هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

الواقع في المقام بمقتضى فهم العرف خلافه ، لعدم فرقهم في ذلك بين لفظ «الأمر» ومصداقه.

وعن السادس أنّه بضميمة أصالة عدم تعدّد الأوضاع وملاحظة استقراء سائر الألفاظ يمكن تتميم المقصود إن قلنا بتعميم محلّ الخلاف لغير مصداق الأمر أيضا ، فبعد ثبوت وضع الصيغة الصادرة من العالي لذلك يثبت الحكم في غيرها أيضا ، نظرا الى الأصل والغلبة المذكورين ، فاحتمال كون الصيغة الصادرة من العالي حقيقة في الطلب الحتمي دون الصيغة الصادرة من غيره مع اتّحاد اللفظ في الصورتين خارج عن سياق الوضع في سائر الألفاظ حسب ما مرّت الإشارة اليه.

وعن السابع بما يأتي الإشارة اليه في كلام المصنّف رحمه‌الله.

وعن الثامن بأنّ احتمال العذاب منفي على القول بعدم إفادته الوجوب من غير قرينة سواء قلنا بكونه للندب أو مشتركا بينه وبين الوجوب لفظيا أو معنويا ، لقضاء أصالة عدم الوجوب بنفيه ، فلا يتّجه توعّده بالعذاب ولو على سبيل الاحتمال.

وعن التاسع بأنّه خروج عن ظاهر الآية ، فإنّ الظاهر دوران الأمر فيما يصيبهم بين الأمرين ، وهو لا يتمّ إلّا في ترك الواجب لعدم قيام احتمال العذاب في ترك المندوب ولو بحكم الأصل حسب ما عرفت.

وقد يجاب عنه أيضا بأنّ قضية التفسير المذكور أن يكون بعض الأوامر للوجوب نظرا الى حمل أو في الآية على التقسيم ، فإمّا أن يكون حقيقة أو مجازا فيه ، والثاني خلاف الأصل ، فيتعيّن الأوّل فإن كان في الباقي للندب فإمّا أن يكون حقيقة فيلزم الاشتراك ، وهو مخالف للأصل ، أو مجازا وهو أيضا مخالف للأصل ، مع أنّه غير مناف للمطلوب.

وأنت خبير بأنّه إن اريد بذلك منع كون بعض الأوامر للندب للزوم الاشتراك أو المجاز فهو مخالف لما عليه القائلون بالوضع للوجوب.

وإن أراد عدم اندراج الأوامر الندبية في الآية فمن الظاهر أنّه لا يختلف

٦٢١

الحال في الأصل المذكور من جهة الاندراج فيها وعدمه.

مضافا الى أنّ الأصل المذكور ممّا لا أصل له ، لتعدّد المستعمل فيه في المقام على أنّ الاستناد الى الأصل على فرض صحّته خروج عن الاستناد الى الآية.

وقد يجاب أيضا بأنّ الحمل على المعنى المذكور يقضي باستعمال المشترك في معنييه ، أعني لفظ «الأمر» في المعنيين المذكورين.

ولا يخفى ما فيه ؛ إذ اشتراك الصيغة لفظا بين المعنيين على فرض تسليم استفادته من الآية بناء على الوجه المذكور لا يستلزم أن يكون مادّة الأمر مشتركا لفظيا.

على أنّه لا يلزم أن يكون اشتراك الصيغة بينهما لفظيا ، إذ قد يكون معنويا ، وكذا القول بكون الصيغة حقيقة في أحد المعنيين مجازا في الآخر لا يقضي بناء على حمل الآية على الوجه المذكور باستعمال لفظ «الأمر» في المقام في حقيقته ومجازه ، وهو ظاهر.

وعن العاشر بما يأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله.

وعن الحادي عشر بأنّ الاحتمال المذكور كسابقه خلاف الظاهر جدّا.

وعن الثاني عشر أنّ تعليق التهديد على مخالفة الأمر كالصريح ، بل صريح في كونه من أجل المخالفة كما في قولك : «فليحذر الّذين يخالفون الأمير أن يهلكهم».

وعن الثالث عشر أنّه لا داعي الى إضمار الإعراض في المقام مع كونه مخالفا للأصل ، ولا الى تضمين المخالفة بمفهوم الإعراض ؛ إذ يكفي في تعديته ب «عن» حصول معنى الإعراض في الترك ، فإنّ ترك المأمور به عمدا من غير عذر في معنى الميل والإعراض عنه ، وبملاحظة ذلك تصحّ تعديته ب «عن» من غير حاجة الى إضمار لفظ آخر ، أو أخذ مفهوم الإعراض في المخالفة ليكون حينئذ ظاهرا فيما ادعاه المورد ، ولذا عبّر المصنف رحمه‌الله عن ذلك بقوله : «فكأنّه ضمن معنى الإعراض».

وعن الرابع عشر أنّه لا داعي الى الحمل عليه مع غاية بعده عن العبارة ،

٦٢٢

مضافا الى إفادته للمطلوب أيضا ، إذ لا وجه لوجوب الحذر عنهم سوى كونهم من أهل الفسوق والعصيان ، لوضوح أنّ مخالفة الأمر الندبي لا يقضي بذلك سيّما مع عود الضمير في «أن تصيبهم» إلى «الّذين» كما هو الظاهر.

وعن الخامس عشر أنّ العبرة في المقام بظاهر اللفظ ، وليس في الظاهر ما يفيد إرادة المعهود فظاهره الإطلاق ، ومع تسليم انصرافه الى العهد فالتهديد إنّما وقع على مجرّد مخالفتهم للأمر ، وهو كاف في المقام ؛ إذ لا يصحّ ذلك من دون استفادة الوجوب من مطلق الأمر.

بقي الإيرادان الأخيران ، والظاهر ورودهما في المقام.

قوله : (حيث هدّد سبحانه مخالف الأمر ... الخ)

استفادة التهديد من الآية إمّا مبنية على كون الأمر في الآية للتهديد أو الإنذار المقارب له ـ كما هو الظاهر من سياقها ـ أو على كون الحكم بالحذر في شأنهم دليلا على حصول موجب العذاب ، وهو معنى الإنذار والتهديد ، والثاني هو الّذي قرّره المصنف.

قوله : (إلّا بتقدير كون الأمر للوجوب)

مبنى الاعتراض على أنّ فهم التهديد من الآية يتوقّف على كون الأمر المذكور للوجوب بناء على أنّ وجوب الحذر دالّ على استحقاق العذاب المفيد للتهديد ، وأمّا استحباب الحذر أو الأمر به على سبيل الإرشاد ونحوه فلا دلالة فيه على استحقاق العذاب ؛ إذ قد يكون ناشئا على احتمال العذاب فلا يفيد كون أوامره للوجوب ، كما هو المطلوب فالمقدّمة الاولى المثبتة لتهديده تعالى مخالف الأمر من جهة وقوع المخالفة محلّ منع ، والحكم به يتوقّف على كون الأمر المطلق للوجوب ، فيدور الاستدلال.

فظهر بما قرّرنا أنّ مبنى الاحتجاج بزعم المورد ليس على كون الأمر المذكور للتهديد ، وإلّا توجّه المنع اليه سيّما مع البناء على كونه مجازا وإنّما يبتني على كون التهديد مستفادا من الكلام حسب ما قرّرناه ، وهو الظاهر من كلام المجيب أيضا ،

٦٢٣

فيتوقّف على كون الأمر للوجوب ، فالإيراد عليه بأنّ كون الأمر بالحذر للتهديد لا يتوقّف على كونه للوجوب ـ ضرورة كون التهديد إنشاء ، والإيجاب إنشاء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر ، فمنع كون الأمر للوجوب ليس داخلا في شيء من المقدّمات المأخوذة في الاستدلال ـ ليس على ما ينبغي.

نعم ، يمكن الإيراد عليه بأنّ فهم التهديد في المقام ليس منحصرا في ذلك ؛ إذ يصحّ استفادته من المقام فإنّ المقام مقام التحذير والتهديد ، ولا يبعد حمل الأمر فيه على الإنذار وبيان كونه المخالفة باعثة على استحقاق العقوبة أو إصابة الفتنة ، كما في قولك : «فليحذر الشاتم للأمير أن يضربه» وقد يحمل على التهكّم أو التعجيز فيفيد التهديد أيضا.

قوله : (إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب أو إباحته)

إذ لو كان هناك استحقاق للعذاب كان الحذر واجبا ، وإلّا كان لغوا وسفها لا يقع الأمر به من الحكيم ، ففي المادّة دلالة على كون الهيئة هنا لإفادة الوجوب وإن لم نقل بوضعها له.

واورد عليه بأنّه إنّما يتمّ بالنسبة الى العذاب المحقّق وقوعه أو عدمه ، وأمّا بالنسبة الى المحتمل فلا ، بل قد وقع مثله في الشرع كثيرا مثل ندب ترك الطهارة بالماء المشمّس ، للحذر عن البرص ، وندب تفريق الشعر ، للحذر عن احتمال التفريق بمنشار النار.

ويدفعه أنّ احتمال قيام المقتضي للعذاب غير كاف في ذلك ، فإنّه إن ثبت هناك مقتض للعذاب فذاك وإلّا قبح العذاب من الحكيم حسب ما يأتي الإشارة اليه في كلام المورد إن شاء الله تعالى وإن كان ما ذكره محلّ كلام ، فمجرّد الاحتمال في بادئ الرأي غير كاف في المقام حتّى يحسن الحذر من جهته ، لما عرفت من انتفائه بعد عدم ثبوت مقتضيه.

قوله : (فلا أقلّ من دلالته على حسن الحذر)

إمّا لاشتراك الأقوال المذكورة في إفادة الجواز ولو بضميمة الأصل ، أو لأنّ

٦٢٤

غاية ما يحتمله ذلك ، إذ لا معنى لحرمة الحذر عن العذاب بناء على احتمال كون الأمر المذكور تهديدا على حصول الحذر.

قوله : (إنّما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب)

إن أراد أنّ حسن الحذر في الظاهر متوقّف على العلم بحصول المقتضي بحسب الواقع فهو ممنوع ؛ إذ احتمال القيام كاف في المقام ، سواء اريد بالحذر المأمور به في الآية الاحتياط والتحرّز عن الوقوع في المكروه ، أو مجرّد الخوف من إصابته.

وإن أراد توقّفه على قيام المقتضي للعذاب ولو على سبيل الاحتمال فلا يفيد التقرير المذكور إلّا قيام احتمال إرادة الوجوب ، فغاية ما يفيده الآية رجحان العمل بالمأمور به ، نظرا الى احتمال كونه للوجوب ، وأقصى ما يستفاد من ذلك إن سلّم عدم كون الأمر حقيقة في خصوص الندب مجازا في غيره ، لعدم احتمال إرادة الوجوب حينئذ نظرا الى حقيقة اللفظ ، ولا دلالة فيه إذن على دفع الاشتراك لفظيا أو معنويا.

ومن هنا ينقدح إيراد آخر على الاستدلال على فرض كون الأمر فيها للوجوب ، إذ قد يكون إيجاب الحذر من جهة قيام احتمال الوجوب واحتمال الوقوع في العذاب فأوجب الحذر دفعا لخوف الضرر.

فمحصّل الآية عدم الأخذ بالأصل في المقام ولزوم الاحتياط ، وأين ذلك من دلالة الأمر بنفسه على الوجوب؟ كما هو المدّعى.

وقد يوجّه كلامه بأنّ المراد قيام المقتضي للعذاب وإن كان مقتضيا لاحتمال العذاب للاكتفاء بذلك في الدلالة على الوجوب ، نظرا الى انتفاء احتمال العذاب على تقدير عدم الوجوب لقبح الظلم عليه تعالى.

وقد يناقش فيه بأنّ أقصى ما يسلّم في المقام انتفاء الاحتمال المذكور على فرض عدم كون الأمر موضوعا للوجوب أو لما يشمله ، وأمّا لو كان مشتركا بين الوجوب وغيره أو موضوعا للقدر المشترك فاحتمال العذاب قائم ، نظرا الى

٦٢٥

احتمال إرادة الوجوب القاضي بترتّب العذاب على الترك وقبح الظلم إنّما يقضي بعدم إيقاع العذاب مع عدم إظهار المقتضي له أصلا ، والمفروض إبداؤه ولو على سبيل الاحتمال الدائر بينه وبين غيره ، فيكون احتمال العذاب على نحو احتمال الوجوب.

نعم ، لو قام دليل على انتفاء الوجوب بحسب الشرع قطعا مع عدم قيام دليل شرعي على الوجوب من جهة الشارع تمّ ذلك ، إلّا أنّه في محلّ المنع.

فإن قلت : إنّ حمل الأمر المذكور على الندب أو الإباحة شاهد على عدم وجوب الفعل المتروك ؛ إذ لو كان واجبا لكان الحذر عمّا يترتّب عليه من العذاب واجبا أيضا ، فعدم وجوبه كاشف عن عدم ترتّب العذاب عليه أصلا.

قلت : لمّا كان الفعل المتروك غير متحقّق الوجوب لم يجب الحذر عمّا يترتّب عليه بمحض الاحتمال من غير علم ولا ظنّ به ، وغاية ما يلزم من ذلك عدم ترتّب العذاب على ترك التحذّر لعدم وجوبه لا على ترك المأمور به كما ادّعي.

والحاصل أنّ مفاد الآية حسن الاحتياط في المقام ، ومن البيّن أنّ ذلك إنّما يكون مع احتمال قيام المقتضي للعذاب ؛ إذ مع عدمه قطعا لا تكون من مورد الاحتياط ، وعدم وجوب الاحتياط حينئذ لا يقضي بعدم رجحانه كما هو قضية الإيراد ، فتأمّل.

قوله : (بل المراد حمله على ما يخالفه)

لا يخفى بعد الوجه المذكور جدّا ؛ إذ لو صحّ حمل مخالفة الأمر على حمله على خلاف ما يراد منه ، فلا شكّ في عدم انصراف اللفظ اليه بحسب العرف ، بل الظاهر من ملاحظة الاستعمالات يومئ الى كونه غلطا ، ولو أمكن تصحيحه فهو في غاية البعد عن الظاهر ، فالإيراد المذكور في غاية الوهن.

والاولى أن يقرّر الإيراد بوجه آخر : وهو حمل المخالفة على مخالفته بحسب الاعتقاد ، بأن يعتقد خلاف ما أمر الله تعالى به ، فإنّ صدق مخالفة الأمر عليه ليس بتلك المكانة من البعد ، كما أنّه يصدق معه مخالفته لله تعالى فلا يفيد ما هو المدعى.

٦٢٦

وما أجاب عن الوجه المذكور يقع جوابا عن ذلك أيضا.

ويمكن الجواب عنه أيضا ـ بعد تسليم صدق المخالفة على ذلك عرفا ـ أنّه لا دليل على تقييده بذلك ، فغاية الأمر أن يعمّ ذلك والمخالفة في العمل ، فيصدق على كلّ منهما ، وذلك كاف في صحّة الاحتجاج.

قوله : (ذمّهم بمخالفتهم)

إذ ليس المقصود من الكلام المذكور الإخبار بعدم وقوع الركوع منهم فيكون الغرض بملاحظة المقام هو ذمّهم على المخالفة وترك الانقياد والطاعة.

قوله : (ولو لا أنّه للوجوب لم يتوجّه الذمّ)

يرد على الاحتجاج بهذه الآية ما عرفته من الإيراد على الأدلّة المتقدّمة من عدم دلالتها على وضع الصيغة للوجوب ؛ إذ غاية ما يستفاد منها إفادتها للوجوب ، وهي أعمّ من وضعها له فلا منافاة فيها لما قرّرناه من ظهور الصيغة فيه من جهة ظهور مدلولها ، أعني الطلب في الطلب الحتمي حتّى يتبيّن الإذن في الترك.

وقد يورد عليه أيضا تارة بأنّ أقصى ما تفيده كون الأمر الّذي وقع الذمّ على مخالفته للوجوب فلا تدلّ على أنّ كلّ أمر للوجوب ، كذا يستفاد من الإحكام.

ويؤيّده أنّ المأمور به بالأمر المفروض هو الصلاة ووجوبها من الضروريات الواضحة ، فكون الأمر المذكور إيجابيا معلوم من الخارج.

ويدفعه أنّ الذمّ إنّما علّق على مجرّد المخالفة وترك المأمور به ، فلو كان موضوعا لغير الوجوب لم يصحّ ذمّهم على مخالفة الصيغة المطلقة كما هو ظاهر الآية الشريفة.

وتارة بأنّه قد يكون الذمّ من جهة إصرارهم على المخالفة ، فإنّ لفظة «إذا» تفيد العموم في العرف فيكون مفاد الآية ذمّهم على مخالفتهم للأمر كلّما امروا بالركوع ، فلعلّ في تلك الأوامر ما اريد به الوجوب ، فتكون المذمّة من جهته ، أو من جهة إصرارهم على المخالفة.

وفيه : بعد فرض تسليم دلالة «إذا» على العموم أنّه غير مناف لصحّة

٦٢٧

الاستدلال ، فإنّ المذمّة الحاصلة إنّما كانت على تركهم للمأمور به وإن تحقّق منهم ذلك مرّات عديدة ، نظرا الى تعدّد الأوامر المتعلّقة بهم ، فإنّ تعدّد صدور الأمر لا يكون قرينة على وجوبه.

واحتمال أن يكون في تلك الأوامر ما يراد منه الوجوب بواسطة القرينة مدفوع بظاهر الآية ، لتعليقه الذمّ على مجرّد المخالفة.

وإن كان المفروض في تلك المخالفة حصولها مكرّرة فلا يصحّ ذلك إلّا مع كون الأمر للوجوب ، نظرا الى عدم أخذ القرينة في ترتّب المذمّة ، وعدم مدخلية الإصرار والاستدامة على ترك المندوب في جواز الذمّ والمؤاخذة لعدم خروجه بذلك عن دائرة الندبية.

وقد يورد عليه أيضا بما مرّ من عدم دلالته على إفادة الوجوب بحسب اللغة كما هو المدّعى ، فأقصى ما يفيده دلالته على الوجوب في الشرع ، كما هو مذهب السيّد ومن وافقه.

ويدفعه ما عرفت من أصالة عدم النقل.

قوله : (بمنع كون الذمّ على ترك المأمور به)

ملخّصه منع كون الذمّ المذكور على مجرّد ترك المأمور به بل على الترك من جهة التكذيب ، وحيث كان هذا الوجه بعيدا عن ظاهر العبارة وكان مدار الاحتجاج على الظاهر أراد بيان شاهد مقرّب للاحتمال المذكور حتّى يخرج الكلام بملاحظته عن الظهور ليصحّ الجواب بالمنع ، فاستند في ذلك الى ظاهر الآية الثانية.

وجعله بعض الأفاضل معارضة واستدلالا في مقابلة الاستدلال المذكور ، قال : «والمراد بالمنع ليس ما هو المشهور في علم الآداب بل المعنى اللغوي».

وأنت خبير بما فيه لبعده جدّا عن ظاهر التعبير المذكور ، فإنّ العبارة في غاية الظهور في منع المقدّمة الاولى وبيان سند المنع ، وحمل المنع على المنع اللغوي في غاية التعسّف ، مضافا الى أنّ المعارضة إقامة دليل يدلّ على خلاف مطلوب

٦٢٨

المستدلّ في مقابلة الدليل الّذي أقامه من غير إبطاله لخصوص شيء من مقدّمات ذلك الدليل ، ومن البيّن أنّ ما ذكر ليس من هذا القبيل ، لوضوح أنّ ما قرّره لا يفيد عدم دلالة الأمر على الوجوب وإنّما يفيد عدم دلالة هذه الآية المستدلّ بها على وضعها للوجوب.

ومحصّله : دفع المقدّمة القائلة بوقوع الذمّ على مخالفة الأمر ، وليس ذلك إلّا منعا متعارفا وبيان سند لذلك المنع ولا ربط له بالمعارضة بوجه.

ولو عدّ إبطال بعض مقدّمات الدليل بإثبات خلافه معارضة في الاصطلاح ـ نظرا الى إقامة الدليل على خلاف الدليل الّذي أقامه المستدلّ على إثبات تلك المقدّمة ، فإنّ الحكم بثبوت تلك المقدّمة أيضا دعوى من الدعاوي فإذا أقام المعترض دليلا في مقابلة الدليل الّذي استند اليه المستدلّ لإثباته كان معارضة بالنسبة الى ذلك ـ فمع ما فيه من المناقشة الظاهرة أنّه غير جار في المقام ، لاكتفاء المستدلّ عن إثبات تلك المقدّمة بظهورها من غير تعرّض للاستدلال عليها ، فكيف يجعل ما ذكره استدلالا في مقابلة الاستدلال.

هذا ، وقد يجعل الإيراد المذكور منعا ومعارضة معا ، فمنع أوّلا من كون الذمّ على مجرّد المخالفة لاحتمال وقوعه على المخالفة الحاصلة على سبيل التكذيب ، نظرا الى كون الترك من الكفّار ، ثمّ أراد الاحتجاج على كون الذمّ على التكذيب دون مجرّد المخالفة.

ولمّا كان مجرّد المنع المذكور ضعيفا لمخالفته لظاهر الآية الشريفة ومناط كلام المستدلّ هو الأخذ بالظاهر ، أضرب في الجواب عن التعرّض له وأشار الى فساد المعارضة المذكورة ، وهو كما ترى خروج أيضا عن ظاهر العبارة وعن ظاهر كلام أرباب المناظرة.

قوله : (فإن كان الأوّل جاز ... الخ)

اورد عليه بأنّه خارج عن قانون المناظرة ، لأنّ اللازم على المستدلّ إثبات أنّ الذمّ على ذلك ولا يكفيه مجرّد الجواز والاحتمال ، وما ذكره المورد إنّما هو

٦٢٩

على سبيل المنع بإبداء الاحتمال الهادم للاستدلال وليس المنع قابلا للمنع.

واجيب عن ذلك بما تقدّمت الإشارة اليه من كون الإيراد المذكور معارضة لا منعا ، فيكتفى في ردّه بإبداء الاحتمال. وقد عرفت ما فيه.

فالصواب في الجواب أن يقال : إنّه لمّا كان المنع المذكور مبنيا على مساواة الاحتمال المذكور لما أخذه المستدل مقدّمة في الاستدلال وكانت الآية الشريفة في ظاهر الحال ظاهرة فيما ادّعاه المستدلّ توقّف منعه على إثبات مساواة الاحتمال المذكور لما ادّعاه المستدلّ أو ترجيحه عليه ، إذ مطلق المنع بابداء مجرّد الاحتمال لا ينافي الاستدلال بالظواهر ، بل لا بدّ من إبداء الاحتمال المساوي أو الراجح ، فصحّة المنع المذكور مبتنية على صحّة ما قرّره في السند ، وحينئذ يكتفى في الجواب بمنع ما قرّره في بيانه لبقاء الظاهر المذكور حينئذ على حاله الى أن يتبيّن المخرج عنه ، فمحصّله أنّ ما جعله باعثا على الانصراف عن ذلك الظاهر غير ظاهر حسب ما قرّره في الجواب ، فتأمّل.

هذا ، وقد ذكروا في المقام وجوها اخر في الاحتجاج على وضع الصيغة للوجوب لا بأس بالإشارة الى جملة منها.

منها : أنّ تارك المأمور به عاص وكلّ عاص متوعّد عليه بالعذاب ، فيكون تارك المأمور به متوّعدا عليه بالعذاب ، وهو دليل على كون الأمر للوجوب.

أمّا المقدّمة الاولى فلظاهر عدّة من الآيات كقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)(١) وقوله : (لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً)(٢) وقوله : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)(٣) وفي كلمات العرب أيضا ما يدلّ عليه كقوله : «أمرتك أمرا حازما فعصيتني» ونحوه قول الآخر ، مضافا الى تصريح جماعة بأنّ العصيان ترك المأمور به ، وربما يحكى الإجماع عليه.

__________________

(١) سورة التحريم : ٦.

(٢) سورة الكهف : ٦٩.

(٣) سورة طه : ٩٣.

٦٣٠

وأمّا الثانية فلقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) الآية (١).

ويورد عليه تارة بالمنع من كون ترك المأمور به مطلقا عصيانا بل إنّما يكون ترك المأمور به على سبيل الوجوب عصيانا ولا دلالة في الآيات المذكورة وغيرها على الإطلاق المذكور ، إذ إضافة العصيان الى الأمر إنّما تقضي بتحقق العصيان بترك المأمور به في الجملة لا أنّ كلّ ترك للمأمور به عصيان كما هو المدّعى.

ويدفعه أنّ ظاهر إطلاق الآيات المذكورة وغيرها تحقّق العصيان بمخالفة أيّ أمر كان ، لا خصوص بعض أقسامه سيّما الآية الثانية.

وتارة بأنّ قضية تلك الآيات وغيرها تحقّق العصيان بترك المأمور به دون مخالفة الصيغة ولا ملازمة بين الأمرين ، فأقصى ما يفيده الحجّة المذكورة دلالة مادّة الأمر على الوجوب وهو غير المدّعى.

ويدفعه ما عرفت من أنّ الصيغة المطلقة الصادرة من العالي أو المستعلي تسمّى أمرا في العرف واللغة ، وهو كاف في المقام.

وثالثا : بالمنع من كون كلّ عاص متوعّدا بالعذاب والآية المذكورة لا دلالة فيها على ذلك ، لاشتمالها على التوعّد بالخلود وهو مختصّ بالكفّار ، كما دلّت عليه الأدلّة.

وما اجيب عنه من أنّ المراد بالخلود المكث الطويل ليس بأولى من التزام التخصيص في الموصول ، مع ما تقرّر من رجحان التخصيص على المجاز.

والقول بأنّ البناء على التخصيص في المقام يوجب خروج أكثر الأفراد ـ للزوم إخراج جميع المعاصي عنه سوى الكفر ، والتزام التجوّز أولى منه ، إذ هو على فرض جوازه بعيد ، حتّى ذهب كثير إلى المنع منه ـ مدفوع بأنّا لا نخصّصه إلّا بأهل الإيمان ، فالباقي أضعاف الخارج.

__________________

(١) سورة الجنّ : ٢٣.

٦٣١

ويمكن أن يقال : إنّ ما دلّ على توعّد العصاة واستحقاقهم للذمّ والعقوبة لا ينحصر في الآية المذكورة بل هو معلوم من ملاحظة سائر الآيات والروايات.

ورابعا : بأنّه لا دلالة فيما ذكر إلّا على كون الأمر للوجوب بحسب الشرع ، لاختصاص الوعيد في الآية بعصيانه تعالى وعصيان الرسول فلا يفيد وضعه بحسب اللغة كما هو المدّعى.

ويدفعه بعد ورود الذمّ شرعا على عصيان غير الله والرسول أيضا ما عرفت من أصالة عدم النقل.

مضافا الى أنّ العصيان حقيقة في مخالفة ما ألزمه الطالب من الفعل أو الترك بحكم التبادر ، فعدّ مخالفة الأمر عصيانا دليل على إفادته الإلزام وإن لم يلزم منه الوجوب المصطلح، إلّا ممّن دلّ الدليل العقلي أو النقلي عن المنع من عصيانه ، حسب ما مرّت الإشارة اليه.

ومما قرّرنا ظهر وجه آخر في إتمام الدليل المذكور من دون حاجة الى التمسّك بالآية الأخيرة.

وخامسا : أنّ ذلك إنّما يفيد إفادة الأمر للوجوب مع الإطلاق ، وهو أعمّ من وضعه له بالخصوص ، إذ قد يكون من جهة انصراف الإطلاق اليه كما أشرنا اليه.

ومنها : ما دلّ على وجوب طاعة الله والرسول والأئمّة عليهم‌السلام من الآية والرواية مع كون الإتيان بالمأمور به طاعة ، كما يشهد به ملاحظة العرف واللغة فيكون الإتيان بالمأمور به واجبا.

ويرد عليه أيضا ما مرّ من إفادته دلالة الأمر على الوجوب بحسب الشرع دون اللغة.

ويجاب بما عرفت من تتميمه بأصالة عدم النقل ، وبأنّ وجوب الطاعة إنّما يتبع إيجاب المطاع ، فلو لا دلالة الأمر على إيجاب المأمور به لم يعقل وجوب الإتيان به ، لوضوح عدم وجوب الإتيان بما لم يوجبه الأمر الّذي يجب طاعته.

فمحصّل الاستدلال : أنّ امتثال الأمر طاعة ، فإذا صدر الأمر ممّن يجب

٦٣٢

طاعته عقلا أو شرعا وجب امتثاله ، سواء في ذلك الأوامر الشرعية أو العرفية ، كأوامر السيّد لعبده والوالد لولده والزوج لزوجته وغير ذلك ، فلا اختصاص له بالشرع.

وأيضا لا يتمّ ذلك إلّا مع دلالة الأمر على الإيجاب لما عرفت من كون الوجوب بالمعنى المصطلح من لوازم الإيجاب الصادر ممّن يجب طاعته.

نعم ، يرد حينئذ أنّ ما يقتضيه الوجه المذكور دلالة الصيغة الصادرة من العالي دون غيره ، وحينئذ لا بدّ في تتميم المدّعى من ضمّ أصالة عدم تعدّد الأوضاع وكون الغالب في وضع الألفاظ عدم اختلاف معانيها بحسب اختلاف المتكلّمين كما مرّ.

ويمكن الإيراد عليه بأنّ فعل المندوب طاعة قطعا وليست بواجبة ، فالقول بوجوب الطاعة مطلقا ممنوع ، وإنّما يجب الطاعة مع إيجاب المطاع ، وحصوله بمجرّد الأمر أوّل الكلام.

وقد يذبّ عنه بأنّ قضية الإطلاقات الدالّة على وجوب طاعة الله تعالى والرسول والأئمّة عليهم‌السلام هو وجوب طاعتهم مطلقا ومن البيّن صدق الطاعة على امتثال الأوامر المطلقة الصادرة عنهم فيجب الإتيان بها إلّا ما قام الدليل على خلافه ، وهو ما ثبت استحبابه.

وفيه : أنّه بعد ظهور صدق الطاعة على امتثال الأوامر الندبية لا بدّ من تقييد ما دلّ على وجوب الطاعة بخصوص ما يتعلّق به الطلب الإلزامي دون غيره ، فصار مفاد تلك الأدلّة هو وجوب الطاعة في خصوص ما ألزموه ، وحينئذ فلا يفيد المدّعى ؛ إذ لا ربط لذلك بدلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الأعمّ منهما.

ألا ترى أنّا لو قلنا بدلالة الأمر على الندب لم يناقض ما دلّ على وجوب الطاعة أصلا ، لاختلاف المقامين فإنّ مفاد ما دلّ على وجوب الطاعة هو وجوب الإتيان بما ألزموه وحتموه ، والكلام في المقام في دلالة الأمر على الوجوب والإلزام ولا ربط لأحدهما بالآخر.

٦٣٣

ومنها : الأخبار الدالّة على ذلك فمن ذلك خبر بريرة وكانت لعائشة وقد زوّجتها من عبد ، فلما أعتقتها وعلمت بخيارها في نكاحها أرادت مفارقة زوجها فاشتكى الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لها : أرجعي الى زوجك ، فإنّه أبو ولدك وله عليك منّ ، فقالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتأمرني بذلك؟ فقال : لا إنّما أنا شافع (١).

فإنّ نفي الأمر وإثبات الشفاعة مع إفادة الشفاعة للاستحباب دليل على كون الأمر للوجوب.

واورد عليه بأنّه قد يكون سؤالها عن الأمر من جهة ثبوت رجحان الرجوع شرعا سواء كان على سبيل الوجوب أو الاستحباب ، فلمّا أعلمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدمه وأنّ أمره بالرجوع على سبيل الشفاعة إجابة لالتماس زوجها قالت : لا حاجة لي فيه.

واجيب عنه بأنّ إجابة شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مندوبة ، فإذا لم يكون الرجوع مأمورا به مع ذلك تعيّن كون الأمر للوجوب.

واورد عليه بأنّه إذا كانت الشفاعة في الرواية المذكورة غير مأمور بإجابتها فلا نسلّم أنّها كانت في تلك الصورة مندوبة ، كذا ذكره في الإحكام.

وأنت خبير بأنّ استحباب إجابة الشفاعة غير كون الطلب الصادر منه على سبيل الندب ، فلا منافاة بين الاستحباب المذكور وعدم ورود الأمر على جهة الندب ، بل على جهة الشفاعة إن جعلناها أحد معاني الصيغة ، أو جعلناها للإرشاد ، فلا حاجة الى إلتزام عدم رجحان إجابة شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لكن الظاهر أنّ الأمر في الشفاعة لا يخلو عن طلب من الشفيع ولو كان غير حتمي، وحينئذ فظاهر قولها : «أتأمرني يا رسول الله» هو السؤال عن طلبه الحتمي ، وليس في كلامها إشارة الى كون السؤال عن رجحان رجوعها اليه في أصل الشرع ، سواء كان على سبيل الوجوب أو الندب ، فحمله على ذلك في غاية

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٨٥ باب ان الامة تكون تحت المملوك ح ١ (مع اختلاف) ، سنن ابي داود ٢ : ٢٧٠ ح ٢٢٣١ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٢٢٢.

٦٣٤

البعد ، فتندفع بذلك المناقشة المذكورة.

نعم ، يرد عليه أنّه لا دلالة في ذلك على مفاد الصيغة وإنّما غايته الدلالة على كون لفظ «الأمر» للوجوب.

ومن ذلك خبر السواك المشهور الوارد من الفريقين ، وهو قوله عليه‌السلام : «لو لا أن أشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» مع تواتر طلبه على سبيل الندب.

وأورد عليه في الإحكام بأن قوله : «أنّ أشقّ» قرينة على كون المراد بالأمر في قوله : «لأمرتهم» هو الأمر الإيجابي ، إذ لا تكون المشقّة إلّا في الإيجاب ، نظرا الى إلزام الفاعل بأدائه.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره بعد تسليمه خروج عن ظاهر الرواية والتزام لتقييد الإطلاق من غير قرينة عليه ، فإنّه كما يصحّ أن يكون ذلك قرينة على التقييد كذا يصحّ أن يكون شاهدا على كون الأمر للوجوب ، كما هو ظاهر إطلاقه وعليه مبنى الاستدلال.

نعم ، يرد عليه ما تقدّم من عدم دلالته على إفادة الصيغة للوجوب ، كما هو المدّعى.

وقد يدفع ذلك بنحو ما مرّت الإشارة اليه.

ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي سعيد الخدري حيث لم يجب دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الصلاة: «أما سمعت قوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)؟ الآية (١) ، فظاهر توبيخه يعطي كون أمره للوجوب ، وكذا احتجاجه على وجوب الإجابة بمجرّد الأمر الوارد في الآية الشريفة.

واجيب عنه بأنّ القرينة على وجوب الأمر المذكور ظاهرة حيث إنّ فيه تعظيما لله تعالى وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ودفعا للإهانة والتحقير الحاصل بالإعراض ، كذا في الإحكام ، وهو على فرض تسليمه إنّما يفيد حمل الأمر الوارد في الآية الشريفة على الوجوب ، وأمّا دلالته على كون الدعاء على سبيل الوجوب فلا ،

__________________

(١) سورة الانفال : ٢٤.

٦٣٥

فيبقى الاستناد الى التوبيخ المذكور على حاله.

وقد يجاب عنه بأنّ دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعلم كونه بصيغة الأمر ولم يعلم أيضا كون التوبيخ الوارد عليه من جهة مجرّد عدم إجابة الدعاء ، بل قد يكون من أجل الأمر الوارد في الآية الشريفة المقرونة بقرينة الوجوب.

لكن لا يذهب عليك أنّ ظاهر ذكر الآية الشريفة في مقام التوبيخ شاهد على عدم اعتبار كون الدعاء بلفظ مخصوص ، فيندرج فيه ما إذا كان بصيغة الأمر لصدق الدعاء عليه بحسب العرف قطعا وأنّ وجوب الإجابة المستفاد من الآية فرع كون الدعاء على سبيل الوجوب ، إذ يبعد القول بوجوب الإجابة مع كون الدعاء على سبيل الندب فيفيد دلالة الصيغة على الوجوب ، وإلّا لم يتّجه إطلاق الحكم بوجوب الإجابة.

ومن ذلك جملة من الأخبار الخاصّة كصحيحة الفاضلين (١) الواردة في التقصير في السفر ، وقد احتجّ الإمام عليه‌السلام بآية التقصير ، فقالا : قلنا إنّما قال الله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ولم يقل : «افعلوا» فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ، ثمّ أجاب عليه‌السلام عنه بورود لا جناح في الكتاب في آية السعي وقد استدلّوا على وجوبه في الحجّ بذكره تعالى في كتابه ، ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له فكذلك التقصير ففي فهمهما الوجوب من صيغة «افعلوا» وتقرير الإمام عليه‌السلام على ذلك دلالة على المطلوب.

ويرد على ذلك وعلى الاحتجاج بسائر الروايات المتقدّمة ما عرفت من أنّ غاية ما يستفاد منها كون الصيغة مفيدة للوجوب ظاهرة فيه ، وهو أعمّ من كون ذلك بالوضع أو من جهة ظهور الطلب فيه ، والظاهر أنّه على الوجه الثاني كما يظهر من ملاحظة ما قدّمناه فلا تفيد المدّعى.

ومنها : الإجماع المحكي في كلام جماعة من الخاصّة والعامّة على الاحتجاج بالأوامر المطلقة الواردة في الشريعة على الوجوب وقد حكاه من الخاصّة

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٥٣٨ باب «٢٢» من أبواب صلاة المسافر ح ٢.

٦٣٦

السيّدان والشيخ والعلّامة في النهاية وشيخنا البهائي ، ومن العامّة الحاجبي والعضدي ، وهو حجّة في المقام سيّما مع اعتضاده بالشهرة العظيمة وملاحظة الطريقة الجارية في الاحتجاجات الدائرة وبضميمة أصالة عدم النقل يتمّ المدّعى.

ولا يذهب عليك أنّ ذلك أيضا أعمّ من المدّعى ، فإنّ قضية الإجماع المذكور انصراف الأمر الى الوجوب ، وهو كما عرفت أعمّ من وضعه له.

قوله : (إذا أمرتكم بشيء (١) ... الخ)

لا يخفى أنّ هذه الرواية في بادئ الرأي تحتمل وجوها ولا ارتباط لشيء منها بدلالة الأمر على الندب حتّى يوجّه به الاحتجاج المذكور ، فإنّ المراد بالشيء المأمور به إمّا الكلّي الّذي له أفراد ، أو الكلّ الّذي له أجزاء ، أو الأعمّ منهما.

وعلى كلّ حال ف «من» في قوله : «منه» إمّا تبعيضية ، أو ابتدائية ، وعلى كلّ حال ف «ما» في قوله : «ما استطعتم» إمّا موصولة ، أو موصوفة ، أو مصدرية ، فهذه ثمانية عشر وجها ففي بعضها يكون مفادها مفاد ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، ولذا أو للوجه الآتي قد تجعل رديفا لذلك الخبر ، ويستدلّ بها على ما يستدلّ عليه بذلك ، وفي بعضها تفيد أنّ الأمر إذا تعلّق بكلّي فالمطلوب أداؤه في ضمن الأفراد المقدورة ، وفي بعضها تفيد الأمرين ، وفي بعضها تفيد وجوب التكرار إن جعلنا الأمر في «فأتوا» للوجوب ، فيمكن أن يحتجّ بها على كون الأمر للتكرار وإلّا أفادت رجحان الإتيان بالمأمور به بعد أداء المقدار اللازم ، كما قد يتخيّل بناء على كون الأمر موضوعا لطلب الطبيعة حسب ما تأتي الإشارة اليه في كلام المصنّف ، وقد يومئ الى هذا الوجه ملاحظة أوّل الرواية وموردها ، فتأمّل.

قوله : (ردّ الإتيان بالمأمور به الى مشيّتنا)

أنت خبير بأنّ المذكور في الرواية هو الردّ إلى الاستطاعة ، وهو مما لا ربط له بالردّ الى المشيّة كما هو مبنى الاستدلال ، وتفسيره الاستطاعة بالمشية غريب

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ـ ٤ ص ٢٥٠.

٦٣٧

وكأنّ الّذي أدخل عليه الشبهة تفسير الاستطاعة بالاختيار ، فإنّ ما لا يستطيعه الإنسان لا اختيار له فيه ثمّ جعل الاختيار بمعى المشيّة ، فإن اختيار الإتيان بالشيء هو مشيّته أو ما يقرب منها ، فيكون قد خلط بين المعنيين ، فإنّ الاختيار بمعنى القدرة غير الاختيار بمعنى الترجيح.

وقد يوجّه أيضا بأنّ كون الفرد المأتي به بعد تعلّق الأمر بالطبيعة هو المقدور من أفرادها أمر واضح غني عن البيان ، فحمل العبارة على ظاهرها قاض بإلغائها فلذا صرف الاستطاعة عن ظاهرها وفسّرها بالمشيّة ، وقد يجعل ذلك مبنيا على الجبر وعدم ثبوت استطاعة للعبد ، فلا بدّ من صرفها الى المشيّة ، ولا يخفى وهن الجميع.

قوله : (وهو معنى الندب)

لا يخفى أنّ الردّ الى المشيّة يشير الى الإباحة ولا أقلّ من كونه أعمّ منه ومن الندب ، فمن أين يصحّ كونه بمعنى الندب؟ ثمّ إنّه لا دلالة فيه على كون اللفظ موضوعا للندب ؛ إذ غاية الأمر أن يكون ذلك مرادا منه ، وهو أعمّ من الحقيقة.

مضافا الى أنّ «اذا» من أدوات الإهمال ، فلا يدلّ إلّا على ردّ بعض الأوامر الى المشيّة ، وأين ذلك من إثبات العموم؟.

وقد يقال : إنّ «إذا» وإن كان من أدوات الإهمال بحسب اللغة ، إلّا أنّها تفيد العموم بحسب الاستعمالات العرفية ، على أنّ الإطلاق كاف في المقام لكونه من مورد البيان وإرادة بعض ما ممّا لا فائدة فيه ، فيرجع الى العموم وإذا دلّت الرواية على حمل المطلقات من الأوامر على الندب كان بمنزلة بيان لازم الوضع ، فيكشف عن وضعه بإزاء ذلك ، وهذا وإن لم يدلّ على وضعه له بحسب اللغة كما هو المدّعى إلّا أنّه يتمّ ذلك بملاحظة أصالة عدم النقل ، هذا غاية ما يوجّه به كلام المستدلّ.

وهو كما ترى في غاية الوهن.

قوله : (وهو معنى الوجوب)

كذا ذكره الحاجبي والعضدي ، وأنت خبير بأنّ الردّ الى الاستطاعة كما هو

٦٣٨

حاصل في الواجب فكذا في المندوب ، ضرورة عدم استحباب الإتيان بغير المقدور فهو أعمّ من الوجوب والندب ، ولذا أجاب الآمدي عنه على الوجه المذكور حيث قال : «إنّه لا يلزم من قوله : ما استطعتم تفويض الأمر الى مشيّتنا فإنّه لم يقل ما شئتم بل قال : ما استطعتم وليس ذلك خاصّة الندب فإنّ كلّ واجب كذلك» انتهى. وحينئذ فلا وجه لكون ذلك معنى الوجوب.

وأجاب عنه القطبي بأنّ المراد بالمعنى لازمه ، فالمراد بكون الردّ الى الاستطاعة معنى الوجوب أنّه لازم معناه ، لا أنّه عينه.

قلت : فيتّجه به العبارة المذكورة حيث إنّ ظاهرها بيّن الفساد ، ضرورة أنّ الردّ الى الاستطاعة ليس عين الوجوب فيصحّ الحكم المذكور ، حيث إنّ اللازم قد يكون أعمّ.

لكنك خبير ببعد التوجيه المذكور عن ظاهر العبارة ، فإنّ غاية ما يحتمله العبارة كون ذلك من روادفه ولوازمه المساوية ، وحينئذ يندفع عنه ما قد يورد عليه من أنّ الردّ الى الاستطاعة ليس عين الوجوب ، والإيراد المذكور باق على حاله.

وربما يوجّه ذلك بأنّ تعليق الإتيان به على الاستطاعة يدلّ على أنّه لا يسقط منا إلّا ما لا استطاعة لنا فيه ، فيفيد الوجوب.

وهو أيضا كما ترى ، فإنّ المعلّق على الاستطاعة قوله : «فأتوا» فإن اريد به الوجوب صحّ ما ذكر ، وإلّا فلا يتمّ ؛ إذ لا يزيد ذلك على إفادة عدم سقوط المندوب مع الاستطاعة.

وقد يوجّه إذن بابتناء ذلك على كون لفظ «الأمر» مفيدا للوجوب فردّه الى الاستطاعة حينئذ محقّق لإرادة الوجوب بخلاف ما لو ردّ الى المشيّة ، كما ادّعاه المستدلّ لدلالته على عدم إرادة الوجوب من الأمر ، كذا يستفاد من كلام بعض الأفاضل.

قوله : (وفيه نظر)

٦٣٩

حكى عن ابن المصنف نقلا عن والده رحمه‌الله في وجه النظر أمران :

أحدهما : أنّ المدّعى ثبوت الوجوب لغة ، فقول المجيب : إنّ الوجوب إنّما يثبت بالشرع لا وجه له.

وثانيهما : أنّ الظاهر من كلامه الفرق بين الإيجاب والوجوب ، والحال أنّه لا فرق بينهما إلّا بالاعتبار.

وأنت خبير باندفاع الوجهين :

أمّا الأوّل فبما عرفت سابقا من أنّ المراد بالوجوب المدلول عليه بالأمر ليس هو الوجوب المصطلح الّذي هو أحد الأحكام الخمسة الشرعية ، بل المقصود منه هو طلب الفعل مع المنع من الترك وعدم الرضا به من أيّ طالب صدر ، وهو المعبّر عنه بالإيجاب في كلام المجيب ، ومن البيّن أن الحاصل بإنشاء الطلب المذكور هو مطلوبية الفعل لذلك الطالب على النحو المفروض ، ولا يستلزم ذلك كون الفعل في نفسه أو بملاحظة أمر ذلك الآمر به ممّا يذمّ تاركه أو يستحقّ العقاب على تركه ، فإنّ تفرّع ذلك على الأمر أمر يتبع وجوب طاعة الآمر بحسب العقل أو الشرع ، ولا ربط له بما وضع اللفظ له ، فالوجوب المدلول عليه باللفظ لغة وشرعا هو المعنى الأوّل ، والوجوب بالمعنى الثاني من الامور اللازمة للمعنى الأوّل في بعض الصور حسب ما عرفت ، وهو إنّما يثبت بواسطة العقل أو الشرع ، وليس ممّا وضع اللفظ له فلا منافاة بين كون الوجوب مدلولا عليه بحسب اللغة ، وما ذكره من عدم ثبوت الوجوب إلّا بالشرع لاختلاف المراد منه في المقامين.

نعم ، كلام المجيب لا يخلو عن سوء التعبير حيث يوهم عدم دلالة الأمر على الوجوب مطلقا إلّا بالشرع ، ولا مشاحّة فيه بعد وضوح المراد.

ومن ذلك يظهر اندفاع الوجه الثاني أيضا ، فإنّ الوجوب الّذي يقول بمغايرته للإيجاب على الحقيقة وانفكاكه عنه بحسب الخارج هو الوجوب بالمعنى الثاني بالنسبة الى الإيجاب بالمعنى الأوّل ، دون الوجوب بالمعنى الأوّل بالنسبة الى إيجابه ، لوضوح عدم انفكاك مطلوبية الفعل على سبيل المنع من الترك عن طلبه ،

٦٤٠