هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

بيان ذلك : أنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ المعاني المرادة من الألفاظ قد تكون امورا واقعية مع قطع النظر عن إرادتها من اللفظ ، فإنّما يراد من اللفظ إحضارها ببال السامع ، وقد لا تكون كذلك بأن تكون إرادة تلك المعاني من الألفاظ هو عين إيجادها في الخارج ، فالمعاني التي وضعت تلك الألفاظ بإزائها إنّما يتحقّق في الخارج بإرادتها من اللفظ ، سواء كانت معاني تركيبيّة كما في الإنشاءات ، أو إفراديّة كما في أسماء الإشارة ، فإنّها إنّما وضعت للمشار إليه من حيث تعلّق الإشارة به لا لمفهوم المشار إليه من حيث هو ليحصل إحضار ذلك المفهوم عند أداء اللفظ ، بل لما تعلّق به فعل الإشارة وأداتها فيحصل معنى الإشارة في الخارج باستعمال لفظة «هذا» في معناه بخلاف استعمال لفظ «الإشارة» و «المشار إليه» فيما وضع له ، فإنّه لا يتحقّق به الإشارة ولا يكون الشيء مشارا إليه بذلك ، بل إنّما يحصل به إحضار ذلك المفهوم بالبال وتصويره في ذهن السامع لا غير ، فنظير لفظة «هذا» في ذلك لفظة «اشير» إذا اريد بها إنشاء الإشارة وإن كان الفرق بينهما واضحا من جهات اخرى ؛ ولهذا قد ينزّل «هذا» منزلة «اشير» في الاستعمالات ، فيجري عليه بعض أحكامه كما اشير إليه في محلّه.

فحينئذ نقول : إنّ إرادة معنى المشار إليه على الوجه المذكور من لفظة «هذا» ونظائرها غير ممكن الحصول إلّا في ضمن متعلّق خاصّ ؛ لوضوح عدم إمكان تعلق الإشارة إلّا بمتعلّق مخصوص وعدم تحقّقها في الخارج إلّا في ضمن فرد خاصّ من الإشارة وجزئي حقيقيّ من جزئياتها ، ضرورة عدم إمكان حصول الكلّيات إلّا في ضمن الأفراد ، فلا يمكن استعمال تلك الألفاظ إلّا في معاني خاصّة وإشارات مخصوصة وإن لم تكن تلك الخصوصيات مرادة من نفس اللفظ ، بل هي لازمة لما هو المراد منها ؛ لوضوح عدم حصول مطلق الإشارة في الخارج إلّا في ضمن إشارة خاصّة وعدم تعلّقها إلّا بمتعلّق مخصوص.

وبذلك يظهر الوجه في بناء تلك الألفاظ وإعراب لفظ «الإشارة» و «المشار إليه» فإنّ المأخوذ فيهما مفهوم الإشارة ، وهو معنى تام إسميّ بخلاف ما وضع له

١٨١

«هذا» لاشتماله على نفس الإشارة التي هي معنى ناقص حرفي قد جعل آلة ومرآة لملاحظة الذات التي اشير إليها ، وهو مفتقر إلى متعلّقها افتقارا ذاتيّا كغيره من المعاني الحرفيّة.

إذا تقرّر ذلك ظهر اندفاع ما ذكر في الاحتجاج من أنّها لو كانت موضوعة للمفهوم العامّ لزم جواز استعمال «هذا» في مطلق المشار إليه المفرد المذكّر على ما هو الحال في لفظ المشار إليه ؛ لما عرفت من وضوح الفرق بين الأمرين وعدم إمكان إرادة المشار إليه على الوجه المأخوذ في معنى «هذا» إلّا في ضمن خصوص الأفراد ، فهذا هو السرّ في عدم إطلاقه إلّا على الخصوصيات وعدم جواز استعماله في الأمر العامّ على إطلاقه وعمومه ، فلا دلالة في ذلك على وضعه ؛ لخصوص تلك الجزئيّات وعدم وضعه للقدر الجامع بينهما كما زعموه ، بل لا بعد أصلا في القول بوضعها للقدر الجامع بين تلك الخصوصيات ، ويشير إليه أنّه لا يفهم من لفظة «هذا» في العرف إلّا معنى واحد يختلف متعلّقه بحسب الموارد ، ولا يكون إرادته إلّا في ضمن جزئي معيّن بحسب الواقع ، فلا يكون إطلاقها على الجزئيّات بإرادة الخصوصيّة من نفس اللفظ ، بل لحصول الموضوع له في ضمنها وتوقّف إرادته على ذلك ، فالموضوع له للفظة «هذا» هو المشار إليه المفرد المذكّر من حيث تعلّق الإشارة به وجعل الإشارة مرآة لملاحظته ، وهو مفهوم كلّي في نفسه ، إلّا أنّه لا يمكن إرادته إلّا في ضمن الفرد ، ضرورة كون الإشارة الواقعة من جزئيّات مطلق الإشارة واقتضاء الاشارة في نفسها تعيّن الأمر المشار إليه لكون ذلك من اللوازم الظاهرة لحصولها ، ضرورة استحالة الإشارة إلى المبهم من حيث أنّه مبهم فتعيّن المشار إليه ، وخصوصية الإشارة إنّما يعتبر في مستعملات تلك الأسماء من الجهة المذكورة لا لوضعها لخصوص تلك الجزئيات ، ويجري نظير ما قلناه في سائر ما جعلوه من هذا القبيل.

أمّا الضمائر فلأنّها إنّما وضعت للتعبير عن المتكلّم أو المخاطب أو الغائب المذكور وما بحكمه ، لا بأن تكون تلك المفاهيم مأخوذة في وضعها على سبيل

١٨٢

الاستقلال حتى يكون الموضوع له للفظة «أنا» مثلا هو المفهوم من لفظ المتكلّم ليصحّ إطلاقه كلفظ المتكلّم على مطلق المتكلّم ، بل يأخذ تلك المفاهيم من حيث حصولها وصدورها قيدا في وضع اللفظ للذوات التي تجري عليها المفاهيم المذكورة وحيثية معتبرة فيها ، فتلك الذوات بملاحظة الجهات المفروضة قد وضعت لها الألفاظ المذكورة ، فالمراد بكون «أنا» موضوعا للمتكلّم أنّه موضوع لذات جعل صدور الكلام حيثيّة معتبرة في وضع اللفظ له ، وكذا الحال في لفظ «أنت» و «هو» وغيرهما ، فالموضوع له للفظ «أنا» هو من صدر منه الكلام ، وللفظ «أنت» من القي إليه الكلام ، وللفظ «من» هو من سبق ذكره صريحا أو ضمنا بجعل حصول تلك الصلات قيودا معتبرة في وضع اللفظ لها ، فتلك المعاني امور كلّية في نفسها ، فإنّ من صدر منه الكلام أو تعلّق الخطاب به مثلا مفهوم صادق على ما لا يتناهى [من مصاديقه ، إلّا أنّ إرادة ذلك المفهوم ملحوظا على الوجه المذكور لا يتحقّق إلّا في ضمن مصداق من مصاديقه.

فإن قلت : إن كان المراد بمن صدر عنه الكلام أو تعلّق الخطاب به مثلا نفس المفهوم المذكور كان من الألفاظ المذكورة كلفظ المتكلّم والمخاطب ، ولزم جواز إرادة المفهوم المذكور منها على وجه العموم وإن جعل المفهوم المذكور عنوانا لمصاديقه الخاصّة وكان الموضوع له هو خصوص مصاديقه كان ذلك عين ما ذكره الجماعة من كون الوضع فيها عامّا والموضوع له خاصّا ، ويجري ذلك بالنسبة إلى أسماء الإشارة وغيرها ، فلا يصحّ القول بكون الموضوع له فيها أيضا عاما كما هو المدّعى.

قلت : فرق بيّن بين جعل الموضوع له خصوص كلّ من الجزئيات المندرجة تحت المفهوم المذكور من غير أن يتعلق الوضع بنفس المفهوم المتصوّر حين الوضع وبين أن يجعل الموضوع له نفس ذلك المفهوم ، لكن توجد فيه حيثية لا يمكن حصولها إلّا في ضمن الفرد ، فيتوقف إرادة ذلك المفهوم من اللفظ على إطلاقه على خصوص الحصّة المقيّدة بإحدى تلك الخصوصيّات. فتأمّل](١).

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في الأصل ، أورده في المطبوع (١) وكتب في آخره : نسخة.

١٨٣

وأمّا الموصول فلأنّه موضوع للشيء المتعيّن بصلته لا بضمّ مفهوم التعيّن إلى مفهوم الشيء ليكون مفاده هو المفهوم المركّب من المفهومين ، بل المراد به الشيء المتحقّق تعيّنه بصلته ، وهذا المعنى ممّا لا يمكن حصوله بدون ذكر الصلة ، فهو وإن كان أمرا كلّيا صادقا على كثيرين إلّا أنّه لا يمكن استعمال اللفظ فيه بدون ذكر الصلة التي يتحقّق بها التعيين المذكور ويتمّ بحصولها ذلك المفهوم ، فذكر الصلة يتوقّف عليه حصول المفهوم المذكور ويفتقر إليه افتقارا ذاتيا ، حيث إنّ التقييد بها مأخوذ في وضع تلك الألفاظ وإن كان القيد خارجا ، فلا يعقل إرادة ذلك المفهوم بدون وجود الصلة ؛ ولأجل ذلك لحقها البناء ، فلا يمكن استعمال تلك الألفاظ في معانيها إلّا مع ذكر صلاتها وإن أمكن تصوّر ذلك المعنى ووضع اللفظ بإزائه من دون ضمّ صلة خاصّة أو خصوصية الصلات على جهة الإجمال ، لكن يتوقّف على ملاحظة تقييده بالصلة ولو كان على وجه كلّي حسب ما أشرنا إليه.

فما اورد عليه من لزوم جواز استعمال «الذي» في مطلق الشيء المتعيّن بصلته مبنيّ على الخلط بين الاعتبارين ، مضافا الى أنّ المفهوم من «الذي» في جميع استعمالاته هو نفس الشيء ، وإنّما الاختلاف في الخصوصيات المأخوذة معه ، فالقول بكون الوضع في الموصولات عامّا والموضوع له خاصّا كما ترى ولو مع الغضّ عمّا ذكرنا ، فلا تغفل.

وأمّا الحروف فلأنّها موضوعة للمعاني الرابطيّة المتقوّمة بمتعلّقاتها الملحوظة مرآة لحال غيرها حسب ما فصّل في محلّه ، وذلك المعنى الرابطي وإن اخذ في الوضع على وجه كلّي إلّا أنّه لا يمكن إرادته من اللفظ إلّا بذكر ما يرتبط به ، فلا يمكن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الكلّي إلّا في ضمن الخصوصيات الحاصلة من ضمّ ما جعل مرآة لملاحظته لتقوّم المعنى الرابطي به ، فالحصول في ضمن الجزئي هنا أيضا من لوازم الاستعمال فيما وضعت له بالنظر إلى الاعتبار المأخوذ في وضعها له ، لا لتعلّق الوضع بتلك الخصوصيات بأنفسها ، فعدم استعمالها في

١٨٤

المعنى العامّ على إطلاقه إنّما هو لعدم إمكان إرادته كذلك لا لعدم تعلّق الوضع به كما زعموه، فكون المستعمل فيه دائما هو الطبيعة المقترنة بشرط شيء لا ينافي وضعها للطبيعة اللابشرط إذا كان إستعمالها فيها مستلزما لحصول الخصوصيّة ، واستعمالها في تلك المفاهيم على جهة استقلالها في الملاحظة ليس استعمالا لها فيما وضعت له ، لما عرفت من عدم تعلّق الوضع بها من تلك الجهة ، فلا وجه لإلزام القائل بعموم الموضوع له بجواز استعمالها كذلك ، وكذا الحال في الأفعال بالنسبة الى معانيها النسبيّة فإنّها في الحقيقة معان حرفيّة لا يمكن حصولها إلّا بذكر متعلّقاتها حسبما ذكرناه في الحروف.

وأنت بعد التأمّل فيما قرّرناه تعرف ضعف ما ذكر في هذه الحجّة وسائر حججهم الآتية ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

وقد ظهر بما بيّناه وهن ما ذكره المحقّق الشريف في شرح المفتاح عند بيان القول المذكور من أنّ الموضوع له عندهم هو الأمر الكلّي بشرط إستعماله في جزئيّاته المعيّنة ، وقال في حاشية له هناك : إنّ لفظة «أنا» مثلا موضوعة على [هذا](١) الرأي لأمر كلّي هو المتكلّم المفرد ، لكنّه اشترط في وضعها أن لا يستعمل إلّا في جزئياته ، ثمّ حكم بركاكة القول المذكور واستصوب القول الآخر ، إذ ليس في كلام الذاهبين إلى القول المذكور إشارة إلى ذلك عدا شذوذ من المتأخّرين كالتفتازاني في ظاهر كلامه كما أشرنا إليه ، وكأنّه ألجأه الى ذلك ما يتراءى من توقّف تصحيح كلام القائل به على ذلك ؛ نظرا إلى ما ذكر في هذه الحجّة وغيرها ، كما يظهر من التفتازاني في إلتزامه به.

وقد عرفت ممّا قرّرناه في بيان القول المذكور أنّه لا حاجة إلى اعتبار الشرط المذكور أصلا ولا إلى التزام التجوّز في استعمالاتها المتداولة كما ادّعاه جماعة من الأجلّة.

ثمّ إنّه لا ريب في أنّ القول المذكور على ما قرّره في كمال الوهن والركاكة ،

__________________

(١) لم يرد في الأصل.

١٨٥

وفي اعتبار الشرط المذكور في أوضاع تلك الألفاظ من السماجة ما لا يخفى ، بل مرجع ذلك بمقتضى ما ذكروه ـ من كون الاستعمال في الجزئيّات بخصوصها لا من حيث انطباق الكلّي عليها ـ إلى كون تلك الألفاظ بمقتضى الاشتراط المذكور متعيّنة في الحقيقة بإزاء تلك الجزئيّات ، فيكون مرجعه على أقبح الوجوه إلى القول الآخر.

نعم ، لو قيل بأنّ استعمالها في الجزئيّات لا من حيث الخصوصيّة بل من حيث انطباق الكلّيات التي وضعت بإزائها عليها فيجعل ثمرة الاشتراط المذكور عدم جواز استعمالها في تلك الكلّيات على الوجه الآخر نظرا إلى كون الوضع توقيفيا فلا يجوز التعدّي فيه عمّا اعتبره الواضع أمكن أن يوجّه به القول المذكور ، إلّا أنّ فيه خروجا عن الطريقة المعروفة في الأوضاع ؛ لا أنّ فيه تفكيكا بين الوضع ولازمه كما ادّعي في الاحتجاج المذكور.

ثانيها : أنّها لو كانت موضوعة للمعاني الكلّية لكانت الألفاظ المذكورة مجازات لا حقائق لها ؛ نظرا إلى عدم استعمالها في المعاني الكلّية أصلا ، وهو مع ما فيه من البعد لا وجه للالتزام به من دون قيام دليل ظاهر عليه ، إذ لا داعي لحمل الإستعمالات المعروفة على المجاز والقول بوضع تلك الألفاظ المتداولة لمعنى لم تستعمل فيه أصلا ، كيف ومن المقرر كون الأصل في الاستعمال الحقيقة حتّى يتبيّن المخرج ، مضافا إلى أنّه لو كان الحال فيها على ما ذكر لما احتاجوا في التمثيل للمجازات التي لا حقائق لها إلى التمسك بالأمثلة النادرة كلفظ «الرحمن» والأفعال المنسلخة عن الزمان مع ما فيها من المناقشة ، وكان التمثيل بالألفاظ المذكورة هو المتعيّن في المقام ، ففي العدول عن ذكرها إلى التمثيل بتلك الأمثلة الخفيّة دلالة ظاهرة على فساد القول المذكور.

والجواب عنه ظاهر ممّا بيّناه ، إذ لا داعي إلى التزام التجوّز في تلك الألفاظ بالنظر إلى إطلاقها على تلك المعاني الخاصّة ، إذ ليس ذلك إلّا من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد ، ومن البيّن أنّه إنّما يكون على وجه الحقيقة إذا لم يؤخذ في

١٨٦

المفهوم المراد من اللفظ ما يزيد على معناه الموضوع له كما هو الحال في المقام ، إذ ليس المراد من لفظة «هذا» مثلا في سائر الموارد إلّا أمرا واحدا وإن انطبق ذلك على امور مختلفة ، وقد عرفت أنّ إطلاقها على خصوص الأفراد من اللوازم الظاهرة لاستعمالها في معناه الموضوع له ، حيث إنّه لا يمكن إرادتها من اللفظ إلّا في ضمن الفرد ، فليست تلك الخصوصيات مرادة من اللفظ منضمّة إلى معناه الموضوع له في الاستعمال ، بل إنّما تكون إرادة تلك الخصوصيات باستعمال تلك الألفاظ فيما وضعت له.

فما عزاه المدقّق الشيرواني رحمه‌الله إلى القائلين بعموم الموضوع له لتلك الألفاظ من التزام التجوّز في استعمالاتها الشائعة مبنيّ على توهم لزوم ذلك للقول المذكور لا على نصّهم عليه ، وقد عرفت أنّه توهّم فاسد لا وجه لالتزامهم به ، كيف ولو قالوا بذلك لكانت المجازات التي لا حقيقة لها أمرا شائعا عندهم لا وجه لاختلافهم فيها ، ولا لتمسّكهم لها بتلك الأمثلة النادرة حسبما ذكر ، ففي ذلك دلالة ظاهرة على كون الاستعمالات الشائعة واقعة عندهم على وجه الحقيقة ، مع ذهابهم إلى كون الموضوع له هناك هو المفاهيم المطلقة دون كلّ من تلك الامور الخاصّة.

ثالثها : أنّ المتبادر من تلك الألفاظ عند الإطلاق إنّما هو المعاني الخاصّة دون المفاهيم الكلّية ، وهو دليل على كونها موضوعة لذلك دون ما ذكر من المعاني المطلقة ؛ نظرا إلى قيام أمارة الحقيقة بالنسبة إلى الاولى وأمارة المجاز بالنظر إلى الثانية.

والجواب عنه ظاهر ممّا مرّ ؛ لمنع استناد التبادر المذكور إلى نفس اللفظ ، إذ مع عدم إنفكاك إرادة المعاني المذكورة من تلك الألفاظ عن ذلك والدلالة على إرادة تلك الجزئيات بمجرّد الدلالة عليها من غير توقّف على أمر آخر غيرها لا يبقى ظهور في استناد التبادر المدّعى إلى نفس اللفظ ؛ لينهض دليلا على الوضع ، وممّا ذكرنا يظهر الحال فيما ذكر من عدم تبادر المعاني المطلقة.

رابعها : أنّها لو كانت موضوعة للمعاني الكلّية لكانت تلك المعاني هي

١٨٧

المفهومة منها أوّلا عند الإطلاق ، وكانت المعاني الجزئية مفهومة بواسطة الانتقال الى تلك المعاني بعد قيام القرينة الصارفة عن إرادتها كما هو الشأن في المجاز ، وليس الحال كذلك قطعا ، إذ المفهوم من لفظة «هذا» مثلا هو الشخص المشار إليه من غير خطور لمفهوم المشار إليه أصلا.

وجوابه معلوم بعد القول بعدم التجوّز في شيء من تلك الاستعمالات ، وأنّ إرادة تلك الخصوصيّات غير ممكنة الانفكاك عن إرادة الموضوع له حتّى يتوقّف فهمها على وجود القرينة ، فهي إنّما تكون مفهومة بإرادة الموضوع له.

ودعوى عدم حصول واسطة في فهم الخصوصيّة من اللفظ بالمرّة ممنوعة ، بل إنّما هو من جهة استحالة انفكاك إرادتها عن إرادة الموضوع له. نعم لما كانت الملازمة هناك واضحة جدّا يتراءى في بادئ النظر فهمها من اللفظ ابتداء ، وليس ذلك بظاهر عند التأمّل.

وما ذكر من عدم خطور مفهوم المشار إليه بالبال إن اريد به عدم فهم ذلك المفهوم ملحوظا بالاستقلال كما هو الحال في لفظ المشار إليه فممنوع ، ولا قائل بوضع لفظة «هذا» لذلك أصلا ، وإن اريد به عدم فهم شيء اشير إليه وجعلت الإشارة مرآة لملاحظته فهو بيّن الفساد ، كيف وليس المفهوم من لفظة «هذا» في العرف إلّا ذلك.

خامسها : أنّه لو كان كما ذكروه لزم اتّحاد معاني الحروف والأسماء ؛ لكون كلّ من «من» و «إلى» و «على» موضوعا على هذا التقدير لمطلق الابتداء والانتهاء والاستعلاء التي هي من المعاني الإسميّة المستقلّة بالمفهوميّة ؛ ولذا وضع بإزائها لفظ الابتداء والانتهاء والاستعلاء التي هي من الأسماء ، وهو واضح الفساد ، ضرورة اختلاف معاني الأسماء والحروف بحسب المفهوم حيث إنّ الاولى مستقلّة بالمفهوميّة ، ويصحّ الحكم عليها وبها بخلاف الثانية ؛ لعدم استقلالها بالمفهوميّة وعدم صحّة الحكم عليها وبها أصلا ، ويجري ذلك في الأفعال أيضا بالنسبة إلى معانيها النسبيّة ، فإنّها أيضا معان حرفيّة ، ومع البناء على الوجه المذكور

١٨٨

تكون معاني إسميّة مستقلّة بالمفهوميّة.

والجواب عنه : أنّ الفرق بين المعاني الإسميّة والحرفية ليس من جهة عموم الموضوع له في الأسماء وعدمه في الحروف حتى تتميّز المعاني الحرفيّة عن المعاني الإسميّة ، على القول بوضع الحروف لخصوصيات الجزئيّات دون القول بوضعها للمفاهيم المطلقة ، كيف ومن البيّن أنّ جزئيّات تلك المفاهيم أيضا امور مستقلّة بالمفهوميّة على نحو مفهومها الكلّي ، فكما أنّ مطلق الابتداء مفهوم مستقلّ كذلك الابتداء الخاصّ وإن افتقرت معرفة خصوصيّته إلى ملاحظة متعلّقه ، فإنّ ذلك لا تخرجه عن الاستقلال وصحّة الحكم عليه وبه ، بل الفرق بين الأمرين في كيفيّة الملاحظة حيث إنّ الملحوظ في المعاني الإسميّة هو ذات المفهوم بنفسه ، والملحوظ في المعاني الحرفية كونه آلة ومرآة لملاحظة غيره.

ومن البيّن أنّ ما جعل آلة لملاحظة الغير لا يكون ملحوظا بذاته ، بل الملحوظ بالذات هناك هو ذلك الغير ، فهذه الملاحظة لا يمكن حصولها إلّا بملاحظة الغير ؛ ولذا قالوا : إنّها غير مستقلّة بالمفهومية ، وإنّه لا يمكن الحكم عليها وبها ؛ لتوقّف ذلك على ملاحظة المفهوم بذاته.

فحصول المعاني الحرفيّة في الذهن متقوّم بغيرها ، كما أنّ وجود الأعراض في الخارج متقوّم بمعروضاتها ، بخلاف المعاني الإسميّة فإنّها امور متحصّلة في الأذهان بأنفسها وإن كان نفس المفهوم في المقامين أمرا واحدا ، وحينئذ فكما يمكن اعتبار جزئيّات الابتداء مثلا مرآة لملاحظة الغير فيقال بوضع لفظة «من» لكلّ منها كذا يمكن اعتبار مطلق الابتداء مرآة لحال الغير ويقال بوضع «من» بإزائه ، فيكون مفهوم الابتداء ملحوظا بذاته من المعاني الإسميّة ، وملحوظا باعتبار كونه آلة ومرآة لحال الغير من المعاني الحرفيّة ، مع كون ذلك المفهوم أمرا كليّا في الصّورتين.

والحاصل : أنّه لا اختلاف بين المعنى الإسميّ والحرفيّ بحسب الذات ، وإنّما الاختلاف بينهما بحسب الملاحظة والاعتبار ، فيكون المعنى بأحد الاعتبارين

١٨٩

تامّا إسميّا ، وبالاعتبار الآخر ناقصا حرفيّا ، ويتفرّع على ذلك إمكان إرادة نفس المفهوم على إطلاقه في الإسماء من غير ضمّه إلى الخصوصيّة بخلاف المعنى الحرفي ، إذ لا يمكن إرادته من اللفظ إلّا بضمّه إلى الغير ، ضرورة كونه غير مستقلّ بالمفهوميّة في تلك الملاحظة ، فلا يمكن إرادته من اللفظ إلّا مع الخصوصيّة حسب ما بيّناه ، وذلك لا يقضي بوضعها لكلّ من تلك الخصوصيّات.

فإن قلت : إنّ الابتداء المأخوذ مرآة لحال الغير لا يكون إلّا جزئيّا من جزئيّات الابتداء متقوّما في الملاحظة بخصوص متعلّقه ، فلا يعقل أن يؤخذ مطلق الابتداء مرآة لحال الغير حتّى يكون مفاد لفظة «من» هو الابتداء على إطلاقه.

قلت : توقّف تحقّق الحيثيّة المأخوذة في الوضع على تحقّق المفهوم المذكور في ضمن جزئيّ من جزئيّاته وكون ما اطلق عليه اللفظ دائما خصوص الجزئيّات لا يستلزم أن تكون تلك الخصوصيّات مأخوذة في الوضع ، إذ لا مانع من تعلّق الوضع بنفس المفهوم ، وتكون تلك الخصوصيّات من لوازم الحيثيّة المعتبرة في المعنى الموضوع له ، فلا يمكن استعمال اللفظ فيه إلّا في ضمن جزئيّ من تلك الجزئيّات حسب ما أشرنا إليه.

فاعتبار الابتداء مرآة لحال الغير إنّما يكون في ضمن الخصوصيّة المنضمّة إليه ، والمعنى الملحوظ في الوضع هو القدر الجامع بينها ، أعني مفهوم الابتداء من حيث كونه مرآة لحال الغير ، فذلك المفهوم من تلك الحيثيّة لا يمكن حصوله ولا إرادته إلّا في ضمن الجزئيّات ، من غير أن تكون تلك الجزئيّات ملحوظة حين الوضع ولو على سبيل الإجمال حسب ما ذكروه ، فليس المقصود من كون مطلق الابتداء موضوعا له للفظة «من» أن يكون ذلك المفهوم بملاحظة حال إطلاقه ـ كما هو الحال في حال تصوّره ـ موضوعا له لذلك اللفظ ، بل المقصود كون ذلك المفهوم لا خصوص جزئيّاته موضوعا له لذلك وإن اعتبر هناك حيثيّة في الوضع لا يمكن تحقّقها إلّا في ضمن الجزئيّات ، فالموضوع له في ضمن تلك الجزئيّات هو القدر الجامع بينها ، أعني مفهوم الابتداء من حيث كونه مرآة لملاحظة الغير ، وتلك

١٩٠

الخصوصيّات من لوازم تلك الحيثيّة المعتبرة في الوضع ، فذلك المعنى الملحوظ حال الوضع ليس موضوعا له للفظة «من» بتلك الملاحظة ، ضرورة أنّه ليس في تلك الملاحظة مرآة لحال الغير ، وإنّما هو إحضار لحالها الاخرى وهي حال وقوعها مرآة لحال الغير وعنوان لملاحظتها كذلك ، كيف والمعنى الحرفي غير مستقلّ في الملاحظة ، وتعلّق الوضع بالمعنى يستلزم استقلالها في اللحاظ ، فلا يعقل تعلّق الوضع بالمعنى الحرفي من حيث إنّه معنى حرفي، بل ذلك المفهوم من حيث إنّه معنى اسمي يجعل عنوانا لكونه معنى حرفيّا ويوضع اللفظ بإزائه، فهو في تلك الملاحظة نظير ملاحظة المعدوم المطلق في الحكم عليه بأنّه لا يحكم عليه، كما هو الحال أيضا في الحكم على المعنى الحرفي بأنّه لا يحكم عليه ولا به ، فلا تغفل. ويجري ما قلناه بعينه في المعاني النسبية الملحوظة في وضع الأفعال ، إذ هي أيضا معان حرفية ، والحال فيهما على نحو سواء.

سادسها : أنّهم صرّحوا بأنّ للحروف والضمائر وأسماء الإشارة وغيرها من الألفاظ التي وقع النزاع فيها معاني حقيقيّة ومعاني مجازيّة ، ويرجّحون حملها على معانيها الحقيقيّة مع الدوران بينها وبين غيرها حال الإطلاق ، وهو لا يتمّ إلّا على القول بوضعها للمعاني الجزئيّة، إذ لو قيل بوضعها للمفاهيم الكلّية لزم أن يكون جميع تلك الاستعمالات مجازيّة ، فلا وجه للتفصيل ولا لترجيح إرادة المعاني الحقيقيّة على غيرها ؛ لوضوح اشتراك الجميع في المجازيّة بحسب الاستعمال.

وجوابه ظاهر ممّا ذكرنا فلا حاجة إلى إعادته.

هذا ، ويحتجّ للقول بوضعها للمفاهيم الكلّية بوجوه :

أحدها : نصّ أهل اللغة بأنّ «هذا» للمشار إليه و «أنا» للمتكلّم و «أنت» للمخاطب و «من» للابتداء و «إلى» للانتهاء و «على» للاستعلاء إلى غير ذلك ، وتلك المفاهيم امور كلّية.

ثانيها : أنّ ظاهر كلماتهم في تقسيم الألفاظ انحصار متعدّد المعنى في المشترك والمنقول والمرتجل والحقيقة والمجاز ، ولو كان الوضع في تلك الألفاظ

١٩١

لخصوص الجزئيّات لكانت من متعدّد المعنى قطعا مع عدم اندراجها في شيء من المذكورات، فيكون قسما خامسا ، وهو خلاف ما يقتضيه كلام القوم.

ثالثها ـ وهو أضعفها ـ : أنّها لو كانت موضوعة بإزاء الجزئيّات لزم استحضار ما لا يتناهى حال تعلّق الوضع بها ، ضرورة توقّف الوضع على تصوّر المعنى ، وهو واضح البطلان.

واجيب عن الأوّل بحمل كلامهم على إرادة المصداق دون المفهوم ، كيف ومقصودهم من بيان معاني تلك الألفاظ هو معرفة المراد منها في الاستعمالات ، ومن البيّن أنّ المراد منها في الاستعمال هو ذلك دون نفس المفهوم ؛ للاتّفاق على عدم جواز الاستعمال فيه.

وعن الثاني بأنّ تقسيم الألفاظ إلى الأقسام المعروفة لمّا كان من القدماء وهم لمّا لم يثبتوا هذا النوع من الوضع لم يذكروه في الأقسام ، والمتأخّرون مع إثباتهم لذلك لم يغيّروا الحال في التقسيم عمّا جرى عليه القوم ، بل جروا في ذلك على منوالهم ، وأشاروا إلى ما اختاروه في المسألة في مقام آخر.

وعن الثالث بما هو ظاهر من الفرق بين الحضور الإجمالي والتفصيلي ، والقدر اللازم في الوضع هو الأوّل ، والمستحيل بالنسبة إلى البشر إنّما هو الثاني.

قلت : وأنت بعد التأمّل في جميع ما ذكرناه تعرف تصحيح الوضع في المقام على كلّ من الوجهين المذكورين ، وأنّه لا دليل هناك يفيد تعيين إحدى الصورتين وإن كان الأظهر هو ما حكي عن القدماء على الوجه الّذي قرّرناه ؛ لما عرفت من تطبيق الاستعمالات عليه ، فلا حاجة إلى التزام التغاير بين المعنى المتصوّر حال الوضع والموضوع له ، فإنّه تكلّف مستغنى عنه مخالف لما هو الغالب في الأوضاع ، بل وكأنّه الأوفق عند التأمّل بظاهر الاستعمالات ، ولو لا أنّ عدّة من الوجوه المذكورة قد ألجأت المتأخّرين إلى اختيار الوجه المذكور لما عدلوا عمّا يقتضيه ظاهر الوضع ، ويعاضده ظاهر كلام الجمهور ، ويؤيّده أيضا ظاهر ما حكي عن أهل اللغة.

١٩٢

وحمل كلامهم على الوجه المتقدّم وإن كان ممكنا إلّا أنّه لا داعي إليه مع خروجه عن الظاهر ، وما ذكر من قيام الشاهد عليه مدفوع بما عرفت من تصحيح الاستعمالات على كلّ من الوجهين المذكورين ، وعليك بالتأمّل في ما فصّلناه فإنّي لم أر أحدا حام حول ما قرّرناه ، فإن وجدته حقيقا بالقبول فهو من الله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

السادسة

ذهب جماعة من علماء العربيّة إلى اختصاص الوضع بالمفردات ، وأنّ المركّبات لا وضع فيها من حيث التركيب ؛ لحصول المقصود من الانتقال إلى المعنى التركيبي بوضع المفردات ، فلا حاجة في استفادة ذلك منها إلى وضع آخر.

ويدفعه : أنّ مجرّد وضع المفردات غير كاف فيما يراد من المركّبات ، فإنّ الجمل الخبريّة مثلا إذا اريد بها الإخبار عمّا تضمّنته كانت حقيقة دون ما إذا اريد بها غير ذلك ، فتكون موضوعة لإفادته ، وهو أمر وراء ما يعطيه أوضاع المفردات ، فإنّه حاصل فيها مع عدم إرادة الإخبار ، أيضا فإنّه إذا اريد بها إفادة المدح أو بيان التحزّن والتحسّر أو التذلّل والتخضّع أو الضعف والوهن ونحو ذلك كان مفاد المفردات في الجميع على حاله من غير تفاوت إلّا بالنسبة إلى المعنى التركيبي ، فلو لا القول بثبوت الوضع للهيئات التركيبية لما صحّ القول بكونها حقيقة في الإخبار منصرفة إليه عند الإطلاق مجازا في غيره.

وفيه : أنّ دلالة المفردات بعد ضمّ بعضها إلى البعض كافية في إفادة الإخبار ، إذ هو مدلول تلك الألفاظ مع قطع النظر عن جميع الامور الخارجيّة ، وأمّا كون الملحوظ سائر الفوائد المترتبة على الكلام فلا بدّ من قيام شاهد عليه ، إذ لا تفي المفردات بالدلالة على إرادتها ، وبعد قيام القرينة على ملاحظتها فليست المفردات مجازا قطعا وكذا المركّب وإن لم يكن مجرّد تلك العبارة كافيا في فهمها من دون ملاحظة القرينة ، فانصراف إطلاق الجمل الخبريّة إلى خصوص الإخبار بمضمونها لا يستلزم كونها موضوعة بإزائه ؛ لما عرفت من أنّ السبب في انصرافها

١٩٣

إليه هو ملاحظة وضعها الأفرادي مع الخلوّ عن القرائن الدالّة على خلافه ، وكذا افتقار إرادة سائر المقاصد إلى ضمّ القرائن المفهمة لإرادتها لا يفيد كونها مجازا عند إرادتها.

والحاصل : أنّ إسناد الفعل إلى فاعله أو حمل المحمول على موضوعه دالّ على ثبوت تلك النسبة التامّة ، وبعد ضمّ أحدهما إلى الآخر يحصل ذلك ، فلو جرّد الكلام حينئذ عن سائر القرائن أفاد كون المقصود هو الإخبار عن ذلك الشيء من دون حاجة إلى وضع آخر متعلّق بالهيئة التركيبيّة ، ولو انضمّ إليه ما يفيد إرادة سائر المقاصد تمّت الدلالة عليه بتلك الضميمة من دون لزوم مجاز أصلا ، هذا إذا كان المقصود إسناد تلك المحمولات إلى موضوعاتها على سبيل الحقيقة.

وأمّا إذا لم يكن إسنادها إلى موضوعاتها مقصودا في ذلك المقام بل كان المقصود بيان ما يلزم ذلك من التخضّع ونحوه كما في قولك : «أنا عبدك» و «أنا مملوكك» فلا ريب إذن في الخروج عن مقتضى الوضع ، إذ ليس المقصود في المقام بيان ما يعطيه معاني المفردات بحسب أوضاعها ، فحينئذ يمكن التزام التجوّز في المفردات كأن يراد ب «عبدك» أو «مملوكك» مثلا لازمه ، أو في المركّب بأن يراد من الحكم بثبوت النسبة المذكورة لازمها.

وعلى كلّ حال فالتجوّز حاصل هناك ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ الجمل المذكورة تندرج في الحقيقة تارة وفي المجاز اخرى.

فإن قلت : إنّ استعمال الجمل الخبريّة في الدعاء أو بمعنى الأمر مجاز قطعا ، ولو لا وضعها للإخبار لما صحّ ذلك.

قلت : إنّ المجاز هناك في المفرد ـ أعني الفعل المستعمل في المعنى المذكور مثلا ـ لخروجه بإرادة ذلك عن مقتضى وضعه.

فإن قلت : إنّ الإسناد الحاصل في الجمل الخبريّة الغير المشتملة على الفعل ممّا يدلّ عليه صريح العبارة ، مع أنّ أوضاع المفردات ممّا لا يدلّ عليه ، فليس ذلك إلّا من جهة التركيب.

١٩٤

قلت : ليس ذلك من جهة وضع المركّب ، وإنّما هو من جهة الطوارئ الواردة على الكلمة ، فإنّها إنّما تكون بسبب الأوضاع النوعيّة المتعلّقة بذلك المقرّرة في النحو ، فالظاهر أنّ الأعاريب الواردة على تلك الكلمات هي الموضوعة بإزاء النسب ، والرابطة بين الموضوع والمحمول وكذا سائر الارتباطات الحاصلة بين الكلمات إنّما يستفاد من الأعاريب الواردة عليها ، وربّما يضمّ إلى ذلك ملاحظة التقديم والتأخير ونحوهما المأخوذة في تلك الكلمات ، فإن اريد بوضع المركّبات ما ذكرناه فلا كلام ، إذ ثبوت الأوضاع المذكورة ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، ولم يخالف أحد في الحكم فيه ، وإن اريد به غير ذلك فهو ممّا لا شاهد عليه.

فإن قلت : قد نصّ علماء البيان على ثبوت المجاز في المركّبات ، وقد جعلوه قسيما للمجاز في المفردات ، ولا يتمّ ذلك إلّا مع ثبوت الوضع في المركّبات ؛ لكون المجاز فرع الوضع. وقد اعتذر بعضهم عن عدم تعرّضهم للحقيقة في المركّبات بكون التعرّض للحقائق غير مقصود بالذات في فنّ البيان ، فذلك أيضا نصّ في ثبوت الوضع في المركّبات.

قلت : لا منافاة بين نفي الوضع من الهيئات التركيبيّة وراء وضع المفردات والقول بثبوت الحقائق والمجازات التركيبيّة ، فإنّ المعاني التركيبيّة مستندة إلى الأوضاع قطعا ، إلّا أنّه لا حاجة فيها إلى اعتبار وضع زائد على أوضاع المفردات ، وما يتعلّق بها من الخصوصيّات فإنّها إذا استعملت فيما قضت به أوضاع المفردات مع مراعاة الخصوصيّات الحاصلة عند ضمّ بعضها إلى البعض كان المعنى الحاصل من مجموع ذلك حقيقة مركّبة ، وإن استعملت في غيرها بأن كان الانتقال له من تلك الحقيقة المركّبة كان مجازا مركّبا ، وحينئذ فلا يبعد أن يقال بكون ما اشتمل عليه من المفردات مجازا أيضا وإن استعملت في معانيها الموضوع لها ابتداء ، إذ المقصود منها حينئذ إحضار معناها التركيبي والانتقال منها إلى المعنى المجازي ، فلا يكون معانيها الحقيقيّة حينئذ هي المقصودة بالإفادة.

فدعوى كونها إذن مستعملة في معانيها الحقيقيّة وأنّ التجوّز إنّما هو في

١٩٥

المركّب ـ كما في شرح التلخيص ـ ليست على ما ينبغي ، إلّا أن يبنى على كون المناط في استعمال اللفظ في المعنى كونه مرادا من اللفظ ابتداء وإن اريد الانتقال منه إلى غيره ، وقد عرفت ما فيه.

ويمكن تصحيحه : بأنّ المجاز في المفرد هو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له ، بأن يكون ذلك المعنى قد استعملت فيه الكلمة ابتداء ، أو كان ذلك مقصودا منها بالواسطة ، والمفروض انتفاء الأمرين في المقام ، فتكون مستعملة في الموضوع له مندرجة في الحقيقة ، فالتجوّز هنا إنّما يكون بالنسبة إلى المعنى التركيبي المتحصّل من أوضاع المفردات لا باستعمال المجموع فيه ابتداء ، إذ قد عرفت أنّه غير متصوّر في المقام بل الانتقال (١) إليه من المعنى المذكور حسب ما مرّ ، وحينئذ فيكون التجوّز في المعنى التركيبي خاصّة وإن لم نقل بثبوت وضع خاصّ بالنسبة إليه ، فحيث لم يكن الانتقال إليه إلّا بملاحظة المعنى المركّب من غير ملاحظة لخصوص كلّ من مداليل المفردات كان التجوّز في المركّب وإن كان فيه خروج عن مقتضى أوضاع المفردات أيضا ، إلّا أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة الى المجموع دون كلّ واحد منها ليكون من المجاز في المفرد.

وفيه : أنه ليس المقصود الأصلي من كلّ واحد من تلك الألفاظ إفادة معناه الحقيقي قطعا ، فلا تكون مندرجة في الحقيقة ، فلا بدّ من إدراجها في المجاز لكون المقصود بكل منها إفادة غير الموضوع له ولو كان ذلك بملاحظة المعنى الذي يراد من جميع تلك الألفاظ ، فعدم قصد خصوص معنى مجازيّ من كلّ واحد من تلك الألفاظ لا ينافي كونها مجازات مستعملة في غير ما وضعت له إذا كان المقصود من الجميع غير الموضوع له ، لظهور صدق كون المقصود من كلّ منها غير ما وضع له وإن كان في ضمن الكلّ.

فظهر بما ذكرنا أنّ المجاز في المركّب يستلزم المجاز في المفرد على النحو المذكور وإن لم يستلزم استعمال كلّ واحد من المفردات في معنى مجازي

__________________

(١) كما هو أحد الوجهين في المجاز في المفرد كما عرفت. (منه رحمه‌الله).

١٩٦

مخصوص ، كما هو الشأن في سائر المجازات المفردة. فتأمّل.

إذا عرفت ذلك فقد تبيّن لك الوجوه التي يمكن الاستناد إليها في إثبات الوضع للهيئات التركيبيّة كما هو مختار جماعة من الأجلّة ، والوجه في ضعفها ، وظهر لك قوّة القول بنفي الوضع في المركّبات.

وربّما يقال بثبوت الوضع فيها من جهة دلالة بعض التراكيب على بعض الخصوصيّات كدلالة الجملة الإسميّة على الدوام والثبوت والفعليّة على التجدّد والحدوث. وفيه تأمّل.

ثمّ على القول بثبوت الوضع في التراكيب ففي اندراجها في حدّ الحقيقة إشكال ، والقول بشمول اللفظ لها كما ادّعي غير متّجه.

إلّا أن يقال بكون الهيئة مرآة لوضع الألفاظ المركّبة لا أنّها بنفسها موضوعة ، فيتعلّق هناك وضع بالأجزاء ووضع بالكلّ. وفيه ما لا يخفى.

نعم ، على ما قرّرناه في المجاز المركّب يندرج ذلك في حدّ المجاز ، وكأنّه الوجه في أخذهم اللفظ في حدّه والكلمة في حدّ المجاز في المفرد ، ويجري نحوه في اندراج المركّب في حدّ الحقيقة ، والظاهر عدم جريان الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى الأوضاع المتعلّقة بالخصوصيّات المعتورة على الكلمات ، إذ ليس هناك استعمال لفظ في الموضوع له أو في خلافه ، كما لا يخفى.

السابعة

أنّه لا شكّ في كون إثبات المعاني الحقيقيّة توقيفيّة لا بدّ فيه من الرجوع إلى الواضع ولو بنقل النقلة أو بملاحظة العلائم والأمارات المقرّرة ، واختلفوا في المعاني المجازيّة.

فذهب جماعة إلى اعتبار نقل الآحاد في صحّة استعمال كلّ لفظ بالنسبة إلى كلّ من المعاني المجازيّة كما هو الحال في المعاني الحقيقيّة.

والمحكي عن الأكثر الاكتفاء فيه بنقل نوع العلاقة المصحّحة للاستعمال ،

١٩٧

فلا يصحّ التجوّز إلّا بعد ثبوت الترخيص في نوع تلك العلاقة من غير حاجة بعد ذلك إلى نقل الآحاد.

وعن بعض المتأخّرين التفصيل بين الحروف وما بمنزلتها من الأسماء الناقصة كالظروف وصيغة الأمر والنهي ونحوها ، وما عدا ذلك من سائر الأسماء والأفعال فاختار اعتبار نقل الآحاد في الأوّل دون الأخير.

والأظهر في المقام عدم الحاجة إلى نقل آحاد المجاز ولا نقل خصوص أنواع العلائق في صحّة التجوّز ، وغاية ما يلتزم به في المقام هو الاحتياج إلى ترخيص الواضع في صحّة الاستعمال بحسب اللغة في غير ما وضع له من المعاني المجازيّة حسب ما مرّت الإشارة إليه ، وحينئذ نقول : إنّ من البيّن أنّ الترخيص هنا لم يرد بطريق النقل المتّصل ولا المرسل عن صاحب اللغة ، وإنّما يرجع فيه إلى استقراء الاستعمالات والنظر في الطريقة الجارية في المحاورات وملاحظة موارد الإطلاقات كما هي الطريق في استنباط الأوضاع النوعيّة ، إذ لا يزيد ذلك عليها.

والمتحصّل من التأمّل في الطريقة الجارية المتداولة من بدو اللغة إلى الآن في استعمال الألفاظ في المعاني المجازيّة والتعدّي عن مقتضى الأوضاع الحقيقيّة هو ملاحظة الارتباط والعلاقة التي لا يستهجن معها استعمال اللفظ في المعنى المجازي والانتقال إليه من المعنى الحقيقي ، من غير ملاحظة لشيء من خصوص المعاني المستعملة فيها من قديم الأيّام المنقولة عن العرب ، ولا لشيء من خصوص العلاقات المقرّرة في شيء من الاستعمالات المتداولة.

فظهر أنّ المدار في ترخيص الواضع هو ذلك من غير اعتبار لشيء من الوجهين المذكورين ، كيف وتلك الخصوصيّات غير مضبوطة عند أهل العرف ولا معروفة عند العامّة ، مع عدم تأمّل أحد من أهل العرف في صحّة التجوّز ، واستعمال الألفاظ في المعاني المستحدثة الجديدة ممّا لم يخطر ببال المتقدّمين من أهل اللسان من الاستعارات وضروب الكنايات وسائر أقسام المجاز.

وبالجملة : الملحوظ في الاستعمالات العرفيّة عند التجوّز في اللفظ هي

١٩٨

العلاقة التي لا يستهجن معها الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي ، بحيث يكون استعماله فيه مرضيّا عندهم غير مستنكر لديهم ، من غير ملاحظة لما يزيد عليه ولا التفات إلى اندراجه في أيّ نوع من أنواع العلائق المقرّرة ، وهو ظاهر لمن تأمّل في الاستعمالات الجارية بحيث لا يعتريه شبهة.

وما تصدّوا له من حصر أنواع العلائق في الوجوه المذكورة في كتبهم فإنّما هو مبنيّ على الغالب ؛ ولذا وقع الاختلاف في تعدادها بحسب اختلافهم في كثرة التتبّع في أصناف المجاز وقلّته من غير بنائهم على وقوع اختلاف في ذلك ، فملاحظة تلك الخصوصيّات غير معتبرة في صحّة التجوّز أصلا ، وإنّما الملحوظ فيها هو ما ذكرنا ، فهو المناط في الترخّص وانطباقه على تلك الخصوصيّات من قبيل الاتّفاق من غير اعتبار في الترخيص لخصوص تلك الجهات؛ ولذا وقع الاختلاف في إرجاع بعضها إلى البعض واقتصر جماعة على عدّه من العلائق بارجاع الباقي إليها.

والحقّ ـ كما عرفت ـ إرجاع الجميع إلى أمر واحد هو ما قرّرناه ، كيف ولو كان المصحّح للاستعمال هو خصوص العلائق المقررة ـ كما هو قضيّة ما ذكروه ـ لكان الملحوظ حين الاستعمال إدراج العلاقة الحاصلة في واحد منها ؛ ليصحّ الإقدام على استعماله نظرا إلى إناطة الترخيص به ، ومن المعلوم خلافه ، ولصحّ استعمال المجاز كلّيا مع حصول واحد منها ، مع أنّه بيّن الفساد ، إذ لا يصحّ التجوّز في كثير من الأمثلة مع حصول نوع العلاقة المعروفة ولو مع حصول الشرط الذي اعتبروه في بعضها كاستعمال الجزء في الكلّ؛ ولذا قد يصحّ الاستعمال مع انتفاء ما اعتبروه من الشرط كاستعمال اليد في الإنسان كما في الحديث المشهور : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) مع أنّها مما لا ينتفي الكلّ بانتفائها ، ويصحّ استعمال مجاز بعينه في مقام دون آخر كما في المثال المذكور ، واستعمال الرّقبة في الإنسان فإنّه إنّما يصحّ فيما تعلّق به الرق أو العتق ونحوهما لا في ما سوى ذلك ،

__________________

(١) سنن البيهقي : ج ٦ ص ٩٥.

١٩٩

كأن يقول : «رأيت رقبة» أو «زرت رقبة» ونحوهما فظهر أنّه إنّما يدور الأمر في كلّ من تلك العلائق مدار ما قلناه.

والقول بأنّ الترخيص الحاصل في المجازات مقتض لصحّة الاستعمال ، وليس علّة تامّة في ذلك كما في أوضاع الحقائق ، وحصول المقتضي إذا قارن وجود المانع ـ أعني منعهم من الاستعمال في خصوص بعض المعاني ـ لم يعمل عمله ، فلا مانع من عدم اطّراد العلائق وعدم جواز الاستعمال مع وجودها.

مدفوع : بأنّه لا حاجة إلى التكلّف المذكور ، مع أنّ الظاهر من ملاحظة موارده عدم حصول المقتضي لصحّة الاستعمال هناك ، حيث إنّه لا فارق بينها وبين المعاني التي ليست بينها وبين المعاني الحقيقية مناسبة ظاهرة كما هو ظاهر بعد ملاحظة العرف ، لا أنّ المقتضي لصحّة الاستعمال موجود هناك ، وإنّما يمنع عنها وجود المانع.

وقد يحتجّ للقول باعتبار نقل الآحاد تارة ، بأنّ ما لم ينقل عن أهل اللسان خارج عن اللغة لانحصارها في الحقيقة والمجاز ، وغير المنقول ليس من الأوّل قطعا ولا من الثاني ، إذ المجاز اللغوي ما كان المتجوّز فيه صاحب اللغة ، فيخرج حينئذ عن العربية ، فلا يصحّ استعماله فيه في تلك اللغة ، ويقضي وجوده في القرآن بعدم كون جميعه عربيّا وقد وصفه تعالى بكونه عربيّا الظاهر في كون كلّه عربيّا.

وتارة بأنّه لو لم يحتج إلى نقل الآحاد لما ذكروا المعاني المجازيّة في كتب اللغة ، واقتصروا على بيان المعاني الحقيقية ، مع أنّهم لا زالوا يذكرون المجازات حسب ما يذكرون الحقائق.

وأنت خبير بوهن الوجهين ، أمّا الأوّل فبأنّ استعمال المجاز لمّا كان عن ترخيص الواضع صحّ اندراجه في العربي ؛ لما عرفت من كون ذلك نحوا من الوضع ، وأيضا يكفي في اندراجه في العربيّة وقوعه من أتباع أهل اللسان.

ألا ترى أنّ الحقائق العرفيّة العامّة والخاصّة غير خارجة عن اللسان العربي ، مع أنّ الاستعمال هناك من جهة الوضع الخاصّ المغاير لوضع اللغة ، بل وكذا الحال

٢٠٠