هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

مشهورة ، بل تقدّم على معاصريه في المعقول والمنقول بشهادة بعض المترجمين له ، خصوصا في اصول الفقه الذي كان فيه بغاية التبحّر .. انتهت اليه المرجعية بإصبهان ، وكان يحضر في حلقة درسه قريبا من ثلاثمائة طالب ..».

وقال الشيخ آقا بزرك الطهراني في «الكرام البررة» ص ٢١٥ :

«أحد رؤساء الطائفة ومحقّقي الإمامية المؤسّسين في هذا القرن (القرن الثالث عشر). فاز بدرجة عالية من العلم والعمل ، معقولا ومنقولا فقها واصولا. وقد حظي هذا الكتاب (حاشية المعالم) بالقبول ، ولاقى استحسان الأكابر والفحول من المحقّقين والأعلام .. والحقّ أنّه يكفي للاستدلال على مدى إحاطة المترجم وتبحّره وتحقيقه في علم الفصول ، ففيه تحقيقات عالية خلت منها جملة من الأسفار الجليلة ، ولم تزل آراؤه ونظرياته محطّ أنظار الأفاضل ومحور أبحاثهم الى الآن».

آثاره العلمية :

بالرغم من اشتغال الشيخ بالتدريس وتربية الطلّاب والقيام بالشؤون الاجتماعية وقضاء حوائج الناس ، دبّجت يراعته آثارا علمية اشتهر بعضها في الحوزات وعند العلماء ، وبقي بعضها الآخر غير معروف لدى الجهابذة ، وفيما يلي نذكر هاتيك الآثار مع الإجمال في وصفها :

١ ـ أجوبة المسائل ، جوابات على استفتاءات بعضها مختصر وفي بعضها تفصيل.

٢ ـ أحكام الصلاة ، في مكتبة السيد المرعشي رسالة فارسية في أحكام الصلاة برقم ٦٥٥ ، الفت سنة ١٢٤٥ نظنها له.

٣ ـ تبصرة الفقهاء ، استدلالي نجز منه كتاب الطهارة وأوقات الصلاة وكتاب الزكاة وبعض البيع.

٤ ـ تقرير أبحاث بحر العلوم ، كتاب الطهارة شرحا على كتاب «الوافي» ، كتبه

٤١

حين دراسته على السيد محمد مهدي بحر العلوم النجفي.

٥ ـ حجّية المظنّة. طبع مع حاشية معالم الاصول.

٦ ـ عدم مفطرية التتن. ردّ على بعض معاصري الشيخ.

٧ ـ الرسالة العملية.

٨ ـ فساد الشرط ضمن العقد. في شرط الضمان لو ظهر المبيع مستحقا للغير.

٩ ـ شرح الأسماء الحسنى.

١٠ ـ كتاب الطهارة ، وهو غير شرحه على الوافي المذكور سابقا ، توجد نسخته في مكتبة السيد المرعشي العامة بقم.

١١ ـ الفقه الاستدلالي. الظاهر أنه نفس كتابه الاستدلالي في الطهارة وليس كتابا غيره ، وقد صرّح بعض أنّه لم يخرج من المسودّة وذكر أنّه كتاب كبير جدّا.

١٢ ـ هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. وهو شرح أو حاشية موسّعة على قسم اصول الفقه من كتاب «معالم الدين» للشيخ حسن بن زين الدين العاملي ، وقد اشتهر في الحوزات العلمية الشيعية وتلّقاه العلماء بعين الإكبار.

١٣ ـ مسألة الظنون. ذكرها كذلك تلميذه السيد الخوانساري وقال : إنّه مستخرج من كتاب الهداية ، ولعلّها هي رسالته «حجّية المظنّة».

أمّا فوائد الامة في ردّ شياطين الكفرة فهو للشيخ محمد تقي المعروف بآقا نجفي الإصبهاني ، وقد نسبوه الى صاحب الترجمة اشتباها.

موقع هداية المسترشدين :

شرح استدلالي كبير على القسم الاصولي من كتاب «معالم الدين» للشيخ أبي منصور حسن بن الشهيد زين الدين العاملي (ت ١٠١١) ، الذي أصبح منذ تأليفه مدارا للتدريس في الحوزات العلمية في المرحلة الوسطى ، وقد شرحه كثير من العلماء المشتغلين بالاصول دراسة وتدريسا ، وكتبوا عليه حواش مختصرة ومفصّلة يصعب عدّ أساميها وتعداد النسخ الموجود منها في المكتبات العامّة والخاصّة.

٤٢

ولعلّ من أبرز هذه الشروح والحواشي ذكرا الكتاب القيّم الذي نحن بصدد التعريف به، وقد ذكره جماعة من المؤلّفين في التراجم والمفهرسين للكتب وأشادوا به ، حتى قال عنه العلّامة الحاج ميرزا حسين النوري في كتابه السائر «مستدرك وسائل الشيعة ـ الخاتمة» : هذا الكتاب في الاصول كفصل الربيع في الفصول.

وهو حاشية مفصّلة بعناوين «قوله ـ قوله» بلغ تبييض المؤلّف فيها الى مبحث مفهوم الوصف في جزأين تمّ الأول منهما في ليلة الجمعة عاشر ربيع الثاني سنة ١٢٣٧ ، ويصرح شيخنا الطهراني في كتابه الكرام البررة ص ٢١٦ أنّ ابن اخت المؤلّف ـ وهو الشيخ محمد بن محمد علي الخراساني الطهراني ـ جمع مواد الجزء الثالث من مسودّاته ، ولم يكن قد خرج هذا الجزء الى البياض.

ولشهرة هذا الكتاب عرف مؤلّفه ب «صاحب الحاشية» و «صاحب الهداية» ، وهكذا سمّي في جملة من كتب اصول الفقه.

طبع هذا الكتاب على الحجر مكررا ؛ منها في سنوات ١٢٦٩ و ١٢٧٢ و ١٢٨١ و ١٢٨٢ و ١٣١٠ ، ولتداوله بين الطلاب والمحصّلين نجد منه نسخا مخطوطة كثيرة في المكتبات العامّة والخاصّة ، وقد علّق عليه جماعة من العلماء تعاليق لا نطول المقام بذكرها.

يشتمل هذا الكتاب على تحقيقات ممتازة مع التعرّض لمختلف الآراء والأدلّة مع المناقشات الطويلة لما ينقل عن أعلام العلماء والاصوليين ، وخاصّة في مباحث الألفاظ التي لقيت منه عناية أكثر من المباحث العقلية ، ويهتمّ فيه بشكل ملحوظ بآراء العالم الاصولي الشهير ميرزا أبو القاسم الجيلاني القمي المدرجة في كتابه القيم «قوانين الاصول» ، ويتصدّى لها بمناقشات فيه الشيء الكثير من التحقيق.

نظرة خاطفة على كلّ تعليقة من هذه الحاشية ، تبين مدى إحاطة المؤلّف على جمع مختلف الآراء وتمحيصها تمحيصا دقيقا ودراستها من مختلف جوانبها ،

٤٣

فهو لا يقنع بنقل قول ما كيفما كان ، ولكنه يقلّبه ظهرا لبطن ويحسب له حساب الخبير المتمرّس المحقّق. ويكفي لمعرفة مدى فحص الشيخ في الآراء اللغوية والاصولية والاستنتاج الصحيح من مجموعها ، النظر بدقّة في التعليقة الاولى على قول صاحب المعالم «الفقه في اللغة الفهم».

ومن الجانب الفقهي :

عرف شيخنا المترجم له ـ في عصره وبعد عصره ـ بتبحّره في اصول الفقه لانتشار كتابه «هداية المسترشدين» وتداوله بين العلماء في الحوزات العلمية ، والاصول من المقدّمات التي لا بدّ للفقهاء من النظر فيها توطئة للاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية والتصدّي للفتوى ، وليس هذا الفنّ مقصودا بالذات كما يعلمه المشتغلون بالدراسات العالية ، وتوفر آلات الاجتهاد يمهّد للشخص طريق الاستنباط ، فكلّما كانت هذه الآلات أوفر يكون سبيل الوصول الى الهدف الغائي أيسر وأسهل. ومن هنا نجد كثيرا من أعلامنا المجتهدين يتوغّلون في القواعد الاصولية ، وبه يكون استنباطهم للمسائل الفقهية أوفق وأركز دعامة.

اشتغل الشيخ في أيام الدراسة والطلب بالفقه والاصول معا ، ثم درّس فيهما طيلة حياته ممارسا لهما معا وفاحصا عن أدلتهما سوية ، ولذا نراه في كتابه «تبصرة الفقهاء» مستوعبا لجوانب المسائل الفقهية ، كما هو الحال في كتابه «هداية المسترشدين».

لم يوفّق الشيخ الى إكمال الشوط لكلّ أبواب الفقه في كتابه «تبصرة الفقهاء» ، بل كتب منه نبذا من كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والبيع ، وبهذه النبذ دلّنا على قوّة عارضته في الاجتهاد الفقهي وتسلّطه على الأقوال والآراء وقدرته الفائقة على نقدها وتمحيصها ، ثمّ لباقته الممتازة في عرض الأدلة من الكتاب الكريم والسنّة المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام واستخراج الحكم الأوفق بها.

نرى شيخنا الفقيه عند ما يتعرّض لموضوع ما ، يبدأ بما ذكره اللغويون مع

٤٤

الجرح والتعديل لما ذكروه وتطبيقه بالذوق العرفي ، ثمّ يستعرض أهمّ الآراء لكبار الفقهاء ويتناولها بالفحص والنقد العلمي ، ثمّ يأتي بالأدلّة الفقهية من الآيات والأحاديث ويسندها بما يؤدي اليه نظره ، ويستخرج بالتالي فتواه غير مشوبة بالضعف على الأغلب. وبهذه الطريقة المتأنية يدلّنا على تمكّنه من الاجتهاد ويعرّفنا الطريقة الصحيحة للاستنباط.

وفاته :

توفي شيخنا صاحب الترجمة وقت الزوال من يوم الجمعة منتصف شهر شوال لسنة ١٢٤٨ بإصبهان ، وصلّى عليه الشيخ محمد إبراهيم الكلباسي أو السيد محمد باقر حجة الإسلام الشفتي ، واقتدى في الصلاة جماعة كبيرة من العلماء وبقية الناس.

دفن في المقبرة المعروفة ب «تخت فولاد» واقبر في «بقعة مادر شاهزاده» التي عرفت بعد ذلك عند بعض المؤرخين «بقعة الشيخ محمد تقي».

أبّنه جماعة من الادباء ورثاه جملة من الشعراء وأرخوا وفاته بالعربية والفارسية ، منها قصيدة تلميذه ميرزا محمد باقر الخوانساري التي يقول فيها :

يا للذي أضحى تقيا نهتدي

بهداه كالبدر المنير الأوقد

أسفا لفقد إمامنا الحبر الذي

حتى الزمان لمثله لم نفقد

أسفا عليه وليس يعقوب الأسى

في مثل يوسف هجره بمفنّد

لهفي على من لا يفي لثنائه

رفش الأجام على مجال القدقد

العلم أمسى بعده مترحلا

والشرع لم ير بعده بمؤيّد

مهما أخال زحام حلقة درسه

ينشق قلبي من شديد تجلدي

واحسرتا أهل المدارس إذ جنت

أيدي الحوادث في إمام المسجد

وا كربتاه لمسلمي هذي الحمى

من ثلمة الإسلام في المتجدد

من ثلمة لا يسددنّ وبددت

شمل الفضائل والعلى والسؤدد

٤٥

نقصت طلاع الأرض من أصرافها

في موت مولانا التقي محمد

لا يوم للشيطان كاليوم الذي

ينعى بمثلك من فقيه أوحدي

لما مضيت مضت صبابة من هوى

مجدا وأنت من السليل الأمجد

علّامة العلماء من في جنبه

أركانهم بمكان طفل الأبجد

مولاي أي قطب الأنام وطودهم

ومشيد الشرع المنير الأحمدي

لا سقي ربع ملت عنه وحبذا

رمس أحلك طاهرا من مشهد

جسد لك العفر المعطر ضمه

أم لحدوا جدثا لكنز المسجد

من ذا يحل المعضلات بفكرة

تفري ومن لاولي الحوائج من غد

ومن الذي يحيي الليالي بعدكا

بتفقّه وتضرّع وتهجّد

أين الذي ما زال سلسل خلقه

لذوي عطاش الخلق اروى مورد

طابت ثراه كما أتى تاريخه

طارت كراك الى النعيم السرمدي

مصادر الترجمة :

روضات الجنات ٢ / ١٢٣ ، مستدرك وسائل الشيعة ٣ / ٤٠٠ ، أعيان الشيعة ٩ / ١٩٨ ، الفوائد الرضوية ص ٤٣٤ ، قصص العلماء ص ١١٧ ، مرآة الأحوال ١ / ١٣٨ ، مكارم الآثار ص ١٣٢٧ ، ريحانة الأدب ٣ / ٤٠٣ ، الكرام البررة ص ٢١٥ ، نجوم السماء ١ / ٤٧٧ ، تذكرة القبور ص ٧٢ ، الروضة البهية ص ٢٦٢ ، لباب الألقاب ص ٥٠ ، ترجمة هدية الرازي ص ٣٢ ، الذريعة في مختلف الأجزاء ، الأعلام للزركلي ٦ / ٦٢ ، معجم المؤلفين ٩ / ١٣١ ، هدية العارفين ٢ / ٣٦٢ ، تاريخ علمي واجتماعي إصفهان ١ / ١٢٥ (ومنه أكثر هذه الترجمة).

٤٦

٤٧

٤٨

معالم الدين :

فصل

الفقه في اللغة : الفهم وفي الاصطلاح هو : العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة. فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات كزيد مثلا ، وبالصفات ككرمه وشجاعته ، وبالأفعال ككتابته وخياطته. وخرج بالشرعيّة غيرها كالعقليّة المحضة واللّغويّة. وخرج بالفرعيّة الاصوليّة. وبقولنا : «عن أدلّتها» علم الله سبحانه ، وعلم الملائكة والأنبياء ، وخرج بالتفصيليّة علم المقلّد في المسائل الفقهيّة ؛ فانّه مأخوذ من دليل إجماليّ مطّرد في جميع المسائل ؛ وذلك لأنّه إذا علم أنّ هذا الحكم المعيّن قد أفتى به المفتي ، وعلم أنّ كلّما أفتى به المفتي ، فهو حكم الله تعالى في حقّه ، يعلم بالضرورة أنّ ذلك الحكم المعيّن هو حكم الله. سبحانه في حقّه. وهكذا يفعل في كلّ حكم يرد عليه.

وقد أورد على هذا الحدّ : أنّه إن كان المراد بالأحكام البعض لم يطّرد ؛ لدخول المقلّد إذا عرف بعض الأحكام كذلك ؛ لأنّا لا نريد به العاميّ ، بل من لم يبلغ رتبة الإجتهاد. وقد يكون عالما متمكّنا من تحصيل ذلك ، لعلوّ رتبته في العلم ، مع أنّه ليس بفقيه في الاصطلاح. وإن كان المراد بها الكلّ لم ينعكس ؛ لخروج أكثر الفقهاء عنه ، إن لم يكن كلّهم؛ لأنّهم لا يعلمون جميع الأحكام ، بل بعضها أو أكثرها.

٤٩

ثمّ إنّ الفقه أكثره من باب الظنّ ؛ لابتنائه غالبا على ما هو ظنّيّ الدلالة او السند. فكيف اطلق عليه العلم.

والجواب : أمّا عن سؤال الأحكام ، فبأنّا نختار أوّلا : أنّ المراد البعض. قولكم : «لا يطّرد لدخول المقلّد فيه» قلنا : ممنوع ، أمّا على القول بعدم تجزّي الاجتهاد ، فظاهر ؛ اذ لا يتصوّر على هذا التقدير ، انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد ؛ فلا يحصل للمقلّد ، وإن بلغ من العلم ما بلغ. وأمّا على القول بالتجزّي ، فالعلم المذكور داخل في الفقه ، ولا ضير فيه ؛ لصدقه عليه حقيقة وكون العالم بذلك فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه عنوان التقليد بالاضافة إلى ما عداه.

ثمّ نختار ثانيا : أنّ المراد بها الكلّ ـ كما هو الظاهر ؛ لكونها جمعا محلّى باللّام ، ولا ريب أنّه حقيقة في العموم ـ قولكم : «لا ينعكس لخروج أكثر الفقهاء عنه» ، قلنا : ممنوع ، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيّؤ له ، وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من المآخذ والشرائط ، بأن يرجع إليه ، فيحكم. وإطلاق «العلم» على مثل هذا التهيّؤ شايع في العرف ؛ فانّه يقال في العرف : «فلان يعلم النّحو» مثلا ، ولا يراد أن مسائله حاضرة عنده على التفصيل. وحينئذ فعدم العلم بالحكم في الحال الحاضر لا ينافيه.

وامّا عن سؤال الظنّ ، فبحمل «العلم» على معناه الأعمّ ، أعني ترجيح أحد الطرفين ، وإن لم يمنع من النقيض ، وحينئذ فيتناول الظنّ. وهذا المعنى شايع في الاستعمال ، سيّما في الأحكام الشرعيّة.

وما يقال في الجواب أيضا ـ من أن الظنّ في طريق الحكم ، لا فيه نفسه ، وظنّية الطريق لا تنافي علميّة الحكم ـ فضعفه ظاهر عندنا. وأمّا عند المصوّبة القائلين بأنّ كلّ مجتهد مصيب ـ كما سيأتي الكلام فيه ، إن شاء الله تعالى ، في بحث الاجتهاد ـ فله وجه. وكأنّه لهم. وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل ، غفلة عن حقيقة الحال.

٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمّد

وعترته الأطائب الأكرمين.

قوله : (الفقه في اللغة : الفهم)

كما نصّ عليه الجوهري وغيره ، قال الله تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(١) وخصّه بعضهم بفهم غرض المتكلّم من كلامه ، وآخر بفهم الأشياء الدقيقة. وفي مفردات الراغب : أنّه التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد.

والفهم مطلق الإدراك ؛ ولذا فسّره الجوهري بالعلم. وقيل : هو جودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب المطالب وسرعة انتقاله من المبادئ إلى المقاصد. والظاهر ثبوت الإطلاقين ، وكأنّ الأوّل هو الأصل في معناه والثاني مأخوذ منه.

وكيف كان ، فالظاهر هنا هو الأوّل ، إذ إطلاق الفقه على الثاني بعيد جدّا ، وعلى فرضه فالظاهر أنّه مجاز فيه ، كما لا يخفى.

قوله : (وفي الاصطلاح)

الظاهر أنّ ذلك من مصطلحات الفقهاء ، وليس معنى شرعيّا ليكون حقيقة شرعيّة فيه بناء على القول بثبوتها. نعم قد اطلق التفقّه في الدين على معرفة أحكام

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

٥١

الشرع في الآية الشريفة (١) ، وكذا في الأخبار المأثورة. والظاهر أنّ المراد به مجرّد العلم بالأحكام الشرعيّة ، فاستعماله في الآية فيما عدا المعنى اللغوي غير معلوم ، وكذا في عدّة من الأخبار المسوقة سوق الآية. إلّا أنّ الظاهر شيوع إطلاقه على خصوص المعرفة بالأحكام الشرعية بعد شيوع الإسلام في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام ، غير أنّ استعماله في خصوص المعنى المشهور غير معلوم ، فقد يكون المراد به مطلق المعرفة بالأحكام الشرعية ، سواء كانت بطريق النظر أو الضرورة على وجه السماع من المعصوم أو غيره على سبيل الاجتهاد أو التقليد ، كما في قوله عليه‌السلام : «الفقه ثمّ المتجر» (٢) فإنّ الظاهر أنّ المراد به معرفة أحكام التجارة ولو بطريق التقليد ، حتّى أنّ إطلاقه على علومهم عليهم‌السلام بالمسائل الفقهيّة غير بعيد. وإطلاق «الفقيه» على الكاظم عليه‌السلام معروف في كلام الرواة.

وكان يطلق أيضا في الصدر الأوّل على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال ومصلحاتها وقوّة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدّة التطلّع على نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ، نصّ على ذلك بعض أفاضل المتأخّرين (٣) وقال : إنّ اسم الفقه في العصر الأوّل إنّما كان يطلق على ذلك ، وجعل آية التفقّه شاهدة عليه.

ويظهر من كلام بعض المحدّثين كون المعنى الأوّل من المعاني الشرعيّة ؛ ولذا ناقش في المقام في إخراج الضروريّات عن الفقه بالمعنى المذكور قائلا : بأنّ الإجماع على بعض الأحكام من فرق الإسلام كلّها لا يخرجها عن كونها مسألة فقهيّة بحسب إطلاق الشرع ، ألا ترى أنّ كثيرا من الفرعيّات ممّا قد انعقد إجماع المسلمين عليها مع أنّها دوّنت في الكتب ، وذكروا مدارك أحكامها. ونصّ بأنّ الفقهاء لم يزعموا أنّ هذا الإصطلاح اخترعوه من عند أنفسهم ، بل قالوا :

__________________

(١) وهي قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) التوبة : ١٢٢. اثبتناه من المطبوع [١].

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٨٢ ، الباب ٤ من أبواب آداب التجارة ، ح ١.

(٣) الظاهر أنّ هذا من كلام الغزالي (منه رحمه‌الله).

٥٢

إنّه مفهوم من الأخبار وكلام الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، ومن تتبّع كلامهم لم يختلجه شكّ ولا ريب في ذلك.

وأنت خبير بأنّ ما ادّعاه في المقام غير ظاهر ، أقصى الأمر إطلاق الفقه في الكتاب والأخبار على العلم بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وبمجرّد ذلك لا يثبت كون ذلك من المعاني الشرعيّة ، بل يمكن حمل عدّة منها ـ بل كلّها ـ على المعنى اللغوي ، ويكون إطلاقها على علم الشريعة من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد ؛ وليس في كلامهم ما يفيد كون ذلك معنى شرعيا ، ولا ادّعوه في المقام ، كيف! والتعبير عنه بالاصطلاح ـ كما في الكتاب وسائر تعبيرات الأصحاب ـ شاهد على خلافه.

وقد احتمله المحدّث المذكور في بعض رسائله وقطع به في موضع آخر ، ونصّ على أنّ ذلك معنى جديد بين المجتهدين ، قال : وإطلاقه المتكثّر في الأخبار هو البصيرة في أمر الدين. وعلى هذا فلا وجه للمناقشة المذكورة ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

نعم ، قد أنكر بعض فضلاء المتأخّرين كون المعنى المذكور من المعاني الاصطلاحيّة الطارئة ، لئلّا يحمل عليه إطلاق الشارع ، ونصّ على أنّ إطلاق الفقه والتفقّه على معرفة الأحكام عن أدلّتها غير عزيز في الأخبار ، مشهور في الصدر السابق.

وظاهر كلامه يومئ الى دعوى الحقيقة الشرعيّة فيه. ثمّ إنّه ذكر أخبارا كثيرة ذكر فيها لفظ «الفقه» أو «التفقّه» مستشهدا بها على ذلك ، وليس في شيء منها صراحة في إرادة خصوص المعنى المذكور ، بل المنساق من كثير منها هو المعرفة بأحكام الدين كما أشرنا إليه. ثمّ إنّه شدّد النكير على جماعة من الأعلام حيث ادّعوا أنّ اسم الفقه في الصدر السابق إنّما يطلق على علم الآخرة ... الى آخر ما مرّ.

قلت : إن أراد الجماعة انحصار إطلاقه المعروف في الصدر السابق في ذلك

٥٣

فالظاهر وهنه كما أشار إليه الفاضل المذكور ، وليس هناك قرينة على إطلاقه في آية التفقّه على ذلك كما ادّعاه بعضهم. وإن أرادوا أنّه كان إطلاقا معروفا في ذلك العصر في الجملة فليس بالبعيد ، وفي غير واحد من الأخبار شهادة عليه ، كقوله عليه‌السلام : «لا يفقه العبد كلّ الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله تعالى ، وحتّى يرى للقرآن وجوها كثيرة ، ثم يقبل على نفسه ، فيكون لها أشدّ مقتا» (١).

وكيف كان ، فثبوت الحقيقة الشرعية في أحد المعاني المذكورة غير معلوم حتّى يتعيّن حمل إطلاق الكتاب والأخبار عليه ، بل واستعماله في خصوص المعنى المصطلح غير معلوم أيضا. نعم قد يستظهر إطلاقه عليه من بعض الروايات.

ثم إنّه بعد انتشار علم الفقه وتدوينه في الكتب في عصر الصادقين عليهما‌السلام لا يبعد القول بحصول النقل في الجملة.

ثم إنّه قد فرّع المحدّث المتقدّم على ما مرّ ذكره مسألة النذر والوصيّة فيما لو نذر أو أوصى لمن تكلّم في مسألة فقهيّة ، فإن قلنا بخروج الضروريّات عن الفقه لم يثبت ذلك لمن تكلّم في إحدى تلك المسائل ، وإلّا ثبت له ذلك.

وفيه : أنّ الإطلاقات العرفيّة إنّما تنصرف إلى معانيها المتداولة في المحاورات الجارية دون الاصطلاحات العلميّة ، سواء كانت مأخوذة عن الأئمة عليهم‌السلام أو لا ، وإنّما يتمّ ما ذكره على فرض اتحاد معناه الاصطلاحي والمعنى العرفي الشائع بين الناس ، لكنّه محلّ تأمّل.

قوله : (هو العلم بالأحكام)

قد شاع إطلاق العلم على امور : خصوص التصديق اليقيني ، ومطلق الإدراك الشامل له وللتصور ، ونفس المسائل المبيّنة في العلوم ، أي : المعلومات بالعلوم التصديقية وهي النسب التامّة المغايرة للتصديقات بالاعتبار ـ كما بيّن في محلّه ـ وعلى الملكة التي يقتدر بها على استنباط المسائل.

ويطلق الحكم على التصديق ، وعلى النسبة التامّة الخبريّة ، وعلى خطاب الله

__________________

(١) عدّة الداعي : ص ٢١٨ ، بتفاوت.

٥٤

المتعلّق بأفعال المكلّفين ، وعلى ما يعمّ الأحكام الخمسة الشرعيّة ، وعلى ما يعمّها والوضعيّة التي منها : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والبطلان ، وإذا لو حظت وجوه العلم مع وجوه الأحكام ارتقى الاحتمالات إلى عشرين ، والصحيح منها وجوه عديدة.

وتوضيح الحال : أنّ الأوّل والثاني من وجوه العلم لا مانع من إرادته في المقام ، وأمّا الثالث فلا يرتبط بالأحكام ، وأمّا الرابع فهو وإن صحّ ارتباطه بالأحكام إلّا أنّه لا يلائم الظرف الواقع بعده ، إذ الملكة إنّما تحصل من المزاولة والممارسة ، ولا تحصل من الأدلّة التفصيليّة. ويمكن أن يصحّح ذلك بجعل الظرف من متعلّقات الأحكام أو التصديق المتعلّق للملكة المذكورة حسبما يأتي الإشارة إليه.

وأمّا وجوه الأحكام فلا يصحّ إرادة الأوّل منها في المقام ، إذ لا يرتبط به العلم بأحد المعاني المذكورة ، ضرورة أنّه لا محصّل للتصديق بالتصديقات ولا لملكة التصديق بالتصديقات، وكذا لو اريد به مطلق الإدراك أو ملكته ؛ على أنّ مرجعه إلى التصديق.

فما ذكره المحقّق الشريف وتبعه بعض الأفاضل من تفسير الأحكام بالتصديقات ليس على ما ينبغي. ويمكن تصحيحه بحمل «العلم» على مطلق الملكة المجرّدة عن التصديق ، فيصحّ تعلّقه بالتصديقات.

ويبعّده : أنّ المعروف في حمل «العلم» على الملكة هو إرادة ملكة العلم منه تنزيلا للقوّة القريبة منزلة الفعل ، لا الملكة المطلقة ليعلم تعلّقها بالعلم من متعلّقها ، إلّا أنّ الظاهر أنّ إطلاق «العلم» على مجرّد الملكة وارد في الاستعمالات أيضا ، كما يقال : فلان عالم بالصياغة أو الحياكة أو النجارة (١) ، ويراد به حصول تلك الملكة له ، فالظاهر صحّة إطلاقه عليها ، سيّما إذا كان ما اطلق عليه من ملكات

__________________

(١) في المطبوع [١] : التجارة.

٥٥

العلوم وإن كان بعيدا عن ظاهر الإطلاق ، فحينئذ يتعيّن أن يكون الظرف من متعلّقات الأحكام.

فما ذكراه من تعلّق الظرف بالعلم غير متّجه ، وكأنّهما أرادا بالتصديق المصدّق به ، لشيوع إطلاقه عليه ، فيرجع الى الوجه الآتي.

وكيف كان ، فالوجه المذكور وإن أمكن تصحيحه إلّا أنّ فيه من التعسّف والركاكة ما لا يخفى.

وأمّا الثاني فهو أظهر الوجوه في المقام ، وعدم كونه من مصطلحات الاصوليّين والفقهاء لا يبعّد الحمل عليه ، سيّما قبل بيان الاصطلاح ، مضافا إلى قيام بعض الشواهد المبعّدة للحمل على المصطلح ، كما ستعرف.

وأمّا الثالث فلا يصحّ إرادته في المقام ، إذ ليس العلم بنفس الخطابات فقها ، سواء فسّر الخطاب بتوجيه الكلام نحو الغير أو الكلام الموجّه نحوه ؛ وأيضا لا معنى لتعلّق الأدلّة بها ، إذ من جملة الأدلّة الكتاب والسنّة وهما عين الخطاب على الثاني ، فيتّحد المدلول والدليل ، وقد وقع الخطاب بهما على الأوّل فلا يكونان دليلين عليه.

وقد أجاب الأشاعرة عن ذلك ـ بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالكلام النفسي ـ بحمل الأحكام على الخطابات النفسيّة وما عدّ في الأدلّة من اللفظيّة ، فجعلوا الثانية أدلّة على الاولى.

وأورد عليه بعض أفاضل العصر : بأنّ الكلام اللفظي حينئذ كاشف عن المدّعى لا أنّه مثبت للدعوى ، فلا يكون دليلا عليه بحسب الاصطلاح.

ويدفعه : أنّه إنّما يتمّ لو فسّر الكلام النفسي بمدلول الكلام اللفظي ، أعني نفس ما دلّ عليه اللفظ من حيث إنّه مدلوله ، إذ من الواضح عدم كون اللفظ دليلا على معناه في الاصطلاح وإن كان دالّا عليه.

وأمّا إذا فسّر بالكلام القائم بالذات الأزليّة المدلول عليه بالخطاب اللفظي ـ كما هو الظاهر من مذهبهم حيث يذهبون إلى كونه من الصفات القديمة ـ

٥٦

فالخطاب اللفظي دليل عليه بحسب الاصطلاح ، إذ كما يدلّ اللفظ على مدلوله الخارجي يدلّ على كونه مطابقا لما في نفس المتكلّم ، فينتظم في المقام قياس بهذه الصورة : هذا ما دلّ الخطاب اللفظي على قيامه بالذات الأزليّة ، وكلّ ما دلّ عليه خطابه اللفظي فهو مطابق للحقيقة ، فينتج أنّ خطابه النفسي هو ذلك.

وقد علّل رحمه‌الله في الحاشية عدم كون الخطاب اللفظي دليلا على الخطاب النفسي بحسب الاصطلاح بأنّه : لا بدّ في الدليل الاصطلاحي من تصوّر المدلول قبل الدليل والعلم به على سبيل الإجمال ، وهو غير حاصل في المقام ، إذ الخطابات النفسيّة إنّما تعلم بعد ملاحظة الخطابات اللفظيّة من غير علم بها قبل ذلك أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا.

وأنت خبير بعدم وضوح ما ذكره من الدعويين ، إذ لا يلزم تقدّم العلم الإجمالي بالمدلول على الدليل مطلقا حتّى يكون ذلك من لوازم الدليل بالمعنى المصطلح ، بل قد يكون العلم به مطلقا متأخّرا عن الدليل ، كما إذا حصل الانتقال إلى النار بعد ملاحظة الدخان ، غاية الأمر أنّه مسبوق في المثال بمعرفة الملازمة بين مطلق الدخان والنار وهو شيء آخر.

نعم ، ما ذكره رحمه‌الله من لوازم الاستدلال ؛ وأيضا لا مانع من تقدّم العلم بالخطابات النفسيّة إجمالا على معرفة الخطابات اللفظيّة التفصيليّة ، كيف! وثبوت الأحكام على سبيل الإجمال من ضروريّات الدين ، كما أشار إليه في الجواب المختار عنده ، وذلك عندهم هو العلم بالخطابات النفسيّة على الإجمال ، وهو متقدّم في المعرفة على العلم بالخطابات اللفظيّة، وهو ظاهر.

هذا ، وقد أجاب الفاضل المذكور عن أصل الإيراد بحمل الأحكام على الأحكام الإجماليّة التي دلّت على ثبوتها الضرورة ، قال : والمراد من الأدلّة الخطابات التفصيليّة ، فيكون الفرق بين المدلول والدليل بالإجمال والتفصيل.

قلت : وأنت خبير بما فيه ، إذ لا محصّل لما ذكره من التفرقة ، فإنّ من البيّن أنّ المجهول في المقام إنّما هي الخطابات التفصيليّة وهي الّتي يتوقّف إثباتها على

٥٧

الأدلّة ، والمفروض في الحدّ المذكور كون الدليل عليها هي الخطابات التفصيليّة الّتي هي عين ذلك المدلول المجهول ، فالمحذور المذكور على حاله واعتبار العلم بها إجمالا لا يفيد شيئا في المقام. وليس العلم بها على سبيل الإجمال حاصلا من تلك الخطابات التفصيليّة حتى يصحّ الفرق بين المدلول والدليل بالإجمال والتفصيل ، بل العلم الإجمالي الحاصل في المقام على نحو سائر العلوم الإجماليّة المتعلّقة بالنتائج عند طلب الدليل عليها ، ومن البيّن أنّه ليس التفصيل الحاصل من الدليل دليلا على ذلك المعلوم الإجمالي ، بل هو عين المجهول المعلوم على جهة الإجمال الحاصل من الدليل القائم عليه ؛ على أنّه من الواضح أنّ العلم بتلك الخطابات على سبيل الإجمال ليس من الفقه في شيء ، فلا يصحّ تحديده به.

ثمّ إنّ ما ذكرناه على فرض حمل الخطاب في الحدّ المشهور للحكم على ظاهر معناه ، وأمّا إن اوّل بما يجعل جامعا بين الأحكام الخمسة الشرعيّة والوضعيّة ـ كما هو ظاهر كلامهم في ذلك المقام حيث جعلوه مقسما لتلك الأحكام ـ رجع إلى المعنى الخامس ، ولا يتوجّه عليه شيء من الإيرادين المذكورين.

وأمّا الرابع فبعد تسليم شيوع إطلاق الحكم عليه بخصوصه لا يتّجه إرادته في المقام ، لخروج معظم مسائل الفقه عنه ، كبيان شرائط العبادات وموانعها وأسباب وجوبها والبحث عن الصحة والفساد الذي هو المقصود الأهمّ في قسم المعاملات. والتزام الاستطراد في جميعها أو كون البحث عنها من جهة الأحكام التكليفيّة التابعة لها ـ ولذا قيل بانحصار الأحكام في الخمسة الشرعيّة وإرجاع الوضعيّة إليها ـ كما ترى! نعم يتمّ ذلك على القول بانحصار الأحكام في التكليفيّة وإرجاع الوضعيّة إليها ، وحينئذ فلا مانع من حملها على ذلك ، إلّا أنّ البناء على ذلك غير متّجه ، كما قرّر في محلّه.

وأمّا الخامس فلا مانع من إرادته في المقام ، إلّا أنّه إن فسّر بالصفات الخاصّة المحمولة ـ كما هو الظاهر من ملاحظة حدود الأحكام الشرعيّة ـ لم يمكن تعلّق

٥٨

التصديق بها إلّا بنوع من التأويل ، إذ لا يتعلّق التصديق إلّا بالنسبة. وإن فسّر بانتساب تلك المحمولات إلى موضوعاتها نسبة تامّة ـ كما هو أحد الوجهين في تفسيرها ـ صحّ تعلّق التصديق بها من غير تأويل ، إذ المراد بها إذا نوع خاصّ من النسب التامّة. وعلى أيّ من الوجهين يكون قيد «الشرعية» توضيحيّا ، إذ لا يكون الحكم المذكور إلّا شرعيّا.

وربّما يقال بإخراجه الأحكام الغير الشرعيّة كالوجوب الّذي يذكر في سائر العلوم والصنائع أو الحاصل بمقتضى العادة.

وفيه : أنّ ذلك خارج عن المصطلح قطعا ، كما يظهر من ملاحظة حدودها المذكورة في كتب الاصول.

وقد يجعل حينئذ قيد «الفرعيّة» أيضا توضيحيّا بناءا على دعوى ظهور الأحكام في الشرعيّة الفرعيّة ، كما يتراءى ذلك من حدّه المعروف. ولا يخلو عن تأمّل ، إذ الوجوب المتعلّق بالعقائد الدينيّة أو المسائل الاصوليّة ـ كوجوب العمل بالكتاب والسنّة ـ مندرج في الاصطلاح قطعا ، وكذا غيره من الأحكام ، فلا وجه لانصرافها إلى خصوص الفرعيّة مع شيوع إطلاقها على غيرها أيضا وشمول المصطلح للأمرين ، كما هو الظاهر من ملاحظة الاستعمالات.

وقد يقال : بأنّ الاصطلاح إنّما يثبت للحكم مقيّدا بالشرعي ؛ ولذا عرّفوا الحكم الشرعي في المبادئ الأحكاميّة بالمعنى المذكور ، وقسّموه إلى الأقسام المعروفة ، فلا يكون التقييد بالشرعيّة أيضا لغوا.

هذا ، وقد ظهر بما قرّرناه رجوع الوجوه الثلاثة المتأخّرة إلى وجه واحد ، وهو القدر الجامع بين الأحكام الشرعيّة ، ويبنى شموله للأحكام الوضعية وعدمه على الخلاف المذكور.

والمراد ب «الشرعيّة» المنتسبة إلى الشرع وإن كان إدراكها بمحض العقل من غير توسّط بيان الشارع أصلا كما قد يتّفق في بعض الفروض ، أو كان العلم بها بملاحظة بيانه كما هو الحال في معظم المسائل ، أو كان معلوما بالوجهين.

٥٩

وقد تفسّر بالمأخوذة من الشرع وإن حكم به العقل أيضا ، ويشكل بخروج القسم الأوّل عنه.

وقد تفسّر أيضا بما من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، فلا مانع من استقلال العقل في الحكم ببعضها وانفراده في ذلك من دون انضمام بيان الشارع.

وفيه : أنّه غير جامع أيضا ، لخروج بعض الأحكام الشرعيّة عنه ، كوجوب الحكم بوجود الصانع والحكم بثبوت الرسول والحكم بوجوب النظر في المعجزة ، إذ ليس من شأن الأحكام المذكورة الأخذ من الشارع ، فإنّ إثبات وجوبها بقول الرسول إنّما يكون بعد ثبوت كونه رسولا ، ولا معنى حينئذ لوجوب شيء من الامور المذكورة ، لحصولها بعد ثبوت الرسالة ، فلا يعقل وجوب إثبات الرسالة بعد حصوله ، وكذا وجوب إثبات الصانع والنظر في المعجزة لحصولهما حينئذ أيضا من جهة توقّف إثبات الرسالة عليهما ، إلّا أن يمنع كونها أحكاما شرعية ، أو يفصّل بين الحكم بها قبل إثبات النبيّ وبعده ، وهو على إطلاقه أيضا مشكل ؛ على أنّ تسميته حكما شرعيّا بعد العلم بحكم الشارع به لا يجعل التصديق به مأخوذا من الشارع ؛ لحصوله قبل العلم بحكمه ؛ مضافا إلى أنّ كون الحكم شرعيّا غير العلم بكونه كذلك ، فغاية الأمر أن يتوقّف العلم به عليه.

والمراد ب «الفرعيّة» ما يتعلّق بفروع الدين في مقابلة الاصولين ، أعني : اصول الدين واصول الفقه.

وقد تفسّر بما يتعلّق بالعمل بلا واسطة.

ويشكل بخروج كثير من مسائل الفقه عنه ، كمسائل الميراث وبعض مباحث (١) النجاسات ، لعدم تعلّقها بالعمل بلا واسطة. ودخول ما ليس من الفقه فيه ، كوجوب رجوع المقلّد إلى المجتهد وصحّة عمل المجتهد برأيه ووجوب تسليم العقائد الدينيّة والإذعان بها ، فإنّه ممّا يتوقّف عليه حصول الإسلام ، إذ مجرّد العلم بتلك المعتقدات ليس كافيا في حصوله من دون حصول التسليم والانقياد ،

__________________

(١) في المطبوع [١] : مسائل.

٦٠