هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

كمال الظهور ، كيف! ولو لا ذلك لم يكن للطلب الالتماسي والدعائي صيغة موضوعة يكون استعمالها فيهما حقيقة مع أنّ الحاجة اليهما في الاستعمالات ودورانهما في المخاطبات إن لم يكن أكثر من الأمر فليس بأقلّ منه ، فكيف يتصوّر تخصيص الواضع لوضع صيغة الطلب بالأمر وإهماله لهما؟.

فالّذي ينبغي أن يقال بناء على القول بوضع الصيغة للوجوب أنّها موضوعة للطلب الحتمي ، بمعنى طلب الفعل على وجه لا يرضى بتركه ، وذلك إن صدر من العالي أو المستعلي كان أمرا ، وإن صدر عن غيره كان التماسا أو دعاء ، ومدلول الصيغة وضعا شيء واحد في الجميع ، وخصوصية الأمر والالتماس والدعاء تعرف من ملاحظة حال القائل وليست تلك الخصوصيات ممّا يستعمل اللفظ فيه ، واستعمال الصيغة على كلّ من الوجوه المذكورة على سبيل الحقيقة من غير تعدّد في الوضع واستحقاق الذمّ أو العقاب على تركه بحسب الواقع إنّما يجيء من الخارج بعد ثبوت وجوب الإتيان بما يطلبه المتكلّم من العقل أو الشرع ، وليس ذلك من مدلول اللفظ بحسب وضع اللغة أصلا.

فالمقصود بالوجوب في المقام هو ما ذكرناه من الطلب الحتمي لا الوجوب المصطلح ، وهو وإن كان خلاف مصطلحهم ، إلّا أنّ ظاهر المقام قرينة مرشدة اليه ، ويتّحد ذلك بالوجوب المصطلح إذا صدرت الصيغة من الشرع إن أخذ الوجوب بمعنى طلب الشرع على الوجه المخصوص ، وإن أخذ بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ تاركه الذمّ أو العقاب فلا يكون ذلك من مدلول الصيغة بحسب الوضع مطلقا ، بل هو من المعاني المتفرّعة اللازمة للطلب المذكور إذا صدرت الصيغة ممّن يحرم مخالفته ، سواء صدرت من الشارع أو غيره وليس ذلك من خواصّ الأمر ، بل قد يوجد في الالتماس والدعاء حسب ما مرّت الإشارة اليه ، فبما قرّرنا ظهر اندفاع الإيراد المذكور لابتنائه على حمل الوجوب على المعنى المصطلح.

وعن الثالث أنّ المراد بالوجوب هنا كما عرفت طلب الفعل على سبيل الحتم وعدم الرضا بالترك ، لكن ليس الطلب المذكور ملحوظا في المقام على سبيل

٦٠١

الاستقلال بأن يكون الوجوب معنى مستقلّا ملحوظا بذاته ليمكن وقوعه مسندا في المقام ، إذ ليس القابل للإسناد في الأفعال إلّا معانيها الحدثية فإنّها هي المعاني التامّة الصالحة للإسناد الى الغير ، والطلب المذكور إنّما اخذ آلة ومرآة لملاحظة نسبة الحدث الى فاعله فالمستفاد من تلك الجملة الطلبية إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة الى فاعله على سبيل كونه مطلوبا منه، فليس الطلب الملحوظ في المقام إلّا معنى حرفيا غير مستقلّ في الملاحظة وقد جعلت هيئة الأمر دالّة عليه كما وضع له في سائر الطلبيات من التمنّي والترجّي والاستفهام حروفا مخصوصة ، فليس الوجوب في المقام متعلّقا للإسناد ولا معنى تامّا ملحوظا بذاته ليكون قابلا للإسناد المذكور.

وجعلهم مدلول الأمر هو الطلب أو وجوب المأمور به على المخاطب بيان لما هو حاصل بالأمر على نحو ما يذكرونه في معاني الحروف ، لا أنّ ذلك بالملاحظة المذكورة هو مدلوله بحسب الوضع حتّى يكون الطلب أو الوجوب هو المعنى المدلول عليه بالصيغة استقلالا ، كما في قولك : «أطلب منك الفعل أو أوجبت عليك الفعل» ونحوهما ليكون المعنى الحدثي مأخوذا معه شطرا أو شرطا ليكون مفاد الأمر معنيين مستقلّين ، أو معنى واحد هو الطلب خاصّة ويكون الآخر قيدا فيه ، إذ من الواضح بعد التأمّل في مفادها بحسب العرف وملاحظة أوضاع مبادئها خلافه ، فليس المعنى المستقلّ بالمفهومية في الأفعال إلّا معانيها الحدثية المفهومة منها بملاحظة أوضاعها الماديّة ، وأمّا وضعها الهيئي فلا يفيد إلّا معنى حرفيا حتّى أنّ الزمان المفهوم منه إنّما يؤخذ مرآة لحال الغير وليس ملحوظا بذاته ، ولأجل ما ذكرنا دخل النقض في معاني الأفعال.

فالحال في وضع هيئة الأمر على نحو أوضاع الحروف ، فعلى ما اختاره المتأخّرون من كون الوضع فيها عامّا والموضوع له خاصّا يكون الحال هنا أيضا كذلك ، فمطلق الطلب أو الوجوب إنّما اخذ مرآة في الوضع ، وأمّا الموضوع له فهو جزئيات الطلب أو الوجوب.

٦٠٢

ثمّ نقول : إنّ الإسناد الى فاعل ما من المعاني المأخوذة في أوضاع الأفعال بملاحظة الهيئات الطارئة على موادّها ، وذلك الإسناد قد يلحظ فيها على النحو الحاصل في سائر الإخبارات ، بأن يفيد انتساب الحدث المدلول عليه الى غيره بحسب الواقع ، وقد يلحظ على سبيل الإنشاء بأن يعتبر في نسبة ذلك الحدث الى ما اسند اليه ما يحصل معه تلك النسبة بمحض إسناده اليه ، فيقع الانتساب بينهما بمجرّد الإسناد من غير أن يكون بيانا لنسبة حاصلة في الواقع ، نظير قولك : «ليت زيدا قائم» فإنّك قد أسندت القيام الى زيد لا على أنّه حال له في الواقع ، كما في : «زيد قائم» بل على أنّ تلك الحال حالة متمنّية له ، وإسناده اليه على سبيل التمنّي حاصل بنفس ذلك الإسناد ، وكذا الحال في مدلول الأمر فإنّه يفيد إسناد مدلوله الحدثي الى فاعله من حيث كونه مطلوبا مرادا حصوله منه حسب ما عرفت ، فإرادة النسبة المذكورة في هذه المقامات مفيدة لحصولها موجدة لها بخلاف النسبة الحاصلة في الاخبارات.

فظهر بما قرّرناه أنّ الفرق بين الإنشاءات والإخبارات إنّما هو بملاحظة النسبة والإسناد، ومنه يتبيّن الجواب عن الإيراد الرابع.

وأنت إذا تأمّلت فيما قرّرناه عرفت أنّ مفاد قولهم : «إنّ الأمر للوجوب أو الإيجاب» أمر واحد لا فارق بينهما بحسب الحقيقة ، فإنّ المقصود منه هو إفادة ما بيّناه ، وذلك المفهوم لمّا اخذ واسطة في انتساب الحدث الى فاعله ومرآة لملاحظة حال ذلك المنسوب ـ بالنظر الى ما نسب اليه إن لوحظ بالنسبة الى ذلك الحدث سمّي وجوبا ويوصف معه الفعل بالوجوب ، وإن لوحظ بالنسبة الى الآمر من حيث صدوره عنه ووقعه بإيقاعه سمّي إيجابا وتكليفا بمعناه الحدثي ـ فيصحّ التعبير بكلا الوجهين من غير تكلّف ، ولذا قد يعبّرون عنه بالأوّل وقد يعبّرون عنه بالثاني من غير بنائهم على اختلاف في ذلك ، وفسّروا الوجوب بطلب الفعل مع المنع من الترك ، مع أنّه تفسير للإيجاب في الحقيقة.

فما ذكره بعض المتأخّرين : من تغاير الأمرين بحسب الحقيقة وأنّ ما ذكر

٦٠٣

من اتّحادهما بالذات واختلافهما بالاعتبار من خرافات الأشاعرة ، ليس على ما ينبغي.

والظاهر أنّ ما ذكره مبني على أخذ الوجوب بمعنى رجحان الفعل مع المنع من الترك ، وقد عرفت أنّ المراد به في المقام غير ذلك.

وربما يظهر تغايرهما حقيقة من المحقّق (١) في المعارج وغيره. وبما ذكرنا يظهر الجواب عن الإيراد الخامس.

قوله : (وفاقا لجمهور الاصوليّين)

وقد عزي ذلك الى المحقّقين ، وعزاه في النهاية الى أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلّمين، وفي الإحكام الى الفقهاء وجماعة من المتكلّمين ، والعضدي الى الجمهور ، وحكي القول به عن كثير من العامّة والخاصّة منهم : الشيخ والفاضلان والشهيدان وكثير من المتأخّرين ، والشافعي في إحدى النسبتين إليه ، وأبو الحسين البصري والحاجبي والعضدي والرازي ، والغزّالي في إحدى الحكايتين عنه ، وغيرهم.

قوله : (وقيل : في الطلب)

وهو الجامع بين الوجوب والندب ، وقد يجعل أعمّ من الإرشاد أيضا حسب ما يستفاد من الإحكام حيث جعل مفهوم الطلب شاملا للثلاثة ، وفرّق بين الندب والإرشاد بأنّ الندب ما كان الرجحان فيه لأجل مصلحة اخروية ، والإرشاد ما كانت المصلحة فيه دنيوية ، إلّا أنّه لم ينقل فيه قولا بوضع الصيغة للأعمّ من الثلاثة ، وقد وافقه على الفرق المذكور غيره أيضا ، ولا يخلو ما ذكر عن تأمّل.

والمعروف جعل الطلب قدرا مشتركا بين الوجوب والندب ، وذلك هو الأظهر ؛ إذ الظاهر أنّ المقصود من الإرشاد هو بيان المصلحة المترتّبة من دون حصول اقتضاء هناك على سبيل الحقيقة فهو إبراز للمصلحة المترتّبة على الفعل بصورة الاقتضاء.

__________________

(١) حيث جعل القول بالإيجاب مقابلا للقول بالوجوب ، ويظر ذلك أيضا من السيّد العميدي وقد نصّ على أنّ اتحاد الإيجاب والوجوب في الحقيقة إنّما يتمّ على مذهب الأشاعرة فيما سيجيء تتمّة لهذا الكلام إن شاء الله. (منه عفي عنه).

٦٠٤

ألا ترى أنّه قد يكون ما يأمره به على سبيل الإرشاد مبغوضا عنده ولا يريد حصوله أصلا ، كما إذا استشاره أحد في إكرام زيد أو عمرو ، وهو يبغضهما ويريد إهانتهما ومع ذلك إذا كانت مصلحة المستشير في إكرام زيد مثلا يقول له : «أكرم زيدا» مريدا بذلك إظهار المصلحة المترتّبة عليه من غير أن يكون هناك اقتضاء منه للإكرام ، بل قد يصرّح بأنّه لا يحبّ إكرامه ويبغض الإتيان به.

وهذا بخلاف الندب لحصول الاقتضاء هناك قطعا ، إلّا أنّه غير بالغ الى حدّ الحتم من غير فرق بين ما يكون السبب فيه المصلحة الدنيوية أو الاخروية ، كما أنّه لا فرق في الإرشاد بين ما إذا كان الغرض إبداء المصلحة الدنيوية أو الاخروية ، كيف! ولو لا ما قلنا لم يكن ندب في أغلب الأوامر العرفية ، لعدم ابتنائها على المصالح الاخروية في الغالب.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فقد يكون المصلحة الدنيوية المتفرّعة على الفعل عائدة الى غير المأمور وليس ذلك إذن من الإرشاد ، فلا يتمّ ما ذكر من الفرق إلّا أن يخصّص ما ذكر من التفصيل بالمصلحة العائدة الى المأمور ، وهو كما ترى.

هذا ، وقد ذهب الى وضع الأمر بإزاء الطلب جماعة من أصحابنا منهم السيّد العميدي ، وجماعة من العامّة منهم الجويني والخطيب القزويني وبعض الجنفية على ما حكي عنهم ، وهو المختار كما سنبيّن الوجه فيه إن شاء الله.

إلّا أنّ الأوامر المطلقة مطلقا محمولة على الوجوب ، لانصراف مطلق الطلب اليه عرفا إلّا أن يقوم دليل على الإذن في الترك ، وكأنّه لانصراف المطلق الى الكامل ، واختاره صاحب الوافية أيضا ، إلّا أنّه ذهب الى حمل الأوامر الشرعية كتابا وسنّة على الوجوب لا لدلالة الصيغة عليه ، بل لقيام قرائن عامّة شرعا عليه ، وإليه ذهب العلّامة في النهاية بحسب وضع اللغة وجعلها موضوعة في الشرع لخصوص الوجوب.

قوله : (وذهب السيّد المرتضى الى أنّها مشتركة بين الوجوب والندب)

وقد تبعه فيما فصّله السيّد ابن زهرة ، وقد ذهب الى اشتراكه لفظا بين المعنيين

٦٠٥

جماعة ، وهم لم يفصّلوا بين اللغة والشرع.

قوله : (وتوقّف في ذلك قوم فلم يدروا أنّها للوجوب أو الندب)

وقد حكي ذلك عن الأشعري والقاضي أبي بكر وبنى عليه الآمدي في الإحكام ، وحكاه عن الأشعري ومن تابعه كالقاضي أبي بكر والغزّالي ، إلّا أنّ ظاهر كلامه بملاحظة سابقه هو التوقّف بين الوجوب والندب والإرشاد.

وربما يعزى الى جماعة التوقّف بين كونها للوجوب أو الندب ، أولهما اشتراكا لفظيا ، أو للقدر الجامع بينهما ليكون مشتركا معنويا.

وعن البعض التوقّف بين الأخيرين ، وعن بعض آخر التوقّف بين الأحكام الخمسة ، فهي موضوعة لواحد من الأحكام لا نعلمه.

قوله : (وقيل : إنّها مشتركة بين ثلاثة أشياء)

قد حكي ذلك عن جماعة.

قوله : (وزعم قوم ... الخ)

قد حكاه الحاجبي والعضدي عن الشيعة ، ولا أصل له إذ هو غير معروف بينهم ولا منسوب الى أحد من فضلائهم ، فهو فرية عليهم ، أو كان مذهبا لبعض الشيعة من سائر فرقهم ممّن لا يعتدّ بقوله عندهم.

وقد عزى الآمدي في الإحكام الى الشيعة الاشتراك بين الوجوب والندب والإرشاد ، وهو أيضا غير معروف بين الأصحاب.

قوله : (وقيل : فيه أشياء اخر)

منها : القول بأنّها للإباحة خاصّة ، حكاه في الإحكام.

ومنها : القول بالاشتراك اللفظي بين الأحكام الخمسة.

ومنها : القول بالاشتراك بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والتعجيز والتكوين.

ومنها : القول بالاشتراك بين الطلب والتهديد والتعجيز والإباحة ... الى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كلماتهم ، ولا جدوى في التعرّض لها لندورها

٦٠٦

ووضوح فسادها ، وظاهر ما حكي من الاتّفاق يدفعها.

قوله : (لنا أنّا نقطع أنّ السيّد ... الخ)

هذه عمدة أدلّة القائلين بوضعها للوجوب ، وهو استناد الى التبادر ، تقريره : أنّ السيّد إذا قال لعبده مع خلوّ المقام عن القرائن : «إفعل» فلم يفعل عدّ عاصيا وذمّه العقلاء على ترك الفعل ، وهو معنى الوجوب.

وقد يورد عليه بوجوه :

منها : أنّه لو تبادر منه الوجوب لزم انتقال الذهن من الأمر الى المنع من الترك وليس كذلك ، إذ قد لا يخطر الترك بالبال فضلا عن المنع عنه.

ويدفعه أنّ الوجوب معنى بسيط إجمالي يؤخذ فيه المنع من الترك عند التحليل العقلي ، فلا يلزم حينئذ تصوّر المنع من الترك عند تصوّر الوجوب إجمالا ، وذلك ظاهر من ملاحظة سائر المفاهيم الإجمالية المنحلّة عند التفصيل الى مفاهيم عديدة.

مضافا الى أنّ المنع من الترك ليس جزء من مفهوم الوجوب ولو عند التحليل بل هو من لوازمه حسب ما يأتي الإشارة اليه.

ومنها : المنع من خلوّ المقام الّذي يفهم منه ذلك عن القرينة ، إذ الغالب في العرف قيام القرائن الحالية أو المقالية على ذلك ، وقد أشار اليه المصنف رحمه‌الله بقوله : «لا يقال ...» الخ ويأتي الكلام في الجواب عنه.

ومنها : أنّ الفهم المذكور قد يكون من جهة إيجاب الشرع طاعة السيّد على العبد وإلزامه بامتثال أوامره ، أو من جهة قضاء العرف به ، ففرض وقوع الأمر من السيّد بالنسبة الى عبده قاض بذلك بملاحظة حكم الشرع أو العرف ، وأين ذلك من دلالة الصيغة بنفسها عليه.

ووهنه ظاهر ؛ فإنّ الشرع أو العرف إنّما أوجب على العبد الإتيان بما أوجبه مولاه لا غير ذلك ، وإيجابه في المقام فرع دلالة الأمر.

ومنها : أنّ العصيان بمعنى مخالفة الأمر لا يثبت كونه محرّما إلّا بعد دلالة الأمر

٦٠٧

على الوجوب ، ضرورة انتفاء الإثم فيها مع عدمها ، وأنّه قد يقع الذمّ على ترك بعض المندوبات وارتكاب بعض المكروهات ، فلا اختصاص له بالمخالفة المحرّمة فلا يلزم من عدّه عاصيا وترتّب الذمّ على تركه وجوب الفعل عليه وتحريم تركه.

وفيه : أنّ العصيان لا يطلق عرفا إلّا على فعل الحرام أو ترك الواجب وليس مخالفة مطلق الأمر عصيانا ، بل لا يطلق إلّا على مخالفة الأمر الإيجابي ، فإذا عدّ مخالفة الأمر المطلق عصيانا كان مفيدا للإيجاب ، وأنّ الذمّ لا يتعلّق بالمكلّف من جهة ترك ما هو مندوب عند الذامّ وإنّما يتعلّق بترك الأمر اللازم أو بفعل المحرّم ، وربما يرد على ترك المندوب لوم ولا يعدّ ذمّا ، ولذا عرّفوا الواجب بما يذمّ تاركه.

وورود الذمّ عرفا على ترك بعض المندوبات فإنّما هو من جهة لزوم الإتيان به في العرف وعدم ارتضائهم بالإهمال فيه وإن جاز تركه بحسب الشرع.

ومنها : أنّه معارض بالصيغة المجرّدة عن القرينة الصادرة من مجهول الحال ممّن لا يعلم وجوب طاعته بحسب الشرع أو العرف وعدمه ، فإنّ المأمور لا يعدّ عاصيا ولا يتعلق به ذمّ فلو كان حقيقة في الوجوب لزم ترتّب الذمّ عليه.

وقد يجاب عنه بأنّ دلالة اللفظ لا يستلزم مطابقة مدلوله للواقع ، فغاية الأمر دلالة اللفظ عليه في المقام ، وهو لا يستلزم وجوبه ليتفرّع عليه استحقاق الذمّ.

نعم ، لو علم وجوب طاعة الآمر من الخارج دلّ ذلك على مطابقة المدلول لما هو الواقع وترتّب الذمّ على مخالفته ، ولذا فرضوا الكلام في المقام في أمر السيّد لعبده.

وفيه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ في الإخبار وأمّا الإنشاء فإنّما هو إيجاد لمدلوله في الخارج فلا يصحّ فيه ما ذكر.

والحقّ في الجواب أنّك قد عرفت أنّ ما وضع له الأمر هو الطلب الحتمي الّذي لا يرضى الطالب معه بترك المطلوب ، ومن لوازمه كون الفعل بحيث يذمّ تاركه أو يعاقب عليه إذا صدر ممّن يجب طاعته ، والمعنى المذكور حاصل في

٦٠٨

المقام وإنّما لم يترتّب عليه الذمّ من جهة الشكّ في وجوب الطاعة ، وإنّما فرضوا في الاحتجاج صدور الأمر ممّن يجب طاعته ليعلم من وجود اللازم المذكور الدالّ على حمل الصيغة على الطلب بالمعنى المفروض كونها حقيقة في ذلك.

ومنها : أنّ غاية ما يفيده دلالة الصيغة الصادرة من العالي على الوجوب ، وأين ذلك من دلالة الصيغة عليه مطلقا ، كما هو ظاهر العنوان.

ويدفعه بناء على تعميم العنوان أنّه إذا ثبت كون الصيغة حقيقة في الوجوب في الصورة المفروضة ثبت ذلك في غيرها أيضا بأصالة عدم تعدّد الأوضاع ، أو من جهة ظهور عدم اختلاف معنى اللفظ باختلاف المتكلّمين ، كما يظهر من استقراء سائر الألفاظ.

ومنها : أنّ التبادر المذكور بعينه حاصل في لفظ الطلب وما بمعناه ، كما إذا قال لعبده : «أطلب منك شراء اللحم أو اريد منك ذلك» مع أنّه لا كلام في كون الطلب أعمّ من الوجوب والندب ، فلو كان التبادر المفروض دليلا على الوضع للوجوب بالخصوص لجرى في ذلك مع أنّ من المعلوم خلافه.

والقول بأنّ قضية التبادر أن يكون الوجوب موضوعا له في المقامين إلّا أنّا خرجنا من ذلك فيما ذكر ـ نظرا الى قيام الدليل على وضعه للأعمّ فيبقى غيره تحت الأصل ـ مدفوع بأنّ كون الأصل في التبادر مطلقا أن يكون دليلا على الوضع ممّا لا دليل عليه ، وإنّما الدليل على الوضع هو التبادر المستند الى نفس اللفظ ، فلا يصحّ الاستناد الى التبادر في ثبوت الوضع إلّا بعد ثبوت كون التبادر المفروض من ذلك القبيل علما أو ظنّا ، وأمّا مع حصول الشكّ في وجه لدعوى الأصل فيه ، ولا أقلّ في المقام من الشكّ بعد ملاحظة ما قرّرناه فلا يتمّ الاستناد اليه.

ومنها : أنّ التبادر إنّما يكون دليلا على الوضع إذا كان الانصراف مستندا الى نفس اللفظ دون ما إذا استند الى أمر آخر حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

والظاهر أنّ انصراف الأمر الى الوجوب في المقام من جهة دلالة اللفظ على الطلب الظاهر حين إطلاقه في الوجوب ، كما عرفت في انصراف لفظ «الطلب»

٦٠٩

وكأنّه من جهة كون الوجوب هو الكامل منه ، نظرا الى ضعف الطلب في المندوب من جهة الرخصة الحاصلة في تركه ، وقد مرّت الإشارة الى ذلك.

قوله : (معلّلين حسن ذمّه بمجرّد ترك الامتثال)

لا يخفى أنّه بعد أخذ ذلك في الاحتجاج لا يتوجّه ما أورده بقوله : «لا يقال» إذ بعد ثبوت تعليلهم حسن الذمّ بمجرّد ترك الامتثال لا فرق بين قيام القرائن على إرادة الوجوب وعدمه ، إذ غاية ما يلزم من ذلك حينئذ أن تكون القرائن مؤكّدة لا مفيدة للوجوب، وإلّا لم يحسن التعليل.

والحاصل أنّه إمّا أن يؤخذ في الاحتجاج انتفاء القرائن في الصيغة الصادرة من السيّد ، أو تعليلهم الذمّ بمجرّد ترك الامتثال ، ويتمّ الاحتجاج بأخذ واحد منهما وحينئذ فمع أخذه التعليل المذكور في الاحتجاج وعدم اعتباره انتفاء القرائن هناك لا يتّجه الإيراد ، لاحتمال وجود القرائن في المقام.

وقد يوجّه ذلك بأنّ ظاهر ترتّب ذمّ العقلاء على مخالفة الصيغة الواردة هو فرض ورودها خالية عن القرائن الدالّة على الوجوب ، وما ذكره من تعليل الذمّ بمجرّد ترك الامتثال تأييد لذلك ، والمقصود من الإيراد منع المقدّمة المذكورة ، ويظهر منه أيضا منع التعليل المذكور وإن لم يصرّح به.

قوله : (فليقدّر كذلك لو كانت في الواقع موجودة)

قد يورد عليه بأنّ مجرّد التقدير لا فائدة فيه بعد وجودها في الواقع ، فإنّ الفهم إنّما يتبع العلم بالقرينة ومجرّد تقدير عدمه لا يفيد شيئا بعد كون الحكم بحصول الذمّ من جهة الصيغة المنضمّة الى القرينة. نعم ، لو انتفت القرائن بحسب الواقع وحكم بالذمّ تمّ المقصود.

ويدفعه أنّ الحكم بإرادة المعنى المجازي أو خصوص أحد معنيي المشترك موقوف على ملاحظة القرينة ، فإذا قدّر انتفاء القرائن بأن لا يلاحظ شيئا منها وحصل الفهم المذكور دلّ ذلك على عدم استناد الفهم الى غير اللفظ ، فالمقصود من تقدير انتفاء القرائن عدم ملاحظة شيء منها عند تبادر المعنى المذكور ليكون

٦١٠

شاهدا على استناد الفهم الى مجرّد اللفظ.

قوله : (والمراد بالأمر ... الخ)

كأنّه إشارة الى دفع ما قد يقال في المقام من أنّ أقصى ما يفيده الآية هو كون لفظ «الأمر» للوجوب فيكون المراد به الطلب الحتمي أو الصيغة الدالّة عليه ولو بتوسّط القرينة، وأمّا كون الصيغة بنفسها دالّة عليه بالخصوص كما هو المدّعى فلا ، فأجاب بأنّ المراد بالأمر هو نفس الصيغة المذكورة ، أعني قوله : «اسجدوا» حيث إنّ تقدّمها قرينة على إرادتها ، إذ لم يقع منه تعالى في ذلك المقام طلب آخر سواها.

ويمكن المناقشة بأنّ إطلاق الأمر عليها مبني على إرادة الوجوب منها ، وهو أعمّ من أن يكون من جهة دلالتها عليه بالوضع أو بواسطة القرينة ، وأصالة عدم انضمام القرينة اليها معارضة بأصالة عدم دلالتها على الوجوب ، مضافا الى أنّ مجرّد الأصل لا حجّة فيه في المقام لدوران الأمر فيه مدار الظنّ.

فإن قلت : إنّه قد علّل الذمّ والتوبيخ بنفس الأمر فاحتمال استناده الى مجموع الصيغة والقرينة مخالف لظاهر الآية.

قلت : تعليله بنفس الأمر لا يفيد دلالة الصيغة بنفسها على الوجوب ؛ إذ غاية الأمر أن يراد بالأمر الصيغة المستعملة في الوجوب ، وهو أعمّ من أن يكون موضوعا بإزائها لئلا يفتقر إرادته منها الى القرينة أو لا ، فيتوقّف على ضمّها إذ على الوجهين يصحّ تعلّق الذمّ بمجرّد مخالفة الأمر بعد فرض كون لفظ الأمر دالّا على الوجوب. نعم لو علّق الذمّ بمجرّد مخالفة قوله : «اسجدوا» صحّ ما ذكر.

ويمكن أن يوجّه ذلك بأنّ ظاهر سياق الحكاية كون الطلب الصادر هو قوله : «اسجدوا» مع الإطلاق إذ لو كان هناك قرينة منضمّة اليه يتوقّف فهم الإيجاب على انضمامها لقضى المقام بالإشارة اليها ، لتوقّف ما يورده من الذمّ عليه ، فعدم ذكره في مقام الطلب إلّا مجرّد الصيغة ثمّ تفريعه الذمّ على مخالفتها معبّرا عنها بالأمر ظاهر في إطلاق الأمر على الصيغة المجرّدة عن القرائن وتفريعه الذمّ على مخالفتها ، فيتمّ المدّعى مضافا الى أنّ الظاهر من ملاحظة العرف عدّ الصيغة

٦١١

المجرّدة عن القرائن الصادرة من العالي أمرا وإطلاقهم لفظ «الأمر» عليها على سبيل الحقيقة من غير إشكال ، سواء قلنا بكون الصيغة حقيقة في الوجوب أو لا ، فيستفاد كونها للوجوب من الآية ، فبملاحظة ما قرّرناه ليس المراد من قوله إذ : «أمرتك» إلّا ما حكاه أوّلا من نفس الصيغة الصادرة ، وهو ظاهر من سياق الآية كمال الظهور ، فيكون الذمّ واردا على مخالفة مجرّد الصيغة.

وما يقال في المقام من : أنّ المراد بلفظ الأمر هنا هو الصيغة المتقدّمة والذمّ على مخالفتها دالّ على استعمالها في الوجوب والأصل في الاستعمال الحقيقة فمما لا وجه له.

أمّا أوّلا فلأنّ ترتّب الذمّ على المخالفة إنّما يفيد كون المقصود هناك إيجاب السجود ، وأمّا أنّ اللفظ مستعمل في خصوص الوجوب كما هو المراد فلا ، ولا ملازمة بين الأمرين ؛ إذ قد يكون من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد أو ما بمعناه من غير إرادة الخصوصية من اللفظ فلا تجوّز حسب ما يأتي الإشارة اليه إن شاء الله.

وأمّا ثانيا فبأنّ مناط الاستدلال بالآية هو ترتّب الذمّ على مخالفة قوله : «اسجدوا» خاليا عن القرائن ، لدلالته إذن على استفادة الوجوب من نفس الصيغة ، وهو يتوقّف على وضعها له لانحصار الوجه في دلالة اللفظ على المعنى في الوضع وانضمام القرينة ، والمفروض انتفاء الثاني فيتعيّن الأوّل ، وحينئذ فلا حاجة الى انضمام الأصل.

وأمّا إثبات مجرّد استعماله هناك في الوجوب بقرينة الذمّ المتأخّر الكاشفة عن حصول ما يفيده عند استعمال الصيغة من الوضع أو انضمام القرينة فلا يفيد شيئا في المقام ؛ إذ لا يستفاد من ذلك إذن ما يزيد على الاستعمال ، واستعمال الأمر في الوجوب ممّا لا تأمّل فيه عندهم حتّى يحتاج فيه الى الاستناد الى الآية الشريفة والتمسّك بالمقدّمات المذكورة ، ودعوى أصالة الحقيقة هنا غير متجهة أيضا لتعدّد مستعملات اللفظ ، وكون الاستعمال إذن أعمّ من الحقيقة معروف بينهم.

قوله : (فإنّ هذا الاستفهام ليس على حقيقته)

٦١٢

كأنّه دفع لما قد يقال من أنّه لا توبيخ ولا ذمّ في الآية الشريفة ؛ إذ ليس ما ذكر إلّا استفهاما عن علّة الترك ، وهو يصحّ مع كون الأمر المتروك واجبا أو مندوبا ، وأمّا الطرد والإبعاد المترتّب عليه فقد يكون من جهة العلّة الداعية له على الترك ، إذ قد يكون ترك المندوب على وجه محرّم بل باعث على الكفر.

فأجاب بأنّ الاستفهام في المقام ليس على حقيقته ، لاستحالته عليه تعالى ، فيراد به معناه المجازي ، وهو في المقام للتوبيخ والإنكار.

ويرد عليه أنّه لا يتعيّن الأمر حينئذ في كون الاستفهام إنكاريا ، لاحتمال أن يكون للتقرير ، والمقصود إبداؤه العلّة الّتي بعثته على ترك السجود وإقراره بها حتّى يتمّ الحجّة عليه ، فلا دلالة في الاستفهام على ذمّه وتوبيخه ، ولا في طرده وإبعاده بعد إقراره بكون العلّة فيه ما ذكره على ترتّبه على مجرّد تركه ليفيد المدّعى.

وما يقال من : أنّ الاستكبار من إبليس لم يكن على الله تعالى ليكون محرّما بل على آدم عليه‌السلام ، فيرجع بالنسبة الى الله تعالى الى محض المخالفة التبعية الغير المقصودة بالذات المولّدة من المخالفة الحاصلة من الحميّة والعصبيّة ، وهذه شيء ربما يعدّ من تبعها في عداد المقصّرين.

مدفوع بأنّ الترك الصادر من إبليس قد كان على جهة الإنكار ، وكان استكباره على آدم عليه‌السلام باعثا على إنكاره رجحان السجود ، ولا شكّ إذن في تحريمه ، بل بعثه على الكفر، فهناك امور ثلاثة إباء للسجود ، واستكبار على آدم عليه‌السلام ، وإنكار لرجحان السجود المأمور به من الله تعالى ، بل دعوى قبحه لاشتماله على تفضيل المفضول ، ولا ريب في بعثه على الكفر كما لو أنكر أحد أحد المندوبات الثابتة بضرورة الدين ، وكأنّ في قوله تعالى: (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(١) إشارة الى الامور الثلاثة ، فليس عصيانه المفروض مجرّد ترك الواجب ، بل معصية باعثة على الكفر سيّما بالنظر الى ما كان له من القرب والمكانة وغاية العلم والمعرفة.

__________________

(١) البقرة : ٣٤.

٦١٣

ومع الغضّ عن ذلك فكون الترك الصادر منه على سبيل الاستكبار على آدم عليه‌السلام كاف في المقام ؛ إذ لا دليل على كون ما ترتّب على مخالفته من الإبعاد والإهانة متفرّعا على مجرّد الترك ليفيد المدّعى ، ومجرّد احتمال حرمة الاستكبار سيّما بالنسبة اليه خصوصا بالنظر الى كونه على آدم عليه‌السلام كاف في هدم الاستدلال.

مضافا الى ظهور قوله تعالى : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها)(١) في قبحه وتحريمه، بل هو الظاهر من سياق سائر الآيات أيضا.

وربما يظهر منها أنّ ما ورد على إبليس إنّما كان من جهة الكبر ، وقد يستظهر ذلك من الأخبار (٢) أيضا.

فقوله : «إنّ هذه شيء ربما يعدّ من تبعها في عداد المقصّرين» مشيرا به الى أنّه لا يزيد على ارتكاب المكروه كما ترى.

ثمّ إنّه قد يورد على الاحتجاج امور اخر :

منها : أنّ أقصى ما تفيده الآية دلالة الأمر على الوجوب في عرف الملائكة قبل نزول آدم عليه‌السلام الى الأرض ، وإفادة الأمر للوجوب في لسانهم لا يفيد دلالته عليه عندنا.

وقد يجاب عنه بأصالة عدم النقل ، وهو كما ترى ؛ إذ هو إنّما يفيد مع اتّحاد اللسان، وكون الخطاب هناك بالعربية غير معلوم سيّما إذا قلنا بكون الأوضاع اصطلاحية ، ومع احتمال اختلاف اللسان لا يعقل التمسّك بأصالة عدم النقل.

واجيب أيضا بأنّ حكاية أقوال أهل لسان لآخرين إنّما يصحّ من الحكيم إذا أتى بما يفيد المطلوب من لسان الآخرين واستعمل حقيقتهم في حقيقتهم ومجازهم في مجازهم.

وأنت خبير بأنّ أقصى ما يلزم أن يعتبره الحكيم عدم اختلاف المعنى ، وأمّا اعتبار الموافقة في النقل بين حقائق ذلك اللسان وهذا اللسان وكذا المجاز فممّا لا شاهد على اعتباره، ولا جعله أحد من شرائط النقل بالمعنى.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٣.

(٢) الكافي ٢ : باب الكبر ص ٣٠٩ ـ ٣١٢.

٦١٤

نعم ، يمكن أن يجاب بأنّ حكايته تعالى لتلك الواقعة بهذه الألفاظ دليل على كون الألفاظ المذكورة حقيقة فيما ذكر لتدلّ على المقصود بنفسها ، وإلّا فلا تكون وافية بأداء المقصود ولا موافقا لما وقع في اللسان الآخر.

ومنها : أن أقصى ما تفيده الآية دلالة أمره تعالى على الوجوب ، وأين ذلك من دلالته عليه بحسب اللغة؟

وما قد يجاب عنه من أنّ المتبادر من التعليل هو كون العلّة مخالفة الأمر من حيث إنّه أمر لا من حيث إنّه أمره تعالى مدفوع ، بأنّ ظاهر إضافته الأمر الى نفسه في التعليل إنّما يفيد ترتّب الذم على مخالفة أمره من حيث إنّه أمره ، فدعوى التبادر المذكور مع أنّ الظاهر من اللفظ خلافه غريب.

نعم ، يمكن أن يدفع بذلك ما لعلّه يقال : إنّ غاية ما تفيده الآية لزوم حمل أوامره تعالى مع الإطلاق على الوجوب ، وهو أعمّ من كونه موضوعا له ، إذ قد يكون ذلك لقيام قرائن عامّة على الحمل المذكور ، فإنّ تعليل الذمّ بمجرّد مخالفة الأمر يدفع ذلك لاقتضائه كون الأمر بنفسه دالّا على الوجوب لا من جهة انضمام القرينة الخارجية ولو كانت عامّة.

ويمكن الجواب عمّا ذكر بأنّ ثبوت كونه حقيقة في الوجوب بحسب الشرع قاض بثبوته بحسب اللغة أيضا بملاحظة أصالة عدم النقل ، فغاية الأمر أن يضمّ الأصل المذكور الى الآية لإتمام المقصود ، كما اخذ ذلك في الاحتجاج بالتبادر بل الظاهر أخذه في غيره أيضا وإن لم يشيروا اليه.

ومنها : أنّ غاية ما تدلّ عليه الآية دلالة الصيغة الصادرة من العالي على الوجوب ، وأمّا دلالة صيغة «إفعل» عليه مطلقا كما هو المأخوذ في العنوان فلا.

ويمكن دفعه بعد تسليم كون النزاع في الأعم بنحو ما مرّ في الاحتجاج السابق.

ومنها : أنّ ما يستفاد من الآية دلالة الأمر على الوجوب من دون انضمام القرينة ، وأمّا كون تلك الدلالة بالوضع بخصوصه فغير معلوم ؛ إذ قد يكون ذلك

٦١٥

لدلالته على الطلب وظهور الطلب في الوجوب كما نشاهد ذلك في لفظ «الطلب» الموضوع للأعمّ قطعا ، فما تدلّ عليه الآية أعمّ من المدّعى على نحو ما مرّت الإشارة اليه في الاحتجاج المتقدّم.

قوله : الثالث قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) الآية قد يورد على الاحتجاج بهذه الآية الشريفة أيضا امور أشار المصنّف الى بعضها :

منها : أنّه لا دلالة في الآية إلّا على كون أمر ما للوجوب بمعنى إرادة الوجوب منها : إذ لا عموم في الآية ، وهو ممّا لا كلام فيه ، وقد أشار اليه المصنّف.

ومنها : أنّه على فرض تسليم عموم الآية يكون أمره للعموم إنّما يفيد حرمة مخالفة جميع أوامره تعالى ، وهو إنّما يفيد اشتمال تلك الأوامر على ما يراد منه الوجوب ، فيرجع الى الوجه الأوّل.

ومنها : أنّه بعد تسليم دلالته على كون كلّ من أوامره للوجوب فأقصى ما يفيده كون المراد منها ذلك ، وهو أعمّ من الوضع له فما يستفاد من الآية الشريفة هو حمل الأوامر المطلقة في الكتاب أو السنّة أيضا على الوجوب ، فلا مانع من أن يكون ذلك قرينة عامّة قائمة على ذلك مع كونها حقيقة لغة وشرعا في مطلق الطلب حسب ما ذهب اليه بعض المتأخّرين مستدلّا على حملها على الوجوب بالآية المذكورة وغيرها.

ومنها : أنّه لو سلّم دلالتها على الوضع للوجوب فإنّما تدلّ على وضعها للوجوب بحسب الشرع لورود التهديد المذكور من الشارع ، فلا دلالة فيها على الوضع للوجوب بحسب اللغة كما هو المدّعى ، فتكون الآية دليلا على مقالة السيّد والعلّامة ومن يحذو حذوهما.

ومنها : أنّه لو سلّم دلالتها على الوضع له بحسب اللغة فإنّما تدلّ على كون مفاد لفظ «الأمر» هو الوجوب دون الصيغة ، وقد عرفت أنّه لا ملازمة بين

__________________

(١) سورة النور : ٦٣.

٦١٦

الأمرين ، فأيّ مانع من القول بكون لفظ «الأمر» موضوعا بإزاء الصيغة الّتي يراد منها الوجوب؟ وإن كان إرادة ذلك منها على سبيل المجاز أو الاشتراك أو من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد بوضعها للأعمّ من الوجوب.

ومنها : أنّه لو سلّم دلالتها على حال الصيغة فإنّما تفيد وضع الصيغة الّتي يكون مصداقا للأمر بإزاء الوجوب ، أعني الصيغة الصادرة من العالي أو المستعلي أو هما معا ، دون مطلق صيغة إفعل ، كما هو ظاهر عنوان البحث لتكون نفس الصيغة موضوعة لخصوص الأمر أو للدلالة على الوجوب حسب ما مرّ الكلام فيه.

ومنها : المنع من إفادة الآية للتهديد ، فإنّها مبنيّة على كون الأمر للوجوب ومع التمسّك به يدور الاحتجاج ، وقد أشار اليه المصنّف رحمه‌الله.

ومنها : المنع من كون مطلق التهديد على الترك دليلا على الوجوب وإنّما يكون دليلا عليه إذا وقع التهديد بعذاب يترتّب على ترك المأمور به على سبيل التعيين ، دون الاحتمال وهو غير حاصل في المقام ، لدورانه بين الفتنة والعذاب ، ولا مانع من ترتّب الفتنة على ترك بعض المندوبات ، فغاية ما يفيده التهديد المذكور مرجوحية المخالفة لما فيه من احتمال ترتّب الفتنة الحاصل بمخالفة الأمر الندبي أو العذاب الحاصل بمخالفة الأمر الوجوبي ، فلا ينافي القول باشتراك الأمر بين الوجوب والندب لفظيا أو معنويا ، بل وغيرهما أيضا لقيام احتمال الوجوب القاضي باحتمال ترتّب العذاب على الترك ، فيصحّ الكلام المذكور وإن لم يستعمل شيء من الأوامر في الوجوب.

ومنها : أنّه إنّما وقع التهديد في مخالفة الأوامر بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم فيحتمل أن يكون ذلك على سبيل التقسيم ، بأن يراد به أنّ المخالفين لأوامره تعالى بعضهم يصيبه الفتنة وبعضهم يصيبه العذاب ، وكأنّ المراد بالفتنة الآفات والمصائب الدنيوية ، لظاهر مقابلته بالعذاب فلا يفيد كون أوامره مطلقا للوجوب ، بل قضية ذلك جواز انقسام الأوامر الى قسمين على حسب الغاية المترتّبة على مخالفتها ، فأقصى ما يفيده إرادة الوجوب من بعض الأوامر ، وهو ما هدّد عليه بالعذاب

٦١٧

وذلك ممّا لا كلام فيه ، فلا يفيد المدّعى.

ومنها : أنّه لا يتعيّن أن يراد بمخالفة أمره تعالى ترك ما أمر به كما هو مبنى الاحتجاج، إذ يحتمل أن يراد به حمله على خلاف مراده ، فلا يفيد المدّعى ، وقد أشار اليه المصنّفرحمه‌الله.

ومنها : أنّه يحتمل أن يراد بالمخالفة الحكم على خلاف ما أمر الله تعالى به ، كما هو إطلاق معروف في مخالفة بعض الناس لبعض.

ومنها : أنّ التهديد المذكور وإن تعلّق بمخالفي الأمر لكن المهدّد عليه غير مذكور في الآية ، فقد يكون التهديد واردا عليهم لأمر غير المخالفة ، فلا يفيد المطلوب.

ومنها : أنّ المخالفة في الآية قد عدّيت ب «عن» مع أنّها متعدّية بنفسها ، فليس ذلك إلّا لتضمينها معنى الإعراض ، كما سيشير إليه المصنف رحمه‌الله ، وحينئذ فيكون التهديد المذكور واردا على المخالفين على سبيل الإعراض ، ويحتمل حينئذ أن يكون وروده عليهم من جهة إعراضهم عن الأمر لا لمجرد تركهم كما اخذ في الاحتجاج.

ومنها : أنّه يحتمل أن يكون قوله : «الّذين» مفعولا ليحذر ويكون الفاعل مستترا فيه راجعا الى السابق ، فيكون المقصود بيان الحذر عن الّذين يخالفون عن أمره ، لا وجوب الحذر عليهم ليفيد استحقاقهم للعذاب من أجل مخالفتهم.

ومنها : أنّه لا دلالة في الآية على تهديد كلّ مخالف للأمر ؛ إذ لا عموم في الموصول، فقد يراد به العقد ويكون إشارة الى جماعة مخصوصين ، فغاية الأمر حينئذ أن يكون الأوامر المتعلّقة بهم للوجوب وأين ذلك من دلالة مطلق الأمر عليه؟.

ومنها : أنّ ظاهر المخالفة هو ترك الأمر الإيجابي ، إذ المتبادر منها هو التصدّي لخلاف ما يقتضيه الأمر إذا نسب الى الأمر ، أو خلاف ما اقتضاه الآمر إن نسبت اليه ، وليس في ترك الأوامر الندبية مخالفة للأمر ولا للآمر ، نظرا الى اشتمال الأمر

٦١٨

الندبي على إذن الآمر في الترك ، فإن أتى بالفعل فقد أخذ بمقتضى الطلب ، وإن ترك فقد أخذ بمقتضى الإذن الّذي اشتمل عليه ذلك الطلب ، ولو عدّ ذلك أيضا مخالفة فلا ريب أنّ إطلاق المخالفة غير منصرف اليه.

وإضافة المخالفة في الآية الى الأمر لا يقضي بكون كلّ ترك للمأمور به مخالفة ، وإنّما يقضي بتعلّق التهديد على الترك الّذي يكون مخالفة ، وهو الترك الّذي لم يأذن فيه ، فيختصّ التهديد بمن ترك العمل بمقتضى الأوامر الوجوبية ، لا من ترك المأمور به مطلقا ليفيد كون الأمر المطلق للوجوب.

ومنها : ما عرفت في الإيراد على التبادر والآية السابقة من أنّ أقصى ما يفيده دلالة الأمر على الوجوب مع الإطلاق ، وهو أعمّ من وضعه له ؛ إذ قد يكون ذلك لوضع الصيغة لمطلق الطلب وانصراف الطلب الى الوجوب حتّى يقوم دليل على الإذن في الترك كما هو ظاهر من ملاحظة الحال في لفظ «الطلب» حسب ما مرّت الإشارة اليه.

وقد يجاب عن الأوّل تارة بأنّ قوله : «عن أمره» مصدر مضاف ، وهو مفيد للعموم ، وقد أشار اليه المصنف رحمه‌الله.

وتارة بعد الغضّ عن كونه عامّا بكفاية الإطلاق في المقام ، لتنزيله منزلة العموم.

واخرى بورود التهديد على مخالفة مجرّد الأمر وقضية ذلك كون المناط في ورود التهديد هو مخالفة أمره تعالى من حيث إنّه مخالفة له ، وذلك كاف في إثبات المطلوب مع عدم ملاحظة العموم ، على أنّه حينئذ مفيد للعموم نظرا الى حصول المناط في مخالفة سائر أوامره المطلقة.

وعن الثاني أنّ ظاهر عموم الأمر في المقام هو العموم الأفرادي فيكون التهديد واقعا على مخالفة كلّ واحد واحد من أوامره ، لا على مخالفة الكلّ بمعنى المجموع ، لبعده عن العبارة سيّما إذا قلنا باستفادة العموم من جهة التعليق على مجرّد المخالفة ، أو لقضاء الإطلاق به.

٦١٩

وعن الثالث ما عرفت من كون تعليق التهديد على مجرّد مخالفة الأمر قاضيا بعدم استناد فهم الوجوب الى شيء آخر عدا الصيغة ، وجعل نفس التهديد الواقع قرينة على إرادة الوجوب غير متّجه ؛ إذ قضية ذلك إتيانهم بما يستحقّ معه الذمّ والعقوبة مع قطع النظر عن التهديد المفروض حتّى يصحّ تعلّق التهديد بهم ، لا أن يكون استحقاقهم لذلك بعد ورود التهديد عليهم كما هو قضية جعله قرينة على إرادة الوجوب من غير دلالة الصيغة بنفسها عليه على ما هو الملحوظ في الإيراد.

وعن الرابع بأنّ ملاحظة أصالة عدم النقل وظهور اتّحاد الوضع كافية في إتمام المقصود ، وهي معتبرة في إتمام كلّ من الأدلّة المذكورة ، وقد أشار اليه المصنّف في الحجّة الاولى ، وكأنّه تركه في البواقي اتّكالا على الظهور.

وعن الخامس بصدق الأمر لغة وعرفا على الصيغة الصادرة من العالي خالية عن القرائن الدالّة على إرادة الوجوب وعدمها ، وقد دلّت الآية على التهديد بمخالفة الأمر فيفيد كون الصيغة المذكورة دالّة عليه ، وهذا مراد من قال في الجواب : «إنّ الأمر حقيقة في الصيغة المخصوصة» فإنّه إنّما عنى بها الصيغة المطلقة الصادرة عن العالي الخالية عن القرائن ، والمقصود أنّ هذه الصيغة حينئذ ممّا يصدق عليه الأمر حقيقة من غير شائبة تجوّز أصلا.

والشاهد عليه ملاحظة الإطلاقات العرفية مع قطع النظر عن ملاحظة اعتبار الاستعلاء في مفهوم الأمر وعدمه ، ولا لكون لفظ «الأمر» حقيقة في خصوص الطلب الحتمي ، أو الصيغة الدالّة على ذلك ، أو الأعمّ منه بل يكتفى بملاحظة صدق الأمر عرفا على الصيغة المفروضة ، وذلك كاف في استفادة دلالة الصيغة على الوجوب من الآية الشريفة.

وعلى فرض ثبوت اعتبار الاستعلاء في مفهوم الأمر وتسليم كون الاستعلاء ملزوما للوجوب لا مانع من صحّة الاحتجاج ، إذ غاية الأمر دلالة الصيغة المطلقة حينئذ على استعلاء المتكلّم وإلزامه ، وهو عين المطلوب.

والحاصل : أنّ ما ذكر من عدم الملازمة بين وضع المادّة والصيغة مسلّم ، إلّا أنّ

٦٢٠