطالب النظريّة المطلوب تحصيلها في الفنّ ، ومن البيّن أنّ الفنون الموضوعة لا يقتصر فيها على ذكر المطالب مجرّدة عن الدلائل ، إذ لا فائدة يعتدّ بها في ذلك ، فاندرجت المقدّمات التي يستدلّ بها على تلك المطالب في تلك الفنون والصناعات ، وكذا غيرها ممّا يتوقّف عليه التصديق بمسائلها ممّا يذكر في الفنّ ، فصارت أجزاء من الفنّ وإن كانت خارجة عن المسائل ، فظهر أنّ المراد بالعلوم في المقام غير ما وضعت تلك الأسامي بإزائها ، فهو إطلاق آخر مغاير لما ذكر.

قوله : (وتسمّى تلك الامور مسائله ... الخ)

حكى المحقّق الدواني في حواشيه على المطالع عن القيل تفسير المسائل بالمحمولات المثبتة بالدليل ؛ ولذا احتمل بعض الأفاضل تفسيرها بالمحمولات المنسوبة إلى الموضوعات ، وهو يوافق ما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وأنت خبير بأنّ المحمولات المنسوبة إلى موضوعاتها امور تصوّرية لا يتعلّق بها التصديق الذي يقصد من النظر في العلم ، بل هي من شرائط حصول التصديق كما أنّ تصوّر الموضوعات كذلك.

فالحقّ أنّ مسائل العلوم : هي المطالب التصديقيّة المثبتة فيها ، وهي المحمولات التصديقيّة التي يراد من وضع الفنّ حصول التصديق بها ، فمسائل الفنّ

١٠٦

هي ما يتعلّق به تلك التصديقات ، ومن البيّن أنّ المعلوم بالعلم التصديقيّ هي النسبة التامّة الخبريّة ، فيكون مسائل الفنون عبارة عن تلك النسب التامّة ، وهي المتعلّقة للتصديق بعد إقامة الأدلّة ، فتفسيرها بالمحمولات اللاحقة ممّا لا وجه له.

وقد يؤوّل بما يرجع إلى إرادة النسب التامّة ، وهو قريب جدّا ممّا حكاه المحقّق الدوّاني ، فإنّ المثبت بالدليل هي النسب التامّة ، فلا بدّ إذن من ملاحظة النسبة في المحمولات فالمراد نسب المحمولات المثبتة بالدليل فيرجع إلى ما قلناه ، وكأنّه مقصود الفاضل المذكور من تفسيرها بالمحمولات المنسوبة إلى موضوعاتها أي من حيث إنّها منسوبة إليها ، فيكون المراد نسبتها ، ويشير إلى حمل كلام المصنّف رحمه‌الله عليه تفسيره مسائل الفقه بالمطالب الجزئية المستدلّ عليها فيه ، ففيه شهادة على تسامحه في التعبير في المقام.

وفسّرها جماعة بالقضايا التي تطلب في العلم ، فتكون عبارة عن مجموع الموضوع والمحمول والنسب التامّة المذكورة.

وفيه ما عرفت ، إذ المقصود من إقامة الأدلّة في الفنّ إنّما هو التصديق بالنسب التامّة ، فالمناسب بل المتعيّن أن يجعل المسائل عبارة عنها ، ويضعّفه أيضا أنّهم عدّوا كلّا من الموضوع والمسائل من أجزاء العلوم ، فلو فسّرت المسائل بالنسب المذكورة صحّت المغايرة بينهما ، وإن فسّرت بالقضايا اندرج الأوّل في الثاني ، فلا يصحّ عدّه جزء آخر ، وما يعتذر عن ذلك حينئذ ركيك ، كما لا يخفى.

قوله : (وذلك الغير موضوعه)

ظاهره يعطي تعريف الموضوع بما تلحقه وتحمل عليه امور غيره ، وهو كما ترى لا يوافق تعريفه المشهور من أنّه ما يبحث عن عوارضه الذاتيّة ، وكأنّه عرّفه بالأعم اتّكالا على ما اشتهر بينهم من الحدّ المذكور ، أو أنّه أراد بذلك ما تلحقه اللواحق المذكورة في العلوم ، والمفروض أنّها من العوارض الذاتيّة ، فينطبق على ما ذكروه.

١٠٧

وكيف كان ، فلنفصّل الكلام ببيان ما أوردوه في المقام ، ثمّ نتبعه بما تحقّق عندنا في هذا المرام.

فنقول : قد ذكروا أنّ موضوع كلّ علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، والمراد بالعوارض المحمولات الخارجة عن حقيقة ما حملت عليه ، وقد فسّروا العوارض الذاتيّة بما يعرض الشيء لذاته أو لجزئه أو للخارج المساوي دون غيرها من العوارض ، وفصّلوا ذلك بأنّ العوارض على خمسة أقسام :

الأوّل : ما يعرض الشيء لذاته ، كإدراك الكلّيات العارض للناطق ، وقد يمثّل له بالتعجّب اللاحق للإنسان ، وفيه تأمّل (١).

الثاني : ما يعرض الشيء لجزئه ، سواء كان مساويا له كإدراك الكلّيات العارض للإنسان بتوسّط الناطق ، أو أعمّ منه كالتحرك بالإرادة اللاحق له بواسطة الحيوان.

الثالث : ما يعرض الشيء لأمر خارج مساو له كالسطح العارض للجسم باعتبار التناهي وكالضحك اللاحق للإنسان بواسطة التعجّب ، ولا فرق بين أن يكون ذلك الخارج المساوي لاحقا له لذاته أو لجزئه المساوي أو لخارج مساو آخر.

الرابع : ما يعرض الشيء لأمر خارج أعمّ كالتحرك بالإرادة العارض للناطق بتوسّط الحيوان.

الخامس : ما يعرضه لأمر خارج أخصّ كإدراك الكلّيات العارض للحيوان بتوسّط الناطق.

وجعلوا الثلاثة الاول عوارض ذاتيّة ، وعلّلوا ذلك بأنّ العروض فيها مستند إلى الذات، أمّا في الأوّل فظاهر. وأمّا في الثاني فلاستناده إلى الجزء ، وهو من مقوّمات الذّات. وأمّا في الثالث فلأنّ العارض المساوي مستند إلى الذات ،

__________________

(١) لأنّ التعجّب يلحق للإدراك ، والإدراك يلحق للإنسان ، وهما متساويان ، فالإدراك واسطة بينهما (منه رحمه‌الله).

١٠٨

والمستند إلى المستند إلى الذات مستند إليها. وأمّا الأخيران فلا استناد لهما إلى الذات بشيء من الوجهين المذكورين ؛ لوضوح عدم استنادهما إليها بلا واسطة وكذا مع الواسطة ، إذ المفروض استنادهما إلى الأعمّ من المعروض أو أخصّ منه ، ولا يمكن استناد شيء منهما إلى الذات نظرا إلى انتفاء المساواة.

وقد يورد على ذلك امور :

أحدها : ما أشار إليه بعضهم من أنّ هناك قسما سادسا خارجا عن تلك الأقسام ، وهو ما يعرضه لأمر مباين له كالحرارة العارضة للماء بتوسّط النار ؛ ولذا اختار صاحب القسطاس تسديس الأقسام ، وعدّ الأخير أيضا من العوارض الغريبة ، بل جعله أولى بالغرابة من الأوّلين ، فيكون كلّ من العوارض الذاتية والغريبة عنده ثلاثة.

وردّ ذلك بأنّ المراد بالوسط في المقام ما يقرن بقولنا ، لأنّه حين يقال إنّه كذا فلا بدّ وأن يكون الوسط محمولا عليه ، فلا يتصوّر أن يكون مباينا ، ولحوق الحرارة للماء في المثال المفروض ليس بتوسّط النار بالمعنى المذكور ، بل بواسطة المماسة أو المقاربة ونحوهما ، وهي من عوارض الجسم ولا مباينة لها للماء ، فهو راجع إلى أحد القسمين الأخيرين.

وتوضيح ذلك : أنّ المراد بالعوارض ـ كما عرفت ـ هي المحمولات الخارجة ، وحينئذ فإن كانت تلك العوارض محمولة على موضوعاتها من دون ملاحظة حمل شيء آخر عليها أصلا كانت تلك العوارض عارضة لذات الموضوع ، وإن كان عروضها بواسطة حمل شيء عليها ، فذلك الشيء إمّا أن يكون داخلا في الموضوع أو خارجا عنه حسب ما فصّلنا من الأقسام ، فلا يعقل أن يكون العروض بواسطة أمر مباين للماهيّة ، إذ من الواضح أنّ الأمر المباين غير مرتبط في نفسه بالمباين الآخر ، وإن لوحظ الانتساب الحاصل بينهما كانت الواسطة في الحقيقة هو الارتباط المفروض ، وهو ممّا يصحّ حمله على تلك الذات ، فالواسطة

١٠٩

في المثال المفروض إنّما هي المماسة أو المقاربة ونحوهما ، وهي أمر خارج عن الموضوع أعمّ منه، فيصحّ حملها عليه.

وقد يورد على ذلك :

أوّلا : بأنّ الواسطة لا تنحصر فيما ذكر ، إذ قد يكون الوسط أمرا مباينا للشيء ، ويكون حمل العارض على ذلك الوسط مصحّحا لحمله على ذلك المعروض كما في حمل الأبيض على الجسم ، فإنّه بتوسّط السطح المباين للجسم ، فيحمل أوّلا على السطح ، ويحمل بتوسّط حمله عليه على الجسم ، وإن جعل الارتباط الحاصل بين السطح والجسم واسطة في ذلك فهو أيضا أمر مباين للجسم.

والقول بأنّ الواسطة إنّما هو المسطّح دون السطح مدفوع بأنّ المراد بالمسطّح إن كان ما صدق عليه ذلك فهو عين الجسم ، وإن كان مفهومه فليس ذلك واسطة في المقام ، بل الواسطة هو عروضه للسطح الموجود في الخارج.

وثانيا : أنّ المراد بالوسط في المقام هو الواسطة في العروض ، وذلك بأن يكون المحمول ثابتا للوسط أوّلا وبالذات ، ويكون بتوسّطه ثابتا للذات ، لا بأن يكون هناك ثبوتان ، بل ثبوت واحد ينسب إلى الواسطة بالذات وباعتبار الواسطة المفروضة إلى الذات ، وليس المراد به الواسطة في الثبوت التي هي أعمّ من ذلك كما قد يتوهّم حسبما يأتي الإشارة إليه ، كيف وقد اتّفقوا على أنّ السطح من الأعراض الذاتية للجسم مع أنّه إنّما يعرضه باعتبار الانتهاء الذي هو أعمّ من الجسم ؛ لعروضه للسطح والخط فيعرض بسببه ، وكذا الخط للسطح والنقطة للخط ، وحينئذ فلا وجه للتفصيل المذكور في المقام ، ولا لعدّ العارض لأمر خارج أعمّ أو أخصّ من الأعراض الغريبة مطلقا ، إذ لو كان الخارج واسطة في الثبوت وكانت الصفة عارضة للذات أوّلا وبالذات من دون اعتبار عروضها أوّلا لغيرها كانت من الأعراض الذاتيّة.

ومن ذلك يظهر فساد جعل النار أو مماستها أو مقاربتها واسطة في المقام ،

١١٠

إذ ليس شيء من ذلك واسطة في عروض الحرارة بالمعنى المذكور ، وإنّما تكون واسطة في ثبوتها ، وهي عارضة للجسم العنصري عروضا أوّليّا ، فيكون عروضها للماء بتوسّط الجزء الأعمّ لا لأمر خارج عن الذات.

فتحقّق بما عرفت أنّ الأقسام ستّة ، إلّا أنّه ليس العارض للأمر الخارج المباين من قبيل ما مثّل به القائل المذكور ، وليس أيضا مندرجا في العرض الغريب حسبما ذكره ، بل يندرج في الأعراض الذاتية إن كان ذلك الخارج المباين مساويا للذات في الوجود وإن كان مباينا له في الصدق كما في المثال المفروض ؛ ولذا يبحث عن الألوان في العلم الذي موضوعه الجسم الطبيعي ، نعم لو كانت الواسطة المباينة مباينة له في الوجود أيضا ـ كما في الحركة الحاصلة لجالس السفينة بواسطة السفينة ـ كان ذلك من الأعراض الغريبة ، فإنّ الحركة هنا إنّما هي من أحوال السفينة المباينة للجالس فيها بحسب الوجود ، فلو اريد عدّ العارض لأجل المباين من الأعراض الغريبة أو الذاتية فليعتبر المباينة في الوجود والمساواة فيه ، فيجعل العارض بتوسّط الأوّل من الأعراض الغريبة وبتوسّط الثاني من الأعراض الذاتية ، سواء كان مساويا له في الصدق أو مباينا فيه.

قلت : أمّا ما ذكره من كون المراد بالواسطة في المقام هو الواسطة في العروض دون الثبوت بالمعنى المقابل له فهو الذي يقتضيه التحقيق في المقام ، إذ العارض في الثاني إنّما يعرض ذات الشيء ، فيكون من العوارض الذاتية لمعروضه وإن كان عروضه بتوسّط الأعمّ أو الأخصّ أو غيرهما ، وليس المراد بكونها ذاتية أن تكون الذات كافية في ثبوتها وعروضها ، كيف ولو كان كذلك لزم خروج معظم الأعراض الذاتية ، وحينئذ فلا يكون شيء من لوازم الوجود من الأعراض الذاتية ، حيث إنّ الوجود ممّا لا يمكن استناده إلى شيء من الماهيّات ، وهو بيّن الفساد.

وأمّا ما ذكره من صحّة كون الواسطة في العروض مباينا للمعروض فغير واضح ، بل الظاهر فساده.

١١١

بيان ذلك : أنّه إن جعل الواسطة في العروض فيما يفتقر إلى واسطة فيه الأعراض القائمة بمحالّها المباينة لمعروضاتها ـ كما هو الشأن في العروض ـ كان الحمل في جميع ما يفتقر الى الواسطة الخارجية بتوسّط الأمر المباين ، ولا يتحقّق هنا واسطة خارجيّة ، لا تكون مباينة للمعروض بحسب الصدق ، ضرورة تباين كلّ عرض لمعروضه ، فلا يتّجه الحكم بكون بعض الوسائط مباينا في الصدق دون البعض.

وإن جعل الواسطة فيه العرضيّات والمشتقات المحمولة على المعروضات لم يتحقّق هناك مباينة بالنسبة إلى شيء منها ، ضرورة صحّة حملها على الذات من غير فرق في ذلك بين خصوصيّات الأعراض ، فما ادّعى من الفرق بيّن الفساد ، وليس السطح بالنسبة إلى الجسم إلّا كالتناهي والسواد وغيرهما من الأعراض من غير تعقّل فرق في المقام ، فكما لا يعدّ توسّط التعجّب في عروض الضحك للإنسان من توسّط المباين فكذا الحال في توسّط السطح في عروض اللون.

فإن قلت : إنّ ما حكم فيه بكون الواسطة غير مباينة من المثال المذكور هو توسّط المتعجّب في عروض الضاحك ، وهو كذلك ، ضرورة صدق المتعجّب على الإنسان.

قلت : يجري الاعتبار المذكور بعينه في توسّط السطح ، بأن يجعل المسطّح واسطة في عروض الأبيض مثلا ، فالفرق الحاصل في المقام إنّما هو باعتبار المبدأ أو المشتق ، وهذا يجري في كلّ الأعراض ، فلا يصحّ الفرق بينهما في ذلك ، مضافا إلى أنّ ما ذكر في الجواب من كون المسطّح واسطة في المثال جار في المتعجب أيضا ، إذ المتعجّب على ما قرّره هو ذات الإنسان إن اريد به المصداق ، وإن اريد به المفهوم فمن البيّن أنّ الضحك إنّما يعرضه من جهة التعجّب الحاصل منه في الخارج دون ذلك المفهوم حسب ما قرّره في عروض اللون بتوسّط السطح غير أنّ الفرق بينهما أنّ ذلك واسطة في العروض وهذه في الثبوت على وجه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه يجري بعينه بالنسبة إلى العارض بتوسّط الجزء سواء كان أعمّ

١١٢

أو مساويا للكلّ ، فإنّ عروض إدراك الكلّيات للإنسان إن جعل بتوسّط مبدأ الناطق فهو أمر مباين للإنسان ، ضرورة عدم صحّة حمله عليه ، وإن اخذ المشتق واسطة فيه فإن اريد به مصداقه فليس أمرا وراء الإنسان ، فلا يتحقق واسطة في المقام ، وإن اريد به نفس المفهوم ففيه : أنّ عروض الإدراك له في الخارج إنّما هو بتوسّط صورته الخارجيّة المباينة في الوجود لمادّته ، وقضية ذلك مباينته للكلّ أيضا لا بمجرّد المفهوم الملحوظ على النحو المذكور ، حسب ما ذكر في الوسائط الخارجيّة.

فالتحقيق في المقام أن يقال : إنّ ما يحمل على الماهية من الذاتيّات والعرضيات لها اتّحاد مع الماهيّة من جهة ومغايرة من اخرى ، فالذاتيات في المركّبات الخارجيّة والعرضيّات في الصفات الخارجيّة مغايرة للكلّ ، والمعروض من وجه متّحدة معه في وجه آخر ، وفي غيرها إنّما يكون المغايرة في العقل ، إذ المفروض فيها انتفاء التركيب والعروض في الخارج ، ويدلّ على ما ذكرناه في المقامين حكمهم بقيام الصورة بالمادّة وقيام العرض بموضوعه ، ومن البيّن استلزام ذلك تغاير الأمرين في الخارج ووضوح صحّة حمل الأجزاء والعوارض على الماهية ومدار الحمل على الاتّحاد في الوجود ، فاللازم من ذلك هو ما قلناه من الاتّحاد في وجه والتغاير في آخر ، فالذاتيّات من حيث المغايرة مادّة وصورة ، ومن حيث الاتّحاد جنس وفصل ، والعرضيّات من حيث التغاير عرض وموضوع ، ومن حيث الاتّحاد عرضيّ وماهيّة مثلا.

فإن قلت : إنّ المحمول في تلك المقامات إنّما هو المشتقّات دون مبادئها ، والذات مأخوذة في المشتقات وهو المصحّح للحمل ، إذ المفروض اتّحاد الإنسان والذات الّتي ثبت لها النطق أو البياض مثلا ، وهي مغايرة للمبادئ المفروضة مغايرة حقيقية لا اتّحاد بينهما بوجه.

قلت : مع أنّه من المقرّر أنّ الملحوظ في جهة المحمول هو المفهوم دون الذات ، يرد عليه أنّ المحمول حينئذ إنّما يكون تلك الذات المأخوذة في

١١٣

المشتقات دون مبادئها ، وتكون المبادئ حينئذ قيودا مأخوذة في الذات ، فيتّحد المحمول في جميع المشتقات بالذات وإن اختلفت بحسب القيود واللواحق ، وهو واضح الفساد ، وأنّه لا يفترق الحال حينئذ بين حمل الذاتي والعرضي لما عرفت من اتحاد الذات المأخوذة فيهما وأنّ الذاتيّة والشيئيّة ونحوهما من الامور الخارجة عن حقائق الأشياء فكيف تقع فصولا للماهيات وإن قيّدت بغيرها؟.

ومن هنا اختار جماعة من المحقّقين عدم اعتبار الذات في المشتقات المحمولة من الفصول والعرضيّات ، وجعلوا الفرق بين العرض والعرضيّ بالاعتبار على نحو الفرق بين الصورة والفصل والمادّة والجنس.

بيان ذلك : أنّ المفهوم قد يؤخذ بشرط لا ، لا بأن لا ينضمّ إليه غيره ، بل بأن يتصوّر معناه بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بحيث يكون كلّ ما يقارنه زائدا عليه ويكون جزء لذلك المجتمع من الأمرين ولو على سبيل الاعتبار ، وقد يؤخذ لا بشرط شيء بأن يتصوّر معناه مع تجويز كونه وحده ، وكونه لا وحده بأن يقترن مع شيء آخر ، فيحمل إذن على المجموع وعلى نفسه ، فالمأخوذ مبدأ في الفصول والعرضيّات هو الاعتبار الأوّل ، وهو بهذا الاعتبار يكون صورة وعرضا بحسب الخارج ؛ ولذا لا يصحّ الحمل في شيء منهما ، والمأخوذ اشتقاقا هو الوجه الأخير في الأمرين ، وهو المصحّح للحمل في الجميع ، فيكون بالاعتبار المذكور فصلا وعرضيّا.

والفرق بين الذاتي والعرضي : أنّ الأوّل مأخوذ عمّا هو داخل في الذات ، والثاني إنّما اخذ عمّا هو خارج عنها ، فتلك المفاهيم المحمولة متّحدة مع الذات اتّحادا ذاتيّا في الذاتيّات، وعرضيّا في العرضيّات.

إذا تمهّد ذلك تبيّن أنّ عروض شيء لشيء إمّا أن يكون بلا واسطة ، أو بواسطة محمولة ، فإنّه إن صحّ حمل العارض على موضوعه من دون لحوق شيء آخر للموضوع وحمله عليه كان عارضا لذاته من دون حاجة إلى الواسطة ، وإن افتقر إلى لحوق شيء آخر له فلا بدّ أن يكون ذلك الشيء من عوارض المحلّ ، إذ لولاه

١١٤

لم يعقل كون العارض له عارضا لذلك المحلّ سواء كان جوهرا أو عرضا قائما بغير المحلّ المذكور ، ولو اطلق العروض في مثله فعلى سبيل المجاز دون الحقيقة ، وهو خلاف الفرض ، إذ الكلام في العوارض الحقيقيّة وإن كانت غريبة بالنسبة إلى معروضاتها ، فإذا ثبت ذلك لزمه صحّة حمل الواسطة على المحلّ حسب ما مرّ بيانه من صحّة حمل العوارض على معروضاتها بالاعتبار المتقدّم.

فبما قرّرنا ظهر فساد ما ذكر من تسديس الأقسام على النحو المذكور ، وجواز كون الواسطة في العروض مباينة للمعروض ، وكذا ما مثّل له من عروض اللون للجسم بتوسّط السطح. وما مثّل أيضا من عروض الحركة لجالس السفينة فأبين فسادا منه ، إذ لو اريد بالحركة في المقام مجرّد الخروج من حيّز إلى آخر فلا ريب في كونها عارضة لذات الجالس ، وإن اريد بها صدور الحركة منه ومبدئيته لها فمع أنّه ليس من حقيقة الحركة ليس مسندا إلى السفينة أيضا ، وإنّما يسند إلى الماء أو الريح المحرّك لها.

ولو صحّح ذلك بدعوى جعل القاسر في السفينة مبدأ للحركة المفروضة تزول الحركة بزواله ففيه : بعد تسليمه أنّ ذلك غير عارض للجالس في السفينة بوجه ، إذ ليس فيه مبدأ الحركة المفروضة لا أصالة ولا تبعا ، وإنّما هو من عوارض السفينة خاصّة ، وهو ظاهر.

ثمّ إنّ ما ذكر من اعتبار المساواة في الوجود في الأعراض الذاتيّة إذا كان عروضها لأمر غير الذات ليكون المراد بالمباين في الأعراض الغريبة أيضا هو المباين في الوجود ممّا لا يكاد يصحّ كما لا يخفى (١). هذا كلّه بالنسبة

__________________

(١) إذ مع عدم جريانه في الأعم والأخصّ المقابلين لهما ، يرد عليه : أنّ المراد بالمساواة في الوجود مجرد عدم الانفكاك بين الأمرين في الخارج ، ومن البيّن أنّ مجرّد ذلك لا يقضي بكون العارض بتوسّطه ذاتيا للمعروض ، إذ لا يلزم من ذلك أن يكون أحدهما مستندا إلى الآخر حتّى يكون المستند إلى المستند إليه مستندا إليه مع أنّه قد يكون العارض مستندا إلى الملزوم أوّلا ، ولا يقضي ذلك بعروضه لذات اللّازم ولو بالواسطة كما في عكسه ، فكيف ـ

١١٥

إلى الواسطة في العروض.

وأمّا الواسطة في الثبوت فيمكن حصول المباينة فيها قطعا كما مرّت الإشارة إليه. وما قد يتوهّم من أنّ المباين في نفسه لا يعقل أن يكون مصحّحا لعروض أمر لمباينه وإنّما الارتباط الحاصل بينهما هو المصحّح له وهو ممّا يصحّ حمله عليه مدفوع : بأنّا ننقل الكلام إلى الارتباط المفروض ، فإنّه أيضا من العوارض ، وحمله عليه بتوسّط الأمر المباين.

ثانيها : أنّ عدّ العارض للجزء الأعمّ من العوارض الذاتيّة غير متّجه ، فإنّ الظاهر عدم كونه من العوارض الذاتية للأخصّ ، إذ عروضه له بتبعيّة اتّحاده مع الأعمّ وصدقه عليه ، فهو من العوارض الذاتية للأعمّ.

فإن قلت : إنّ العارض للجزء المساوي إنّما يعرض الكلّ بتوسّط اتّحاده معه ، فلا يكون عرضا ذاتيّا للكلّ أيضا ، وإنّما يكون ذاتيّا بالنسبة إلى ذلك الأمر المساوي خاصّة حسب ما قرّر في الجزء الأعمّ.

قلت : فرق بيّن بين الأمرين ، فإنّ الجزء المساوي هو المقوّم عندهم للنوع وبه يتحصّل الجنس ، أعني الجزء الأعمّ ، فتذوّت النوع إنّما يكون بالفصل القريب ويكون الجنس متحصّلا بتحصّله ، وحينئذ فالعوارض اللاحقة للفصل لا حقة لذات النوع ولو بالواسطة ، بخلاف لواحق الجنس فإنّه لا خصوصية لتلك الذات في لحوقها ، وليس لحوقها لاستعداد حاصل في خصوصها ، ومجرّد كون الجنس ذاتيا للنوع لا يقضي بكون عوارضه ذاتية له ؛ لما عرفت من عدم ارتباطها إلّا بالأمر العامّ.

وتوضيح المقام : أنّ التحقيق في العوارض الذاتية أنّها هي المستندة إلى ذات

__________________

ـ يقضي ذلك بكون المعروض ذاتيا؟ على أنّ المباين في الوجود بالمعنى المقابل للمساوي فيه لا يعقل أن يكون واسطة في العروض ، إلّا أن يحمل المباينة على مجرّد عدم الملازمة في الوجود ، كما يدلّ عليه التمثيل بالسفينة والجالس فيها ، إذ المفروض اجتماعهما في الوجود جزئيا ، فيندفع عنه المناقشة الاولى أيضا ، إذ لا واسطة بينهما حينئذ. وهو كما ترى (منه رحمه‌الله).

١١٦

المعروض استنادا أوّليّا أو بالواسطة ، بأن تكون معروضها هي تلك الذات ابتداء أو بواسطة مرتبطة بها ارتباطا ذاتيّا ، وهو الداخل المساوي ، لما عرفت من كونه الأصل في قوام النوع وأنّه إنّما يكون نوعا مخصوصا من جهته ، فاللواحق الطارئة عليه طارئة على ذات النوع المخصوص ممّا يكون لذلك النوع الخاصّ مدخليّة في عروضها ، وكذا الحال في الخارج المساوي ؛ نظرا إلى عروضها ابتداء لما هو مساو للذات ، فتكون من العوارض اللاحقة لتلك الذات من غير أن ينضمّ إليها ما يتخصّص ويتقيّد به ذلك النوع ، حيث إنّ ذلك النوع موصوف بالعارض المفروض وإن افتقر في ذلك إلى ضمّ الوصف بالموصوف ، فإنّ الافتقار المذكور لا يقضي بخروج ذلك عن عوارض النوع المفروض كما يعرف الحال فيه من التأمّل في وسائط الثبوت.

والحاصل : أنّ العارض بتوسّط الخارج المساوي من عوارض الذات بما هو تلك الذات، وهذا بخلاف ما لو كانت الواسطة في العروض عرض أعمّ أو أخصّ ولو كانت ذاتية.

فإن قلت : على هذا يكون جميع العوارض الذاتيّة للأعراض المساوية من العوارض الذاتية للشيء ، مع أنّه فاسد على إطلاقه ، إذ مجرّد كون العرض ذاتيا بالنسبة إلى العرض الذاتي ولو كان مساويا لا يقضي بكونه ذاتيا بالنسبة إلى معروضه ، كما في عروض الشدّة والسرعة للجسم بواسطة البياض والحركة العارضين له ، فإنّهما من أعراضه الذاتية ، والعارضين المذكورين من الأعراض الذاتية بالنسبة إليهما ، ومع ذلك فليسا من الأعراض الذاتية للجسم أصلا ولو فرض كون الحركة أو البياض من الأعراض المساوية له أو لنوع منه.

قلت : الكلام في المقام إنّما هو في العوارض اللاحقة للشيء ممّا يتّصف به ذلك الشيء على سبيل الحقيقة وإن كان تبعا للغير ، إذ لا ينافي ذلك كون الاتصاف به حقيقيّا ، غاية الأمر أن لا يكون في بعض صوره ذاتيّا ، والشدّة والسرعة في المثالين المفروضين ممّا لا يتّصف الجسم بهما إلّا على سبيل المجاز ، من باب

١١٧

توصيف الشيء بوصف متعلّقه ، فهما خارجان عن محلّ الكلام.

والحاصل : أنّ اللازم ممّا ذكرنا أن يكون العارض للشيء بتوسّط عرضه المساوي عرضا ذاتيا وهو كذلك ، ولا يستلزم ذلك أن يكون جميع الأعراض الذاتية لأعراضه المساوية أعراضا ذاتية له وإن لم يتحقّق هناك اتّصاف بين الأمرين.

فإن قلت : كيف يعقل القول عدم اتّصاف المعروض بالوصف الحاصل لعرضه الحالّ فيه مع ما هو ظاهر من عدم إمكان قيام العرض إلّا بالجوهر ومع حصول القيام لا بدّ من الاتصاف غاية الأمر أن لا يكون الاتّصاف ذاتيّا؟

قلت : لا ملازمة بين الأمرين ، فإنّ مجرّد القيام بالواسطة لا يقضي بصحّة الاتّصاف ، إذ قد يكون قيامه بذلك العرض من جهة اعتباره بشرط لا ، أي لا على وجه يمكن حمله على المعروض حسب ما قرّرناه ، وحينئذ فلا يلزم من اتّصاف العرض به اتّصاف المعروض كما هو المفروض في المثالين المذكورين ، فإنّ الشدّة والسرعة إنّما يعرضان للبياض والحركة باعتبار ملاحظتهما بياضا وحركة أعني اعتبارهما بشرط لا بالمعنى المتقدّم ، لا باعتبار الأبيض والمتحرك أعني اعتبارهما لا بشرط ، نعم لو كان الاتصاف حاصلا بالاعتبار الأخير لزمه اتّصاف الموصوف أيضا على سبيل الحقيقة وإن لم يكن الاتّصاف ذاتيّا في بعض الصور.

هذا ، وممّا قرّرنا يعرف الحال في العارض للجزء الأعم ، فإنّه ليس لذلك النوع المخصوص مدخلية في عروضه ، فلا يكون ذلك من العوارض المتعلّقة بذات النوع المفروض، وإنّما هو من لواحق ذلك الأمر العام ، ويكون اتّصاف النوع به من جهة اتّحاده مع الواسطة المفروضة.

وممّا يشهد لذلك أنّهم نصّوا على أنّ العارض لأمر خارج عام ليس من الأعراض الذاتية كما مرّت الإشارة إليه ، مع أنّ الأمر العامّ قد يستند إلى الجنس الذي هو جزء من الذات ، فيكون المستند إليه مستندا إلى الذات حسب ما ذكروه في عوارض الفصل.

١١٨

وبالجملة : لو جعل المناط في كون العرض ذاتيّا كونه متعلّقا بنفس الذات أو بعض ذاتيّاتها ولو بالواسطة لزم إدراج ذلك في الأعراض الذاتيّة ، بل جرى ذلك في جميع ما يعرض الأنواع ، إذ عروض كلّ عارض إنّما يكون لاستعداد حاصل في نفس الذات أو ذاتيّاته بلا واسطة أو مع الواسطة ، فلا يبقى هناك عرض غريب لشيء من الأنواع وهو خلاف الواقع ، وما نصّوا عليه وإن جعل المناط فيه كون العروض لاستعداد حاصل في ذات المعروض من حيث كونها ذاتا مخصوصة سواء كان بلا واسطة أو معها ، فكما يخرج عنه حينئذ ما يكون عروضه لأمر خارج عامّ كذا يخرج ما يكون لأمر داخل عامّ من غير فرق أصلا ، فظهر من ذلك أنّ ما بنوا عليه من الفرق بين الأمرين غير متّجه.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ العرض الذاتي ما يكون عارضا للشيء لنفس ذاته من غير واسطة في العروض أو لأمر مساو للذات ، سواء كان داخلا في الذات أو خارجا عنها كما نصّ عليه جماعة من محقّقي المتأخّرين ، فيكون حينئذ كلّ من العوارض الذاتية والغريبة أقساما ثلاثة ، والواسطة الملحوظة في المقام إنّما هي الواسطة في العروض دون الثبوت ، فما ذكره بعض الأجلّة وحكاه عن التفتازاني في شرح الرسالة ـ من أنّ المقصود بها الواسطة في الثبوت ـ فاسد ، كما عرفت تفصيل الحال فيه ممّا قرّرنا.

ثالثها : أنّ تفسير الموضوع بالمعنى المذكور لا يكاد ينطبق على شيء من موضوعات العلوم من وجهين :

الأوّل : أنّه ما من علم إلّا ويبحث فيه عن الأحوال اللاحقة للأنواع الواقعة تحت موضوعه أو الأصناف المندرجة فيه ، وقد نصّوا على أنّ الموضوع في مسائل الفنون إمّا أجزاء الموضوع ، أو جزئياته ، أو عوارضه الذاتيّة ، والعوارض الخاصّة اللاحقة للجزئيات ليست أعراضا ذاتيّة بالنسبة إلى موضوع العلم ، إذ ليس عروضها لذات الموضوع ولا لأمر مساو له على ما اخترناه ، ولا لذاتيّ أعمّ أيضا على ما ذكروه ، بل إنّما يكون لأمر أخصّ ، وإلّا لما اختصّ بالنوع أو الصنف المفروض.

١١٩

وقد أجاب عنه المحقّق الدوّاني بوجهين :

أحدهما : أنّ ما ذكروه في حدّ الموضوع طيّ في العبارة ، ومعناه ما يبحث (١) فيه عن عوارضه الذاتيّة أو عن العوارض الذاتية لأنواعه أو لأعراضه الذاتية ، وكأنّهم أجملوه في المقام ثقة بما فصّلوه في موضوعات المسائل.

ثانيهما : الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة كما فرّقوا بين موضوعيهما ، فمحمول العلم ما ينحلّ إليه تلك الأحوال التي هي محمولات المسائل ، وهو المفهوم المردّد بين جميعها ، وهو عرض ذاتيّ لموضوع العلم وإن كان كلّ واحد عرضا غريبا بالنظر إليه.

ويضعّف الوجهين مع ما فيهما من التعسّف : أنّ الأوّل يقضي باختلاط العلوم وعدم امتياز العلم الأدنى عن الأعلى كسائر العلوم بالنسبة إلى علم الإلهي ، حيث نصّوا على أنّ الموضوعات في سائر العلوم من العوارض الذاتيّة لموضوع علم الإلهي ، فيكون البحث عن عوارضها الذاتيّة المذكورة في سائر العلوم المدوّنة مندرجا في الإلهي حسب ما ذكره في التوجيه ، وقد يجعل من ذلك علم الطبّ بالنسبة إلى الطبيعي ، إذ الموضوع فيه من أنواع الجسم الطبيعي من حيث الصحّة والمرض ، وهما من العوارض الذاتيّة له ، والثاني إنّما يتمّ لو كان الملحوظ في تلك المباحث ما ذكر من القدر المشترك وليس كذلك ، إذ المبحوث عنه في الموارد المذكورة إنّما هو الأحوال الخاصّة ، وليس القدر المشترك إلّا اعتبارا صرفا لا يلحظ حين البحث أصلا.

وتنظير ذلك بإرجاع الموضوع في المسائل والأبواب إلى موضوع الفنّ غير متّجه ؛ لوضوح الفرق ، ضرورة أنّ البحث عن كلّ منها بحث عن موضوع الفنّ ، وهذا بخلاف إرجاع المحمولات إلى المفهوم المردّد ، فإنّ إثبات تلك المحمولات ليس إثباتا للمفهوم المردّد قطعا ، نعم غاية الأمر استلزام ذلك صدقه ، وليس ذلك

__________________

(١) كأنّ ما ذكره مبنيّ على التمثيل ؛ لعدم انحصار الوجوه فيما ذكره حسب ما أشرنا إليه في الحاشية. (منه رحمه‌الله).

١٢٠