هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

ومن غريب الكلام ما تخيله بعض الأعلام من تفرّع أمرين على الخلاف في المقام.

أحدهما : الاكتفاء بأداء الأذكار الموظّفة وغيرها بتخيّلها بناء على القول بوضعها للصور الذهنيّة ، وأورد على ذلك أنّه لا يتمّ إذا كان مستند الحكم نحو من ذكر أو من قال ونحوهما ، إذ لا يتحقّق ذلك إلّا باللسان ، وأجاب بأنّ تلك أيضا ألفاظ والمفروض وضعها للصور الذهنيّة قال : بل يلزمه الحكم بعدم الامتثال فيما إذا قرأها مع الغفلة عن صورها الذهنيّة ، ولك أن تقول : إنّه يلزم بناء على ظاهر القول المذكور جواز النظر الى المرأة الأجنبيّة في الخارج ، إذ مقتضى الأصل حمل اللفظ على حقيقته الّتي هي الصور الذهنيّة دون الامور الخارجيّة ، وهكذا الحال في أمثاله فلا بدّ له من التزام ذلك أو التزام التجوّز في جميع الاستعمالات وجعل ذلك من الأدلّة على فساد القول المذكور.

ثانيهما : اعتبار اعتقاد المستعمل والمكلّف فيما وضع له اللفظ بناء على وضعها للصور الذهنيّة وإناطة الحكم بالواقع ونفس الأمر بناء على القول بوضعها للامور الخارجيّة قال : وهذا من أهمّ المباحث في الباب ، وكم يتفرّع عليه من الثمرات : مثلا أمر الشارع بإيقاع الصلوات في مواقيتها والى القبلة مع الخلوّ عن النجاسة وأمر بترك المحرّمات وغير ذلك ممّا تعلّق به التكاليف الشرعيّة ، فلو قلنا إنّ المعاني الموضوع لها هي ما يكون باعتقاد الملكّف يلزم دوران الأمر مدار ما اعتقده دون الواقع بخلاف ما إذا قلنا بوضعها للامور الواقعيّة.

وأنت خبير بوضوح عدم تفرّع شيء من الأمرين على المسألة المذكورة ، وتفريع الأوّل عليها مبنيّ على حمل مراد القائل بوضعها للصور الذهنيّة على الصور بملاحظة أنفسها لا من حيث كونها مرآة للواقع ، وقد عرفت أنّه لا مجال لأن يحتمله أحد في المقام ، كيف! ولو كان كذلك لكان اللازم على القول المذكور الاكتفاء في أداء العبادات والمعاملات والواجبات والمحرّمات وغيرها بمحض التخيّلات ، وكذا في سائر الأحكام الجارية في العادات، أو التزام التجوّز في جميع

٣٦١

تلك الاستعمالات ، ومن البيّن أنّ عاقلا لا يقول به ومثله لا يليق أن يذكر في الكتب العلميّة ولا أن يعدّ ثمرة.

وتفريع الثاني مبنيّ على الخلط بين هذه المسألة ومسألة أخذ الاعتقاد في مدلولات الألفاظ ، وقد عرفت الفرق بين المقامين وأنّ اعتبار ذلك ممّا لم يذهب اليه أحد من المحقّقين وإنّما ذلك من توهّمات بعض القاصرين.

نعم ، قد وقع الكلام بين جماعة من الأعلام في خصوص بعض الألفاظ كالطاهر والنجس بحسب الشرع ، نظرا الى ما يفيده بعض الأخبار ، وهو كلام آخر.

وممّا يستطرف في المقام ما قد يسبق الى بعض الأوهام من تفرّع حرمة النظر الى صورة الأجنبيّة في الماء أو المرآة أو المنقوشة في الحائط أو القرطاس ، وهو إنّما نشأ من الاشتراك في لفظ الصورة. نعم لو ذكر مكان ذلك تخيّل الصورة الأجنبيّة أمكن التفرّع بناء على الخيال المذكور.

الثانية عشر

لا خلاف ظاهرا في كون المشتقّات من الصفات كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ونحوها حقيقة في الحال ، لا بمعنى وضعها لخصوص الحال على أن يكون الزمان جزء من مدلولها ، ولا بمعنى اعتبار اتّصاف الذوات الّتي تجري عليها بمبادئها في خصوص الحال الّتي يحكم فيها بثبوتها لموصوفاتها ، ليلزم القول بالاشتراك لو قيل بكونها حقيقة في الماضي ، بل المراد كون إطلاقها على ذلك في الجملة على سبيل الحقيقة سواء كانت موضوعة لخصوص ذلك أو لما يعمّه ، فهي حقيقة في ذلك في الجملة سواء كانت موضوعة له بالخصوص أو كان ذلك مصداقا حقيقيّا لما وضع له.

وقد نصّ جماعة من القائلين بكونها حقيقة في الماضي على كونها حقيقة في القدر المشترك ، فلا وضع عندهم بالنسبة الى خصوص الحال كما قد يتوهّم في المقام.

وكذا لا خلاف في كونها مجازا في الاستقبال سواء اخذ فيها معنى الاستقبال

٣٦٢

أو اريد إثبات ذلك المفهوم له حال الحكم ؛ نظرا الى حصوله في المستقبل فيكون الثبوت المأخوذ في تلك الصفات هو الثبوت في الجملة الشامل لثبوته في الاستقبال أيضا ، فيصحّ الحمل في الحال نظرا الى تلك الملاحظة.

وظاهر ما حكى في الوافية عن صاحب الكوكب الدرّي احتمال كونه حقيقة في الاستقبال أيضا ؛ لذكره أنّ إطلاق النحاة يقتضي أنّه إطلاق حقيقي.

فإن أراد بذلك أنّ حكمهم بمجيء المشتقّ للاستقبال ـ كما نصّوا بمجيئه للماضي والحال ـ ظاهر في كونه حقيقة فيه فوهنه ظاهر ، سيّما مع عدم منافاته للحال بالمعنى الّذي سنقرّره إن شاء الله.

وإن أراد الاستناد الى إطلاقهم اسم الفاعل على ضارب غدا ـ كما قد يحكى عنه ـ فهو موهون من وجوه شتّى سيّما مع خروج ذلك عن محلّ الكلام أيضا ؛ إذ هو من قبيل الاستعمال في حال التلبّس وإن لوحظ فيه الاستقبال بالنسبة الى حال النطق.

فما يظهر من غير واحد من الأفاضل في كون ذلك من قبيل الاستعمال في الاستقبال بالمعنى الملحوظ في المقام كما ترى ، وسيظهر لك حقيقة الحال.

وقد وقع الخلاف في صحّة إطلاقه حقيقة من جهة التلبّس به في الماضي على قولين أو أقوال يأتي الإشارة اليها ، وقبل الخوض في المسألة وبيان الأقوال فيها والأدلة لا بدّ من بيان امور ينكشف بها حقيقة المقصود :

أحدها : أنّ المراد بالحال في المقام هو حال التلبّس أي الحال الّذي يطلق عليه اللفظ بحسبه ، سواء كان ماضيا بالنسبة الى حال النطق أو حالا أو مستقبلا ، فلو قلت : «زيد كان ضاربا أو سيكون ضاربا» كان حقيقة لإطلاقه على الذات المتّصفة بالمبدأ ، بالنظر الى حال اتّصافه وتلبّسه به وإن كان ذلك التلبّس في الماضي أو المستقبل ، وأمّا اذا اريد به الاتّصاف في حال النطق فهو أيضا حقيقة ، إلّا أنّه لا قائل باعتبارها بالخصوص في صدق المشتقّات حتّى يكون إطلاقها على من تلبّس في ماضي النطق أو مستقبله مجازا مطلقا ، وهذا مع غاية ظهوره من ملاحظة إطلاقات المشتقّات منصوص به في كلامهم ، بل حكي عن جماعة

٣٦٣

دعوى الاتفاق عليه والزمان المأخوذ في الفعل ملحوظ على الوجه المذكور أيضا ، فالحال الملحوظ في المضارع إنّما يراد به حال التلبّس على الوجه الّذي قرّرناه ، سواء وافق حال النطق أو كان ماضيا بالنسبة اليه أو مستقبلا ، كما في قولك : جاءني زيد وهو يتكلّم ، وسيجيء زيد وهو يضرب عمرا وكذا الحال في المضي والاستقبال فيعمّ كلّ منهما كلّا من حال النطق وماضيه ومستقبله.

وظهور إطلاق الفعل إذا اريد به الحال في حال النطق كما يظهر من الرجوع الى العرف إنّما هو من جهة استظهار كونها حال التلبّس ، كما أنّ الماضي والمستقبل أيضا إنّما ينصرفان مع الإطلاق الى ما يقابل حال النطق.

وربما يعزى الى البعض القول باختصاص الحال هنا بحال النطق وقد حكي عن ظاهر أكثر العبارات ، وصريح بعض أنّ المراد بالحال في المقام هو حال النطق وربما يومئ الى ذلك ما يأتي من الاحتجاج بقول النحاة على صحّة قولنا : «ضارب أمس» على كونه حقيقة في الماضي ، وما ذكره جماعة من كون ضارب في قولنا : «ضارب غدا» مجازا بل في كلام العضدي حكاية الاتّفاق عليه وهو لا يتمّ إلّا على إرادة حال النطق ؛ إذ لو كان الملحوظ هو حال التلبّس لم يصحّ الاحتجاج المذكور ولا حكمهم بالمجازيّة في قولنا : «ضارب غدا» ، إذ ليس إطلاق الضارب في قولنا : «ضارب أمس ، أو ضارب غدا» إلّا باعتبار حال التلبّس سواء اخذ قولنا : «أمس وغدا» ظرفا للنسبة أو قيدا في المحمول.

والحاصل أنّه قد اطلق الضارب على الموضوع المذكور باعتبار حال صدقه عليه من الأمس أو الغد ، سواء اريد بذلك الحكم بصدق ذلك المفهوم عليه في الأمس أو الغد ـ كما هو الظاهر من العبارة ـ أو اريد صدق ذلك المفهوم مقيّدا بملاحظة حصوله في الأمس أو الغد عليه في الحال ، إذ من البيّن إطلاق المشتقّ على كلّ من الوجهين على الذات المتلبّسة بالمبدأ ، فعلى الأوّل قد حمل على الذات الغير المتلبّسة في الحال لا باعتبار حال عدم تلبّسها ، بل باعتبار زمان تلبّسها به ، وعلى الثاني قد لوحظ صدقه على المتلبّس بالمبدأ بالنظر الى حال

٣٦٤

تلبّسه به من الماضي أو المستقبل وحمل مقيّدا بذلك الاعتبار على الذات الغير المتلبّسة في الحال فليس إطلاق المشتقّ حينئذ إلّا بالنظر الى حال التلبّس أيضا ، إلّا أنّ في صحّة الحمل المذكور ، إذن من دون حاجة الى التأويل تأمّلا وهو كلام آخر لا ربط له بالمقام ، فبملاحظة ذلك قد يشكل الحال في دعوى الاتّفاق المذكور.

قلت : كلامهم في المرام غير خال عن الإبهام ، وكثيرا ما يقع الخلط في المقام ، والّذي يقتضيه التحقيق هو ما ذكرناه ، والظاهر أنّ إطلاق «الضارب» في المثالين على سبيل الحقيقة حسب ما قرّرناه وغاية ما يمكن أن يوجّه به ما ذكروه أنّ قضيّة الحمل في قولنا : «زيد ضارب» هو ثبوت ذلك المفهوم لزيد في حال النطق كما هو ظاهر من الرجوع الى العرف ، فإذا قيّد بذلك كان خارجا عن مقتضى وضعه.

نعم ، لو اكتفينا في صدق مفهوم الضارب بالفعل بثبوت المبدأ للذات في أحد الأزمنة الثلاثة صحّ الحمل على سبيل الحقيقة ، وكان قولنا : «غدا» قرينة على خصوص ما هو حاصل في المقام من تلك الأقسام ، إلّا أنّه ليس ذلك هو المفهوم من المشتقّ بالاتّفاق ، وهذا بخلاف قولك : «زيد يكون ضاربا غدا» إذ قضيّته ثبوت المحمول له في المستقبل فلا مجاز أصلا.

وأمّا قولك : «ضارب أمس» فيبتني المجازيّة وعدمه فيه على الخلاف المذكور ، فلو قيل بوضع المشتقّ للأعمّ من الماضي والحال فلا شكّ في صدق ذلك المفهوم عليه في الحال من غير تجوّز ويكون ذكر «أمس» قرينة على تعيين أحد الوجهين ، وإن قلنا بوضعه للحال كان أيضا مجازا كالمستقبل.

والتجوّز في المقام وإن كان بالنسبة الى الحمل دون اللفظ بالنظر الى معناه الأفرادي ، إلّا أنّ السبب فيه هو ملاحظة معناه الافرادي كما عرفت ، فالإجماع على المجازيّة في المثال المذكور من جهة إجماعهم على عدم وضعه للمعنى الأعمّ.

وأنت خبير بأنّ ذلك مع وهنه وإن احتمل بالنسبة الى ما ذكر في الاحتجاج ،

٣٦٥

إلّا أنّه بالنظر الى كلام العضدي في غاية البعد ؛ لظهور عبارته جدّا في حكاية الإجماع على التجوّز في المشتقّ.

إلّا أن يقال : إنّه مع ظهور الحمل المذكور في اتّصاف الموضوع بالمحمول في حال النطق يكون ذلك قرينة على استعمال المشتقّ في الأعمّ ممّا حصل له المبدأ في الاستقبال ، فيصحّ الحمل ويكون قوله : «غدا» قرينة على ذلك ، ويجري مثله فيما ذكروه في الاحتجاج.

وفيه : أنّه لا شكّ في أنّ الملحوظ في المقام ليس إثبات مفهوم الضارب له في الحال ليلزم الملاحظة المذكورة في مفهومه حتّى يصحّ حمله كذلك ، بل المقصود على الوجه الأوّل إثبات ذلك المفهوم له في زمان الماضي أو المستقبل ، وعلى الوجه الثاني إثبات المفهوم المقيّد بحصوله في الماضي أو المستقبل بالنسبة الى الحال ، نعم قد يكون دعوى الإجماع المذكور مبنيا على ما ذكر وإن كان فاسدا كما عرفت.

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمّل في كون المشتقّات حقيقة بالنسبة الى حال التلبّس ولا عبرة فيها بحال النطق ، وينبغي حمل ما يتراءى منافاته لذلك من كلماتهم على ما لا ينافيه لوضوح الحال فيه.

وكأنّ المنشأ في توهّم البعض على ما حكي عنه انصراف حمل المشتقّ على الذات مع الإطلاق الى اتّصافها به في حال النطق كما في قولك : «زيد قائم ، أو عالم ، أو نائم» ونحو ذلك ، فتوهّم من ذلك كونه حقيقة في خصوص حال النطق وهو بيّن الفساد ؛ إذ قضيّة الحمل حينئذ هو الحكم بثبوت المحمول له بالنسبة الى الحال فيكون حال تلبّسه هو حال النطق ، فانصرافه اليه على القول بوضعه للحال من جهة كونه حال التلبّس ، لا من جهة كونه حال النطق ، وهو ظاهر.

وكذا المراد بالاستقبال في المقام هو الاستقبال المقابل للحال المذكور ، وذلك بأن يطلق المشتقّ على غير المتلبّس بالمبدأ نظرا الى تلبّسه به بعد ذلك ، كأن يطلق الضارب على زيد في الحال باعتبار صدور الضرب منه في الاستقبال ، وهذا الّذي

٣٦٦

اتّفقوا على كونه مجازا فيه ، فمحلّ الخلاف هو إطلاقه على المتلبّس في الماضي في مقابلة الحال والاستقبال المذكورين وليس الخلاف في كونه حقيقة في خصوص الماضي أيضا ، كما قد يتوهّم على ما سيجيء الإشارة اليه عند بيان الأدلّة ، بل النزاع كما أشرنا اليه في كونه موضوعا لخصوص المتلبّس بالمبدأ بالنظر الى حال تلبّسه به أو لما حصل له التلبّس به في الجملة ، سواء كان في الحال أو الماضي ليكون إطلاقه حقيقة في الصورتين.

ثانيها : المعروف بين علماء العربيّة وغيرهم عدم دلالة الصفات على الزمان على سبيل التضمّن على ما هو الحال في الأفعال ، والظاهر أنّه ممّا لا كلام فيه وإن أوهم بعض العبائر دلالتها على الزمان كذلك ؛ إذ كونها من جملة الأسماء وعدم اندراج الزمان في مداليل الأسماء من المسلّمات المشهورات كما هو ظاهر من ملاحظة حدودها وغيرها.

مضافا الى اتّضاح ذلك من ملاحظة الاستعمالات ؛ إذ لو كان الزمان جزء من مدلولها لدلّت عليه على نحو دلالة الأفعال ، مع وضوح الفرق بينهما بعد ملاحظة العرف ، وظهور عدم انفهام الزمان منها كذلك.

وقد يتراءى من كلام القائلين بكون المشتقّ حقيقة في الحال أن يكون الزمان مأخوذا في مفهومه على سبيل التضمّن ، ولذا احتمل بعضهم اختلاف مذهبي أهل العربيّة والاصول في دلالة المشتقّات على الزمان.

وهو توهّم ضعيف ؛ إذ ليس في كلام أهل الاصول ما يومئ الى كون الزمان مدلولا تضمّنيا للمشتقّات كما ستعرف ذلك من ملاحظة أقوالهم وأدلّتهم في المقام.

والأظهر أنّه لا كلام في عدم دلالتها على الزمان على سبيل القيديّة أيضا ـ بأن يكون قد اخذ أحد الأزمنة الثلاثة قيدا في مدلولها بحسب الوضع ، فيكون ما وضعت بإزائها هو الذات المتّصفة بالمبدأ مقيّدا بكون الاتّصاف في الحال على أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا ـ لما عرفت من أنّ القائل بكونها حقيقة في الماضي لا يقول بدلالتها على الزمان أصلا ، وإنّما يعتبر في مفهومها تحقّق

٣٦٧

الاتّصاف في الجملة ، وليس مقصوده اشتراكها بين الماضي والحال لتكون دالّة على الزمان ، واحتجاجهم على ذلك بتحقّق استعمالها في الأزمنة ، فظاهر الاستعمال يقتضي كونها حقيقة في الكلّ خرج الاستقبال بالإجماع فبقي الباقي لا دلالة فيه على ذلك ؛ إذ المقصود من ذلك إطلاق اللفظ باعتبار الاتّصاف في الماضي أو الحال أو الاستقبال لا استعماله في خصوص كلّ من تلك الأزمنة ، كيف! ولو اريد ما يتراءى من ظاهره لكانوا قائلين باندراج الزمان في مدلولها على سبيل التضمّن كما في الأفعال ، وقد عرفت وضوح فساده.

فمحصّل استدلالهم أنّها قد اطلقت على الذات المتّصفة بالمبدأ في أيّ من الأزمنة الثلاثة ، وحيث دلّ الدليل على كونها مجازا باعتبار الاتّصاف اللاحق فالأصل المذكور يقتضي كونها حقيقة باعتبار الاتّصاف الحاصل ، سواء كان في الماضي أو الحال ، وذلك ممّا لا ربط له بدلالتها على الزمان على نحو الشطريّة أو الشرطيّة كما لا يخفى ، مضافا الى ما عرفت من عدم ظهور قائل باشتراك المشتقّات لفظا بين المعنيين.

وقد صرّح جماعة من القائلين بكونها حقيقة في الماضي بكونها حقيقة في القدر المشترك ، وسيظهر لك ذلك من ملاحظة أدلّتهم إن شاء الله.

وأمّا القائلون بكونها حقيقة في الحال فلم يريدوا بذلك إلّا كونها حقيقة في الذات المتّصفة بالمبدأ على أن يكون اتّصافها به حاصلا متحقّقا فمهما اطلقت على ذات لا بدّ من اتّصافها بذلك المبدأ في الحال الملحوظ في ذلك الإطلاق ، وأين ذلك من دلالتها على الزمان وأخذ الزمان قيدا في مدلولها؟ فالحال فيها نظير الحال في الجوامد فإنّها إنّما تصدق على مصاديقها مع صدق مفاهيمها عليها في الحال ، وسيجيء توضيح الكلام فيه إن شاء الله.

على أنّك قد عرفت أنّ الحال المذكورة هي حال التلبّس ، وليست بالحال المعدودة من أحد الأزمنة وإن اندرجت فيها في بعض الاعتبارات.

فجعل النزاع في المقام في كون الحال قيدا فيما وضعت بإزائه على القول

٣٦٨

بكونها حقيقة في الحال ـ ليكون الحال إذن مدلولا التزاميّا بيّنا بالمعنى الأخصّ للمشتقّات ويكون دلالتها عليه على نحو دلالة العمى على البصر وعدمه على القول الآخر ، لكون مجرّد الاتّصاف ولو في الماضي كافيا في صدقها عندهم كما يوجد في كلام بعض الأفاضل ـ ليس على ما ينبغي ؛ إذ لا دلالة في كلام القائلين بكونها حقيقة في الحال على ذلك ، لإمكان تصحيحه على نحو ما قلناه بل واستظهاره من كلامهم حسب ما سنقرّره إن شاء الله.

فظهر بما قرّرناه أنّه لا ربط للنزاع المذكور بأخذ الزمان في مفاهيم المشتقّات على سبيل التضمّن أو التقييد ، ولا يلزم اعتبار شيء من الوجهين في شيء من الأقوال المذكورة في المسألة ، ولا معارضة بين كلمات علماء الاصول وما ذكره النحاة من عدم دلالتها على الزمان ، وما صرّح به علماء البيان من عدم إفادتها التقييد بأحد الأزمنة الثلاثة حسب ما حكي عنهم (١).

ثالثها : أنّ المشتقّات الّتي وقع النزاع فيها في المقام تعمّ أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة وأسماء التفضيل والأوصاف المشتقّة ، كالأحمر والأصفر والحمراء والصفراء ونحوها من الصفات.

وربما يقال بخروج اسم المفعول عن محلّ البحث ، وكذا الصفة المشبّهة واسم التفضيل لظهور الوضع للأعمّ في الأوّل ، ولخصوص الحال في الأخيرين.

ويضعّفه إطلاق كلمات الاصوليين من غير إشارة منهم الى تخصيص النزاع باسم الفاعل والتعبير الغالب في كلماتهم بلفظ المشتق الشامل للجميع.

وقد فرّع غير واحد من الأفاضل على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس بعد زوال حرارته ، مع أنّه من قبيل اسم المفعول.

ثمّ إنّ ظاهر كلماتهم تعميم النزاع فيها لسائر أحوالها وأنواعها من غير تقييد لمحلّ البحث ببعض صورها إلّا أنّه قد وقع تقييد النزاع ببعض الصور في كلمات

__________________

(١) فبناء بعض الأفاضل على تحقّق المعارضة بين ما حكي عن علماء البيان وما ذهب اليه جماعة من علماء الاصول ليس على ما ينبغي (منه رحمه‌الله).

٣٦٩

جماعة من المتأخّرين على وجوه شتّى :

منها : ما ذكره التفتازاني من أنّ النزاع في اسم الفاعل الّذي بمعنى الحدوث لا في مثل المؤمن والكافر والنائم واليقظان والحلو والحامض والحرّ والعبد ونحو ذلك ممّا يعتبر في بعضه الاتّصاف به مع عدم طريان المنافي وفي بعضه الاتّصاف بالفعل البتة.

ومنها : ما ذكره الشهيد الثاني طاب ثراه والإسنوي وجماعة من المتأخّرين من اختصاص النزاع بما إذا لم يطرأ على المحلّ ضدّ وجودي للوصف الزائل ، وأمّا مع طريانه فلا كلام في عدم صدق المشتقّ على سبيل الحقيقة ، وحكي عن الرازي في المحصول دعوى الاتّفاق على المجازيّة حينئذ ، قال بعض أفاضل المتأخّرين : لم نجد ذلك في المحصول ولا في كلام علماء الاصول.

ومنها : تخصيص النزاع بما إذا كان المشتقّ محكوما به ، وأمّا إذا كان محكوما عليه فلا كلام في صدقه مع الزوال ، وقد حكي التخصيص المذكور عن الشهيد الثاني والغزالي والإسنوي وهذا التخصيص من جانب القائل باشتراط البقاء ، كما أنّ الأوّلين من جانب القائلين بعدمه.

ويضعّف جميع هذه التقييدات إطلاق كلماتهم في المسألة وعدم تعرّض أحد من المتقدّمين للتقييد ، بل وكذا جماعة من المتأخرين ، وتصريح جماعة منهم بأنّ تلك التقييدات إنّما نشأت بين المتأخّرين وليس هناك تعرّض لها في كلام الأوّلين.

ويشهد له ملاحظة أدلّتهم في المسألة حيث استندوا فيها الى ما هو من قبيل ما أخرجوه من محل البحث ، ومنه حدث إلتجاء كلّ من الفريقين الى التخصيص حيث ضاق به الخناق في الحكم بالإطلاق ، ورأوا ظهور فساد القول بإطلاق الاشتراط أو عدمه فبنوا على خروج ذلك عن محلّ البحث.

وكيف كان ، فمع البناء على الإطلاق في محلّ البحث كما هو الظاهر يكون التخصيصات المذكورة في بعض الوجوه تفصيلا في المسألة.

إذا تقرّر ذلك فنقول : المعروف بين الاصوليين في المقام قولان :

٣٧٠

أحدهما : عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ ، وهو المعروف بين أصحابنا وقد نصّ عليه العلّامة رحمه‌الله في عدّة من كتبه والسيد العميدي والشهيد والمحقّق الكركي ، وعزاه جماعة الى أصحابنا الإمامية مؤذنين باتّفاقهم عليه منهم السيد العميدي والشهيد الثاني ، وأسنده في المبادئ الى أكثر المحقّقين ، وفي المطوّل الى الأكثر ، وقد ذهب اليه كثير من العامّة منهم عبد القاهر والشافعي ومن تبعه ، وحكي ذلك من الجبائي والمعتزلة ، وعزي الى ابن سينا وغيره.

ثانيهما : القول باشتراط البقاء ، وعزي الى الرازي والبيضاوي والحنفيّة ، وحكاه في النهاية عن قوم.

ويحكى هناك قول ثالث ، وهو اشتراط البقاء فيما يمكن بقاؤه وعدمه في غيره ، وعزاه في النهاية الى قوم ، إلّا أنّه قال في أثناء الاحتجاج : «إنّ الفرق بين ممكن الثبوت وغيره منفيّ بالإجماع» وهو يومئ إلى حدوث القول المذكور أيضا وكونه خرقا للإجماع.

ولبعض المتأخّرين من أصحابنا تفصيل آخر ، وهو أنّ المشتقّ حقيقة في الماضي إذا كان اتّصاف الذات بالمبدأ أكثريّا ، بحيث يكون عدم الاتّصاف بالمبدأ مضمحلا في جنب الاتّصاف ، ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه ، سواء كان المشتقّ محكوما عليه أو به ، وسواء طرأ الضدّ أو لا.

وربما يفصّل في المقام بين الألفاظ وخصوص المشتقّات فلا يجعل هناك ضابطة في الاشتقاق ، بل يقال بدوران الأمر في كلّ لفظ مدار ما هو متبادر منه ، فنحو القاتل والضارب والآكل والشارب والبائع والمشتري حقيقة في الأعمّ ، ونحو النائم والمستيقظ والقائم والقاعد والحاضر والمسافر حقيقة في الحال.

وربما يجعل الأصل في أسماء المفعولين البناء على الأوّل ؛ نظرا الى غلبة وضعها لذلك ، والأصل في الصفات المشبّهة وأسماء التفضيل هو الثاني لذلك أيضا ، فيلحق المشكوك بالغالب.

وقد يقال بخروج المشتقّات المذكورة عن محلّ النزاع حسب ما أشرنا إليه.

٣٧١

حجّة القول بعدم اشتراط البقاء وجوه :

أحدها : الأصل فإنّها تستعمل تارة في الحال ، واخرى في الماضي ، والأصل فيما استعمل في معنيين أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، دفعا للاشتراك والمجاز.

ثانيها : التبادر ، إذ المتبادر من القاتل والضارب والمحسن والمكرم والبائع والمشتري ونحوها هو من تحقّق منه تلك المبادئ ، سواء كان في حال صدوره أو بعدها ، ولذا نجد الفرق بين قولنا : «ضارب وضارب الآن ...» وهكذا في غيره وليس ذلك إلّا لإطلاق الأوّل وتقييد الثاني.

ثالثها : عدم صحّة السلب ، إذ لا يصحّ سلب القاتل والضارب مطلقا عمّن وقع منه القتل أو الضرب وانقضى ، فيفيد ذلك اندراجه في المفهوم المذكور فيكون موضوعا لما يعمّه.

رابعها : أنّه يصحّ قطعا أن يقال في العرف على سبيل الحقيقة لمن وقع منه الضرب في اليوم السابق : «إنّه ضارب أمس» وصدق المقيّد يستلزم صدق المطلق.

خامسها : صحّة تقسيمها الى المتلبّس بالمبدأ في الحال والمتلبّس به في الماضي ، وظاهر القسمة يعطي كون المقسم حقيقة فيما يعمّ القسمين.

سادسها : صحّة تقييدها بالحال والماضي تقول : «زيد ضارب الآن وضارب أمس» من غير لزوم تكرار ولا تناقض ولو كانت حقيقة في أحد الأمرين لزم أحد المذكورين.

سابعها : أنّها لو كانت حقيقة في الحال خاصّة لكان إطلاق المؤمن على الغافل والنائم والمغمى عليه مجازا ؛ لعدم حصول المبدأ فيهم ، ومن الواضح خلافه ؛ للإجماع على صدق المؤمن عليهم في تلك الأحوال من غير شكّ.

ثامنها : أنّه لو اعتبر في صدقها التلبّس بالمبدأ في الحال للزم أن لا يصحّ الاشتقاق من المبادئ الّتي لا يمكن حصولها في الحال ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

٣٧٢

أمّا الملازمة فظاهرة ؛ إذ ما لا يمكن وجوده في الحال لا يعقل حصول الاتّصاف به في الحال.

وأمّا بطلان التالي فللزوم عدم صدق المخبر والمتكلّم وكذا الصادق والكاذب والآمر والناهي ونحوها على أحد ؛ إذ الخبر : اسم لمجموع القول الّذي يحتمل الصدق والكذب ، ومن البيّن أنّه تدريجي الحصول غير قارّ الذات ، فلا يمكن اجتماع أجزائه في الوجود ، وليس الكلّ والجزء متشاركين في الاسم ليكفي في صدق التلبّس به التلبّس بجزئه ، فلا قيام له بها في الحال ، وكذا الكلام في الكلام والصدق والكذب والأمر والنهي.

أمّا الأوّل والأخيران فلكونها أسامي للحروف الصادرة على الترتيب ، ولا يمكن الاجتماع بينها في الوجود.

وأمّا الثاني والثالث فلإنّهما متعلقان بالخبر ، وهو غير حاصل في الحال.

تاسعها : أنّه لو لا الوضع للأعمّ لما صحّ الاستدلال بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ...) إلخ (١) وقوله : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ...) الخ (٢) على وجوب حدّ الزاني والسارق لانصرافهما إذن بمقتضى الوضع الى من تلبّس بالزنى أو السرقة حال نزول الآية فلا يندرج غيرهم فيهما وهو فاسد ؛ لاحتجاج العلماء خلفا عن سلف بهما على ثبوت الحكم لمطلق الزاني والسارق.

وهذا التقرير مبني على كون المراد بالحال في المقام حال النطق وقد عرفت أنّه خلاف التحقيق ، فالصواب تغيير الاحتجاج بجعل التالي عدم صحّة الاستدلال بهما على وجوب الحدّ إلّا على من كان مشغولا بالزنى أو السرقة متلبّسا بهما دون من وقع منه ذلك وانقضى، وهو خلاف ما اتّفقوا عليه ، على ما ذكر.

عاشرها : ما يستفاد من ظاهر غير واحد من الأخبار :

فعن الصادق عليه‌السلام بعد ذكر قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٣) : «من

__________________

(١) سورة النور : ٢.

(٢) سورة المائدة : ٣٨.

(٣) سورة البقرة : ١٢٤.

٣٧٣

عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما» (١) ، وليس الوجه في ذلك إلّا صدق الظالم عليه بذلك وإن تاب عنه.

وفي خبر آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم» فسئل عن ذلك فذكر صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أوحى الله الى إبراهيم من جعله إماما للناس ، وسؤاله ذلك لبعض ذريّته (الى أن قال) : قال لا اعطيك لظالم من ذريّتك عهدا ، فقال إبراهيم عندها : واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانتهت الدعوة إليّ ، وإنّي وعليّ لم نسجد للصنم واتّخذني نبيّا واتّخذ عليّا وصيّا (٢).

فإنّ الظاهر من سياقه أنّ من سجد للصنم لا يناله العهد ، وليس ذلك إلّا لاندراجه في الظالم.

حادي عشرها : اتّفاق أهل اللغة على أنّ اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل ولو لا صحّة إطلاقه على الماضي لما أمكن ذلك ، كذا قرّره العلّامة في النهاية.

وهو بظاهره غير متّجه ؛ لوضوح أنّ غاية ما يفيده الاتّفاق المذكور صحّة استعماله في الماضي وهو ممّا لا كلام فيه ، إلّا أن يقال : إنّ اتّفاقهم على الحكم المذكور يشير الى كونه معنى حقيقيّا ، نظرا الى ظهور حكمهم بكونه معنى للمشتقّ واختصاصه بحكم مخصوص في ذلك.

وقد يقرّر الاحتجاج بوجهين آخرين أشار إليهما العضدي :

أحدهما : أنّ أهل اللغة أجمعوا على صحّة «ضارب أمس» والأصل في الإطلاق الحقيقة.

ويوهنه ما عرفت من ضعف الاستناد الى الأصل المذكور في متعدّد المعنى ، إلّا أن يرجع ذلك الى الوجه الأوّل ، وهو خلاف ظاهر التقرير المذكور.

مع أنّه موهون أيضا بما عرفت ، مضافا الى أنّه لا حاجة إذن الى الاستناد في صحّة استعماله الى إجماع أهل العربيّة على صحّة الاستعمال المذكور ، إذ جواز إطلاقه على المتلبّس في الماضي في الجملة ممّا لا كلام فيه.

__________________

(١) الكافي ١ / ١٧٥.

(٢) راجع بحار الأنوار ٢٥ / ٢٠٠.

٣٧٤

ثانيهما : أنّهم أجمعوا على أنّه اسم فاعل ، فلو لم يكن المتّصف به كذلك فاعلا حقيقة لما أجمعوا عليه عادة ، وتوضيحه أنّهم اتّفقوا على كون لفظ «الضارب» اسما للفاعل فيما إذا اطلق على من انقضى عنه التلبّس بذلك الفعل ، فقد اتّفقوا على صدق الفاعل عليه مع إنقضاء تلبّسه به وهو أيضا من جملة المشتقّات ، فظاهر إجماعهم يفيد كونه حقيقة لبعد كون اتّفاقهم على صدق المجازي.

ويوهنه أنّ ما أجمعوا عليه كونه اسم فاعل بمعناه المصطلح دون معناه الإشتقاقي ، ولو فرض إرادة ذلك فيمكن تصحيحه بإطلاق الفاعل حينئذ على المتلبّس في الحال بالمعنى المتقدّم ، كما لا يخفى.

وقد يقرّر ذلك بوجه آخر ، وهو أنّ لفظ «الضارب» بالمعنى المذكور اسم فاعل حقيقة ، للاتّفاق عليه فقضيّة الاتّفاق المذكور أن يكون استعمال اسم الفاعل بمعنى الماضي حقيقة.

وهو في الوهن كسابقه ؛ نظرا الى كونه من باب اشتباه العارض بالمعروض ، وقد وقع منهم نظائر هذا الاشتباه في موارد اخرى ، يأتي الإشارة اليها إن شاء الله تعالى.

ثاني عشرها : أنّهم قالوا في تعريف اسم الفاعل : «إنّه ما اشتقّ من فعل لمن قام به» فظاهر لفظ «قام» هو القيام في الماضي ، وقضيّة ذلك كونه حقيقة في خصوص الماضي ، فلمّا قام الإجماع على كونه حقيقة في الحال في الجملة لزم حمله إذن على ما يعمّها ، وحمله على خصوص الحال بعيد جدّا ، كما أنّ حمله على ما يعمّ الثبوت ولو في الاستقبال مضافا الى كونه أبعد من الوجه المذكور مدفوع بالإجماع ، فدلّ ذلك على وضعه لمن تحقّق فيه المبدأ في الجملة ، سواء كان في الماضي أو في الحال ، وهو المدّعى.

والجواب أمّا عن الأوّل فبما عرفت من ضعف الاستناد الى الأصل المذكور في إثبات اللغات ، سيّما فيما إذا كان الاستعمال في القدر المشترك غير متحقّق الحصول كما في المقام.

٣٧٥

مضافا الى أنّ الإطلاق على الماضي غير ثابت في كثير من المشتقّات ـ كالأحمر والأصفر والنائم واليقظان والقائم والقاعد ونحوها ـ فهو أخصّ من المدّعى. ودعوى انتفاء القائل بالفصل في المقام محلّ منع.

على أنّ المتبادر من الأمثلة المذكورة خصوص الحال ، وهو دليل المجازيّة في غيرها ، ولا ريب أنّ ذلك أقوى في الدلالة من الأصل المدّعى.

وقد يورد عليه أيضا بأنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لم يعلم كونه حقيقة في خصوص أحد المعنيين ، إذ قضيّة الأصل مع العلم به ترجيح كونه مجازا في الآخر والقدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك المرجوح بالنسبة الى المجاز وهو كذلك في المقام ، لإجماعهم على كونه حقيقة في الحال.

ويدفعه ما عرفت من أنّ إجماعهم على الأعمّ من كونه معنى حقيقيّا أو مصداقا حقيقيّا له ، لا على خصوص الأوّل ، كما قد يتراءى في بادئ النظر.

وأمّا عن الثاني فبما عرفت من انتقاضه بتبادر خلافه أيضا في موارد كثيرة اخرى ، على أنّ تبادر القدر المشترك منها في الأمثلة المذكورة محلّ نظر حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وأمّا عن الثالث فبأنّه إن اريد بذلك عدم صحّة سلب الضارب عنه بالنسبة الى ماضي النطق وإن كان بملاحظة حال تلبّسه به فممنوع ، ولا يفيد إلّا كونه حقيقة في حال التلبّس ، وهو كما عرفت خارج عن محلّ البحث.

وإن اريد عدم صحّة سلبه عنه بحسب حال النطق نظرا الى تلبّسه به في الماضي فممنوع ، على أنّه معارض بصحّة السلب في أمثلة كثيرة اخرى مما تقدّم الإشارة اليها.

وأمّا عن الرابع فبأنّ صدق قولنا : «ضارب أمس» في المثال المفروض ليس من محلّ النزاع ؛ لاستعماله إذن في حال التلبّس حسب ما مرّ بيانه ، وما ذكر من استلزامه صدق زيد ضارب مع الإطلاق إن اريد به صدقه عليه بملاحظة حال اتّصافه به ـ أعني الأمس ـ فلا يفيد المدّعى ، إذ ذلك أيضا من قبيل إطلاقه على حال التلبّس.

٣٧٦

وان اريد صدقه بالنسبة الى حال النطق فممنوع وصدق المقيّد لا يستلزم إلّا صدق المطلق على نحو المقيّد ، لقضائه بصدق المطلق نظرا الى حصوله في ضمن ذلك المقيّد لا بالنظر الى حصول آخر.

وأمّا عن الخامس فبعد ما عرفت من وهن دلالة التقسيم على الحقيقة أنّ القسمة المذكورة إنّما تفيد كونه حقيقة في الأعمّ من حال النطق ، وهو غير المدّعى لما عرفت من الاتّفاق على كونه حقيقة في حال التلبّس ، وهو أعمّ من حال النطق ، فيصدق «الضارب» في المثال المفروض على من هو متلبّس بالضرب في حال النطق وعلى من انقضى عنه ، بملاحظة تلبّسه به في الوقت الملحوظ في إطلاقه عليه ، ومع تسليم صحّة التقسيم بالنسبة الى حال التلبّس وماضيه أيضا فهو إنّما يجري في بعض الأمثلة دون غيرها ، فلا يفيد تمام المدّعى.

على أنّه معارض بصحّة السلب وغيرها من علائم المجاز الحاصلة في أمثلة اخرى ، حسب ما أشرنا اليها.

وبنحو ذلك يجاب عن السادس.

وأمّا عن السابع فأوّلا : بأنّ التصديق حاصل للنفس في الحالتين المذكورتين غير أنّه غير ملتفت اليه فيهما ، وفرق بين حصول التصديق والالتفات الى حصوله كيف! ولو كان التصديق مرتفعا بالنوم أو الغفلة توقّف حصوله ثانيا على كسب جديد وليس كذلك قطعا.

وما يقال من أنّ التصديق يتوقّف على تصوّر أطرافه والحكم بوقوع النسبة أو لا وقوعها ، وهو غير حاصل في حال النوم أو الغفلة.

مدفوع ؛ بأنّ حصول الصورة في النفس غير التفاته الى ذلك الحصول ، وأقصى ما يسلّم حينئذ انتفاء الالتفات لا نفس الحصول ، فتصوّر الأطراف والحكم بثبوت المحمول للموضوع أو نفيه عنه حاصل للنفس ، إلّا أنّه غير ملتفت الى شيء منها في الحالتين وما بمنزلتهما.

وما قد يقال من عدم توقّف التصديق على تصوّر الأطراف في بقائه

٣٧٧

واستدامته وإنّما يتوقّف عليه في ابتداء حصوله غير متّجه ، كيف! وليس التصديق إلّا نفس الحكم أو مجموع الحكم والتصوّرات ، فكيف يعقل حصوله من دونها ابتداء أو استدامة؟!

وقد يقال بمثل ذلك في طريان الجنون أيضا ؛ إذ لا يحتاج المجنون بعد رفع الجنون الى تجديد الاكتساب لما حصّله من العلوم ، فهي حاصلة له موجودة عنده في الخزانة.

إلّا أنّ الجنون مانع من التفاته اليها كالسكر والإغماء ، فإبدال النائم والغافل بالمجنون غير نافع في المقام.

نعم ، لو طال جنونه بحيث زالت الصورة المذكورة عن النفس بالمرّة صحّ ما ذكر ، إلّا أنّ صدق المؤمن عليه حينئذ على سبيل الحقيقة غير مسلّم ، وإنّما هو في حكم المسلم كالأطفال ، بل لو بني الأمر على ذلك في كل مجنون لم يكن بعيدا ، وربما يستظهر ذلك من كلام جماعة من الأصحاب.

وثانيا : بأنّه أخصّ من المدّعى أو غير مطابق للدعوى ، فإنّه إن جعل النزاع في الأعم ممّا يكون المبدأ فيه حدوثيا وغيره كما هو الظاهر ، فهو غير واف به ، وإن خصّ بما إذا كان المبدأ فيه حدوثيّا فهو غير مطابق للمدّعى.

وثالثا : بانتقاضه بعدم صدق المؤمن عليه بعد ارتداده ، وعدم صدق الكافر عليه إذا سبق منه الكفر ، وإلّا لكان جملة من اكابر الصحابة كفّارا على الحقيقة.

والجواب عنه بكون المنع هناك من جهة الشرع دون اللغة جار في المقام.

ورابعا : بالتزام عدم صدق المؤمن عليه حينئذ على سبيل الحقيقة وإنّما هو بحكم المؤمن في الشرع ، وهو كما ترى.

وأمّا عن الثامن فأوّلا : بخروج الأمثلة المذكورة عن محلّ النزاع على ما قيل ، وقد مرّت الإشارة اليه.

وثانيا : بأنّه أخصّ من المدّعى ، فلا يثبت به العموم ، والإجماع المركّب غير متحقّق في المقام.

٣٧٨

وثالثا : بأنّه ليس المدار في حصول المبدأ في الحال على التحقّق العقلي بل الصدق العرفي كاف فيه ، وهو حاصل في المقام لصدق قولك : «فلان يتكلّم أو يخبر» في هذا الحال قطعا من غير تجوّز أصلا اذا كان في حال التكلّم والإخبار.

ورابعا : بما عرفت من أنّ المدار في إطلاق المشتقّات على ملاحظة التلبّس وهي أعمّ من حال النطق ، وحينئذ فلا يمنع عدم إمكان حصول مبادئها في الحال من صدقها على سبيل الحقيقة ، بالنظر الى حصول التلبّس بها في الزمان وإن لم يمكن اجتماع أجزائها في الوجود. فتأمّل.

وأمّا عن التاسع فأوّلا : بخروج الأمثلة المذكورة عن محلّ النزاع على ما قيل.

وثانيا : بأنّه أخصّ من المدّعي ولا مانع من القول بالتفصيل.

وثالثا : بقيام القرينة عليه في المقام ضرورة عدم إرادة إيقاع الحدّ عليه في حال تلبّسه بالزنى أو السرقة ، ولا كلام في جواز استعمال المشتقّات باعتبار التلبّس في الماضي مع انضمام القرينة.

ورابعا : بالمنع من استعمال المشتقّ في الآيتين المذكورتين وما بمعناهما في الماضي باعتبار الحال الملحوظ في الإطلاق ، حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وأمّا عن العاشر فبعد الغضّ عن إسنادهما بعدم وضوح دلالتهما على المدّعى إذ غاية الأمر دلالتهما على إطلاق الظالم في الآية على المعنى الأعمّ ، وهو أعمّ من الحقيقة ، على أنّه قد يصحّح ذلك بإطلاقه باعتبار حال التلبّس ، كما ستعرف الوجه فيه إن شاء الله.

وأمّا عن الحادي عشر فأوّلا : أنّ اتّفاق أهل اللغة لا يفيد زيادة على استعماله في الماضي ، وهو أعمّ من الحقيقة كما مرّ.

واتّفاقهم على ثبوت ذلك المعنى وثبوت حكم مخصوص له بحسبه لا يفيد ثبوت الوضع له بوجه كيف! وجميع ما ذكر حاصل بالنسبة الى استعماله في المستقبل مع كونه مجازا فيه بالاتّفاق ، فملاحظة اتّفاقهم على إطلاقه باعتبار

٣٧٩

المستقبل وبيانهم لحكمه في الأعمال مع كونه مجازا فيه تشهد بكون الملحوظ عندهم بيان حكم اللفظ ، سواء كان حقيقة أو مجازا ، فلا دلالة في ذلك على كونه حقيقة بالنسبة الى الماضي أيضا.

وثانيا : أنّ استعماله في الماضي في المثال الذي ذكروه إنّما هو من قبيل استعماله في حال التلبّس وإن كان ماضيا بالنسبة الى حال النطق وليس ذلك من محلّ النزاع حسب ما مرّ القول فيه ، مضافا الى أنّ ذلك لو تمّ لم يفد تمام المدّعى ؛ لعدم جريانه في جميع المشتقّات.

وأمّا عن الثاني عشر فبأنّ إطلاق الماضي على الحال ممّا لا مانع منه ولا بعد فيه بعد جريان التعبير به عن الحال في الاستعمالات ، كما لا يخفى على من لاحظ أمثال المقام في الإطلاقات ، مضافا الى ما عرفت من كون المراد بالحال في المقام هو حال التلبّس وقد مرّ أنّه لا ينافي المضيّ بالنسبة الى حال النطق ، فحمل العبارة على الأعمّ من الماضي والحال غير مناف لما ذكرناه.

ومع الغضّ عن ذلك فهم عنوا بالتحديد المذكور بيان اسم الفاعل بحسب اصطلاحهم سواء استعمل الصيغة في معناه الحقيقي أو المجازي ولا ريب في شمول اسم الفاعل للصيغة المفروضة في الأحوال الثلاثة ، وليسوا بصدد بيان ما وضع له الصيغة المفروضة حتى يستفاد من ذلك كونه حقيقة في الصورتين ، فتأمّل.

حجّة القائل باشتراط البقاء امور.

أحدها : أنّ المتبادر من الأحمر والأصفر والأبيض والحسن والقبيح والجميل والكريم والصالح والتقي والزاهد والعالم والجاهل ونحوها هو خصوص من اتّصف بتلك المبادئ في الحال ، والتبادر دليل الحقيقة.

ويجاب عنه تارة بمنع كون التبادر المدّعى مستندا الى نفس اللفظ بل الى غلبة الاستعمال ، ويكشف عنه أنّه لو كان كذلك لاطّرد في غيرها من المشتقّات ؛ لاتّحاد جهة الوضع فيها ، لما تقرّر من كون أوضاعها نوعيّة ، ولعدم قائل بالتفصيل في الألفاظ على ما يظهر من كلماتهم كما عرفت ، وليس كذلك ؛ إذ لا يتبادر ذلك

٣٨٠