هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

قوله : (لا ريب في وجود الحقيقة اللغوية ... الخ)

لمّا كانت الحقائق المذكورة معروفة حكم بوجود الأوّلين وذكر الخلاف في الثالثة من دون إشارة الى تعريفها ، وما تقدّم من بيان المنقول اللغوي والعرفي والشرعي لا ربط له بها ؛ فإنّ الحقائق المذكورة أعمّ منها.

وقد يعرّف الحقيقة اللغويّة بأنّها اللفظ المستعمل فيما وضع له بحسب اللغة ، والحقيقة العرفية بما استعمل فيما وضع له لا بحسب اللغة.

والموضوع له في الأول يعمّ جميع المعاني اللغوية المتعدّدة للّفظ الواحد وإن تقدّم بعضها على البعض ، بل ولو كان وضعه للثاني مع هجر الأوّل ، كما في المنقول اللغوي.

واستظهر بعض المحقّقين من كلام علماء الاصول والبيان أنّ المعتبر في الحقيقة اللغويّة كونها أصليّة غير مسبوقة بوضع أصلا ، وعلى هذا يلزم أن لا يتحقّق مشترك لغوي إلّا مع فرض تقارن الوضعين ، وهو كما ترى ، وهو أيضا يعمّ الأوضاع المهجورة والباقية وإن كان المعنى المهجور مجازا بالنسبة الى المعنى الطارئ ؛ إذ لا منافاة بين الحقيقة اللغوية والمجاز العرفي ولا ينتقض الحدّ به باعتباره الثاني ؛ لاعتبار الحيثية فيه.

والوضع في الثاني يعمّ الأوضاع التعيينية والتعيّنية الملحوظة فيها المناسبة للمعنى اللغوي وغيره فيندرج فيها المنقولات والمرتجلات العرفيّة ويندرج فيه أيضا الأوضاع العرفيّة المهجورة وغيرها.

وربما يعزى الى ظاهر البعض اعتبار بقاء الوضع في الحقيقة العرفيّة ، فيخرج عنه المهجورة ، وهو ضعيف وإدراجه إذن في الحقيقة اللغويّة أضعف.

وظاهر الحدّ المذكور اندراج الألفاظ المستحدثة في العرفيّة ، وهو غير بعيد ؛ لخروجها عن حدّ اللغويّة وجعلها واسطة من البعيد ، فالأولى إدراجها في العرفيّة ، وقد قطع به بعض المحقّقين ، وعلى هذا لا يستلزم الحقيقة العرفية الحقيقة اللغوية ، ولا الموضوع اللغوي كما لا ملازمة في العكس.

٤٠١

وربما يظهر من بعضهم (١) اعتبار طروّ الوضع الجديد على الوضع الأصلي في الحقيقة العرفيّة ، وحينئذ يخرج الألفاظ المذكورة عنها.

وعليه أيضا لا يثبت الملازمة بين الحقيقتين في شيء من الجانبين ؛ إذ لا ملازمة بين الوضع والاستعمال إلّا أنّه حينئذ يستلزم الحقيقة العرفيّة الموضوع اللغوي.

وظاهر الحدّ المذكور وغيره إدراج الأعلام الشخصيّة المتجدّدة في الحقيقة العرفيّة.

وأمّا القول بأنّ ظاهرهم حصر العرفيّة في العامّة والخاصّة وهي غير مندرجة في شيء منهما ـ أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلتصريحهم بكون الوضع فيها من قوم أو فريق والأعلام الشخصيّة إنّما يكون الوضع فيها غالبا من واحد ، وأيضا استعمال الأعلام في مسمّياتها حقيقة من أيّ مستعمل كان والعرفيّة الخاصّة إنّما يكون حقيقة لو كان المستعمل لها من أهل ذلك الاصطلاح ـ فيمكن المناقشة فيه أوّلا : بمنع الحصر ، وكما أنّ ظاهرهم حصر العرفيّة في العامّة والخاصّة فكذا ظاهرهم حصر الحقيقة في اللغويّة والعرفيّة فأيّ داع للقول بثبوت الواسطة بين الأخيرتين دون الاوليين.

وثانيا : بالتزامه وإدراجها في العرفية الخاصّة ، واعتبار كون الوضع فيها من قوم أو فريق غير ثابت ، بل الظاهر خلافه كما هو قضيّة حدّ العرفية ، وورود مثل ذلك في كلامهم مبنيّ على الغالب.

والقول بأنّ الحقيقة العرفيّة الخاصّة إنّما تكون حقيقة إذا كان المستعمل من أهل الاصطلاح محلّ منع ، بل الظاهر أنّه إذا استعمل في كلام أهل ذلك الاصطلاح وكلّ من تابعهم في ملاحظة ذلك الوضع كان حقيقة كما هو الشأن في جميع الحقائق من غير فرق.

__________________

(١) صاحب الوافية. (منه رحمه‌الله).

٤٠٢

نعم ، هناك فرق بين وضع الأعلام الشخصيّة وغيرها من الحقائق العرفيّة ، نظرا الى وقوع الوضع فيها بحسب صناعة مخصوصة أو اصطلاح أقوام مخصوصين وعدم اعتبار ذلك في وضع الأعلام ، ولذا لا يتفاوت الحال فيها باختلاف الصناعات والاصطلاحات بل اللغات أيضا ، لعدم اختصاص الوضع فيها بشيء من ذلك ، ولا ينافي ذلك كونها عرفية خاصّة ، نظرا الى صدور الوضع فيها من خاصّ وتبعيّة غيره فيه. فتأمّل.

نعم ، ملاحظة ظاهر إطلاقاتهم يعطي خروج ذلك عن العرفيّة ، وعدم اندراجها في اللغويّة ظاهر ، فتكون واسطة بين الأمرين ، وكأنّه لعدم تعلّق غرض بها لم يعتنوا بشأنها ولم يجعلوها قسما برأسه ، وحينئذ ينبغي زيادة قيد آخر في حدّ العرفيّة هذه ليخرج ذلك عنها ، وربما يجعل ذلك مندرجا في العرفيّة مغايرا لأقسامها المعروفة ، ولا يخلو عن بعد.

وقد يقال بخروجها عن الحقيقة والمجاز وتجعل واسطة بينهما ، كما قد يعزى الى الرازي والآمدي ، وهو ضعيف جدّا ؛ لعدم انطباقه على شيء من حدود الحقيقة والمجاز الواردة في كلمات علماء الاصول والبيان ، وربما يؤول ما عزي اليهما بما يوافق المشهور.

ثمّ إنّ الحقيقة العرفيّة إمّا عامّة ، أو خاصّة ، والمناط في عموميّتها عدم استناد الوضع فيها الى عرف شخص مخصوص أو فرقة معيّنة ، وعدم كون وضعها في صناعة مخصوصة وحرفة معيّنة ـ مثلا ـ فخصوصيتها إمّا أن يكون لكون وضعها في عرف شخص معيّن أو فرقة معيّنة أو لكونه في صناعة مخصوصة ونحوها وإن لم يكن الوضع فيها مستندا الى خاصّ ، كما لو قلنا باستناد الوضع في الألفاظ الشرعيّة الى عامّة استعمالات أهل الشريعة الشامل لكافّة العرب بعد شيوع الإسلام ، فإنّه لا يجعلها عرفيّة عامّة ، فما يظهر من غير واحد من الأفاضل من اعتبار العموميّة والخصوصيّة بملاحظة من يستند الوضع اليه خاصّة ليس على ما ينبغي.

٤٠٣

ثمّ إنّ الحقيقة الشرعيّة مندرجة في العرفيّة الخاصّة ، إلّا أنّهم للاعتداد بشأنها جعلوها قسما برأسه ، وحينئذ ينبغي زيادة قيد آخر في تعريف العرفيّة ليخرج عنه الشرعيّة ، وحينئذ فبين الأقسام المذكورة تباين كلّي كما هو قضيّة تقسيم الحقيقة اليها على ما هو المعروف ، وقد يطلق الحقيقة العرفيّة على اللفظ المستعمل فيما هو حقيقة فيه في العرف سواء كان بوضع أهل اللغة أو غيرهم ، كما يقال : «إنّ الأصل اتّحاد الحقيقة العرفيّة واللغويّة حتّى يثبت التعدّد» وكأنّه توسّع في الاستعمال أو أنّه اصطلاح آخر ، وكأنّ الأوّل هو الأظهر ، وبين العرفيّة بهذا المعنى واللغويّة عموم من وجه ، كما هو الحال بينهما وبين العرفيّة بالمعنى المتقدّم وهو ظاهر.

ثمّ إنّ نفيه الريب عن وجود الحقيقتين وذكره الخلاف في خصوص الشرعيّة يومئ الى انتفاء الخلاف بالنسبة الى الاوليين وهو كذلك ، إلّا أنّ هناك خلافا ضعيفا في خصوص العرفيّة العامّة.

وربما يعزى الى شذوذ من العامّة وأخباريّة الخاصّة المنع منها ، وهو بيّن الفساد ؛ وكأنّه مبنيّ على الشبهة المعروفة في عدم تحقّق الإجماع ثمّ العلم به بعد ذلك ، فيقال بامتناع اجتماع الكلّ على النقل ثمّ امتناع العلم به ، وهو موهون جدّا.

ومع الغضّ عن ذلك فأقصى ما يلزم منه امتناع حصول النقل بالنسبة الى آحاد أهل اللسان المتشتّتين في البراري والبلدان ، وأمّا لو اعتبر في المقام حصول النقل بالنسبة الى معظم أهل اللسان من غير ملاحظة لحال جميع الآحاد ـ كما هو الظاهر ـ فلا يدلّ على ثبوت الحقيقتين المذكورتين ـ بعد الاتّفاق عليه ـ ما يشاهد من الألفاظ المعلوم وضعها بحسب اللغة لمعانيها المعروفة بالتسامع والتظافر بحيث لا مجال فيها للريب ، وكذا ما يشاهد من الموضوعات العرفية العامّة والخاصّة.

وما قد يناقش في العلم بثبوت الحقيقة اللغويّة من أنّ القدر المعلوم هو وضع تلك الألفاظ لمعانيها المعروفة ، وأمّا كون ذلك عن واضع اللغة فغير معلوم ؛ إذ ربما كانت كلّها منقولات عن معاني اخر قديمة ممّا يقطع بفساده وعلى فرض تسليمه

٤٠٤

فثبوت تلك المعاني المهجورة القديمة كاف في ثبوت المطلوب ، لما عرفت من كون الحقيقة اللغويّة أعمّ من المهجورة والباقية ، والقول بأنّ القدر اللازم ثبوت وضعها لمعانيها بحسب اللغة وهو لا يستلزم الاستعمال.

مدفوع بأنّ عمدة ثمرات الوضع هو الاستعمال ، فسقوط الثمرة المهمّة بالنسبة الى الكلّ ، وحصول النقل في الجميع قبل استعمالها ممّا يقضي العادة بامتناعه ، ولو سلّم حصول نقل كذلك فإنّما هو بالنسبة الى شذوذ من الألفاظ كما لا يخفى.

قوله : (وأمّا الشرعيّة فقد اختلفوا ... الخ)

الكلام في الحقيقة الشرعيّة يقع في مقامات :

أحدها : في تعريفها وبيان مفهومها.

الثاني : في بيان محلّ النزاع فيها.

الثالث : في بيان الأقوال فيها.

الرابع : في بيان ثمرة الخلاف.

الخامس : في بيان ما يحتجّ به على إثباتها أو نفيها.

والمصنّف رحمه‌الله قد أعرض عن الأوّل اكتفاء بشيوعه كما ذكرنا ، أو اكتفى عنه بذكر المنقول الشرعي حيث إنّ معظم الموجود من الحقائق الشرعيّة أو جميعها على القول بها من المنقولات الشرعيّة وإن كان مفهومها أعمّ لشموله للمرتجل وغيره كما نصّوا عليه.

وكيف كان ، فقد عرّفوها بأنّها اللفظ المستعمل في وضع أوّل شرعي.

والمراد بالوضع الأوّل هو الوضع الّذي لا يعتبر في تحقّقه ملاحظة وضع آخر ، والمقصود بذكره إخراج المجاز حيث إنّ الوضع الترخيصي الحاصل فيه ممّا يعتبر فيه وضع الحقيقة.

وقد يورد عليه وضع المنقولات الشرعيّة ، فإنّه قد اعتبر فيه ملاحظة وضع المنقول منه فيخرج عن الحدّ معظم الحقائق الشرعية.

٤٠٥

ويمكن دفعه بأنّه إنّما يعتبر ذلك في تحقّق النقل لا في أصل الوضع ، أو يقال : إنّ الملحوظ فيه ، إنّما هو المعنى المنقول منه لا خصوص الوضع بإزائه ، وهو كما ترى.

وقد يفسّر الوضع الأوّل بما لا يعتبر حال استعمال اللفظ في ذلك الوضع ملاحظة وضع آخر فلا يرد عليه ما ذكر.

وأنت خبير بأنّ إطلاق الوضع إنّما ينصرف الى وضع الحقائق ، فلو سلّم تحقّق الوضع المذكور في المجاز بناء على توقّف صحّة التجوّز عليه فلا حاجة الى التقييد المذكور.

وربما يورد على منعه بدخول الألفاظ الّتي وضعها الشارع ممّا لا ربط له بالشريعة كالأعلام الخاصّة ونحوها ، مع أنّها غير مندرجة في الحقيقة الشرعيّة.

ويدفعه ما هو ظاهر من اعتبار الحيثيّة في الحدّ.

ثمّ إنّ ظاهر الحدّ المذكور كغيره إنّما ينصرف الى ما كان الوضع فيه بتعيين الشارع ، فلا يشمل ما إذا كان الوضع له حاصلا بالتعيّن من جهة الغلبة وكثرة الاستعمال ، وأقصى ما يقال حينئذ إدراج ما يكون التعيّن فيه حاصلا من جهة الغلبة الحاصلة في كلام الشارع بخصوصه ويبقى ما يكون التعيّن فيه حاصلا بكثرة استعمال المتشرّعة في زمانه أو بمجموع الاستعمالين خارجا عن الحدّ ، مع اندراجه في الحقيقة الشرعيّة على ما نصّ عليه جماعة.

إلّا أن يقال بأنّ الشارع لمّا كان هو الأصل في استعماله في المعاني المذكورة وكانت استعمالات المتشرعة فرعا على استعماله اسند الوضع الحاصل من استعمال الجميع اليه.

وفيه : أنّ أقصى ذلك أن يكون مصحّحا لإسناد الوضع اليه على سبيل المجاز فكيف يصحّ إرادته ، من غير قرينة ظاهرة عليه؟! سيما في الحدود والتعريفات.

وكأنّ الحدّ المذكور ونحوه من الحدود المذكورة في كلامهم مبنيّ على اختيار

٤٠٦

كون الوضع فيها تعيينيا ، كما هو ظاهر مذهبهم.

ولو قيل إنّها اللفظ المستعمل في المعاني الشرعيّة الموضوع لها في عهد صاحب الشريعة كان شاملا للوجهين.

هذا ، واعلم أنّ المحكي عن المعتزلة تقسيم الموضوعات الشرعيّة على وجوه أربعة : وذلك بأنّها إمّا أن يعرف أهل اللغة لفظها ومعناها ، أو لا يعرفون شيئا منهما ، أو يعرفون اللفظ دون المعنى ، أو بالعكس.

وخصّوا الثلاثة الأخيرة بالدينيّة فهي أخصّ مطلقا من الشرعيّة (١). وربما يخصّ الشرعيّة بالأوّل ، وهو إطلاق آخر لها في مقابلة الدينيّة.

وأنت خبير بأنّه لا وجود لقسمين من الأقسام الثلاثة الأخيرة ؛ إذ ليس في الألفاظ الشرعيّة لفظ مخترع لا يعرفه أهل اللغة كما اعترف به جماعة ، فلا يوجد من أقسام الدينيّة إلّا الثاني.

ثمّ من الظاهر أن جلّ المعاني الشرعيّة أو كلّها امور مستحدثة من صاحب الشريعة لا يعرفها أهل اللغة ، فلا يكاد يتحقّق مصداق للحقيقة الشرعيّة غير ما فرض حقيقة دينيّة ، فيتّحد مصداقا الحقيقتين في الخارج ، وحينئذ فلا يتّجه جعل النزاع في الحقيقة الدينيّة مغايرا للنزاع في الشرعيّة كما وقع في المختصر وغيره حيث اسند القول بثبوت الدينيّة الى المعتزلة بعد اختياره القول بثبوت الشرعيّة.

وقد يوجّه ذلك بأنّ كثيرا من تلك المعاني امور معروفة قبل هذه الشريعة ثابتة في الشرائع السابقة ، وهي معلومة عند العرب ، وربما يعبّرون عن كثير منها بالألفاظ الشرعيّة أيضا ، إلّا أنّه حصل هناك اختلاف في مصاديق تلك المفاهيم بحسب اختلاف الشرائع كاختلاف مصاديق كثير منها في هذه الشريعة بحسب اختلاف الأحوال ، والمفهوم العامّ متّحد في الكلّ ، فما لا يكون معروفا أصلا يكون مندرجا في الدينيّة.

__________________

(١) في المطبوع : بالمعنى الأوّل.

٤٠٧

وفيه : تأمّل ؛ إذ فيه ـ بعد الغضّ عن صحّة الوجه المذكور ـ أنّه لا ينطبق عليه ظاهر كلماتهم حيث نصّوا على حدوث المعاني الشرعيّة ، ومع ذلك فمع البناء على كون النزاع في المسألة في الإيجاب والسلب الكلّيين كما سيجيء بيانه لا يتحقّق وجه لما ذكر أيضا ، لاندراج الدينيّة إذن في الشرعيّة فيقول بها من يقول بها كلّيا وينفيها من ينفيها كذلك، إلّا أن يخصّ الشرعيّة بما يقابل الدينيّة ، وهو خلاف ظاهر كلماتهم كما ينادي به ملاحظة حدودهم.

ثمّ إنّه قد حكي عن المعتزلة أيضا أنّ ما كان من أسماء الذوات كالمؤمن والكافر والإيمان والكفر ونحوها حقيقة دينيّة ، بخلاف ما كان من أسماء الأفعال كالصلاة والزكاة والمصلّي والمزكّي ونحوها.

والظاهر أنّهم أرادوا بأسماء الذوات ما كان متعلّقا باصول الدين وما يتبعها ممّا لا يتعلّق بالأعمال ، وبأسماء الأفعال ما كان متعلّقا بفروع الدين ممّا يتعلّق بأفعال الجوارح ونحوها.

وفيه حينئذ مع ما فيه من ركاكة التعبير أنّ دعوى الفرق بين ما كان متعلّقا باصول الدين وما يتعلّق بالفروع بكون الأوّل ممّا لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه ، بخلاف ما تعلّق بالثاني من وضوح الفساد بمكان لا يحتاج الى البيان.

والّذي يتحصّل من الكلام المذكور أنّ الحقيقة الدينيّة عندهم ما يتعلّق باصول الدين ويكون الشرعيّة أعمّ من ذلك ، أو خصوص ما يتعلّق بأفعال الجوارح بناء على الاحتمال المتقدّم ، فتعبيرهم عنها بأنّها ما لا يعرف أهل اللغة لفظها أو معناها أو كليهما فاسد كما عرفت.

وحيث إنّ الحقيقة الشرعيّة منسوبة الى وضع الشارع ـ كما هو قضيّة حدّها المذكور وغيرها ـ أو ما هو أعمّ منه حسب ما مرّ فبالحري أن نشير الى معناه.

فنقول : قد نصّ بعضهم بأنّ الشارع هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل عزى ذلك بعض الأفاضل الى ظاهر كلام القوم ، وهو قضيّة ما ذكروه في المقام وغيره فإن ثبت كونه حقيقة عرفية فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما ادّعاه بعضهم فلا كلام ، وإلّا فإن اخذ اللفظ على مقتضى وضعه

٤٠٨

اللغوي فصدقه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يخلو عن إشكال ؛ إذ ظاهر معناه بحسب اللغة : هو جاعل الشرع وواضعه ، كما هو المتبادر منه ، فيختصّ به تعالى ، وقد قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)(١) وقال : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً)(٢) الآية ، وقد ورد «الشارع» في أسمائه تعالى.

نعم ، إن فسّر الشارع بمبيّن الشريعة صدق عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد يستند في مجيئه بالمعنى المذكور الى نصّ جماعة من أهل اللغة بكون «شرع» بمعنى سنّ ، وقد نصّ في القاموس بأنّ «سنّ الأمر» بمعنى بيّنه ، لكنّه حينئذ يشمل الأئمّة عليهم‌السلام بل سائر العلماء المبيّنين للشريعة.

والظاهر الاتّفاق على عدم صدقه عليهم ، مضافا الى أنّه خلاف المتبادر منه في العرف ، ومجيء سنّ بمعنى بيّن على فرض ثبوته لا يستلزم مجيء شرع لذلك.

قلت : ويمكن تصحيح صدقه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله على كلّ من الوجهين المذكورين :

أمّا على الأوّل فبانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الّذي جعل الشرع في الظاهر ووضعه بين الناس وإن كان من تعليم الهي ، وهذا القدر كاف في تصحيح صدقه عليه.

وأمّا على الثاني فيقال بأنّه ليس المراد مطلق المبيّن للشرع ؛ لبعده عن الإطلاقات جدّا ، فعلى فرض مجيئه بالمعنى المذكور ينبغي أن يراد به المظهر له من أوّل الأمر والمبيّن له بعد عدم ظهوره رأسا ، وكأنّ مراده من تفسير «سنّ الأمر» بمعنى بيّنه هو ذلك ، وهو حينئذ لا يصدق على الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء.

وكيف كان ، فالظاهر صدقه على الله تعالى أيضا على كل من الوجهين المذكورين ، وحينئذ فلو قلنا بأنّ الوضع منه تعالى أو من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو منهما يصحّ النسبة المذكورة على كلّ حال.

وأمّا لو قلنا باختصاص الشارع بمعناه اللغوي به تعالى وقلنا بكونه حقيقة عرفيّة في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصحّ النسبة الى أحد الوجهين.

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

(٢) الشورى : ١٣.

٤٠٩

إلّا أن يلتزم بإرادة القدر الجامع من الشارع مجازا ، أو يقال باستعماله في المعنيين بناء على جواز استعماله كذلك ، وهو أيضا على فرض جوازه بعيد جدّا ، إلّا أن يقال : إنّ الحقيقة الشرعيّة إنّما نسبت الى الشرع دون الشارع واعتبر حينئذ في مسمّاه كون وضعه من الله تعالى أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء خصّصنا الشارع بالله تعالى أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عمّمناه لهما.

ثمّ إنّه قد يصحّح القول بصدق الشارع على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبناء على تفويض الأحكام اليه في الجملة ، للأخبار الكثيرة الدالّة عليه المرويّة من طرق أهل العصمة عليهم‌السلام (١).

إلّا أنّه يشكل بأنّ عدّة من تلك الأخبار (٢) قد دلّت على التفويض الى الأئمّةعليهم‌السلام أيضا فيلزم صدق الشارع عليهم أيضا.

والظاهر أنّه خلاف الاتفاق ، وأيضا إن قلنا بالتفويض فليس كلّ الأحكام منهصلى‌الله‌عليه‌وآله بل جلّها من الله تعالى ، وقد ورد جملة منها في الكتاب (٣) العزيز ، فإن صحّ البناء على التفويض فليس الأحكام المنسوبة اليه إلّا آحاد مخصوصة ، وصدق الشارع عليه بمجرّد ذلك محلّ إشكال إلّا أن يقال بكون كلّ حكم من الأحكام الشرعيّة شرعا ؛ فيكون صدقه على البعض كصدقه على الجملة ، كما هو الظاهر ؛ ولذا يعدّ اختراع بعض الأحكام تشريعا.

مضافا الى أنّ القول بالتفويض مشكل جدّا فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينتظر كثيرا ورود الوحي في الأحكام ، وقد دلّ نصّ الآية الشريفة على انتظاره لحكمه تعالى في مسألة القبلة (٤) ، ولو كان الأمر مفوّضا اليه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما احتاج الى ذلك.

وأيضا دلّت الآية والأخبار على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان يأتي بالأحكام من تلقاء نفسه وإنّما كان ما يأتي به امورا مأخوذة من الوحي.

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ح ٣ و ٤ و ٥ و ٦.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٢٦٥ ـ ٢٦٨ ح ٢ و ٨ و ٩.

(٣) آل عمران : ١٥٤ ، الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣.

(٤) البقرة : ١٤٤.

٤١٠

وأيضا قد دلّت الأخبار الكثيرة على أنّ في القرآن تبيان كلّ شيء (١) وأنّه قد أكمل الدين بحيث لم يبق شيء إلّا وبيّن الله تعالى حكمه لرسوله ، وبيّنه الرسول لأمير المؤمنينعليه‌السلام، الى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، وكلّ ذلك مناف للقول بالتفويض.

وقد يجمع بين ذلك وبين الأخبار الدالّة على التفويض على أن لا يراد من التفويض المذكور هو التفويض في تشريع الأحكام ، ولتفصيل الكلام فيه مقام آخر.

قوله : (فنقول : لا نزاع في أنّ الألفاظ المتداولة ... الخ)

هذا هو المقام الثاني من المقامات المذكورة ، وقد يشكل فيما ذكره في بيان محلّ النزاع أنّ ظاهر القائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة هو القول بثبوته مطلقا ، كما هو ظاهر كلام المصنف رحمه‌الله وغيره ممّن حرّر النزاع في المسألة وعلى ما ذكره من كون النزاع في الألفاظ المتداولة في ألسنة المتشرّعة الكائنة حقيقة عندهم في المعاني الشرعيّة يلزم أن يكون القائل بالثبوت قائلا بثبوت الحقيقة الشرعيّة في جميع تلك الألفاظ.

وهو بيّن الفساد ؛ إذ في الألفاظ المذكورة ما لا يعلم استعمال الشارع لها في المعاني الجديدة ومع ذلك فقد يعلم كون بعضها من المصطلحات الجديدة وقد يشكّ فيه ، وعلى فرض استعمال الشارع فيها على سبيل الندرة فقد يشكّ في بلوغها الى حدّ الحقيقة عند قدماء الأصحاب من أرباب الكتب الفقهيّة فضلا عن كونها حقيقة في عهد الشارع. والقول بخلوّ جميع الألفاظ المتداولة عن جميع ذلك واضح الفساد.

والّذي يقتضيه النظر في المقام أنّ هناك امور إذا حصلت كان عليها مدار البحث في المقام ، والقائل بالثبوت إنّما يثبتها مطلقا بالنسبة الى تلك الألفاظ.

أحدها : أن تكون الألفاظ متداولة في ألسنة المتشرّعة من قديم الأيّام ، أعني

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٩٢ باب ٨ ص ٧٨ ـ ١٠١ لاحظ أخبار الباب.

٤١١

في مبدأ وقوع النزاع في الحقيقة الشرعيّة ، إذ من البيّن انتفاء التفاوت في موضوع البحث من ذلك الزمان الى الآن.

ثانيها : أن تكون مستعملة في المعاني الجديدة الشرعيّة بالغة الى حدّ الحقيقة عند المتشرّعة في ذلك الزمان.

ثالثها : أن تكون تلك الألفاظ هي الّتي يعبّر بها الشارع عن تلك المعاني غالبا ويستعملها فيها ويريد بها إفهامها.

وبالجملة : إذا أراد التعبير عن تلك المعاني عبّر عنها بتلك الألفاظ وإن عبّر بغيرها أيضا على سبيل الندرة ، فإذا تحقّقت هذه المذكورات كان موردا للنزاع ، فالمثبت لها يثبتها في جميع ما كان بالصفة المذكورة وهو معيار الثبوت عنده والمانع ينفيها كذلك ، وإذا انتفى أحد الامور المذكورة فليس ذلك من محلّ البحث في شيء.

نعم ، قد يحصل الشكّ في اندراج بعض الألفاظ في العنوان المذكور وعدمه ؛ ولأجل ذلك يقع الكلام في ثبوت الحقيقة الشرعيّة في بعض الألفاظ من المثبتين لها أيضا ، كما هو الحال في عدّة من الألفاظ على ما يعرف من كتب الاستدلال ، ويمكن تطبيق ما ذكره المصنف على ما بيّناه ، كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المعروف بين الاصوليين هو القول بالإثبات والنفي المطلقين ولا يعرف بينهم في ذلك قول ثالث ، ولذا اقتصر المصنّف رحمه‌الله على ذكرهما وكذا غيره في سائر الكتب الاصوليّة من الخاصّة والعامّة ، والمعروف بين الفريقين هو القول بالإثبات ؛ إذ لم ينسب الخلاف فيه إلّا الى الباقلاني وشرذمة اخرى من العامّة ولا يعرف من الأصحاب مخالف في ذلك ولا نسب الى أحد منهم ذلك ، بل حكى جماعة من متقدّميهم الإجماع على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في غير واحد من الألفاظ. منهم السيّد والشيخ والحلّي ، وفي ذلك بضميمة ما ذكرناه شهادة على إطباقهم على الثبوت.

وكيف كان ، فقد ظهر بين المتأخّرين من أصحابنا القول بالنفي ، وممّن ذهب

٤١٢

اليه المصنّف ومال اليه جماعة من متأخّري متأخّريهم.

ثمّ إنّه قد أحدث جماعة منهم القول بالتفصيل حيث لم يروا وجها لإنكارها بالمرّة ولم يتيسّر لهم إقامة الدليل على الثبوت المطلق ، ولهم في ذلك تفاصيل عديدة :

منها : التفصيل بين العبادات والمعاملات ، فقيل بثبوتها في الاولى دون الثانية.

ومنها : التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران كالصلاة والزكاة والصوم والوضوء والغسل ونحوها ، وما ليس بتلك المثابة من الألفاظ فالتزم بثبوتها في الاولى دون الثانية.

ومنها : التفصيل بين عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصر الصادقين عليهما‌السلام وما بعده ، فقيل بنفيها في الأوّل الى زمان الصادقين عليهما‌السلام وثبوتها في عصرهما وما بعده.

وهذا التفصيل في الحقيقة قول بالنفي المطلق ؛ لما عرفت من عدم صدق الشارع على الأئمّة عليهم‌السلام فهو في الحقيقة تفصيل في الحقيقة المتشرّعية وبيان لمبدأ ثبوتها.

ومنها : التفصيل بين الألفاظ والأزمان ، فقيل بثبوتها في الألفاظ الكثيرة الدوران في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيما عداها في عصر الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما ، وهو في الحقيقة راجع الى التفصيل الثاني في المسألة حسب ما عرفت.

ومنها : التفصيل أيضا بين الألفاظ والأزمان ، فقال : إن الألفاظ المتداولة على ألسنة المتشرّعة مختلفة في القطع بكلّ من استعمالها ونقلها الى المعاني الجديدة بحسب اختلاف الألفاظ والأزمنة اختلافا بيّنا ، فإنّ منها ما يقطع بحصول الأمرين فيه في زمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها : ما يقطع باستعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه في المعنى الشرعي ولا يعلم صيرورته حقيقة إلّا في زمان انتشار الشرع وظهور الفقهاء والمتكلّمين.

ومنها : ما لا يقطع فيه باستعمال الشارع فضلا عن نقله.

ومنها : ما يقطع فيه بتجدّد النقل والاستعمال في أزمنة الفقهاء.

٤١٣

وأنت خبير بعد ملاحظة ما ذكرناه في محلّ النزاع أنّ هذا التفصيل عين التفصيل المتقدّم أو قريب منه ، وهو كسابقه راجع الى التفصيل الثاني.

هذا محصّل الكلام في الأقوال وهو المقام الثالث من المقامات المذكورة.

قوله : (وإنّما استعملها الشارع فيها بطريق المجاز)

هذا الكلام يعطي اتّفاق القائلين بثبوت الحقيقة الشرعيّة ومنكريها على ثبوت استعمال الشارع لها في المعاني الجديدة.

وفيه : أنّ أحد النقلين عن الباقلاني هو إنكاره للاستعمال في المعاني الشرعيّة رأسا ، وإنّما قال باستعمالها في المعاني اللغويّة وجعل الزيادات شروطا خارجة عن المستعمل فيه ، وكأنّه لعدم ثبوت هذه النسبة ، أو لوهنه جدّا ووضوح فساده لم يلتفت اليه.

قوله : (ويظهر ثمرة الخلاف ... الخ)

هذا هو المقام الرابع من المقامات المذكورة ، وقد يشكل الحال فيما ذكره بأنّه إن قيل بكون الوضع هناك تعيّنيا حاصلا من الغلبة والاشتهار في زمان الشارع ـ كما هو المتعيّن عند جماعة من المتأخّرين على فرض ثبوت الحقيقة الشرعيّة ـ فلا يتمّ ما ذكره من الثمرة ؛ لعدم انضباط تاريخ الغلبة ولا تاريخ صدور الرواية ، فينبغي التوقّف في الحمل.

والقول بأنّ قضيّة الأصل تأخّرهما فيتقارنان ، وهو كاف في المقصود مدفوع ؛ بأنّ الغلبة ليست ممّا تحصل في آن واحد وإنّما هو من الامور التدريجيّة ، فلا وجه للحكم بمقارنته لحال صدور الرواية.

مضافا الى أنّ العبرة في المقام بالظنّ والأصل المفروض لا يفيد ظنّا في المقام ليمكن الرجوع اليه في معرفة المراد من اللفظ ، وليس الأمر في فهم معاني الألفاظ مبنيّا على التعبّد ، مع ما في الأصل المذكور من المناقشة المذكورة في محلّه ، على أنّه غير جار في اللفظ الوارد في الروايات المتعدّدة ، لمقارنته إذن لواحد منها فيشتبه المقارن بغيره.

٤١٤

وقد يجاب عن ذلك بأنّ الغلبة الحاصلة ليست في أيّام وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الظاهر حصولها على القول بها قبل ذلك ، فالأصل حينئذ تأخّر ورود الرواية.

وفيه حينئذ ما عرفت من التأمّل في حجّية الأصل المذكور ، مع انتفاء المظنّة بمؤدّاه كما في المقام.

مضافا الى أنّ هناك أخبارا صدرت بعضها قبل حصول الغلبة قطعا وبعضها بعده فيرجع الأمر هنا الى المشتبه ولا يقتضي الأصل حينئذ أن يكون هذه الرواية هي المتأخّرة ، إلّا أن يقال بكون ذلك من المشتبه بغير المحصور فيجري عليه حكم غير المحصور في المقام ، لكن في كلا الدعويين تأمّل كيف! وليس إلحاقه بالثاني أولى من إلحاقه بالأوّل.

نعم ، لو ثبت كون الغلبة حاصلة في أوائل الإسلام أمكن الحكم بتأخّر الرواية ، نظرا الى أنّ الغالب تأخّر الأخبار عن ذلك ، نظرا الى انتشار الإسلام حينئذ وكثرة المسلمين ووفور الحاجة الى الأحكام.

وكأنّ ما ذكره من الثمرة مبنيّ على ما هو الظاهر من كلام المثبتين من بناء الأمر على كون الوضع تعيينيّا كما هو الظاهر.

وقد يناقش حينئذ أيضا بأنّه ليس تأريخ الوضع أيضا معلوما.

إلّا أنّه مدفوع بأنّ الظاهر حصوله حينئذ من أوّل الأمر ؛ إذ الداعي الى ذلك حاصل من الأوّل ، وهو قضيّة ما يقام عليه من الأدلّة كما سيأتي الإشارة اليه ، واتّفاق القائلين بالثبوت على الحمل على المعاني الشرعيّة أقوى شاهد على بنائهم عليه.

ثمّ إنّه قد يناقش في المقام بأنّ الحمل على الحقيقة الشرعيّة حينئذ مطلقا مبنيّ على تقديم عرف المتكلّم في المخاطبات ، وعلى القول بتقديم عرف المخاطب أو غيره أو التوقّف يشكل الحكم المذكور مع كون المخاطب من أهل العرف أو اللغة.

ويدفعه أنّ الحقيقة الشرعيّة ليست كغيرها من العرفيّات ، بل لا بدّ من حمل

٤١٥

كلام الشارع عليها مع الإطلاق على كلّ حال ؛ إذ هو ثمرة وضعها لذلك ولذا لم يتأمّل أحد في ذلك مع حصول التأمّل في تقديم أحد العرفين.

على أنّ المخاطب إذا كان من أهل الشرع فهو تابع لعرف الشارع إذا كان في مقام بيان الأحكام وإن لم يتبعه في سائر المخاطبات.

قوله : (وعلى اللغويّة بناء على الثاني)

أراد بها غير الشرعيّة فيعمّ العرفيّة إن ثبت هناك عرف.

وقد يتأمّل في الحمل المذكور أيضا بأنّه قد يقال بحصول الاشتهار في المجاز المفروض ؛ إذ لا ينافي القول به القول بنفي الحقيقة الشرعيّة ، فحينئذ يبتنى المسألة على تقديم الحقيقة المرجوحة على المجاز الراجح ، ولهم فيه أقوال فكيف يحكم بحملها على المعاني اللغويّة على كلّ حال؟ إلّا أن يقال بأنّ المنكرين للحقيقة الشرعيّة ينكرون ذلك أيضا في جميع الألفاظ ، وهو كما ترى.

قوله : (وأمّا إذا استعملت في كلام أهل الشرع ... الخ)

أراد به بعد زمان الشارع ، إذ من الظاهر أنّ الحال في وروده في كلام أهل الشرع في زمانه كحال وروده في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد يناقش في ذلك أيضا بأنّ تلك الألفاظ مع البناء على نفي الحقيقة الشرعيّة لم تصر حقيقة في المعاني الجديدة بمجرّد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما صارت حقيقة بالتدريج بعد مدّة ولم يتعيّن فيه مبدأ النقل ، وحينئذ فإطلاق القول بحمله على المعاني الشرعيّة في كلام أهل الشرع ونفي الخلاف عنه ليس في محلّه.

وكأنّه أراد به كلام الفقهاء المعروفين من أرباب الكتب الفرعيّة ومن قاربهم في الزمان ؛ إذ لا كلام في ثبوت الحقيقة المتشرعة في تلك الأزمنة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النزاع في المسألة ليس بتلك المثابة في الفائدة ؛ إذ الثمرة المذكورة كما عرفت إنّما هو في صورة انتفاء القرائن ولا يتحقّق ذلك في الألفاظ الموصوفة في الكتاب والسنّة إلّا قليلا ، إذ الغالب أنّ في الألفاظ الشرعيّة المستعملة من القرائن المتّصلة أو المنفصلة ما يفيد إرادة المعنى الشرعي ، وخلوّ

٤١٦

سابق الكلام ولا حقه عمّا يفيد ذلك وانتفاء سائر الشواهد عليه كانّه نادر فيهما ، وأيضا معظم أحاديثنا المرويّة في الأحكام الشرعيّة إنّما هي عن الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما وليس عندنا من الروايات النبويّة في الأحكام من غير جهتهم عليهم‌السلام إلّا أقل قليل ولا يكاد يوجد فيما اختصّ غيرهم عليهم‌السلام بنقله حديث معتبر يمكن التعويل عليه في الأحكام إلّا قليل من الروايات المعتضدة بالشهرة ، ومع ذلك فوجود تلك الألفاظ فيها خاليا عن القرينة في كمال الندرة.

وكذا الحال فيما يتعلّق بالأحكام من القرآن ؛ لورود تفسير معظم تلك الآيات في الروايات المأثورة عن الأئمّة الهداة عليهم‌السلام ، أو في كلام من يعتمد عليه من أئمّة التفسير ، وورود ما هو من الألفاظ المذكورة فيها من دون ظهور ما هو المراد بوجه إلّا من جهة هذه المسألة قليل أيضا ، وحينئذ فملاحظة ما عرفت من عدم صدق الشارع على الأئمّة عليهم‌السلام لا تكون الثمرة المتفرّعة على هذا المرام بتلك المثابة من الاهتمام.

وإن اريد ترتّب تلك الفائدة عليها بالنسبة الى كلام الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما من جهته ، لوضوح أنّه مع ثبوت الحقيقة في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يثبت بالنسبة الى أعصارهم ، وأمّا مع عدمه فربما يشكّ بالنسبة الى كلامهم أيضا ، ففائدة الخلاف المذكور وإن لم تكن مهمّة بالنسبة الى ما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكنّها مهمّة بالنسبة الى ما ورد عن الأئمّة.

ففيه : أنّ تلك الفائدة وإن ترتّبت على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة إلّا أنّها تترتّب في الحقيقة على الكلام في مبدأ الحقيقة المتشرعة على القول بنفي الشرعيّة أيضا إذا تعيّن حصولها في عصرهما كما هو الظاهر وكأنّه ممّا لا ينبغي التأمّل فيه بل الظاهر كما قيل وقوع النزاع في الحقيقة الشرعيّة في تلك الأعصار مع إطباقهم إذن على ثبوت الحقيقة المتشرعة.

واحتمال ترتّب الفائدة عليه بالنسبة الى الأحاديث النبويّة المرويّة من جهتهمعليهم‌السلام إن كان هناك لفظ خال عن القرينة.

٤١٧

موهون بأنّ الظاهر من نقلهم لها مطلقا في مقام بيان الأحكام مع فرض اختلاف العرف إرادة المعاني الشرعيّة ؛ إذ لو لا ذلك لأشاروا اليه ولم ينقلوها على إطلاقها مع كون المنساق عنها في زمانهم خلاف ما أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

على أنّ كون المنقول لفظ «النبيّ» صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغالب غير معلوم ، بل لا يبعد أن يكون إسنادها الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غالبا من جهة التقيّة ، كما في روايات السكوني وأضرابه ، نظرا الى كون جميع ما عندهم مأخوذا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّما يذكرونه من الأحكام فهو عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله تعالى.

وبالجملة : ليس المقصود عدم ترتّب فائدة على المسألة ولا غناء الفقيه عنها بالمرّة ـ إذ لا شكّ في لزوم معرفتها واستفراغ الوسع في تحصيلها ، لاحتمال اختلاف الحكم من جهتها وتوقّف بعض المسائل عليها ـ بل المدّعى أنّها ليست بتلك المكانة من الحاجة بحيث يتوقّف الأمر عليها غالبا ويكون استنباط الأحكام من جهتها كثيرا ، بل لا يتوقّف الحكم عليها إلّا في أقلّ قليل من المسائل ، كما لا يخفى بعد ممارسة كتب الاستدلال.

قوله : (إنّ الصلاة اسم للركعات ... الخ)

ظاهر قوله : «اسم» يعطي كونها حقيقة في ذلك ، وحينئذ فذكره المقدّمة الثانية المشتملة على دعوى القطع بكونها حقيقة فيها من جهة تبادرها منها ليس بمتّجه ، بل ينبغي جعل ذلك دليلا على المقدّمة الاولى.

والقول بكون تلك المقدّمة مسوقة لأجل الاحتجاج على الاولى وإن عطفها عليها بعيد جدّا وان كان ذلك ظاهر كلامه الآتي في الإيراد سيّما مع دعوى القطع بالمقدّمة الاولى، ودعوى القطع بالثانية مع زيادة لفظة «أيضا» إذ لو كان القطع بالاولى حاصلا عن الثانية لم يصحّ التعبير بذلك.

فالأظهر أن يحمل قوله : «اسم» على مجرّد استعمالها في المعاني المذكورة وكونها مفيدا لها في الجملة ؛ دفعا للاحتمال المعزى الى الباقلاني من إنكاره استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشرعيّة الجديدة ، وحينئذ فيكون المقدّمة الثانية في محلّها.

٤١٨

نعم ، قد يحمل المقدّمة الثانية على دعوى القطع بسبق تلك المعاني في إطلاق الشارع، وحينئذ يمكن حمل قوله : «اسم» على ظاهره ويراد به ذلك بالنسبة الى استعمالات المتشرّعة ، إلّا أنّه حينئذ تكون المقدّمة الثالثة ـ أعني خصوص دعواه عدم حصول ذلك إلّا بتصرّف الشارع ونقله ـ لغوا لثبوت المدّعى حينئذ بالمقدّمتين المذكورتين.

إلّا أن يقال بأنّ تلك المقدّمة ليست لإثبات مجرّد كونها حقيقة بل لخصوصيّة كونها على سبيل التعيين حيث إنّ الحقيقة الشرعيّة هو ذلك عندهم ، كما يقضي به ظاهر حدّها المعروف ، ويومئ اليه ظاهر الثمرة المتفرّعة على القولين.

أو يراد ب «تصرّف الشارع ونقله» مجرّد استعمال الشارع ونقله من المعاني اللغويّة اليها ولو على سبيل المجاز ويكون مقصوده من بيان ذلك وإن كان واضحا إظهار كون الشارع هو الأصل في استعمالها في المعاني الجديدة ، ليتّجه نسبتها إذن الى الشارع وإن كان وصولها الى حدّ الحقيقة بضميمة استعمالات المتشرّعة في زمانه ، وكلا الوجهين لا يخلو عن تعسّف ، فتأمّل.

قوله : (ثمّ إنّ هذا لم يحصل ... الخ)

لا يخفى أنّه لو جعل المقدّمتين المتقدّمتين لإثبات الحقيقة في لسان المتشرّعة كما هو أحد الوجوه المذكورة ثمّ اريد بذلك إثبات كونه بوضع الشارع ليثبت كونها حقيقة شرعيّة كان ما ذكر مصادرة على المطلوب ؛ إذ ليس ذلك إلّا عين المدّعى ، فإنّ الكلام كما مرّ في أنّ وضع الألفاظ المذكورة بإزاء المعاني المعروفة هل هو من جعل الشارع وتعيينه ، أو من الاشتهار في ألسنة المتشرّعة؟ وليس في المقدّمة المذكورة سوى دعوى كونه من جعل الشارع وتعيينه ، وهو عين ذلك المدّعى.

قوله : (إنّه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها ... الخ)

لا يخفى أنّ هذا الإيراد لا يرتبط بشيء من المقدّمات المذكورة ؛ إذ ليس في كلام المستدلّ استناد الى دلالة مجرّد الاستعمال على الحقيقة حتّى يورد عليه بمنع ذلك.

٤١٩

وقد يوجّه ذلك بجعله منعا للمقدّمة الأخيرة حيث ادّعى أنّ كونها حقيقة إنّما كان بتصرّف الشارع ونقله فذكر أنّ القدر المسلّم من تصرّف الشارع فيها هو استعماله إيّاها في المعاني المذكورة ولا يلزم من ذلك كونها حقائق شرعيّة ، وأمّا نقلها الى المعاني الشرعيّة على سبيل التعيين أو التعيّن فغير معلوم ، فاقتصر في بيان ذلك على ما ذكر لوضوح الحال ، وهو كما ترى.

قوله : (إنّه إن اريد بمجازيّتها أنّ الشارع ... الخ)

فيه : ـ مع عدم كون شيء من الوجهين المذكورين تفسيرا للمجازيّة ، بل قد اخذ مع مجازيّتها أمر آخر مردّد بينهما ـ أنّ الوجوه غير منحصرة في ذلك ؛ لإمكان أن يكون الشارع قد استعملها في غير معانيها ولم تشهر في زمانه الى أن تبلغ حدّ الحقيقة ، هذا إذا أراد بالاشتهار الاشتهار والغلبة في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن أراد الأعمّ فهو واضح الفساد ، كما سيشير اليه المصنّف.

قوله : (فهو خلاف الظاهر ... الخ)

فيه : أنّ تلك الخصوصيّة ممّا لا ربط له بالمقام ؛ إذ لو فرض بلوغها الى حدّ الحقيقة في زمان الشارع كانت حقيقة شرعيّة أيضا وإن كانت الخصوصيّة المفروضة خلاف الظاهر ، وإن لم تبلغ اليها في زمانه لم تكن وإن كانت المعاني من مستحدثات الشارع ، فالمناط بلوغ تلك الألفاظ حدّ الحقيقة في تلك المعاني في عصره ، سواء كان أهل اللغة يعرفون تلك المعاني أو لا.

قوله : (فلأنّ دعوى كونها أسماء ... الخ)

فيه : أنّه لم يستدلّ على كونها حقائق شرعيّة بمجرّد تينك المقدّمتين حتّى يتوجّه المنع المذكور ، بل ضمّ اليهما مقدّمة اخرى فيكون الثابت منهما الوضع في زمان المتشرّعة غير هادم للاستدلال ، فالمناسب منع المقدّمة الثالثة.

نعم ، ما ذكره يتّجه على بعض الوجوه السالفة في بيان الاستدلال ، وحمل كلام المستدلّ عليه بعيد جدّا ، كما أشرنا اليه.

قوله : (فلما أوردناه على أصل الحجّة ... الخ)

٤٢٠