هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

العرف عن استعمال اللفظ وعدم استهجانه في المخاطبات ، وذلك أمر يختلف بحسب اختلاف المقامات وليس له قاعدة مطّردة في الاستعمالات ، ولذا ترى أنّه يصحّ استعمال «القرية» في أهلها في قولك : «اسأل القرية» ولا يصحّ في قولك : «جلست القرية أو باعت القرية أو آجرت القرية» ونحوها مع وجود تلك العلاقة بخصوصها ، وكذلك يقال : «أعتق رقبة» ولا يقال : «مات رقبة أو نام رقبة» ويطلق اليد على الإنسان في نحو قوله: «على اليد ما أخذت» ولا يقال في سائر المقامات إلى غير ذلك مما يظهر بملاحظة موارد استعمال المجازات ، فيختلف الحال في جواز الاستعمال بملاحظة الخصوصيّات الحاصلة في موارد الاستعمالات فالاطّراد من اللوازم المساوية للحقيقة وعدمه من اللوازم المساوية للمجاز ، فالأوّل يدلّ على الحقيقة والثاني على المجاز من باب دلالة اللازم المساوي على ملزومه.

ويرد عليه : أنّ المجاز وإن لم يستلزم الإطّراد في الاستعمالات إلّا أنّه قد يطّرد سيّما إذا كانت العلاقة في كمال الوضوح وكان الارتباط بين المعنى المجازي والحقيقي في غاية الكمال كما في استعمال «الأسد» في الشجاع ، فإنّه يصحّ استعماله فيه مطّردا على نحو استعمال اللفظ الموضوع لذلك من غير فرق سوى ذكر القرينة المعتبرة في المجاز ، وحينئذ فيكون الإطّراد لازما أعمّ بالنسبة إلى الحقيقة فلا يدلّ عليها ؛ لوضوح عدم دلالة اللازم الأعمّ على خصوص ملزومه ، وهذا هو حجّة القول الآخر المانع من دلالته على الحقيقة ، فيقال : إنّ الاطّراد كما يوجد في الحقيقة يوجد في المجاز فلا يصحّ جعله علامة للحقيقة ، لما تقرّر من اعتبار الاطّراد في العلامة.

وقد يجاب عنه بأنّ الاطّراد في المجازات إنّما يكون في آحاد منها على سبيل الندرة فلا ينافي حصول الظنّ المطلوب في باب الأوضاع ، والاطّراد المعتبر في العلامة إنّما يعتبر في أمثال المقام بالنظر إلى الغالب ، نظرا إلى إفادته الظنّ المكتفى به في مباحث الألفاظ.

وقد يمنع الغلبة المدّعاة ، فإنّ معظم المجازات المشتملة على المشابهة

٢٦١

الظاهرة يطّرد استعمالها في المحاورات وإنّما ينتفي الاطّراد غالبا في سائر أنواع المجاز ممّا تكون العلاقة فيها غير المشابهة ، وحينئذ فلا يبقى ظنّ بكون المعنى الّذي فرض اطّراده في الاستعمال من المعاني الحقيقية.

نعم ، لو علمنا انتفاء المشابهة في المقام ـ كما إذا علمنا معنى حقيقيا للّفظ ووجدنا استعماله في غيره مطّردا مع انتفاء المشابهة بينه وبين معناه الحقيقي وأمكن ملاحظة غيرها من العلائق بينهما ـ فإنّه حينئذ قد يصحّ الرجوع إلى الإطّراد في إثبات وضعه له ؛ نظرا إلى ما قلناه.

وبالجملة : إذا دار الأمر بين أن يكون حقيقة في ذلك المعنى أو مجازا مرسلا أمكن إثبات الوضع بالاطّراد ، نظرا إلى أنّ الغالب في المجاز المرسل عدمه ، وأمّا إذا دار [الأمر](١) بينهما وبين الاستعارة أو بين الثلاثة لم يصحّ ذلك حسب ما عرفت.

واعلم أنّه يمكن أن يؤخذ الإطّراد على وجه آخر فيراد به اطّراد استعمال اللفظ فيه في جميع المقامات وسائر الأحوال مع انضمام القرينة وبدونه ودورانه بينهم كذلك في الاستعمالات ، من غير فرق في استعماله فيه بحسب تلك المقامات ، وحينئذ يتمّ دلالته على الحقيقة ، ويندفع عنه الإيراد المذكور ؛ إذ لا اطّراد في شيء من المجازات على الوجه المفروض ، إذ مجرّد وجود العلاقة غير كاف في التجوّز ما لم يوجد هناك قرينة صارفة.

فإن قلت : إنّه لا شكّ في جواز استعمال المجازات مع انتفاء القرائن في حال الاستعمال ، بناء على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ـ كما هو المعروف ـ والمفروض في المقام وجود القرينة في الجملة وإلّا لم يعلم استعماله فيه قبل العلم بوضعه له ، غاية الأمر أن تكون القرينة منفصلة.

قلت : إنّ ذلك ممّا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأقوال ، فقد يكون المقام مقام البيان والإفهام فيكون في تأخير القرينة تفويت للمقصود ، وحينئذ فلا ريب في المنع من تأخير البيان عن وقت الخطاب. وليس مقصود القائلين

__________________

(١) من المطبوع (١).

٢٦٢

بجواز تأخيره عن ذلك جوازه كلّيا كما نصّوا عليه ويأتي في محلّه الإشارة إليه إن شاء الله.

فإن قلت : إنّ استعماله حينئذ في ذلك من دون اقتران القرينة في المقام المفروض كاف في الدلالة على الحقيقة ، فلا حاجة إلى ملاحظة الاطّراد ، وذلك بنفسه أمارة على الحقيقة كما مرّت الإشارة إليه.

قلت : قد يعرف المقام المفروض بالخصوص ويرى استعماله فيه على النحو المذكور ، فيمكن استنباط ثبوت الوضع له من ذلك من دون حاجة إلى ملاحظة غيره إذا كان المستعمل ممّن يعتدّ بشأنه ، وقد لا يعلم خصوص المقام ولا خصوص المستعمل فيعرف من اطّراد استعماله في المقامات على النحو المذكور وروده في المقام المفروض في الجملة من غير استنكار له في العرف ، فلا مانع من اعتباره أمارة مستقلّة بملاحظة ذلك وإن اتّحد الوجه في استفادته منه في المقامين والظاهر أنّه بهذا المعنى ممّا لا ينبغي الخلاف فيه ؛ لوضوح كونه من خواصّ الحقيقة سواء قلنا بكون القرينة مصحّحا لاستعمال المجاز ، أو قلنا بأنّ المصحّح له وجود العلاقة ، والمقصود منها مجرّد الإفهام. فتأمل في المقام.

هذا ، وأمّا دلالة عدم الاطّراد بالوجه المتقدّم على المجاز فقد أثبتها كثير من الاصوليين منهم : الآمدي والحاجبي والعضدي وشيخنا البهائي.

ونفاها العلّامة رحمه‌الله في النهاية ؛ نظرا إلى عدم اطّراد بعض الحقائق كما سيجيء الإشارة إليه ، واختاره بعض الأفاضل من المعاصرين ، إلّا أنّه ذهب إلى حصول الاطّراد في المجازات على نحو الحقائق ولم يفسّر العلامة المذكورة على وجهها ، وسنورد بعض ما ذكره في بيانها.

وظاهر بعض الأعلام التوقّف فيه.

وذهب بعض آخر إلى كونه دالّا على نفي الوضع النوعي خاصّة ، فلا يفيد نفي الأوضاع الشخصيّة سواء كان الوضع فيها عامّا أو خاصّا والموضوع له عامّا أو خاصّا.

٢٦٣

والأظهر هو الأوّل ؛ إذ لو ثبت وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى لما صحّ التخلّف ، ضرورة قضاء الوضع بصحّة استعمال اللفظ فيه في جميع المقامات من غير اختصاص ببعض الصور دون بعضها ، كما هو الحال في سائر الألفاظ الدائرة في الاستعمال.

وقد يورد عليه : أنّ في الحقائق أيضا ما لا يطّرد استعماله في الموارد ولا يصحّ اطلاقه على كلّ من مصاديقه مع وجود المعنى فيه ، كما في إطلاق «الفاضل» عليه تعالى وإطلاق «السخيّ» عليه وإطلاق «الأبلق» على غير الفرس مع حصول المعنى فيه وإطلاق «القارورة» على غير الزجاج وإطلاق «الدابّة» على غير ذات القوائم إلى غير ذلك.

ويدفعه : أنّ المنع من الإطلاق في الأوّلين شرعيّ فلا مانع من الإطلاق بحسب اللغ ، والاطّراد إنّما يلحظ بالنسبة إليها.

على أنّه قد يمنع المنع منه بحسب الشرع أيضا ، إذ قد ورد في بعض الأدعية إطلاق «الفاضل» عليه تعالى وورد فيه أيضا : «يا ذا الجود والسخاء» مخاطبا إيّاه تعالى.

مضافا إلى ما قد يقال بعد تسليم عدم الإطلاق عليه تعالى في اللغة أيضا : من أنّ «الفاضل» : هو العالم الّذي من شأنه الجهل ، والسخي : هو الجواد الّذي من شأنه البخل ، فعدم إطلاقهما عليه تعالى من جهة انتفاء المعنى بالنسبة إليه تعالى ، والمنع من إطلاق «الأبلق» على غير الفرس لاختصاص مفهومه بها ، فإنّه الفرس ذات اللونين ، أو نقول أنّه خصّص بها في العرف بعد أن كان للأعمّ فهو منقول عرفي كما هو الحال في الأخيرين ، إذ لا اختصاص لهما لغة بما ذكر ، واطّراد الاستعمال حاصل فيهما بالنسبة إليها ، وعدم اطّرادهما إنّما هو بحسب العرف ، فهو فيهما دليل على المجازيّة في المعنى الأعمّ بحسب الاستعمالات العرفيّة لا أنّه ناقض لدلالته على المجازيّة.

وربّما يورد عليه أيضا بلزوم الدور ، فإنّ العلم بعدم الاطّراد متوقّف على العلم

٢٦٤

بالمجازيّة ، إذ مع احتمال الوضع له لا يمكن العلم بعدم الاطّراد ؛ ضرورة لزوم الاطّراد في الثاني حسب ما مرّ فلو كان العلم بالمجازيّة متوقّفا على العلم بعدم الاطّراد كما هو المدّعى لزم الدور.

ويدفعه : أنّ العلم بعدم الاطّراد إنّما يحصل من ملاحظة موارد الاستعمالات فيستنبط منه انتفاء الوضع لا أنّه يحصل العلم بعدم الاطّراد من العلم بانتفاء الوضع ، لما عرفت من إمكان الاطّراد في المجاز ولا بعد العلم به ، إذ لا توقّف له عليه بعد ملاحظة العرف بل قد لا يحصل العلم به بعد العلم بعدم الاطّراد أيضا مع الغضّ عن ملاحظة ما ذكر في بيان دلالته عليه.

والوجه في المنع من عدم الاطّراد في المجاز حسبما ذكره الفاضل المذكور أنّه إن اريد بعدم اطّراد المجاز أنّه يقتصر فيه على موارد الرخصة في نوع العلاقة ولو كان في صنف من أصنافه فلا يطّرد استعماله مع حصول نوع العلاقة إذا كان في غير مورد الرخصة فهو حقّ ، لكن لا ريب أنّ المجاز حينئذ منحصر فيما حصل الرخصة فيه وهو مطّرد في مورد الرخصة ، وإن اريد به أنّ المجاز غير مطّرد بعد تحقّق الرخصة فيه بالنسبة إلى ما تعلّق الرخصة به فمن البيّن خلافه ؛ فإنّ الوضع في المجاز كأوضاع الحقائق يقضي بصحّة الاستعمال مطّردا على حسب الوضع.

وأنت خبير بأنّه ليس المراد به شيئا من الأمرين المذكورين ، بل المقصود من عدم اطّراد المجاز عدم اطّراد الاستعمال في المعنى الّذي فرض استعماله فيه على سبيل المجاز في بعض المقامات بالنسبة إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.

وتوضيح المقام حسب ما مرّت الإشارة إليه أنّ الأمر في العلائق دائر مدار قبول العرف وعدم استهجان الاستعمال في المخاطبات ، وذلك ممّا يختلف بحسب المقامات اختلافا بيّنا بالنسبة إلى اللفظ الواحد والمعنى الواحد ، فيصحّ استعماله فيه في مقام دون آخر ، ألا ترى أنّه يصحّ استعمال «القرية» في أهلها عند تعلّق السؤال ، ولا يصحّ ذلك عند تعلّق الجلوس أو البيع أو الشراء أو الضحك ونحوها مع وجود تلك العلاقة بعينها ، وكذا الحال في استعمال «النهر» في مائه فإنّه يصحّ

٢٦٥

عند تعلّق الجريان أو الوقوف أو نحوهما به ، تقول : جرى النهر أو وقف النهر ، ولا يصحّ أن تقول : جمعت النهر أو أخرجت النهر إذا جمعت ماءه أو أخرجت الماء منه ، ونحوه استعمال الرقبة في الإنسان في مقام تعلّق الرقّ أو العتق به واستعمال اليد فيه في مقام الأخذ أو الإعطاء دون سائر المقامات إلى غير ذلك.

فيستعلم من عدم الاطّراد على الوجه المذكور انتفاء الوضع للمعنى المفروض وكون الاستعمال من جهة العلاقة ؛ إذ لو تحقّق الوضع له لم يتخلّف عنه صحّة الاستعمال ، وأمّا مع انتفائه فيصحّ التخلّف لاختلاف الحال في العلاقة بحسب المقامات والمتعلّقات في شدّة الارتباط وضعفه ، واستحسان العرف لاستعماله فيه واستقباحه.

فما ذكره من أنّه مع تحقّق العلاقة والإذن لا يمكن التخلّف ، إن أراد به أنّه إذا تحقّقت العلاقة مع الخصوصيّة الملحوظة في الإذن لم يمكن أن يتخلّف عنه صحّة الاستعمال ، ففيه ـ مع ما فيه من المناقشة إذ لا مانع إذن من قضاء الإذن العامّ بجواز الاستعمال ووقوع المنع الخاصّ من استعماله في خصوص بعض الصور فيقدّم الخاصّ على العامّ ، فالإذن العامّ ليس إلّا مقتضيا للصحّة ، ووجود المقتضي إذا قارن وجود المانع لم يعمل عمله ـ أنّه غير مفيد في المقام ؛ إذ عدم إمكان التخلّف لا يجدي فيما هو بصدده لاختلاف الخصوصيّة الملحوظة في الوضع بحسب اختلاف المقامات والمتعلّقات فيصحّ الاستعمال في بعضها دون آخر ، فلا يلزمه الإطّراد على ما هو المقصود في المقام وإن اطّرد على حسب الترخيص الحاصل من الواضع ، فليس المراد بعدم اطّراد المجاز كونه مجازا مع عدم صحّة الاستعمال ، بل المدّعى أنّ المعنى الّذي لم يوضع له اللفظ واستعمل فيه على سبيل المجاز قد لا يكون جواز الاستعمال فيه مطّردا ، بأن لا يكون العلاقة المصحّحة للاستعمال فيه في مقام مصحّحة له في سائر المقامات ، لما عرفت من اختلاف الحال فيه بملاحظة موارد الاستعمال ، ولذا يصحّ استعمال اللفظ في معنى مخصوص في بعض المقامات دون غيره كما عرفت.

٢٦٦

ومع الغضّ عن ذلك كلّه نقول : إنّه قد يكون المعنى المستعمل فيه مشتملا على صنف العلاقة المعتبرة في مقام دون آخر فيجيء فيه عدم الاطّراد من الجهة المذكورة ، فلا منافاة بين القول باطّراد العلائق في مواردها وعدم حصول الاطّراد في جواز الاستعمال بالنسبة إلى خصوص المعاني ، نظرا إلى اختلاف أحوالها في الاشتمال على العلاقة وعدمه ، فحينئذ لا مانع من القول بعدم حصول الاطّراد في المجازات ، نظرا إلى ذلك فيتعرّف به حال المعنى كما هو المقصود في المقام ، وهو ظاهر.

هذا ، والوجه في الوقف عدم حصول الاطّراد في بعض الحقائق لمانع خارجيّ فيحتمل ذلك في موارد استعمال اللفظ ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمّ الاستدلال به على انتفاء الوضع. ودعوى الغلبة بحيث تفيد المظنّة محلّ إشكال.

وأنت خبير بأنّ انتفاء الاطّراد في بعض الحقائق على فرض صحّته في غاية الشذوذ والندرة ، فلا ينافي إفادة تلك الأمارة للمظنّة ، على أنّه غير متحقّق الحصول في شيء من الحقائق حسب ما مرّت الإشارة إليه.

والوجه في التفصيل أمّا بالنسبة إلى دلالته على نفي الوضع النوعي فظاهر ، لاعتبار الاطّراد فيه قطعا ، وأمّا بالنسبة إلى عدم إفادته نفي غيره من الأوضاع فلاحتمال أن يكون عدم الاطّراد من جهة اختصاص الوضع بما يصحّ الاستعمال فيه من المعنى المفروض من غير تعدية إلى غيره فلا يفيد انتفاء الوضع ، فلو علم انتفاء الوضع الشخصي بخصوصه ودار الأمر في اللفظ بين أن يكون موضوعا بالوضع النوعي أو مجازا دلّ عدم الاطّراد على الثاني ، كما هو الحال في الأفعال والمشتقات.

وأنت بعد ما عرفت ما قرّرناه في بيان معنى الاطّراد تعرف وهن هذا الكلام ، لظهور دلالته حسب ما بيّنا على انتفاء الوضع بالنسبة إلى المعنى الّذي ثبت فيه نوعيّا كان أو شخصيّا من غير فرق حتّى أنّه يفيد انتفاء الأوضاع الجزئيّة أيضا.

ثمّ إنّ ما قرّره على فرض تسليمه غير جار بالنسبة إلى الأوضاع الكلّية.

٢٦٧

وقد أجاب عنه بأنّه لمّا كان الوضع الشخصي حاصلا على كلّ من الوجهين ولم يكن ملازما لكلّية الوضع أو الموضوع له قام في نظر الجاهل احتمال كون اللفظ هناك موضوعا بالوضع الخاصّ لبعض أفراد ذلك الكلّي فلا يطّرد في الكلّ.

وهو كما ترى ؛ إذ غاية ما يفيده الاحتمال المذكور اختصاص الوضع ببعض أفراد المعنى الملحوظ ، وأين ذلك ممّا هو المقصود من دلالته على انتفاء الوضع بالنسبة إلى ذلك المعنى الكلّي الملحوظ في ذلك المقام ، فالمقصود دلالة عدم الاطّراد على انتفاء الوضع بالنسبة إلى المعنى الذي لا يطّرد الاستعمال بالنسبة إليه ، لا بالنظر إلى غيره ولو كان جزئيّا من جزئيّات ذلك المعنى ، وهو واضح ، ومع الغضّ عنه فقد يعلم في خصوص المقام انتفاء الوضع الخاصّ فينحصر الأمر بين كونه مجازا فيه أو موضوعا بالوضع العامّ فيحكم بالأوّل ، نظرا إلى عدم الاطّراد حسب ما ذكره في دلالته على نفي الوضع النوعي. فتأمل.

هذا ملخّص الكلام في الامور المثبتة للوضع أو النافية له.

وقد ذكر في المقام امور اخر لإثبات الوضع ونفيه ، وهي ما بين مزيّف أو راجع إلى ما قلناه أو مفيد لذلك في بعض صوره في موارد نادرة فلا بأس بالإشارة إليها ليتبيّن حقيقة الحال فيها.

منها : التقسيم ، فإنّه يفيد عند بعضهم كون اللفظ حقيقة في المقسم الجامع بين تلك الأقسام إذا وقع في ذلك كلام من يعتدّ به من أهل اللغة أو العرف العامّ أو الخاصّ ، وبالجملة يفيد كونه حقيقة في ذلك في عرف المقسم سواء كان المقسم لغويّا أو غيره.

والمراد بالقدر الجامع بين الأقسام هو المفهوم الصادق على كلّ منها ، سواء كان صدقا ذاتيّا أو عرضيّا أو مختلفا ، فلا دلالة فيه على كون المقسم هو تمام المشترك بين مفهوم كلّ من القسمين اللذين يرد القسمة عليهما ، ولا بعض المشترك بينهما ، بل قد يكون خارجا عن حقيقة كلّ منهما أو أحدهما ، إلّا أنّه لا يخلو الواقع عن إحدى الصور المذكورة كما في تقسيم الحيوان إلى الإنسان والفرس ، وتقسيمه

٢٦٨

إلى الانسان والطائر وإلى الأسود والأبيض ، وتقسيم الجسم كذلك.

نعم ، لا بدّ من اشتراكه في مصاديق الأقسام ، ضرورة قضاء القسمة بصدق المقسم عليها فلا دلالة في القسمة على اشتراك المقسم بين الأقسام زيادة على ذلك ، وهو معنى ما قيل من اعتبار مفهوم المقسم في الأقسام ، فإنّ تقسيم الحيوان إلى الأسود والأبيض إنّما يفيد ثبوت معنى الحيوان في مصاديق كلّ من القسمين ، فلو عبّر عن تلك الأقسام من حيث كونها قسما للحيوان يعبّر عنها بالحيوان الأبيض والحيوان الأسود ، وليس مفاد ذلك اعتبار مفهوم الحيوان في الأبيض والأسود اللذين وقع التقسيم عليهما ، وهو ظاهر.

ثمّ إنّ المختار عند جماعة منهم العلّامة رحمه‌الله وابنه فخر الإسلام دلالة التقسيم على كون المقسم حقيقة في الأمر الشامل لتلك الأقسام.

والمذكور في كلام آخرين أنّ التقسيم أعمّ من ذلك وأنّه لا دلالة فيه على الحقيقة نصّوا عليه في طيّ مباحث الاصول عند إبطال الاحتجاج بالقسمة على وضع اللفظ للأعمّ ، ويمكن أن يستدلّ للأوّل بوجوه :

أحدها : أنّ ذلك هو الظاهر من إطلاق اللفظ ، فإنّ قضيّة التقسيم كما عرفت إطلاق المقسم على المعنى الأعمّ ، والظاهر من الإطلاق الحقيقة فيكون التقسيم واردا على معناه الحقيقي ، ويكون ذلك إذن شاهدا على عمومه وإطلاقه.

وأنت خبير بأنّ ذلك حينئذ راجع إلى دلالة الاستعمال على الحقيقة ؛ لكون الأصل فيه ذلك ، وقد عرفت أنّ الحقّ فيه هو الدلالة على الحقيقة في متّحد المعنى دون متعدّده فلو ثبت استعماله في غير المفهوم المشترك أيضا لم يصحّ الاستناد إلى التقسيم ومع عدمه لا يكون ذلك دليلا آخر وراء الأصل المذكور. نعم يكون محقّقا لموضوعه حيث يثبت به الاستعمال في الأعمّ.

ثانيها : ظهور الحمل في ذلك ، فإنّ قضيّة التقسيم هو حمل كلّ من القسمين على المقسم ، والمستفاد من الحمل في العرف كون عنوان الموضوع صادقا على سبيل الحقيقة على مصداق المحمول ، بمعنى كون مصداق المحمول مصداقا للموضوع

٢٦٩

بالنظر إلى معناه الحقيقي إن كان الحمل شائعا كما هو المفروض في المقام.

وفيه : أنّه إن كان الظهور المذكور من جهة استعماله في المقام فيما يصدق على ذلك فهو راجع إلى الوجه الأوّل ، وإن كان استظهاره من جهة دلالة الحمل بنفسه عليه ففيه أنّه إنّما يدلّ على كون الحمل حقيقيّا لا ادّعائيّا كما يتّفق في بعض الصور في نحو قولك : «زيد أسد» على وجه ، فإنّ الحمل هناك خارج عن حقيقته. وأمّا أنّ المراد بالموضوع هو معناه الحقيقي فلا يستفاد من الحمل.

نعم ، إن كان المقام مقام بيان حقيقة اللفظ أو بيان مصداقه الحقيقي أفاد ذلك ، إلّا أنّه حينئذ مستفاد من ملاحظة خصوصيّة المقام لا من مجرّد الحمل ، فيدلّ في الأوّل على كون المحمول هو نفس ما وضع له اللفظ وفي الثاني على صدق معناه الحقيقي عليه ، إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام.

كيف! ولو كان مطلق الحمل دليلا على الحقيقة لما جعلوا عدم صحّة السلب علامة عليها بل اكتفوا مكانه بصحّة الحمل ، فإنّ في تركهم ذلك واعتبارهم مكانه لعدم صحّة السلب دلالة ظاهرة على أنّ الحمل يقع على الوجهين ويصحّ بظاهره في الصورتين ، بخلاف عدم صحّة السلب.

ويومئ إلى ذلك أنّ إطلاق اللفظ على معناه المجازي بمنزلة حمله عليه حملا ذاتيّا بالنظر إلى المفهوم الذي استعمل اللفظ فيه وحمله شائعا بالنسبة إلى الفرد الّذي اطلق عليه ، كما في استعمال الأسد في مفهوم الشجاع وإطلاقه على زيد ، فلو كان الحال على ما ذكر لكان مطلق الاستعمال دليلا على الحقيقة ، وقد عرفت ما فيه.

فإن قلت : أيّ فرق بين عدم صحّة السلب وصحّة الحمل حال الخلوّ عن القرائن مع أنّ ظاهر اللفظ حينئذ حمله على حقيقته في المقامين ، فكما أنّ عدم صحّة السلب إذن يفيد عدم صحّة سلب معناه الحقيقي عنه كذا يفيد صحّة الحمل حمل معناه الحقيقي عليه ، فيتّحد المفاد فيهما.

قلت : الفرق بينهما أنّ نفس ملاحظة الموضوع قد تكون قرينة على إرادة

٢٧٠

المعنى المجازي في المحمول أو بالعكس ، فإنّ كون الموضوع هو البليد في قولك : «البليد حمار» شاهد على إرادة المعنى المجازي من الحمار ، لعدم إمكان حمله عليه إلّا بذلك الاعتبار، فبتلك الملاحظة يصحّ حمله عليه وإن صحّ مع ذلك سلبه عنه أيضا ، فمجرّد صحّة الحمل لا ينهض دليلا على الوضع ، نعم قد يفيد ذلك بملاحظة ما ينضمّ إليه في خصوص المقام ولا كلام فيه ، وهذا بخلاف عدم صحّة السلب ؛ فإنّ نفس ملاحظة الموضوع والمحمول هناك لا تقضي بصرف اللفظ عن ظاهره والمفروض خلوّ المقام عن القرينة فيكون المحكوم بعدم صحّة سلبه عنه هو معناه المنصرف إليه عند الإطلاق وليس إلّا معناه الحقيقي في نفس الأمر. فتأمّل.

وممّا قرّرنا يظهر ضعف ما ربّما يظهر من بعض الأفاضل من دلالة الحمل على الحقيقة، ومع الغضّ عن ذلك فلو قلنا بدلالة الحمل على الحقيقة كان ذلك في نفسه أمارة عليها فلا ربط له بدلالة التقسيم على الحقيقة كما هو الملحوظ في المقام.

ثالثها : أنّ الغالب في التقسيمات وقوع القسمة بملاحظة المعنى الحقيقي ، فالظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

وفيه تأمّل ؛ إذ لا بدّ في الغلبة المعتبرة في أمثال المقام أن تكون بحيث تفيد ظنّا بالمرام، لدوران الأمر في الأوضاع مدار الظنّ وكونها في المقام على النحو المذكور غير واضح ، وما ذكر من أنّ الظنّ يلحق المشكوك فيه بالأغلب ليس على إطلاقه.

نعم ، قد يستفاد من التقسيم ظنّ بذلك بعد ملاحظة خصوصيّة المقام وهو كلام آخر ، وحينئذ فلا مانع من الاستناد إليه في ذلك المقام.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من دلالة التقسيم على الحقيقة وعدمها إنّما هو بالنسبة إلى تقسيم العامّ المنطقي إلى جزئيّاته كما هو ظاهر كلام الجماعة ، والظاهر جريان الكلام المذكور بالنسبة إلى تقسيم الكلّ إلى أجزائه وتقسيم العامّ الاصولي إلى جزئيّاته ، فيفيد ذلك بناء على ظهور القسمة في تعلّقها بالمعنى الحقيقي اعتبار

٢٧١

كلّ من الأجزاء المفروضة في المسمى واندراجه في الموضوع له اندراج الجزء في كلّه بالنسبة إلى الأوّل ، واندراج كل من تلك الجزئيّات فيه اندراج الخاصّ تحت العامّ الاصولي في الثاني ، فيفيد وضع اللفظ المتعلّق للعموم لما يعمّ الأقسام المفروضة.

ومنها : أصالة الوضع للقدر المشترك إذا وجد اللفظ مستعملا في معنيين أو أزيد وكان هناك معنى جامع بين المعنيين أو المعاني المفروضة صالح لتعلّق الوضع به ، فالمختار عند بعضهم جواز الاستناد إليها ، ولذا وقع الاحتجاج بها في جملة من المباحث الآتية ، وهو المحكي عن الفاضلين والرازي والبيضاوي. وصرح جماعة بالمنع منه ، كما هو ظاهر آخرين.

حجّة الأوّل أنّه لو قيل بوضعه لواحد منها دون الباقي لزم المجاز ، وإن قيل بوضعه للكلّ لزم الاشتراك ، وكلّ من الأمرين مخالف للأصل فلا بدّ من القول بوضعه للقدر المشترك خاصّة حتى يقوم الدليل على خلافه.

ويرد عليه أنّ القول بوضعه للقدر المشترك يقضي بكونه مجازا في كلّ من قسميه أو أقسامه فيلزم زيادة المجاز.

واجيب عنه بأنّ تعدّد المجاز لازم على تقدير اختصاص الوضع بواحد من القسمين أو الأقسام أيضا إذا فرض استعماله في القدر المشترك.

وفيه : أنّ التساوي كاف في الإيراد ، على أنّه قد يرجّح ارتكاب التجوّز في القدر المشترك ؛ لقلّة استعماله فيه بحيث يعلم عدم إرادة خصوص واحد من القسمين أو الأقسام.

ويمكن أن يقال : إنّ وضعه للقدر المشترك كاف في كون إطلاقه على كلّ من الأقسام على سبيل الحقيقة ؛ إذ لا حاجة إلى ملاحظة الخصوصيّة في الاستعمال حتى يلزم المجاز ، بخلاف ما إذا قيل بوضعه لخصوص أحد الأقسام ، فإنّ استعماله في الباقي أو في القدر المشترك لا يكون إلّا على سبيل المجاز ، فلا يلزم القول بحصول التجوّز في شيء من الاستعمالات بناء على الوجه الأوّل ، لامكان

٢٧٢

تصحيحه على وجه الحقيقة حسب ما قرّرناه.

ويدفعه أنّ ذلك إثبات اللغة بالترجيح من غير رجوع إلى التوقيف. نعم لو ثبت استعماله في القدر المشترك أمكن الحكم بثبوت الوضع له من جهة الأصل على بعض الوجوه.

وتوضيح المقام : أنّ كلّا من استعمال اللفظ في القدر المشترك وخصوص كلّ من المعنيين أو أحدهما إمّا أن يكون معلوما ، أو لا يعلم شيء منهما ، أو يكون الأوّل معلوما دون الثاني ، أو بالعكس.

فعلى الرابع لا وجه للقول بكونه حقيقة في القدر المشترك مع فرض عدم ثبوت استعماله فيه رأسا وإن احتمل جريان الاستعمالات على إرادته في كثير من المقامات ؛ إذ مجرّد الاحتمال غير كاف فيه ، والاستناد إلى الوجه المذكور تخريج محض لا معوّل عليه في باب الأوضاع ، مضافا إلى استلزامه للمجاز أيضا.

وكذا الحال في الأوّل والثاني ، إذ ليس الرجوع إلى ما ذكر استنادا إلى النقل ولا إلى ما يستظهر منه حصول الوضع كما هو معلوم بملاحظة الوجدان.

نعم ، لو فرض حصول ظنّ في المقام أمكن القول بصحّة الاستناد إليه في الجميع كما إذا اطلق على معاني عديدة متكثّرة مشتركة في أمر جامع ظاهر يقرب جدّا وضعه بإزاء ذلك الجامع ، فيكون إطلاقه على كلّ من تلك المعاني من جهة حصوله في ضمنه ، فإنّ التزام وضعه إذن لكلّ من تلك المعاني بعيد جدّا ؛ لما فيه من لزوم التكثّر في الاشتراك المشتمل على زيادة المخالفة للأصل الحاصلة في أصل الاشتراك ، مضافا إلى ندرة وقوعه في الأوضاع فبملاحظة اشتراكها في ذلك الجامع الظاهر يرجّح في النظر تعلّق الوضع به.

وبعد حصول الظنّ من ملاحظة جميع ما ذكرنا بوضعه للقدر المشترك لا إشكال في الحكم به ، وأمّا مجرّد ما تقدّم من الوجه فليس قاضيا بحصول الظنّ ، ومع عدم إفادته الظنّ لا عبرة به.

وظاهر بعض الأفاضل التوقّف في الترجيح في الصورة الثانية لكنّه نفى البعد

٢٧٣

عن ترجيح الاشتراك المعنوي في الصورة الاولى ؛ نظرا إلى أنّ الغالب في الألفاظ المستعملة في المعنيين أن يكون حقيقة في القدر المشترك.

وفيه ـ بعد تسليمه ـ : أنّ بلوغ الغلبة إلى حدّ يورث المظنّة محلّ تأمل ثمّ لو كان قاضيا بحصول الظنّ فلا وجه للتوقّف في الصورة الثانية ، بل الحكم به هناك أولى ، إذ لا حاجة فيها حينئذ إلى الالتزام بالتجوّز في شيء من استعمالاته بخلاف الصورة الاولى ، للزوم التجوّز فيما ورد من استعماله في خصوص كلّ من المعنيين أو أحدهما.

وأمّا الصورة الثالثة فلا يبعد فيها القول بالوضع للقدر المشترك ، نظرا إلى ثبوت استعماله في المعنى الواحد من غير ظهور استعماله في غيره ، فقضيته البناء على أصالة الحقيقة مع اتّحاد المعنى في الظاهر ، وعدم ظهور التعدّد على ما مرّ الكلام فيه هو البناء على ثبوت الوضع له ، فالأصل المذكور المؤيّد بما ذكر هو المستند فيه إن صحّ الأخذ به مطلقا أو مع إفادته الظنّ به كما هو الغالب فيه ، لا مجرّد مرجوحيّة المجاز والاشتراك كما هو مبنى الكلام في المقام.

ومنها : أنّه إذا قيّد اللفظ في الاستعمالات بقيدين مختلفين دلّ ذلك على وضعه للقدر المشترك بينهما ، حذرا من التأكيد المخالف للأصل والتناقض.

والأولى ذكر المجاز مكانه بل ضمّ الاشتراك إليهما أيضا إذا قام احتماله في المقام ، والمستند فيه راجع إلى المستند في الوجه المتقدم.

وقد عوّل بعضهم عليه في الاحتجاج على بعض المباحث الآتية كما يأتي الإشارة إليه ، وحكي البناء عليه من العلّامة رحمه‌الله في التهذيب وغيره. ومنع منه آخرون ، كما يأتي في كلام المصنف رحمه‌الله عند استناد البعض إليه.

والوجه فيه : شيوع وقوع كلّ من التأكيد والتجوّز والاشتراك في الكلام ، فلا يفيد مجرّد لزوم ذلك ثبوت الوضع للأعمّ كما مرّت الإشارة إليه.

وتحقيق المقام : أنّ الأوضاع اللفظيّة من الامور التوقيفيّة المبتنية على توقيف الواضع أو ظهور الوضع من ملاحظة لوازمه وآثاره وتتبّع موارد الاستعمالات ،

٢٧٤

فإثبات الوضع للمعنى ابتداء بمجرّد هذه الوجوه ونحوها غير متّجه على سبيل الإطلاق ، سيّما مع كون التقييد حاصلا في كثير من المقامات شائعا في الإطلاقات وما سيجيء الإشارة إليه من الاستناد إلى أمثال ذلك في مسائل الدوران ليس بالنسبة إلى إثبات نفس الأوضاع وإنّما هو بالنظر إلى الحكم باستمرارها أو نفيها حسب اختلاف المقامات من جهة إفادتها الظنّ في ذلك المقام ، أو بالنظر إلى معرفة حال العبارة من جهة ورود الطوارئ عليها ، أخذا بظواهر الأحوال ، وما جرى عليه الناس في مكالماتهم ومخاطباتهم حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى ، وليس الحال في إثبات نفس المعاني مع عدم ثبوت الوضع لها كالحال في ذلك ، بل لا بدّ من إثباتها بالطرق المقرّرة لها ، ومجرّد ملاحظة هذه الاصول لا يفيد ظنّا في الغالب بتعيّن نفس المعنى الذي وضع اللفظ له.

فالتمسك بالوجوه الدائرة في مباحث الدوران في إثبات نفس المعاني غير سديد ، كما إذا اريد إثبات كون الصلاة حقيقة فيما يعمّ صلاة الأموات بأنّا لو قلنا بوضعها للأعمّ كان إطلاق الصلاة على صلاة الأموات في الاستعمالات الشائعة حقيقة ، وإذا قلنا بكونها حقيقة في خصوص ذوات الركوع والسجود كانت تلك الاستعمالات كلّها مجازا ، أو لزم القول بالاشتراك ، وهما خلاف الأصل ؛ إذ ليس ذلك إلّا من قبيل الاستناد إلى التخريجات العقليّة في إثبات الامور التوقيفيّة ، ولذا لا يفيد ظنّا بالمرام في هذا المقام ، بخلاف المقام المذكور في الدوران ، وسنشير إن شاء الله الى أنّه لا حجّية فيها هناك أيضا مع عدم إفادتها الظنّ في خصوص بعض المقامات ؛ إذ المرجع في مباحث الألفاظ هو الظنّ دون التعبّد فلو فرض حصول ظنّ في المقام بملاحظة الخصوصيّات الحاصلة في بعض المقامات اتّجه الاستناد إلى ما ذكر من وجدانه مقيّدا بالقيدين ، كما إذا شاع تقييد اللفظ بكلّ منهما على نحو واحد بحيث ظهر من ملاحظة الاستعمالات كون مدلول اللفظ هو الأعمّ جاز الاسناد إليه من جهة الظهور المذكور ، لا من مجرّد أصالة عدم التأكيد أو المجاز ونحوهما. فتأمل.

٢٧٥

ومنها : حسن الاستفهام ، فقيل : إنّه يدلّ على اشتراك اللفظ بين المعنيين اللذين يستفهم عنهما اشتراكا لفظيّا أو معنويّا ، وقد يرجّح الثاني بمرجوحيّة الاشتراك اللفظي ، ويمكن ترجيح الأوّل بدعوى ظهور حسن الاستفهام في إجمال اللفظ من جهة تعدّد المعنى ، وإلّا لجاز الأخذ بكلّ من الوجهين في مقام التكليف من غير حاجة إلى السؤال ، وهو ظاهر السيّد رحمه‌الله حيث استدلّ بذلك في بعض المباحث الآتية على ما ذهب إليه من القول بالاشتراك اللفظي.

نعم ، إن كان حسن الاستفهام في مقام الإخبار أمكن ترجيح الأوّل من جهة الأصل المذكور ، سيّما إذا لم يستحسن ذلك في مقام التكليف فإنّه يتعيّن معه البناء عليه.

والحقّ أنّه لا يدلّ على شيء من ذلك ؛ فإنّ حسن الاستفهام إنّما يفيد عدم صراحة اللفظ في أحد الوجهين المذكورين ولو بقيام احتمال التجوّز ونحوه ، فلا يفيد إلّا قيام الاحتمال في المقام الباعث على حسن الاستفهام ولا دلالة فيه على إثبات الوضع أصلا.

ومنها : صحّة الاستثناء ، فإنّها تفيد وضع اللفظ للعموم فيما إذا شكّ في وضعه له ، وكذا تفيد وضع اللفظ بنفسه لما يعمّ المستثنى إذا صحّ الاستثناء منه بعد تصديره بأداة العموم ؛ إذ لو لا ذلك لم يندرج فيه بعد تصديره بها فإنّها إنّما تفيد تعميم اللفظ لما يتناوله بحسب الوضع دون غيره ، ويمكن استناد الأمرين منها إذا كان الشكّ فيهما.

فنقول في كلّ من الصورتين المذكورتين : إنّه لو لا شمول اللفظ لما يعمّ المستثنى لما صحّ استثناؤه ؛ فإنّه موضوع لإخراج ما يتناوله اللفظ ، لوضوح كونه مجازا في المنقطع إذ لا إخراج هناك بحسب الواقع ، ولذا اشتهر بينهم أنّه موضوع لإخراج ما لولاه لدخل في المستثنى منه.

وربّما يعتبر في المقام صحّته مطّردا حذرا عمّا لو صحّ في بعض المقامات ، لجواز أن يكون ذلك لانضمام بعض القرائن.

٢٧٦

وقد يفصّل بين المقامين بأن يقال بإثباته دلالة اللفظ على نفس الشمول والعموم مع ظهور المعنى الّذي تعلق العموم به على فرض ثبوته دون إثبات وضع اللفظ لما يعمّ المستثنى ، فإنّه إذا علم نفس المعنى المتعلّق للشمول وشكّ في عمومه كان صحّة الاستثناء منه مطّردا دليلا على الشمول لابتناء الاستثناء عليه ؛ إذ لا يتعلّق بغير ما يفيد العموم إلّا على سبيل الندرة.

وأمّا إذا علم إفادته الشمول وشكّ في مفاد الأمر المشمول ـ أعني المستثنى منه ـ فإنّ صحّة الاستثناء منه يدلّ على اندراج ذلك فيه ، وملاحظة المعنى الشامل لذلك هناك ، فأقصى ما يفيده استعماله فيما يعمّ ذلك. ومجرّد الاستعمال أعمّ من الحقيقة ولو كان مجازا فالاستثناء المفروض كاف في الدلالة عليه وكونه قرينة لإرادته ، ولا يلزم حينئذ أن يكون الاستثناء منقطعا ؛ ضرورة اندراج المستثنى في المستثنى منه في ظاهر المراد ، كما إذا قيل : «تحذّر من الآساد إلّا زيدا» فإنّه قرينة على إرادة الرجل الشجاع أو ما يعمّه من لفظ «الأسد» فصحّة الاستثناء حاصلة في أمثال ذلك مع انتفاء الحقيقة.

ولا ينافيه كونه لإخراج ما لولاه لدخل ؛ نظرا إلى دخوله فيما اريد من اللفظ وإن كانت القرينة على دخوله نفس الاستثناء ، وهو المخرج عنه أيضا ولا منافاة.

وممّا يشير إلى ما قلناه أنّ صحة الاستثناء لا يزيد على صحّة الحمل بحسب العرف ، فكما لم يجعلوا ذلك أمارة على الحقيقة لاحتمال كون المراد من اللفظ المحمول معناه المجازي فكذا الحال في صحّة الاستثناء ؛ لقيام احتمال كون المراد بالمستثنى منه ما يشمل ذلك مجازا ليصحّ الإخراج ، وهذا بخلاف إفادته دلالة المستثنى منه على العموم كما أشرنا إليه ، ولذا جروا عليه في هذا المقام دون المقام المذكور.

ويشكل بجريان هذا الكلام بعينه في المقام الأوّل أيضا ؛ إذ غاية ما يتوقّف عليه صحّة الاستثناء على سبيل الحقيقة إرادة العموم من المستثنى منه ، كما هو قضيّة حدّه حسب ما ذكر في الاستدلال ، وأمّا كون تلك الإرادة على سبيل الحقيقة فلا ،

٢٧٧

حسب ما اشير إليه في الصورة المذكورة.

توضيح ذلك : أنّ هناك وجوها ثلاثة :

أحدها : أن لا يكون المستثنى منه مستعملا في العموم ، وحينئذ يكون الاستثناء مجازا خارجا عن مقتضى وضعه على ما ذكر في الاحتجاج.

ثانيها : أن يكون مستعملا في العموم لكن على سبيل المجاز ، وحينئذ يكون الاستثناء على حقيقته ، إذ المفروض حينئذ اندراج المستثنى في المستثنى منه وحصول الإخراج بالاستثناء ، كما هو مقتضى حدّه ، وخروج المستثنى منه عن مقتضى وضعه لا يقضي بخروج الاستثناء أيضا.

ثالثها : أن يكون مستعملا في العموم موضوعا بإزائه ، وحينئذ لا مجاز في شيء من الأمرين.

والمقصود في المقام هو الاحتجاج بصحّة الاستثناء على ذلك وهو على فرض صحّته إنّما يفيد ما يعمّ الوجهين الأخيرين ، وغاية الأمر أن يتمسّك حينئذ في إثبات وضع المستثنى منه للأعمّ بأصالة الحقيقة بعد ثبوت استعماله في الأعمّ ، وقد عرفت أنّه لا يتمّ ذلك إلّا مع اتّحاد المستعمل فيه لا مع تعدّده.

ويمكن تتميم الاستدلال حينئذ بوجهين :

أحدهما : أن يقال : إنّ اطّراد صحّة الاستثناء دليل على استفادة العموم منه في سائر استعمالاته ، وإلّا لم يصحّ ورود الاستثناء عليه فيما إذا استعمل في غيره ، فلا يكون صحّة ورود الاستثناء عليه مطّردا هذا خلف ، فيكون اطّراد صحّة الاستثناء منه دليلا على اتّحاد معناه ، وحينئذ فلا إشكال في الحكم بأصالة الحقيقة حسب ما مرّ.

فإن قلت : إنّ ورود الاستثناء عليه قاض باستعماله في الخصوص ، وهو مغاير للعموم فيتعدّد معناه.

قلت : فرق بين استعماله أوّلا في الخصوص ، وكون الخصوص هو المقصود منه أخيرا بعد استعمال اللفظ في العموم أوّلا ليكون قابلا لورود التخصيص عليه ؛

٢٧٨

فإنّ استعماله في الخصوص على الوجه الأوّل قاض بتعدّد المعنى قطعا ، وأمّا على الوجه الأخير فلا سواء أدرجنا التخصيص في أقسام المجاز أو لا كما لا يخفى ، فلا تغفل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الوجه المذكور لا يفيد كون صحّة الاستثناء دليلا على الوضع وإنّما هو دليل على جعل اللفظ من مورد إجراء الأصل المذكور ، فالدليل على الوضع حينئذ هو الأصل.

إلّا أن يوجّه بأنّه لما كان سببا بعيدا في إثبات الوضع اسند ذلك إليه ، ولا مشاحّة فيه بعد ظهور المراد. ولا يخلو عن تكلّف.

ثانيهما : أنّ قبول مدلول اللفظ للاستثناء على سبيل الاطّراد شاهد على وضع اللفظ للعموم ؛ إذ لو لا وضعه له لكان استفادته منه متوقّفا على قيام القرينة عليه فلا يصحّ الاستثناء منه إلّا بعد قيامها هذا خلف ، والقول بكون نفس الاستثناء قرينة عليه ، مدفوع بأنّه إنّما يصحّ جعله قرينة عند وجوده ، وأمّا مجرّد صحّة وروده عليه فلا يعقل أن يكون قرينة عليه ، بل هو شاهد على كون المعنى في نفسه قابلا لذلك ولا يمكن أن يكون كذلك إلّا مع وضعه للعموم ، إذ لو كان موضوعا لغيره فقط أو مشتركا بينه وبين غيره لم يطّرد صحّة ورود الاستثناء عليه ، لتوقّفها على إرادة العموم أوّلا كما عرفت.

وقد يجري التقرير المذكور بالنسبة إلى صحّة الحمل في دلالتها على الحقيقة فيفرّق إذن بين مطلق صحّة الحمل وكون اللفظ مع إطلاقه قابلا للحمل لتوقّف ذلك إذن على قبول معناه الحقيقي له. فتأمل.

هذا ، ويشكل الحال في الاستناد إلى ذلك في المقام الأوّل بأنّ أقصى ما يفيده صحّة الاستثناء حينئذ هو استفادة العموم من المستثنى منه ، سواء كان إفادته ذلك على سبيل الوضع أو بالالتزام من جهة العقل ؛ لصحّة الاستثناء حقيقة على كلّ من الوجهين ، كما في : أكرم كلّ رجل إلّا زيدا ، أو ما جاءني أحد إلّا زيد ، فإنّ شمول الأوّل للآحاد من جهة وضعه له ، والثاني من جهة دلالته على نفي الطبيعة

٢٧٩

المستلزمة (١) لنفي آحادها ، فالاستناد إليه في المثال على الوضع للعموم ليس في محلّه.

نعم ، لو انحصر الأمر في دلالته على العموم على وضعه له كما في لفظة «كلّ» ونحوها أمكن الاستناد إليه في إثباته.

ومنها : اختلاف جمعي اللفظ بحسب معنييه مع ثبوت كونه حقيقة في أحدهما ، فإنّ ذلك دليل على كونه مجازا في الآخر كالأمر ، فإنّه يجمع بملاحظة إطلاقه على القول المخصوص المعلوم وكونه حقيقة فيه على «أوامر» وبملاحظة إطلاقه على الفعل على «امور» فيستفاد من الاختلاف المذكور كونه مجازا في الثاني ؛ إذ لو لا ذلك لما اختلف الجمع بحسبهما ، فانّ اختلافه بالنسبة إليهما دليل على اختلاف حال اللفظ بالنظر إليهما ، ولو كان موضوعا بإزاء كلّ منهما لم يؤثّر ذلك اختلافا في اللفظ بملاحظة كلّ منهما وإنّما يترتّب عليه اختلاف المسمّى والاختلاف في الجمع يترتّب على اختلاف في حال اللفظ وهو غير حاصل ، إلّا مع كونه مجازا في الآخر. كذا يستفاد من الآمدي في الإحكام.

وهو من الوهن بمكان ؛ إذ لا مانع من اختلاف جموع المشترك بحسب اختلاف معانيه ، كما أشار إليه العلّامة رحمه‌الله في النهاية ، فإن اريد باعتبار اختلاف حال اللفظ في اختلاف جموعه ما يعمّ ذلك فممنوع ولا يثبت المدّعى ، وإن اريد به غير ذلك فهو غير بيّن ولا مبيّن ، ومع الغضّ عنه فعدم حصوله إلّا من جهة الاختلاف المذكور غير ظاهر أيضا بل الاختلافات اللفظيّة ككونه اسما في وجه ومصدرا في آخر أولى في البعث على ذلك.

ثمّ بعد تسليم ذلك فلا فرق بين ما إذا علم وضعه لخصوص أحد المعنيين أو لا ، فإنّ الوجه المذكور على فرض صحّته ينفي احتمال الاشتراك ويعيّن كونه مجازا في أحدهما ، غاية الأمر أن لا يتميّز خصوص معناه الحقيقي عن المجازي فلا داعي إلى اعتبار العلم بكونه حقيقة في خصوص أحدهما.

__________________

(١) كذا والمناسب المستلزم.

٢٨٠