هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

وقوله :

ربّ من أنضجت غيظا صدره

قد تمنّى لي موتا لم يطع

والطاعة تتبع الأمر في الصدق.

ووهن الجميع ظاهر لا حاجة فيه الى التفصيل.

ثمّ إنّ المعتبر من العلوّ هو العلوّ العرفي على نحو يصحّح الأمر ، وكأنّ المعتبر منه ارتفاع يقضي بالتزام طاعته في العرف ، لا خصوص العلوّ الّذي يوجب طاعته عقلا أو شرعا ، كما هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات العرفية في إطلاق الأمر على طلب السلطان من الرعيّة ، والرئيس من المرؤوسين ، والمخدوم من الخدّام مع عدم وجب الطاعة هناك بشيء من الوجهين في شيء منها وإن لزمت طاعتهم بملاحظة العرف.

وأيضا الوجوب العقلي أو الشرعي ممّا لا ربط له بالأوضاع اللغوية فلو اعتبر وجوب الطاعة فيه لم يزد على اعتبار لزومها في العرف.

فما في كلام بعض الأفاضل من تفسيره : العالي بمن كان له تفوّق يوجب طاعته عقلا أو شرعا كما ترى ، وكأنّه أخذ ذلك من دلالة لفظ «الأمر» على الوجوب حسب ما يأتي الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.

وفيه : أنّ ما قرّره في ذلك المقام غير متّجه ، والوجوب المدلول عليه بالصيغة ليس خصوص الوجوب العقلي أو الشرعي كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ، فاعتبار ذلك ممّا لا وجه له أصلا.

على أنّ مجرّد وجوب الإتيان بما يطلبه عقلا أو شرعا لا يكفي في صدق الأمر ، كيف! ولو كان كذلك لزم أن يكون الداني آمرا إذا التزم العالي شرعا بنذر وشبهه بإجابة مسؤوله ، كما إذا نذر السيّد أن يجيب مسألة عبده ، فيلزم انقلاب السؤال بذلك أمرا ، وهو بيّن الفساد ، إلّا أن يعتبر مع ذلك العلوّ العرفي أيضا ، كما قد يومئ اليه تعبيره عنه بالتفوّق الّذي يوجب طاعته عقلا أو شرعا ، فيكون المعتبر عنده هو العلوّ العرفي المقيّد بذلك ، وهو كما ترى إذ كان مقصوده بالتفوق في المقام هو كونه بحيث يجب الإتيان بما يطلبه عقلا أو شرعا ، فتأمّل.

٥٨١

ثانيها : (١) أنّهم اختلفوا في كون الطلب المدلول للأمر نفس الإرادة أو غيرها ، فالمحكي عن أصحابنا والمعتزلة هو الأوّل ، وعن الأشاعرة القول بالثاني.

واحتجّ العلّامة رحمه‌الله على ذلك بأنّا لا نجد في الأمر أمرا آخر مغايرا للإرادة ؛ إذ ليس المفهوم منه إلّا إرادة الفعل من المأمور ، ولو كان هناك معنى آخر لا ندركه ، فلا شكّ في كونه أمرا خفيّا غاية الخفاء حتّى أنّه لا يعقله إلّا الآحاد ، فلا يجوز وضع لفظ «الأمر» المتداول في الاستعمالات بإزاء مثله ، بناء على ما تقرّر من عدم وضع الألفاظ الدائرة في الاستعمالات بإزاء المعاني الخفيّة الّتي لا يدركها إلّا الخواصّ.

وربما يحتجّ عليه أيضا بأنّ المتبادر من الأمر هو إرادة الفعل من المأمور ، فيكون حقيقة فيها وقضية ذلك اتّحادها مع الطلب ، إذ لا قائل مع القول بدلالة الأمر عليها وضعا بالتغاير بينهما.

واحتجّت الأشاعرة بوجوه :

أحدها : أنّ الله تعالى أمر الكافر بالإيمان إجماعا ولم يرده منه لوجهين :

أحدهما : أنّه يستحيل منه وقوع الإيمان وإرادة المستحيل من العالم بحاله مستحيلة ، والمقدمة الثانية ظاهرة ، وأمّا الاولى فلعلمه تعالى بعدم صدوره منه فلو فرض صدور الإيمان منه لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهو محال ، فالمقدّم مثله والملازمة ظاهرة.

ثانيهما : أنّ صدور الكفر من الكافر لا بدّ أن يستند الى سبب ، وذلك السبب لا بدّ أن ينتهي الى الواجب لاستحالة التسلسل وايجاده تعالى لذلك السبب يستدعي إرادة وقوع الكفر منه ، لكون إرادة السبب مع العلم بسببيته إرادة لمسببّه ، فيستحيل منه إرادة ضدّه لاستحالة إرادة الضدّين ، فإنّه من قبيل اجتماع الضدّين.

ثانيها : أنه يصحّ أن يقول القائل لغيره : «اريد منك الفعل ولا آمرك به» من دون تناقض بين القولين.

__________________

(١) ثاني الامور المتعلّقة بالمرام.

٥٨٢

ثالثها : أنّه يصحّ صدور الأوامر الامتحانية من السلطان بالنسبة الى رعيّته ، ومن السيّد الى عبده وليس هناك إرادة للفعل مع أنّها أمر على الحقيقة.

رابعها : أنّه قد ينسخ الأمر قبل حضور وقت العمل به ، فلو كان هناك مريدا للفعل لزم أن يكون مريدا وكارها للفعل الواحد في الوقت الواحد بالجهة الواحدة ، وهو محال.

فإن قلت : إنّ الإرادة والكراهة إنّما تعلّقتا بالفعل في زمانين مختلفين فلا مضادّة بينهما.

قلت : اختلاف زماني الإرادة والكراهة غير متعقل في المقام مع اتحاد زمان الفعل وجهته ، إلّا في صورة البداء والنّكول عن الشيء ، وهو على حقيقته مستحيل على الله تعالى ، وأيضا فالإرادة والكراهة من صفاته تعالى وليستا حاصلتين في الزمان ليختلف الحال فيهما بحسب اختلاف زمانيهما ، فيستحيل اجتماعهما.

واورد على الأوّل بالمنع من عدم إرادة الإيمان من الكافر ، وما ذكر لإثباته من الوجهين مردود.

أمّا الوجه الأوّل فبأنّ العلم تابع للمعلوم ، فلا يؤثّر في وجوده ولا عدمه ، فهو على إمكانه ، وما يتراءى من تفريع المحال عليه نظرا الى لزوم انقلاب علمه تعالى جهلا إنّما نشأ من فرض تعلّق العلم به ، كما أنّه يستحيل وقوع أحد النقيضين أو الضدّين على فرض وقوع نقيضه أو ضدّه الآخر ، وذلك لا يقضي باستحالة ذلك الشيء ، ضرورة أنّ استحالة وقوع الشيء على فرض لا يقضي باستحالته مطلقا ، كذا أجاب عنه العلّامة رحمه‌الله في النهاية.

ويشكل بأنّ تابعية العلم للمعلوم إنّما يقضي بعدم استناد وقوع المعلوم الى العلم ، بل لمّا كان المعلوم حاصلا في وقته بحسب الواقع نظرا الى حصول أسبابه تعلّق العلم به على ما هو عليه ، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام ؛ إذ المقصود إثبات استحالة وقوع خلاف المعلوم نظرا الى تفريع المحال عليه ، وهو لا يستدعي استناد وجود المعلوم الى العلم.

فإن قلت : على هذا يكون استحالة وقوع خلاف المعلوم مستندا الى العلم ،

٥٨٣

ومن المعلوم أيضا خلافه.

قلت : إن أردت استناده اليه بحسب الواقع فممنوع ، بل استحالة وقوعه في الواقع إنّما هو بالنظر الى انتفاء أسبابه والعلم به تابع لذلك.

وإن أردت استناده اليه بحسب علمنا فلا مانع منه ، بل لا مجال لإنكاره ؛ لوضوح المقدّمتين وتفرع العلم بالنتيجة عليهما ، إلّا أنّه لا يلزم من ذلك سلب القدرة عن المكلّف ، فإنّ السبب الباعث على استحالة صدور الفعل منه عدم إقدامه عليه وعدم مشيئته للفعل مع اجتماع أسباب القدرة ، ومن البيّن أنّ المستحيل بالاختيار لا ينافي القدرة والاختيار ، واستحالة وقوع المشيئة منه ـ لعدم قيام الداعي اليها ـ لا تنفي القدرة على الفعل ؛ إذ ليس مفاد القدرة إلّا كون الفاعل بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك ، ومن البيّن صدق الشرطية مع كذب المقدّمتين ، ومن هنا نقول بقدرته تعالى على فعل القبيح وإن استحال وقوعه منه ، نظرا الى استحالة إرادته له.

وممّا قرّرنا ظهر فساد تقرير الاستدلال من جهة إثبات اضطراره الى الكفر ، نظرا الى ما ذكر ، فلو أراد منه الإيمان لزم إرادة المحال ، وما ذكره في الجواب إنّما ينفع في دفع هذا التقرير دون الوجه المذكور.

وقد يقرّر الاحتجاج بالوجه الأخير ، ويجعل التالي حينئذ لزوم التكليف بالمحال لو أراد منه الفعل ، وهو محال.

وقد أجاب عنه بعضهم بالمنع من عدم جواز التكليف بهذا المحال ، نظرا الى تجويزهم ذلك.

وأنت خبير بفساد التقرير المذكور ووهنه جدّا ؛ لما عرفت ، ولأنّ من البيّن أنّ الأشاعرة يجوّزون التكليف بالمحال ، بل يحكمون بوقوعه في أمثال ذلك ، ضرورة وقوع التكاليف المذكورة ، مضافا الى ما فيه من التهافت حيث إنّ المأخوذ في هذا الاحتجاج أوّلا هو ثبوت التكليف بالإيمان ، ودعوى الإجماع عليه فكيف يجعل التالي لزوم التكليف بالمحال ويحكم ببطلانه من جهة استحالة صدوره؟.

٥٨٤

والحاصل : أنّ المقصود في المقام أنّ وقوع التكليف به ـ مع استحالة صدوره منه إمّا لكونه تكليفا بالمحال على ما زعموه وجوّزوه ، أو لعدم قضاء استحالته بعدم القدرة عليه ، نظرا الى أنّ المحال بالاختيار لا ينافي الاختيار إنّما هو مع عدم إرادة صدور الفعل من المكلّف، نظرا الى استحالة إرادة الحكيم واقعا صدور المحال ولو بالغير ، بل لو ذكر استحالة إرادته واقعا لما يعلم انتفاؤه وعدم حصوله إذ لا أقلّ في إرادة الشيء من احتمال حصوله ـ كفى في المقام ، وقد عرفت أنّ ما ذكر في الجواب لا يدفع شيئا من ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكر من كون المحال المذكور حاصلا من فرض العلم ... الى آخر ما ذكر غير متّجه على إطلاقه ؛ فإنّ فرض الشيء قد يجامع وقوع المفروض وضرورة وقوعه ، وقد يكون فرضا غير واقع أو غير لازم ، وعدم قضاء استحالة الشيء على فرض باستحالته في الواقع إنّما هو في الثاني دون الأوّل ، كما هو الحال في المقام ضرورة وجود الفرض المذكور وضرورة وقوعه ، فكيف يمكن معه الحكم بعدم استحالة ملزوم خلافه؟!.

فالأولى في الجواب عنه منع المقدّمة الثانية وهو استحالة تعلّق الإرادة بالمحال على سبيل الكلّية ، إذ لا مانع من تعلّق الإرادة التكليفية بالمستحيل بالاختيار ، فكما أنّ استحالته بالاختيار لا يمنع من كونه اختياريا متعلّقا للقدرة فلا مانع أيضا من تعلّق الإرادة التكليفية بإيقاعه.

وقد يناقش فيه بأنّ المانع من تعلّق الإرادة بالمحال هو عدم إمكان وقوعه في الخارج ولو بتوسّط الأسباب الباعثة عليه ، وذلك ممّا لا يفترق الحال فيه بين كونه مستحيلا بالاختيار أو الاضطرار. وفيه تأمّل.

وأمّا الوجه الثاني فبأنّ الداعي من فعل العبد ليس بخلقه تعالى ذلك في العبد حتّى يستدعي خلقه له إرادة لازمة أعني الكفر.

ويرد عليه أنّ خلق الداعي وإن كان من فعل العبد والعبد هو السبب فيه ، لكن العبد من فعل الله تعالى ومسبّب عنه ، فغاية الأمر أن يكون خلق السبب البعيد منه

٥٨٥

تعالى وهو كاف في إتمام المقصود ، إذ لا فرق فيما ذكر بين السبب القريب والبعيد ولم يؤخذ في الاحتجاج خصوص السبب القريب حتّى يجاب بما ذكر.

وقد يجاب أيضا بمنع كون إرادة السبب إرادة لمسبّبه مطلقا ، إذ قد يفرّق في ذلك بين السبب الاضطراري والاختياري ، فإنّ إرادة الأول إرادة لمسبّبه ، وأما الثاني فيمنع فيه ذلك نظرا الى كون الفعل موكولا الى اختيار الآخر وإرادته. وهو كما ترى.

ويمكن الجواب بمنع المقدّمة الأخيرة ، فإنّ إرادة الكفر نظرا الى إرادة سببه البعيد إرادة تبعية تكوينية ، حيث إنّها تابعة لإرادة إيجاد ذاته التكوينية ، وإرادة الإيمان منه إرادة تكليفية أصلية ، نظرا الى ثبوت قدرته على الفعل واختياره فيه ، لما عرفت من كون سببيته للكفر اختيارية وإن كان ثبوت الكفر لازما بعد اختياره ، فلا مانع إذن من تعلّق الإرادتين المفروضتين بالضدّين نظرا الى اختلافهما بما ذكر.

وفيه أيضا تأمّل لا يخفى.

وعلى الثاني أنّ الإرادة المثبتة في المثال ليست إرادة خالصة ، وقد يحصل في الإنسان إرادة مشوبة بعوارض فلا يتعقبها الفعل ، كذا أجاب العلّامة رحمه‌الله في النهاية.

وفيه : أنّا نرى صحّة ذلك مع فرض كون إرادته في كمال الخلوص ، تقول : «اريد الإحسان من السلطان ولا أطلبه منه» من دون تناقض أصلا فالمانع هناك إنّما يمنع من إظهار الإرادة لا من نفسها لتكون غير خالصة.

وقد أجاب عنه في التهذيب بأنّ نفي الأمر معناه نفي الإلزام وإن كان مريدا لإيقاعه الفعل من دون أمره.

وتوضيحه : أنّ الإرادة أعمّ من الطلب المقصود في المقام ، فإنّ المراد به إرادة الفعل من المطلوب منه على جهة إلزامه به ، والإرادة قد تخلو عن ذلك فنفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ ، ولذا يصحّ إثبات الأعمّ ونفي الأخصّ كما في المثال المفروض.

٥٨٦

وقد ظهر ممّا قرّرنا أنّ المقصود في المقام اتّحاد الطلب مع الإرادة من حيث حصولها به ، لا اتّحادهما بحسب المفهوم كما قد يتراءى من ظاهر كلامهم.

وأنت خبير بأنّ الإلزام فعل من الأفعال مغاير للإرادة ، غاية الأمر أن ينضمّ اليها ، فلا فائدة في الجواب المذكور لدفع الاحتجاج ، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

وعلى الثالث أنّ الأوامر الامتحانية إنّما هي في صورة الأمر وليست بأوامر على الحقيقة ، فكما أنّ الإرادة هناك منتفية فكذا الطلب ، وكما لا يريد العاقل ما هو مبغوض عنده فكذا لا يطلبه.

وفيه كلام يأتي الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.

وعلى الرابع المنع من جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، بل المختار امتناعه كذا ذكروه.

وفيه : أيضا تأمّل ، كما يظهر الوجه فيه في محلّه إن شاء الله تعالى ، وسنشير اليه أيضا في المقام إن شاء الله تعالى.

هذا ، والّذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال : إنّ هناك إرادة لصدور الفعل من الغير بحسب الواقع ، واقتضاء بحسب الخارج لإيقاعه الفعل بإلزامه به أو ندبه اليه ، ومن البيّن أنّ الثاني لا يستلزم الأوّل وإن كان الظاهر صدور الاقتضاء على طبق الإرادة الواقعية ، لظهور إلزام المأمور بالفعل مثلا في كون ذلك الفعل محبوبا للآمر مرادا له بحسب الواقع ، إلّا أنّه مع العلم بالتخلّف لا يخرج الاقتضاء عن حقيقته.

فنقول : إنّ ظاهر ما حكي عن الأصحاب والمعتزلة من كون الطلب عين الإرادة هو القول بوضع الأمر لخصوص المعنى الأوّل ، فمعناه الموضوع له هو إرادة إيقاع المأمور به من المأمور بحسب الواقع ، وهذا هو الّذي يستفاد منه بحسب وضع اللغة ، فإذا اريد به ذلك كان حقيقة مستعملا فيما وضع له ، وإن لم يرد به ذلك فقد استعمل في غير ما وضع له.

٥٨٧

ويشهد لذلك ما حكي عنهم في الاحتجاج فإنّه ظاهر الانطباق على ما ذكر.

وأنت خبير بأنّ المعنى المذكور ليس معنى إنشائيا حاصلا بالصيغة حتّى يندرج من جهة الأمر في الإنشاء ، لظهور كون ذلك أمرا قلبيا واقعيا حاصلا قبل أداء الصيغة ، وإنّما يحصل منها بيان ذلك وإظهاره كما في سائر الإخبارات ، وذلك ممّا يكون قابلا للصدق والكذب ، لظهور أنّ إرادة الواقع بالدلالة اللفظية لا يستلزم المطابقة ، فإن طابق الواقع بحصول ذلك المدلول في النفس كان صدقا وإلّا كان كذبا.

كيف! ومع البناء على ما ذكر أيّ فرق بين إظهار تلك الإرادة بصيغة الأمر أو بصيغة الإخبار ، كأن يقول : «أنا مريد منك كذا أو أنا طالب ذلك منك» ونحو ذلك ، ومن الواضح المتّفق عليه الفرق بين التعبيرين ، وقبول الثاني للصدق والكذب ، بخلاف الأوّل.

والحاصل أنّ الإرادة أمر نفساني حاصل بتوسّط الدواعي الباعثة عليه ، فلا يعقل إيقاعها بصيغة الأمر ليمكن القول بوضع تلك الصيغ لذلك ، وهذا بخلاف ما لو قيل بوضعها للمعنى الثاني ، لظهور حصول ذلك الاقتضاء في الخارج بإيقاع تلك الصيغ مريدا بها معناها ، فيقع مدلولها بإيقاع الصيغة في الخارج على ما هو الشأن في سائر الإنشاءات.

ويمكن توجيه كلامهم بحمله على إرادة الوجه الثاني ، لكن مع تقييده بكون ذلك الاقتضاء على وفق الإرادة الواقعية والمحبّة النفسية ، فيكون ذلك قيدا فيما وضع له ، ولا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له إلّا مع كون الاقتضاء المذكور عن الإرادة الموصوفة ، فالأمر الخالي عن ذلك ليس أمرا على الحقيقة.

وهذا الوجه وإن أمكن القول به في المقام ، وربما يشهد له التبادر حيث إنّ المتبادر من الصيغة هو كون الاقتضاء عن الإرادة القلبية ، لكن تطبيق كلامهم على ذلك لا يخلو عن بعد سيّما بملاحظ الاحتجاج الأوّل.

وكيف كان ، فالأظهر البناء على الوجه الثاني وعدم اعتبار القيد المذكور فيما

٥٨٨

وضع الأمر له ، فإنّ ذلك هو المستفاد من نفس الصيغة ، ويعطيه التأمّل في سائر الإنشاءات من التمنّي والترجّي والتعجّب والنداء والاستفهام والمدح والذمّ وغيرها ، فإنّها أسام لخصوص تلك الإيقاعات الحاصلة بواسطة الألفاظ الدالّة عليها المستعملة لإفادتها ، سواء وافقت ما هو المحبوب عند المتكلّم بها المراد له في نفسه أو لا.

ألا ترى أنّهم حكموا بصدق العقد على الواقع على سبيل الجبر والإكراه ، ولذا حكموا بصحّته إذا تعقّبه الإجازة مع أنّ القبول القلبي غير حاصل مع الإكراه قطعا ، فليس ذلك إلّا لكون مفاد القبول المأخوذ في «قبلت» هو إنشاء القبول في الظاهر الواقع بإرادة معنى اللفظ المذكور وإن لم يكن هناك قبول نفساني ورضاء قلبي بالإيجاب واقعا حين صدور العقد ، ولذا حكموا بصدق العقد الفاسد عليه إذا لم يتعقّبه الإجازة مع اعتبار الإيجاب والقبول في مطلق العقد.

فمدلول الأمر أيضا هو إنشاء الطلب في الخارج ، سواء كان ذلك موافقا لما هو مقصوده في الواقع أو لا ، فالأوامر الامتحانية أوامر حقيقية لاستعمالها في الطلب على الوجه المذكور وإن لم يكن فائدة الطلب هناك إيقاع المطلوب في الخارج ، بل فوائد اخر مترتّبة على نفس الطلب ، ولذا يتحقّق عصيان المأمور حينئذ بترك المأمور به ويحسن عقوبته لأجل ذلك مع أنّه ينبغي عدم تحقّق العصيان على الوجه الآخر إلّا من جهة التجرّي.

نعم ، لو قامت قرينة على عدم إرادته لإنشاء الطلب في الخارج بل إنّما ذكر صورة الأمر لمصلحة مترتّبة عليه من غير قصد الى معناه كان أمرا صوريا خارجا عن حقيقته.

فظهر بما قرّرنا قوّة القول بمغايرة الطلب للإرادة بالمعنى المذكور ، وأنّ دلالته على الإرادة المذكورة ليست وضعية بل من جهة قضاء ظاهر الحال بها ، نظرا الى أنّ الظاهر من إلزام المأمور بالفعل كون ذلك مرادا له بحسب الواقع حتّى يقوم دليل على خلافه.

٥٨٩

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا ذكر من دعوى تبادره فيما ذكروه ، لعدم استناده الى نفس اللفظ حتّى يقوم دليلا على الوضع ، وقد يرجع الى ذلك كلام القائلين بالاتّحاد فيعود النزاع لفظيا ، إلّا أنّه لا يخلو عن بعد.

ثمّ إنّ هذه المسألة هي مبنى ما ذهب اليه الأشاعرة من جواز الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، وما ذهبوا اليه من جواز النسخ قبل حضور وقت العمل به ، وظاهر الأصحاب المنع من الأمرين ، وسيجيء توضيح الكلام فيهما إن شاء الله تعالى.

وعليها يبتني أيضا ما ذهبوا اليه من جواز التكليف بالمحال نظرا الى تسليمهم امتناع إرادة المحال ، فتجويزهم للتكليف بالمحال إنّما هو من جهة بنائهم على المغايرة وعدم الملازمة بين التكليف والإرادة.

والحقّ هناك المنع على التقدير المذكور أيضا على حسب ما نبيّنه في محلّه إن شاء الله تعالى.

ثالثها : (١) المحكي عن أكثر علمائنا وكافّة الأشاعرة وبعض المعتزلة القول بعدم اشتراط الإرادة في دلالة الأمر على الطلب ، فهو يدلّ عليه بالوضع ، وعن الجبائيين القول باشتراط دلالة الأمر على الطلب بإرادته فلا دلالة فيه عليه إلّا معها.

وأنت خبير بوهن الخلاف المذكور على ظاهره ، وكأنّه نظير ما حكي من القول باشتراط دلالة الألفاظ على معانيها بالإرادة وهو بظاهره قول سخيف لا يليق صدوره من أهل العلم ، فإنّه إن اريد توقّف الدلالة على إرادة المعنى بحسب الواقع فهو غير معقول ، إذ لا يعقل ترتّبه على ذلك بل الأمر بالعكس.

وإن اريد توقّفها على قيام دليل على إرادته فهو كسابقه في الفساد ، إذ المقصود من وضع الألفاظ الانتقال الى مراد المتكلّم بواسطتها ، فلو توقّفت دلالتها على العلم بالمراد لم يعقل فائدة في وضعها بل لزم الدور ، فلا يبعد إذن تنزيل كلام القائل باشتراط الإرادة على ما لا يخالف ذلك.

وقد يحمل ذلك على إرادة توقّف دلالة اللفظ على معناه على كونه مرادا

__________________

(١) ثالث الامور المتعلّقة بالمرام.

٥٩٠

ولو بالنظر الى ظاهر الإطلاق من جهة قضاء الأصل إذن بإرادته ، فلو قام هناك قرينة على عدم الإرادة لم يكن دالّا عليه ، بل على ما دلّت القرينة على إرادته.

وهو أيضا كما ترى ؛ إذ لا قصور حينئذ في دلالة اللفظ على نفس المعنى ، لوضوح الاكتفاء في حصولها بالوضع والعلم به وإنّما تمنع القرينة من دلالته على إرادة ذلك المعنى.

ومع الغضّ عن ذلك فهو لا يوافق ما احتجّوا به على ذلك في المقام من انتفاء المايز بين الصيغة إذا كانت طلبا أو تهديدا إلّا الإرادة ، بل لا يوافق الاحتجاج المذكور ظاهر ما عنون به الدعوى ، فإنّ الإرادة المذكورة في الاحتجاج إنّما يراد بها إرادة المطلوب كما هو الظاهر ، والإرادة المأخوذة في العنوان إنّما هي إرادة الطلب.

هذا ، وقد ذكر في المقام نزاع آخر ، وهو أنّ الأمر بم يصير أمرا؟ وقد ذكروا هناك أقوالا عديدة :

منها : ما حكي عن السيّد المرتضى رحمه‌الله من أنّه يصير أمرا بالإرادة ، وعزي ذلك الى محقّقي المعتزلة ، واختاره المحقّق في المعارج.

ومنها : ما حكي عن الأشاعرة من أنّها تكون أمرا بالوضع من غير اشتراط بالإرادة.

فإن اريد بذلك توقّف كونه أمرا على إرادة الطلب فلا يكون أمرا بدونها ، فهو من الامور الظاهرة ، ولا مجال لإنكاره ، ولا يظنّ أنّ أحدا يخالف فيه ، كما هو الشأن في سائر الألفاظ لكون الإرادة هي المخصّصة لها بمعانيها حقيقية كانت أو مجازية ، وإن كان الوضع كافيا في حملها على معانيها الحقيقيّة والحكم بإرادتها من غير حاجة الى قيام دليل آخر عليها فيعود النزاع إذن لفظيا ، حملا لكلام الأشاعرة على الاكتفاء في ذلك بظاهر الوضع.

وإن اريد توقّفه على إرادة المطلوب بمعنى أنّ الصيغة إنّما تكون أمرا إذا اريد بها من المأمور إيقاع الفعل دون ما إذا لم يرد ذلك.

٥٩١

وكأنّ المقصود به الإشارة الى الخلاف الواقع في اعتبار إرادة المطلق حسب ما عرفت من زعم الأشاعرة عدم الحاجة اليها في تحقّق الأمر ، وبنائهم على المغايرة بين الطلب والإرادة، وأمّا غيرهم فبنوا على اتّحاد الأمرين ، وحينئذ فلا يمكن تحقّق الأمر من دون حصولها ، فمرجع هذا البحث إذن الى البحث المتقدم.

واحتجّ في المعارج وغيره بأنّ الصيغة ترد أمرا كقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) وغير أمر كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(٢) ولا مخصّص إلّا الإرادة.

فإن أراد به توقف كونه للطلب على إرادة المطلوب ـ إذ لا مخصّص له بذلك إلّا الإرادة المذكورة فيكون الغرض دفع ما ذهب اليه الأشاعرة من الاختلاف بين الأمرين وإمكان مفارقة الطلب عن الإرادة فلا حاجة اليها في صدق الأمر ـ ففيه : أنّ من البيّن أنّ إرادة الطلب كافية عندهم في تخصيصه بالطلب من غير حاجة الى إرادة المطلوب.

وإن أراد به توقّف كونه للطلب على إرادته ـ إذ لا مخصّص له سواها كما هو الظاهر من كلامه ـ فقد عرفت أنّه ممّا لا كلام فيه.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ النزاع المذكور إمّا لفظي ، أو أنّه يعود الى النزاع المتقدّم وإن اختلفا في ظاهر العنوان ، فعدّهما بحثين وإطالة الكلام في المقام كما في النهاية ليس على ما ينبغي.

المقام الثالث : في أنّ لفظ الأمر هل يفيد الوجوب وضعا أو لا؟

وقد اختلفوا في ذلك على قولين ، والأرجح كونه حقيقة في الطلب أو الصيغة الدالّة عليه على نحو ما ذكرناه في حدّه ، فيعمّ ما إذا كان الطلب على سبيل الحتم والإلزام أو على سبيل الندب ، سواء كان صادرا من العالي أو المستعلي أو هما معا.

ويدلّ عليه أنّه لا فارق عرفا من الجهة المذكورة بين الأمر ومطلق الطلب

__________________

(١) سورة النور : ٥٦.

(٢) سورة فصلت : ٤٠.

٥٩٢

الصادر من العالي أو المستعلي مع أنّ لفظ «الطلب» حقيقة في المعنى الأعمّ اتّفاقا على ما يظهر منهم ، فكذا ما بمنزلته ، بل لو غضّ عن ذلك وادّعي تبادره عرفا في مطلق الطلب كان في محلّه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ويومئ اليه تعميم الالتماس والدعاء لما كان الطلب الواقع من المساوي أو الداني على سبيل الحتم أو غيره ، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف ، فالظاهر كون الأمر أيضا كذلك.

مضافا الى أنّهم لم يعتبروا في حدّه ما يفيد الإلزام وإنّما أخذوا فيه طلب الفعل أو اقتضاءه أو استدعاءه أو ما يفيد مفاد ذلك الشامل لصورة الإلزام وخلافه ، وليس ذلك إلّا لانصرافه الى ذلك بحسب فهم العرف.

وأخذ الاستعلاء في جملة من حدوده لا يدلّ على كون الطلب على سبيل الحتم ، لوضوح أنّ الطلب الحتمي كما قد يكون مع الاستعلاء وقد يكون مع عدمه كذلك الطلب الندبي يكون على الوجهين ، فإنّ اقتضاء الشيء مع الإذن في تركه لا ينافي استعلاء المتكلّم أصلا ، بل ظاهر قوله : «أذنت لك في تركه» يفيد الاستعلاء ، كما أنّ قولك : «ندبت عليك هذا الفعل» ظاهر فيه.

والحاصل : أنّ الاستعلاء ممّا يتبع اعتبار المتكلّم سواء كان ذلك في مورد التكليف أو غيره ، فلو قال : «أبحت لك هذا الفعل» أفاد الاستعلاء.

بل قد يحصل الاستعلاء في الإخبارات أيضا ، نظرا الى ملاحظة الخصوصيات الملحوظة في المخاطبات وخصوصيات بعض الألفاظ ممّا يقع بها الخطاب.

بل قد يكون الاستعلاء مستفادا من الأفعال وملاحظة الأحوال ، فما في كلام بعض الأعلام من جعل الاستعلاء مستلزما للإلزام المنافي للندب كما ترى.

وما أورده على القائل بعدم إفادة لفظ «الأمر» الوجوب ـ بأنّه إمّا أن يقول بأنّ الأمر هو الطلب من العالي لا من حيث إنّه مستعل وقد عرفت بطلانه ، أو يأخذ الاستعلاء في مفهوم الندب ويجعله أعمّ من الندب وستعرف بطلانه ـ غير وارد

٥٩٣

عليه ، لما عرفت من انتفاء المنافاة بين الأمرين.

وما ذكر في وجهه بعد ذلك من أنّ طلب الشيء على سبيل الندب هداية وإرشاد ولا يلزم فيه اعتبار الاستعلاء غير متّجه ؛ فإنّ عدم لزوم اعتبار الاستعلاء لا يستلزم عدم حصوله ، فأيّ مانع إذن من اختصاص لفظ «الأمر» بصورة حصوله ، كما أنّ الطلب الحتمي لا يستلزم الاستعلاء ، ضرورة حصوله أيضا في الالتماس والدعاء ، مع اختصاص صدق الأمر عليه إذا صدر من غير العالي ، بما إذا كان حصوله على سبيل الاستعلاء.

على أنّ القائل بعدم دلالته على الوجوب لا يلزمه القول بكون الأمر هو الطلب الصادر من العالي ، لا من حيث إنّه مستعل ، بل لو جعل مفاده هو الطلب من العالي سواء كان مستعليا أو لا صحّ ما ذكره.

وإن قلنا باستلزام الاستعلاء للإلزام فعدم أخذه خصوص الاستعلاء في مفهوم الأمر كاف في تصحيح ما ذكره من غير حاجة الى اعتبار خلافه حسب ما ألزمه به في ظاهر كلامه وإن أمكن توجيهه بحمله على عدم أخذ الاستعلاء فيه ، سواء اتّفق حصوله أو لا.

إلّا أنّه بعيد عن العبارة كما لا يخفى ، مضافا الى أنّك قد عرفت اكتفاء أحد الأمرين فيه من العلوّ والاستعلاء حسب ما قرّرنا ، وعليه فالكلام المذكور ساقط من أصله.

فظهر بما ذكرنا أنّ من اعتبر الاستعلاء في مفهوم الأمر لا يلزمه القول بدلالته على الوجوب ، وكذا تبادر علوّ الآمر واستعلائه من لفظ «الأمر» إن سلّم لا دلالة فيه على اعتبار الإلزام ، وكذا ظهوره عرفا في الطلب الحتمي لا يفيد ذلك ، فإنّه كظهور مطلق الطلب فيه من باب انصراف المطلق الى الفرد الكامل كما سنشير اليه إن شاء الله تعالى.

وقد يحتجّ لوضعه للمعنى الأعمّ تارة بتقسيم الأمر الى ما يكون على سبيل الوجوب ، وما يكون على سبيل الندب ، وظاهر التقسيم أن يكون المقسم حقيقة في الأعمّ.

٥٩٤

وفيه ما عرفت من عدم وضوح دلالة التقسيم على ذلك ، على أنّه قد يحصل الانقسام في المقام بالنسبة الى سائر مستعملات الأمر أيضا.

نعم ، قد يرجع الأمر في ذلك الى التبادر بأن يدّعى تبادر المعنى القابل للقسمة المذكورة منه بحسب العرف فيؤول الى ما ذكرناه.

واخرى بأنّ فعل المندوب طاعة والطاعة الحاصلة بالفعل هو فعل المأمور به.

وقد يمنع من كلّية الكبرى ؛ إذ قد تكون الطاعة بفعل المأمور به ، وقد تكون بفعل المندوب.

وقد يذبّ عنه بأنّ المفهوم من الطاعة عرفا هو موافقة الأمر ، فلا يتّجه المنع بعد فهم العرف ، لكن الدعوى المذكورة محلّ خفاء وإن لم يخل عن ظهور ما ، بل ادّعى بعضهم الاتّفاق عليه ، ففيه أيضا تأييد لما قلناه.

احتجّ القائل بكونه حقيقة في الوجوب بالتبادر ، وبالآيتين الآتيتين ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» (١) مع وضوح طلبه له على سبيل الندب.

ويدفع الأوّل أنّ المتبادر من مادّة الأمر وصيغتها ليس إلّا طلب الفعل ، والطلب ظاهر في الوجوب ، ولذا ترى التبادر الحاصل فيهما حاصلا في قولك : «أطلب منك الفعل واريد منك الفعل» ونحوهما ممّا يفيد مفادهما من غير تفاوت أصلا مع ظهور كون الطلب وما بمعناه موضوعا للأعمّ ، وليس ذلك إلّا لظهور المعنى المذكور في الطلب الحتمي ، لكونه أظهر أفراده عند الإطلاق.

ويشير اليه أيضا أنّ المتبادر من الإطلاق هو الوجوب النفسي العيني التعييني كما سيجيء الإشارة اليه ، مع أنّ ظاهر الجمهور عدم وضع الأمر له بخصوصه ، فيكون التبادر المذكور إطلاقيا عندهم أيضا فيهون الأمر في دعوى كونه إطلاقيا بالنسبة الى الوجوب أيضا.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ب ٥ من أبواب السواك ح ٣ ج ١ ص ٣٥٥.

٥٩٥

فلا دلالة في التبادر المفروض على الحقيقة ، ولذا لا يقال بكون الطلب والإرادة حقيقة في خصوص الحتميين ، فالدليل المذكور مدفوع أوّلا بالنقض ، ثمّ بالحلّ.

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عن الآيتين والرواية وما يفيد مفادهما ، إذ لا كلام لنا في انصراف الإطلاق الى الوجوب إنّما الكلام في استناده الى الوضع ولا دلالة فيها عليه.

قوله : (صيغة «إفعل» وما في معناها).

أراد ب «ما» في ما معناها سائر صيغ الأمر الحاضر نحو : تفعل وتفاعل ، وصيغ الأمر الغائب نحو : ليفعل وليفاعل ، أو أراد به أسماء الأفعال نحو : صه وحيهل ، أو الأعمّ منهما.

وقد يعيّن حمله على الوجه الثاني ما حكي عن النحاة من أنّ إفعل علم جنس لكلّ صيغة يطلب بها الفعل ، كما أنّ فعل ويفعل علمان لكلّ ماض ومضارع مبني للمفعول.

ويبعّده أنّه إن ثبت الاصطلاح المذكور فإنّما يثبت في عرف علماء الصرف أو وسائر علماء العربية وثبوته في عرف علماء الاصول غير معلوم بل الظاهر خلافه ، وليس من الاصطلاحات الشائعة الدائرة بين سائر الناس من غير أهل ذلك الاصطلاح ـ كلفظ الفاعل والمفعول ـ ليستظهر الحمل عليه ، فحمل العبارة على ذلك ممّا لا شاهد عليه ، ثمّ على فرض ثبوت الاصطلاح المذكور فشموله لصيغ الأمر الغائب محل تأمّل أيضا.

هذا ، واعلم أنّ صيغة الأمر قد استعمل في معاني عديدة كالوجوب والندب والطلب الجامع بينهما والإباحة والإذن والإرشاد والالتماس والدعاء والتمنّي والترجّي والخبر والتهديد والإنذار والاحتقار والإهانة والإكرام والتعجيز والتسخير والتكوين والتسلية والامتنان وانقطاع الأمل والتحزّن والتهكّم وغيرها ، وليست حقيقة في جميع ذلك اتّفاقا إذ كثير من المعاني المذكورة إنّما يفهم من جهة

٥٩٦

انضمام القرائن وملاحظة المقامات.

وفي النهاية ـ بعد ما ذكر معاني خمسة عشر للصيغة ـ أنّها ليست حقيقة في جميع ذلك بالإجماع بل النزاع وقع في امور خمسة : الوجوب أو الندب أو الإباحة أو التنزيه أو التحريم.

وفي الإحكام قد اتّفقوا على أنّها مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة.

وأراد بالطلب ما يعمّ الجامع بين الوجوب والندب والإرشاد أو بعضها ، وقد اتّفقوا أيضا على كونها حقيقة في الطلب في الجملة حكاه في المعارج.

ثمّ إنّ الخروج عن مقتضى الوضع في عدّة من المعاني المذكورة بالنسبة الى ملاحظة وضعها باعتبار الهيئة كما في الإباحة والإذن والتمنّي والترجّي ونحوها ، وفي عدّة منها بالنسبة الى ملاحظة وضع الهيئة والمادّة معا ، بل في معناها التركيبي الإنشائي كما في التهديد والإنذار والتهكّم ونحوها ، فإنّ مفاد تلك الجمل الإنشائية هو إنشاء طلب الفعل من المأمور وقد استعملت في إنشاء ما يتبعه ويلزمه بحسب المقام ، فاريد من تلك الجمل إحضار صورة الطلب بملاحظة وضع المادّة والهيئة لينتقل منه بملاحظة المقام الى ما يتبعه من التهديد والإنذار وغيرهما ، فتلك التوابع هي المرادة من تلك الجمل الإنشائية ، وقد جعل معناها الموضوع له واسطة في إفهامها ، كما هو الحال في سائر المجازات المركّبة.

قوله : (حقيقة في الوجوب)

قد يورد في المقام امور :

منها : أنّ الحقيقة هي اللفظ المستعمل في تمام ما وضع له ، وليس الوجوب إلّا بعض مفاد صيغة الأمر لدلالتها على الوجوب مثلا والحدث الّذي يتّصف بذلك الوجوب ، فكيف يقال بكونها حقيقة في الوجوب الّذي هو جزء معناها؟

ولو اجيب بأنّ المراد من الصيغة هو خصوص الهيئة وليس معناه الحدثي مستندا الى وضعها الهيئي فيكون الوجوب تمام الموضوع له بذلك الوضع ففيه :

أوّلا : أنّ الهيئة بنفسها لا وضع لها وإنّما هي مرآة وآلة لوضع الألفاظ

٥٩٧

المعروضة لها ، فهي موضوعة بإزاء معناها المادّي والهيئي بوضع واحد.

وثانيا : أنّ معناها الهيئي أيضا ليس مجرّد الوجوب لأخذ الزمان والإسناد الى فاعل ما في معنى الأفعال ، إذ ليس دلالتها على ذلك إلّا من جهة وضعها الهيئي فهو بتلك الملاحظة أيضا بعض من مدلولها.

ومنها : أنّ الوجوب بمعنى كون الفعل ممّا يترتّب على تركه استحقاق الذمّ أو العقاب، كما هو المعنى المصطلح من الامور العقلية أو الشرعية التابعة لملاحظة حال الآمر مع المأمور في وجوب طاعته واستحقاق الذمّ أو العقاب على مخالفته ، فهو من اللواحق الطارئة على الفعل المأمور به في بعض الأحوال وأين ذلك من وضع الصيغة له بحسب اللغة.

ومنها : أنّ صيغة الأمر من جملة الأفعال المسندة الى فاعليها ، فكيف يصحّ جعل الوجوب مدلولا لها؟ مع أنّها من حيث الصدور من لواحق الأمر ومن حيث القيام من لواحق الفعل المأمور به ـ أعني المادّة المتعلّقة لهيئة الأمر ـ وليس من لواحق المأمور الّذي هو الفاعل لتلك الصيغة ليصحّ إسنادها اليه.

والحاصل : أنّه إن اخذ الوجوب مدلولا لصيغة الأمر فإن فسّر بطلب الفعل على سبيل المنع من الترك كان مسندا الى الأمر ، فينبغي أن يسند الفعل الى المتكلّم دون المخاطب أو الغائب ، وإن فسّر بالصفة القائمة بالفعل فهو من لواحق الحدث الّذي اخذ مبدأ للأمر فلا وجه لإسناده الى المخاطب أو غيره.

ومنها : أنّ الأمر من جملة الإنشاءات الغير المحتملة للصدق والكذب فلو كان مدلولها بحسب الوضع هو وجوب الفعل على المأمور كان محتملا للصدق والكذب ، لإمكان مطابقة المدلول المفروض للواقع وعدمها.

وبالجملة : المعنى المذكور من المعاني الخبرية الّتي لها مطابق بحسب الواقع ، فلا يصحّ جعلها مدلولا للإنشاء.

ومنها : أنّ ما يستفاد من الصيغة بناء على القول المذكور إنّما هو إيجاب الفعل على المأمور وإلزامه به ، ووجوب الفعل عليه متفرّع على الإيجاب تابع له ، فلا

٥٩٨

يتّجه جعل الموضوع له للصيغة هو الوجوب بل ينبغي جعلها بإزاء الإيجاب ، كما هو مختار البعض.

والجواب عن الأوّل أنّه ليس المراد من كونه حقيقة في الوجوب أنّ ذلك تمام معناه ، بل المقصود كونها حقيقة فيه مع انضمام ما يضمّ اليه ممّا اخذ في معناه ، إلّا أنّه لمّا كان هذا الجزء هو محلّ الخلاف في المقام وكان اعتبار غيره معلوما من الخارج اكتفوا في المقام بذكر الوجوب وتركوا ذكر الباقي اتّكالا على الوضوح.

ويمكن أن يجاب أيضا بأنّ المراد كون الصيغة باعتبار وضعها الهيئي حقيقة في ذلك ، وليس المراد وضع الهيئة بنفسها لذلك حتّى يرد ما ذكر من كون الهيئة مرآة للوضع لا أنّها موضوعة للمعنى.

فإن قلت : لا ريب في عدم تعدّد الوضع المتعلّق باللفظ الواحد باعتبار المعنى الواحد، وحينئذ فليس لصيغ الأمر بالنسبة الى ما يراد منها إلّا وضع واحد متعلّق بتلك الكلمة باعتبار مادّتها وهيئتها ، فليس هناك وضعان متعلّقان بها : أحدهما بمادّتها ، والآخر بهيئتها كما قد يتراءى من ظواهر بعض الكلمات ، فالإشكال المذكور بحاله.

قلت : لا ريب في كون الوضع المتعلّق بتلك الصيغة باعتبار مادّتها وهيئتها واحدة ، كسائر الموادّ والهيئات المأخوذة في الجوامد وإن كان الوضع هنا نوعيا وفي الجوامد شخصيا ، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ المادّة والهيئة في الجوامد حتّى المصادر ملحوظتان في الوضع بلحاظ واحد ، بخلاف المقام حيث إنّ ملحوظ الواضع حين الوضع كون اللفظ باعتبار مادّته بإزاء الحدث ، وباعتبار هيئته بإزاء الوجوب على الوجه الذي سنذكره إن شاء الله أو غير ذلك من المعاني الملحوظة في الهيئات ، فبملاحظة ذلك ينزّل الوضع المذكور منزلة وضعين.

وكأنّ هذا هو مرادهم بما ذكروه من تعلّق وضعين بتلك الصيغ باعتبار موادّها وهيئاتها حسب ما نفصّل القول فيه في محلّ آخر إن شاء الله ، وحينئذ فإطلاق أنّ الصيغة حقيقة في ذلك إنّما يراد به ذلك.

٥٩٩

بقي الكلام فيما ذكر من تعدّد معناه الهيئي أيضا نظرا الى أخذ الزمان والإسناد الى فاعل ما في مدلول الأفعال ، فلا يكون الوجوب تمام معناه الهيئي.

وقد يدفع بأنّ فعل الأمر منسلخ عن الزمان حيث إنّه لا يراد منه إلّا طلب الفعل ، فلا دلالة فيه على الزمان حسب ما يجيء الإشارة اليه في كلام المصنف رحمه‌الله والوجوب الملحوظ في المقام ليس معنى تامّا بل اخذ حالا في النسبة المأخوذة في تلك الصيغ ، فالنسبة ملحوظة فيه حسب ما سنشير اليه إن شاء الله.

وعن الثاني بأنّ مفاد الصيغة هو الوجوب المصطلح حيث إنّه وضعت الصيغة للدلالة عليه ، فيكون الإلزام المستفاد منها هو الحاصل من العالي الّذي يستحقّ في مخالفته الذمّ والعقاب ، فتدلّ على أنّ القائل بها شخص عال أوجب الفعل على المخاطب.

والحاصل : أنّ الصيغة موضوعة لخصوص الأمر أي لخصوص الطلب الصادر من العالي المستعلي ، بناء على انحصار الاستعلاء في الإيجاب ، فلا يكون الطلب الصادر من غيره من موضوع اللفظ ويكون استعماله إذن مجازا ، كذا اختاره بعض الأفاضل عند تقرير محلّ الخلاف ، على طبق ما حكيناه عنه من اعتبار العلوّ والاستعلاء معا في الأمر ، وتفسيره العلوّ بما مرّ.

وأنت خبير بأنّ الكلام المذكور في غاية البعد.

وكيف يقال بانحصار مدلول الأمر حقيقة في ذلك؟ ومع أنّ معظم استعمالاته اللغوية والعرفية على خلاف ذلك ، وقد عرفت أنّ العلوّ المأخوذ فيه حسب ما مرّ هو العلوّ العرفي دون العلوّ الّذي يوجب استحقاق الذمّ والعقاب في مخالفته.

وفدعوى دلالة الصيغة على أنّ المتكلم بها ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا موهونة جدّا ، بل دعوى كونها موضوعة لخصوص الأمر غير ظاهرة أيضا.

بل الظاهر وضعها للأعمّ من الأمر والالتماس والدعاء ، فليس العلوّ أو الاستعلاء معتبرا في وضعها أصلا وإنّما يعتبر ذلك في كونها أمرا ، كما يعتبر خلافه في كونها التماسا أو دعاء ، وذلك ظاهر بعد ملاحظة الاستعمالات المتداولة

٦٠٠