هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

على هذا الوجه غير ظاهرة من عبارة المصنّف ، ولا من الأخبار المأثورة حسب ما استند اليها ، فإنّ أقصى ما يستظهر في المقام حصول الشهرة في الجملة بملاحظة مجموع الأخبار المأثورة.

فظهر بما قرّرناه أنّ ما ادّعاه من الشهرة على فرض صحّته لا يتفرّع عليه ما ذكره من الإشكال ، إلّا على بعض الوجوه الضعيفة.

هذا ، وقد اورد عليه أيضا بأنّ المجاز الراجح إنّما يكون راجحا مع قطع النظر عن الوضع وأمّا معه فمساواته للحقيقة ممنوعة ، إلّا إذا غلب استعماله في المعنى الآخر بحيث اندرج في الحقيقة العرفية ، وأنّى له بإثباته مع أنّه لا يدّعيه؟.

وفيه : أنّ كلام المصنّف رحمه‌الله هنا مبني على التوقّف في الحمل عند دوران الأمر بين الحمل على الحقية المرجوحة والمجاز الراجح وهو مسألة اخرى مقرّرة في محلّه ، فمنعه في المقام غير هادم لما هو بصدده من الكلام.

على أنّ ترجيح الحقيقة المرجوحة مطلقا ممّا لا وجه له حسب ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه.

هذا ، ولنعقّب الكلام في المرام برسم مسائل يناسب إيرادها في المقام :

أحدها

أنّهم اختلفوا في دلالة الجمل الخبرية المستعملة في الطلب نحو «يتوضّأ» و «يغتسل» و «يعيد» في مقام يراد بها ليتوضّأ وليغتسل وليعد على الوجوب لو قلنا بدلالة الأمر عليه.

فعن جماعة من الأصحاب المنع من دلالتها على ذلك ، نظرا الى كونها موضوعة للإخبار ، وقد تعذّر حملها عليه فيتعيّن استعمالها في الإنشاء مجازا ، وكما يصحّ استعمالها في إنشاء الوجوب كذا يصحّ استعمالها في إنشاء الندب أو مطلق الطلب ، فإذا تعذّرت الحقيقة وتعدّدت المجازات لزم الوقف بينهما وقضية ذلك ثبوت المعنى المشترك ، وهو مطلق الرجحان والثابت به هو الاستحباب بعد

٦٦١

ضمّ الأصل اليه ، فلا يصحّ الاستناد اليها في إثبات الوجوب إلّا بعد قيام قرينة دالّة عليه ، هذا فيما يجري فيه أصل البراءة ، وأمّا إذا كان ذلك في مقام جريان أصل الاحتياط فلا بدّ من البناء فيه على الوجوب.

والأظهر وفاقا لآخرين دلالتها على الوجوب ، لاستعمالها إذن في الطلب ، والطلب كما عرفت ظاهر مع الإطلاق في الوجوب منصرف اليه الى أن يتبيّن خلافه حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، فالحال فيها كالحال في صيغة الأمر من غير تفاوت أصلا ، ولذا يتبادر منها الوجوب عند قيام القرينة على استعمالها في الطلب ، وعليه يجري الأفهام العرفية كما هو الحال في الصيغة حسب ما مرّ.

ويعضده ملاحظة فهم الأصحاب واستنادهم الى تلك الجمل في إثبات الوجوب في مقامات شتّى.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكر في الاحتجاج المتقدّم من تعادل الوجهين ولزوم الرجوع الى الأصل بعد التوقّف بين الأمرين.

وقد يحتجّ له أيضا بأنّ الوجوب أقرب الى الثبوت الّذي هو مدلول الأخبار وإذا تعذّرت الحقيقة قدّم أقرب المجازات ، بل ربما يقال بكون دلالتها على الاهتمام بالطلب آكد من دلالة الأمر عليه وفي كلام أهل البيان : أنّ البلغاء يقيمونها مقام الإنشاء ليحملوا المخاطب بآكد وجه على أداء مطلوبهم ، كما إذا قلت لصاحبك الّذي لا يريد تكذيبك : «تأتيني غدا» لتحمله على الالتزام بالإتيان لئلّا يوهم تركه له تكذيبك فيما ذكرت حيث أتيت بصورة الإخبار.

وأنت خبير بأنّ بلوغ الأقربية في المقام الى حدّ يتعيّن به المجاز المذكور غير ظاهر حتّى يجعل مجرّد تلك الأقربية باعثة على الانصراف الى الوجوب ، والنكتة المذكورة إنّما يناسب بعض المقامات العرفية وجريانها في مقام الخطابات الشرعية لا يخلو عن تأمّل وإن كان قد يتوهم كونها أنسب بالمقام ، إلّا أنّ التأمّل في تلك المقامات يعطي خلاف ذلك كما يشهد به الذوق السليم.

٦٦٢

فالأولى جعل الوجه المذكور مؤيّدا في المقام ، ويكون الاتّكال فيه على ما قرّرناه.

ويجري الكلام المذكور بعينه في النفي الوارد بمعنى النهي ، فإنّه أيضا كالنهي ينصرف الى التحريم على الوجه الّذي بيّناه.

ثانيها

أنّهم بعد القول بدلالة الأمر على الوجوب اختلفوا في مفاد الأمر الوارد عقيب الحظر على أقوال :

أحدها : أنّه يفيد الوجوب ، كالوارد في سائر الموارد ، وحكي القول به عن الشيخ والمحقّق والعلّامة والشهيد الثاني ، وجماعة من العامّة منهم الرازي والبيضاوي ، وعزاه في الإحكام الى المعتزلة.

ثانيها : القول بأنّه للإباحة ، حكاه جماعة عن الأكثر ، ويستفاد من الإحكام كون المراد بالإباحة في المقام هو رفع الحجر دون الإباحة الخاصّة ، وقد صرّح بعض الأفاضل بتفسير الإباحة هنا بمعنى الرخصة في الفعل.

ثالثها : التفصيل بين ما إذا علّق الأمر بارتفاع علّة النهي وما لم يعلّق عليه ، فيفيد الثاني في الأوّل والأوّل في الثاني.

رابعها : أنّه يفيد رجوع حكمه السابق من وجوب أو ندب أو غيرهما ، فيكون تابعا لما قبل الحظر حكاه في الوافية ، وحكاه بعض الأفاضل قولا بعد تقييده بما إذا علّق الأمر بزوال علّة عروض النهي.

خامسها : أنّه للندب ، حكاه البعض في عداد أقوال المسألة.

سادسها : الوقف ، حكاه في الإحكام عن إمام الحرمين وغيره.

حجّة القول الأوّل وجوه :

أحدها : أنّ الصيغة موضوعة للوجوب ، فلا بدّ من حملها عليه حتّى يتبيّن المخرج عنه ، ومجرّد وقوعها عقيب الحظر لا يصلح صارفا لها عن ذلك ، لجواز الانتقال من الحرمة الى الوجوب كما يجوز الانتقال منها الى الإباحة ، ولذا

٦٦٣

لم يتوهّم أحد مانعا من التصريح بإيجاب شيء بعد تحريمه ، وقد ورد الأمر الواقع عقيب الحظر في الشريعة وغيرها على الوجهين كما يظهر من تتبّع الاستعمالات ، ولو استبعد ذلك في المقام لكان من جهة استبعاد الانتقال من أحد الضدّين الى الآخر ، وهو جار في جميع الأحكام.

ثانيها : أنّه لا كلام عند القائل بكونها للوجوب أنّ ورودها بعد الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب ، ولذا يحمل أوامر العبادات على الوجوب الى أن يتبيّن المخرج عنه مع أنّها قبل الحظر كانت محرّمة من جهة البدعة فيكون الحال كذلك في الحظر الشرعي.

ثالثها : أنّه أمر الحائض والنفساء بالصلاة بعد حظرها عليهما ولم يحمله أحد إلّا على الوجوب ، وكذا الحال في قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) وكذا في قول المولى لعبده : «اخرج من المحبس الى المكتب» بل لا يستفاد منها عرفا سيّما في المثال الأخير ونحوها سوى الوجوب كالأوامر الإبتدائية.

وضعف الجميع ظاهر : أمّا الأوّل فلأنّ كون الأصل حمل الأمر على الوجوب غير نافع بعد ملاحظة العرف في المقام ، فإنّ فهم الوجوب منه حينئذ غير ظاهر كما يشهد به ملاحظة كثير من الاستعمالات ، ومع عدم استفادة الوجوب منه عرفا لا يصحّ التمسّك في الحمل عليه بمجرّد الأصل إذا لم يكن هناك شاهد على إرادة الوجوب منه ، لما عرفت مرارا من دوران الأمر في مباحث الألفاظ مدار الفهم العرفي دون مجرّد الأصل التعبّدي.

وربما يدّعى في المقام غلبة استعماله حينئذ في غير الوجوب ، فيكون الغلبة المفروضة قرينة صارفة له عن الأصل المذكور أو قاضية بمقاومته له.

وفيه : تأمّل يأتي الإشارة اليه إن شاء الله.

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.

٦٦٤

والأظهر أن يقال : إنّ في وقوعه عقيب الحظر شهادة على عدم إرادة الوجوب منه ، فيصلح ذلك صارفا له عن الظاهر أو قاضيا بمقاومته له ، ومجرّد جواز الانتقال من الحرمة الى الوجوب لا ينافي ظهور خلافه قبل قيام الدليل عليه ، وكذا الحال في وروده في المقام للوجوب وغيره ؛ إذ إرادة الوجوب منه لقيام القرينة المعارضة للقرينة المفروضة لا يقضي بحمله عليه مع انتفائها.

وبالجملة : أنّه يكفي في القرينة الصارفة مجرّد الظهور ، فلا ينافيها جواز التصريح بخلافها ولا قيام قرينة تعارضها وتترجّح عليها.

ودعوى حصول التضادّ بين جميع الأحكام فكما يستبعد الانتقال الى الوجوب كذا يستبعد الانتقال الى غيره مدفوعة ، بأنّه ليس الاستبعاد الحاصل في المقام لمجرّد التضادّ بين الحكمين ، بل من جهة غاية التضادّ الحاصل بينهما ووقوعهما في الطرفين ، وهو غير حاصل فيما عدا الوجوب والتحريم.

وأمّا الثاني فبالفرق الظاهر بين الحظر العقلي من جهة البدعية وغيرها ، والحظر المصرّح به في كلام الشارع ، فإنّ المنع هناك إنّما يجيء لعدم أمر الشارع به وإذنه في الإتيان به فلا يزاحمه الأمر بالفعل بوجه من الوجوه ، بخلاف المقام ، لوضوح غاية المباينة بين الحكم بتحريم الإتيان بالشيء والحكم بوجوبه ، فلا يلتزم به إلّا مع قيام دليل واضح عليه ، وأمّا مجرّد الأمر به فلا يكفي في الدلالة عليه لكثرة إطلاق الأمر في غير مقام الإيجاب ، فيكون الاستبعاد المذكور قرينة على حمله على غير الوجوب حسب ما مرّت الإشارة اليه ، مع أنّ عمدة المستند في المقام هو الرجوع الى فهم العرف ، والفرق بين المقامين ظاهر بعد الرجوع اليه.

وأمّا الثالث فلأنّ حمل عدّة من الأوامر على الوجوب من جهة قيام الإجماع عليه أو لشواهد اخر مرشدة اليه لا يفيد ظهور الأمر حينئذ في الوجوب مع قطع النظر عن تلك القرائن المعارضة لورود الأمر عقيب الحظر.

وأمّا دعوى انصراف قوله : «اخرج من المحبس الى المكتب» الى الوجوب فلعلّه بضميمة المقام ، فإنه نظير اخرج من هذا المحبس الى محبس آخر ؛ إذ لا يقال

٦٦٥

ذلك غالبا في مقام رفع الحجر ، فخصوصية المثال قاضية بخلاف ما يقتضيه ظاهر الأمر المتعلّق بالفعل بعد المنع منه.

وقد يقال بخروج أمر الحائض بالصلاة والصيام بعد ارتفاع الحيض عمّا نحن فيه ، وكذا الأمر بالجهاد بعد انقضاء أشهر الحرم حسب ما يأتي الإشارة اليه إن شاء الله.

هذا ، وقد يجاب عن المثال المتقدّم بأنّ المنهي عنه هناك غير ما تعلّق الأمر به ، فإنّ المنهيّ عنه هو الخروج عن المحبس من حيث إنّه خروج عنه والمأمور به هو الذهاب الى المكتب ولم يكن ذلك منهيّا عنه بذلك العنوان حتّى يكون الأمر به بعد الحظر ليندرج في محلّ الكلام.

وفيه : أنّه إذا تعلّق النهي بالخروج عن المحبس يشمل ذلك جميع أفراد الخروج الّذي من جملتها الخروج الى المكتب ، وإذا كان ذلك ممّا نهي عنه وقد فرض تعلّق الأمر به بعد ذلك كان مندرجا في موضع النزاع.

ويدفعه أنّه إنّما تعلّق النهي به من حيث كونه خروجا لا من حيث كونه ذهابا الى المكتب ، وهما متغايران حقيقة وإن كان أحدهما ملازما للآخر ، والمأمور به إنّما هو الثاني دون الأوّل.

نعم ، إن عمّم النزاع بحيث يشمل الأمر المتعلّق بأحد المتلازمين بعد تعلّق النهي بالآخر تمّ ما ذكر ، إلّا أنّه غير ظاهر الاندراج في موضع النزاع ، وفهم العرف غير مساعد هنا حسب ما ادّعوه هناك.

وفيه : أنّه إن اريد بذلك تغايرهما بحسب المفهوم وإن اتّحدا في المصداق فذلك غير قاض بخروجه عن موضع النزاع ، وإن اريد تغايرهما بحسب المصداق وإن تلازما في الوجود فالحال فيه على ما ذكر إلّا أنّه ليس المفروض في المقام من هذا القبيل ، ضرورة كون المأمور به من أفراد المنهي عنه ومصاديقه بحسب الخارج بل مفهوم المأمور به هو المنهي عنه مقيّدا بالقيد المفروض.

هذا ، والظاهر أنّ حجج سائر الأقوال المذكورة الرجوع الى فهم العرف ، فكلّ

٦٦٦

يدّعي استفادة ما ذهب اليه من ملاحظة الاستعمالات غير أنّ القائل بدلالته على رجوع الحكم السابق إنّما بني على دلالة اللفظ على ارتفاع الحكم الطارئ فبعد ارتفاعه يعود الأوّل لزوال المانع من ثبوته ، أخذا بمقتضى الدليل القاضي بثبوته ، والقائل بالوقف يرى التعادل بين ما يقتضي حمله على الوجوب وما يفيد حمله على غيره ، وقد عرفت أنّ قرينة المجاز قد يقاوم الظنّ الحاصل من الوضع فيتردّد الذهن بين المعنى الحقيقي والمجازي ، فلا يصحّ الرجوع الى أصالة تقديم الحقيقة على المجاز ، لما مرّ من ابتناء الأصل المذكور على الظنّ دون التعبّد المحض.

وقد يدّعى استناد صرف الأمر عرفا عن إفادة الوجوب في المقام الى غلبة استعماله حينئذ في الإباحة ، فتكون تلك الغلبة باعثة على فهم الإباحة فيبنى الأمر حينئذ على تقديم المجاز الراجح على الحقيقة المرجوحة.

وقد يجعل ذلك وجها للتوقّف ، نظرا الى اختيار القول بالوقف عند دوران الأمر بين المجاز الراجح والحقيقة المرجوحة.

وفيه : أنّ فهم الإباحة في المقام إنّما يكون من الجهة الّتي أشرنا اليها دون مجرّد الشهرة، كيف! واشتهار استعماله فيها في المقام بحيث يبعث على الصرف أو الوقف غير ظاهر ، واستناد الفهم اليه غير متّجه أيضا وإن ادّعاه صاحب الإحكام في ظاهر كلامه ، ويشهد له حصول الفهم المذكور مع الغضّ عن الشهرة بل قبل حصول الاشتهار لو سلّمت في المقام.

وكيف كان ، فالّذي يقتضيه التأمّل في المرام أن يقال : إنّ ورود الأمر عقيب الحظر قرينة ظاهرة في كون المراد بالأمر الإذن في الفعل ، فمفاده رفع الحظر من غير دلالة فيه بنفسه على ما يزيد على ذلك من وجوب الفعل أو ندبه أو إباحته ، حسب ما يشهد به التأمّل في الاستعمالات كما مرّت الإشارة اليه ، فتلك الخصوصيات إنّما تستفاد من الخارج أو من ملاحظة خصوصية المقام لاختلاف الحال فيه بحسب اختلاف المقامات فإنّ ما ذكر جهة عامّة قاضية بذلك ، وقد يكون في المقام جهة اخرى يعاضدها أو يعارضها فلا بدّ في معرفة مفاد اللفظ من ملاحظة الجميع.

٦٦٧

ولنفصّل الكلام فيه ببيان الحال في عدّة من المقامات ، فنقول : إنّ ما يتعلّق به الأمر المفروض قد يكون عين ما تعلّق النهي به ، وقد يكون جزئيا من جزئياته.

وعلى كلّ من الوجهين إمّا أن يكون ما تعلّق الأمر به ممّا يريده المكلّف ويرغب اليه ، أو لا يكون كذلك بل يكون تركه أرغب للنفس كالجهاد في الغالب ، وعلى كلّ حال فإمّا أن يكون المنع المتعلّق بالفعل عامّا لسائر الأفراد والأحوال فيرد الأمر المفروض عليه ويكون رافعا لحكم المنع بالنسبة الى ما تعلّق به ، أو يكون الحكم بالحظر مخصوصا بالحال الأوّل أو بفرد مخصوص من غير أن يشمل الحال أو الفرد الّذي امر به ، ومنه النهي المتعلّق بالجهاد في الأشهر الحرم والأمر المتعلّق به بعد ذلك.

ويمكن أن يقال بخروج الوجه الأخير عن موضع المسألة.

ثمّ إمّا أن يكون حكمه الثابت له قبل الحظر هو الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ، أو الكراهة ، أو ممّا لم يصرّح بحكمه في الشرع ويكون باقيا على مقتضى حكم العقل فيه ، وعلى غير الوجه الأخير فإمّا أن يكون ثبوت ذلك الحكم له في الشرع على وجه الإطلاق بالنسبة الى الأزمان والأحوال والأفراد أو على سبيل الشمول للجميع فيندرج فيه الحال أو الفرد الّذي تعلّق الأمر به مع شمول الحظر الوارد عليه لما تعلّق الأمر به بعده وعدمه ، أو لا يكون كذلك بل يختصّ بالحال السابق أو خصوص بعض الأفراد ممّا عدا ما تعلّق النهي أو الأمر به بعد ذلك مع ورود أحدهما على مورد الآخر وعدمه.

وأنت خبير باختلاف فهم العرف حسب اختلاف تلك المقامات ففي بعضها لا يستفاد من الأمر إلّا الإذن في الفعل ورفع الحظر الحاصل مع اختلاف الفهم وضوحا وخفاء بحسب اختلاف بعض الأحوال المذكورة وغيرها ، وفي بعضها يستفاد منه الوجوب مع اختلاف الحال فيه أيضا ، وفي بعضها يؤخذ بالحكم السابق ، وفي بعضها يتوقف عن الحكم ولا يظهر منه أحد الوجوه.

ولا يبعد خروج بعض تلك الصور عن محلّ الكلام ، وملاحظة التفاصيل

٦٦٨

المذكورة في بيان مفاد اللفظ لا يناسب أنظار أرباب الاصول ، إذ الملحوظ فيه القواعد الكلّية الإجمالية دون التفاصيل الحاصلة في المقامات الخاصّة.

فالأنسب بالمقام هو ما ذكرناه أوّلا من أنّ الأمر بالشيء بعد النهي عنه هل يكون في نفسه جهة باعثة على صرف الأمر عن معناه الظاهر أو لا ، والأظهر فيه ما عرفت ، فتأمّل.

هذا ، وينبغي التنبيه لامور :

الأوّل : أنّ الكلام في المقام إنّما هو في مفاد الأمر عرفا من جهة الوقوع عقيب الحظر لا فيما وضع اللفظ بإزائه بحسب اللغة أو العرف ، إذ لا وجه لاختلاف الموضوع له بحسب اختلاف المقامات كما يظهر من ملاحظة أوضاع سائر الألفاظ ، إذ لا تعدّد في أوضاعها في الغالب على حسب اختلاف مواردها بل لا يكاد يوجد لفظ يكون الحال فيه على الوجه المذكور ، فالملحوظ بالبحث في المقام أنّ الوقوع بعد الحظر هل هو قرينة صارفة له على الظاهر ، أو أنّه لا دلالة فيه على ذلك ، أو أنّه قاض بالوقف.

وربما يتوهّم من عناوينهم كون البحث في المقام في موضوع الصيغة وليس الحال كذلك ، إذ عنوانهم للبحث بما ذكروه وتعبيرهم عن الأقوال بأنّه للإباحة أو غيرها أعمّ من كونه موضوعا لذلك ، فإنّ اختصاص اللفظ بالمعنى كما يكون من جهة الوضع له كذا قد يكون من جهة الظهور الحاصل بملاحظة المقام نظرا الى القرائن العامة القائمة عليه ، مضافا الى أنّ ما ذكرناه من وضوح فساد دعوى الوضع في المقام أقوى شاهد على عدم إرادته هنا.

نعم ، يظهر من السيّد العميدي رحمه‌الله منعه كون الأمر مطلقا موضوعا للوجوب بل الموضوع له هو الأمر المبتدأ دون الوارد عقيب الحظر ، وهو إن حمل على ظاهره موهون جدّا كما عرفت ، وربما ينزّل عبارته أيضا على ما ذكرناه.

الثاني : أنّ المذكور في كثير من كتب الاصول فرض المسألة في وقوع الأمر عقيب الحظر ، والظاهر من ذلك وقوعه بعد الحظر المحقّق دون المحتمل.

٦٦٩

لكن لا يبعد جريان الكلام في وقوع الأمر بعد ظنّ الحظر بل في مقام توهّمه كما لو وقع السؤال عن جواز الفعل فورد في الجواب الأمر به ، يشهد بذلك فهم العرف ، وقد نبّه على ذلك غير واحد من المتأخّرين.

الثالث : لو وقع الأمر بالشيء بعد الكراهة فهل الحال فيه الواقع عقيب الحظر وجهان ، ويجري ذلك في الوارد عقيب ظنّ الكراهة وتوهّمه كما لو سئل عن كراهة الشيء ومرجوحيته فورد الجواب بالأمر به.

الرابع : يجري الكلام المذكور في ورود النهي عن الشيء عقيب وجوبه ، بأنّه هل يراد به ما يراد بالنهي الابتدائي ، أو يكون ذلك قرينة على إرادة رفع الوجوب ، أو يتوقّف بين الأمرين.

ويحكى عن البعض الفرق بين الأمر الوارد عقيب الحظر والنهي الوارد عقيب الإيجاب، فقال بأنّ الثاني يفيد التحريم بخلاف الأوّل فإنّه لا يستفاد منه الوجوب واستند في الفرق بين الأمرين الى وجهين واهيين.

أحدهما : أنّ النهي إنّما يقتضي الترك ، وهو موافق للأصل بخلاف الأمر ، لقضائه بالإتيان بالفعل ، وهو خلاف الأصل ، فحمل الأوّل على التحريم لإيجابه ما يوافق الأصل لا يقضي بحمل الثاني على الوجوب مع إيجابه ما يخالفه.

والآخر : أنّ النواهي إنّما تتعلّق بالمكلفين لدفع المفاسد بخلاف الأوامر ، فإنّها لجلب المنافع واعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من جلب المنافع فما يكتفى به في صرف غير الأهم لا يلزم أن يكتفى به في صرف الأهم.

ثالثها

قد عرفت أنّ الأمر حقيقة في مطلق الطلب وأنّ الظاهر من الطلب مع الإطلاق هو الطلب الحتمي الإيجابي ، فيكون انصراف الأمر الى الوجوب لظهوره من الإطلاق لا لكون الصيغة حقيقة فيه بخصوصه كما ظنّ في المشهور ، وحينئذ نقول : إنّه كما ينصرف الأمر حين الإطلاق الى الوجوب كذا ينصرف الى الوجوب النفسي المطلق العيني التعييني ، فكون الوجوب غيريا أو مشروطا أو كفائيا

٦٧٠

أو تخييريا يتوقّف على قيام الدليل عليه كتوقّف حمل الطلب على الندب على قيام قرينة عليه، وانصراف إطلاق الأمر الى ما ذكرناه سواء قلنا بكونه حقيقة في الطلب ـ كما هو المختار ـ أو حقيقة في الوجوب ـ كما هو المشهور ـ ممّا لا مجال للريب فيه.

أمّا بالنسبة الى انصرافه الى العيني التعييني فظاهر ، لوضوح توقّف قيام فعل الغير مقام فعل المكلّف ، وكذا قيام فعل آخر مقام ذلك الفعل على ورود الدليل.

وأمّا انصرافه الى الواجب المطلق دون المشروط فظاهر إطلاق اللفظ كاف في إفادته لتقيّد الوجوب في الواجب المشروط بحصول الشرط ، فلا يحكم به إلّا بعد ثبوت التقييد.

وعن السيّد المرتضى رضى الله عنه إنكار ذلك ، فيتوقّف حمله على أحد الوجهين على قيام الدليل عليه ، وهو إن حمل على ظاهر ما يتراءى منه ضعيف ، وقد ينزّل كلامه على ما لا يخالف ما قرّرناه ، وسيجيء تفصيل القول فيه عند تعرّض المصنّف إن شاء الله.

وأمّا انصرافه الى الواجب النفسي فيمكن الاستناد فيه الى وجهين :

أحدهما : أنّ ذلك هو المنساق عرفا من الإطلاق ، فإنّ ظاهر الأمر بشيء أن يكون ذلك الشيء هو المطلوب عند الآمر حتّى يقوم دليل على خلافه ، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات فذلك هو المتّبع إلّا أن يظهر من المقام كون الطلب المتعلّق به من جهة حصول مطلوب آخر بحيث يترجّح ذلك على الظهور المذكور أو يساويه ، فيحكم بمقتضى الثاني في الأوّل ، ويتوقّف بينهما على الثاني.

ثانيهما : أنّ الوجوب الغيري إنّما يدور حصوله مدار ذلك الغير فيتقيّد وجوبه إذن بوجوب الغير ، وقد عرفت أن تقييد الوجوب خلاف الأصل ، لقضاء ظاهر الإطلاق بإطلاق الوجوب.

نعم ، إن ظهر التقييد من المقام أو من الخارج كان متّبعا ، وهو أمر آخر.

مضافا الى أنّ القول بوجوب ذلك الغير أيضا مخالف للأصل فلا وجه للالتزام

٦٧١

به من غير قيام دليل عليه. نعم إن ثبت وجوب ذلك الغير تعيّن الرجوع الى الأصل الأوّل.

وقد يستظهر من جماعة من المتأخّرين كالشهيدين والمحقّق الكركي المناقشة في الأصل المذكور ، نظرا الى كثرة استعمال الأمر في الوجوب الغيري بحيث يكافئ ذلك ما ذكر من الظهور ، وربما يدّعى بلوغه الى حدّ الحقيقة العرفية كما قد يستفاد من كلام الشهيد رحمه‌الله ، والظاهر أنّه لم يرد به هجر الأوّل ، لظهور دوران الوجوب النفسي في الاستعمالات أيضا بل مقصوده على فرض حمل كلامه على ذلك مكافئته للوجه الأوّل ، لا ترجيحه عليه.

وكيف كان ، فالظاهر وهن ما ذكر من الإشكال ؛ إذ حصول الغلبة المذكورة في محلّ المنع بل الظاهر خلافه.

نعم ، لو قام الدليل من الخارج على كون شيء واجبا لغيره أمكن القول بكونه شاهدا على حمل إطلاق الأمر المتعلّق به على ذلك أيضا وإن لم يكن هناك منافاة بين وجوبه على الوجهين ، إلّا أنّ ذلك بعيد.

وما ادّعي من الغلبة قد يتمّ في المقام ، إذ قد يقال بكون الغالب في الواجبات الغيرية عدم وجوبها لنفسها ، مضافا الى أصالة عدم وجوبه على الوجهين.

إلّا أنّ بلوغ الغلبة المذكورة على فرض تسليمها الى حدّ يفيد المظنّة محلّ نظر ، ومجرّد الأصل لا يزاحم ظاهر اللفظ.

نعم ، قد يدّعى في المقام فهم العرف ، ألا ترى أنّه لو قيل تارة : «إذا أحدثت فتوضّأ» وقيل اخرى : «إذا أحدثت فتوضّأ لأجل الصلاة» فهم منه كون المقصود بالوجوب المدلول عليه بالكلام الأوّل أيضا ذلك ، إلّا أنّ جريان الفهم المذكور في سائر الموارد ممّا ورد فيه إطلاق الأمر وثبت الوجوب الغيري أيضا من الإجماع أو غيره غير ظاهر.

والمتّجه أن يقال : إنّه مع حصول الفهم في المقام كما في المثال المذكور ونحوه لا كلام، ومع عدمه فإن ثبت هناك من الجهات العامّة أو الخاصّة ولو من جهة فهم

٦٧٢

الأصحاب ما يزاحم الظهور المذكور بحيث يجعله ظاهرا في الغيري فلا إشكال أيضا ، ولو قضى ذلك بتكافؤ الاحتمالين وحصول التردّد بين الوجهين اتّجه الوقف ولا يثبت معه إلّا الوجوب الغيري ، وإلّا اتّجه الأخذ بظاهر اللفظ إلّا أن يثبت خلافه من الخارج.

هذا ، وقد تلخّص ممّا فصّلناه ظهور الأمر حين الإطلاق في الوجوب بالوجه الّذي قرّرناه ، والرجوع الى المتبادر منه في الاستعمالات وملاحظة المفهوم من الإطلاقات كاف في إثبات ذلك على نحو انصراف الصيغة حين الإطلاق الى الوجوب ، وهذا التبادر بناء على المختار من قبيل التبادر الإطلاقي في المقامين.

وأمّا على مختار القوم فمع البناء على كونه حقيقة في مطلق الوجوب الشامل لجميع الأقسام ـ كما هو الظاهر من إطلاقهم في المقام ـ يكون التبادر الحاصل بالنسبة اليه وضعيا ، ويكون انصرافه الى القسم المذكور حاصلا بالتبادر الإطلاقي.

وحينئذ يشكل الحال بأنّ التبادر الحاصل في المقام على نحو واحد ، فالفرق بينهما على الوجه المذكور غير متّجه.

فإمّا أن يقال بكونه إطلاقيا في المقامين ويسقط بذلك ما هو عمدة مستندهم للقول بكونه حقيقة في الوجوب ، لاتّكالهم فيه على التبادر وفهم العرف ، أو يقال بكونه وضعيا منستندا الى الوضع فيهما.

فلا بدّ من القول بكونه حقيقة في خصوص الوجوب الموصوف دون غيره من سائر أقسامه ، بل الظاهر أنّ الحاصل في المقام تبادر واحد ، فإن كان إطلاقيا لم يصحّ الاستناد اليه في إثبات الوضع والّا ثبت به الوضع لخصوص ما يتبادر من اللفظ ، وقد مرّ التنبيه على ذلك.

ومن هنا قد يتخيل في المقام كون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب العيني دون التخييري.

وظاهر كلام بعضهم إسناد القول بذلك الى جماعة من المتأخّرين منهم السيوري في كنز العرفان والمحقّق الأردبيلي والمصنّف والمحقّق الخونساري وإن

٦٧٣

كان المنقول من كلامهم في المقام غير واف (١) بذلك.

والمحكي عن جماعة آخرين كونه حقيقة في الأعمّ من الأمرين.

وقد ذكر للجانبين حجج معظمها في غاية الوهن ، ويجري الوجهان المذكوران فيما سوى الوجوب التخييري من سائر أقسام الوجوب ممّا لا ينصرف اليه الإطلاق.

وبعد ما عرفت ما هو الحقّ في المقام لا حاجة الى إطالة الكلام في المرام.

هذا ، وما ذكرناه من الانصراف كما يجري في صيغة الأمر وما بمعناه كذا يجري في لفظ «الوجوب» وما يؤدّي مؤدّاه إذا تعلّق بفعل من الأفعال.

وأمّا إذا ثبت وجوب شيء بالعقل أو الإجماع ودار بين وجهين أو وجوه من المذكورات فالظاهر البناء على الوقف ، إذ لا ترجيح لأحد الوجوه في حدّ ذاته ، ولا إطلاق حينئذ ليؤخذ بمقتضاه ، ويرجع حينئذ في العمل الى الاصول الفقهية.

فمع الدوران بين الوجوب التعييني والتخييري يؤخذ بالأوّل ، لحصول اليقين بالبراءة بأداء ذلك الفعل دون غيره ، وكذا مع الدوران بين العيني والكفائي.

ومع الدوران بين الوجوب المطلق والمشروط لا يحكم بالوجوب إلّا مع حصول الشرط ، وقد ينزّل على ذلك ما يحكى عن السيّد من القول بمكافئة احتمالي الوجوب المطلق والمشروط عند عدم دليل على التعيين ، ولا يحكم حينئذ بالوجوب إلّا مع حصول الشرط كما سيجيء الإشارة اليه إن شاء الله.

ومع الدوران بين الوجوب النفسي والغيري لا يحكم بالوجوب إلّا على نحو ما يقتضيه البناء على وجوبه للغير ، إذ لا إطلاق في المقام فيقتصر فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، لكن لا يجري عليه حكم الواجب الغيري من البناء

__________________

(١) حيث عزي اليهم القول بدلالة الأمر على الوجوب العيني بالدلالة اللفظية وأنّ دلالته عليه كدلالة تعليق الحكم على الشرط على نفي الحكم عن غير المنطوق ، ودلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه العامّ ، ودلالة ذلك على كون الصيغة موضوعة لخصوص الوجوب العيني محلّ نظر ، فتأمّل. (منه رحمه‌الله).

٦٧٤

على سقوطه بمجرّد حصوله ولو بالإتيان به على الوجه المحرّم أخذا بيقين الشغل حتّى يتبيّن الفراغ.

ومع الدوران بين الوجوب والندب يبنى على الثاني أخذا بأصالة عدم المنع من الترك ، وقد يتأمّل في الأخذ بالأصل المذكور ، وقد أشرنا اليه والى ما يزيّفه.

رابعها

قد عرفت ظهور الأمر مع الإطلاق في الطلب الإيجابي المطلق النفسي العيني التعييني ، فإن لم يكن هناك قرينة على خلاف ذلك تعيّن الحمل عليه ، وإن كان هناك قرينة على ثبوت ما يخالف أحد القيود المذكورة تعيّن ذلك من غير لزوم تجوّز في اللفظ كما عرفت.

وأمّا إذا قامت قرينة صارفة عن انصرافه الى الصورة المذكورة ودار الأمر في المخالفة بين وجهين أو وجوه فهناك صور عشر للدوران الثنائي بينها :

الأوّل : الدوران بين الندب المطلق والوجوب المقيّد ، وقد يتراءى حينئذ تساوي الاحتمالين نظرا الى أنّ الأمر المطلق كما يقتضي الوجوب كذا يقتضي الإطلاق ، وكما أنّ حمله على الندب خلاف الأصل فكذا التزام التقييد فيه.

نعم ، قد يقال ـ على القول بكون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب ـ : إنّ ذلك من الدوران بين التقييد والمجاز ، ومن المقرّر ترجيح التقييد نظرا الى شيوعه كالتخصيص بل هو أولى منه على ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه.

وربما يعارضه شيوع استعمال الأمر أيضا في الندب فلا يترجّح التقييد على المجاز المفروض.

ويدفعه أنّ بلوغ استعمال الأمر في الندب إلى حدّ يكافئ التقييد غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه كما يشهد به فهم العرف.

فالظاهر بناء على المشهور تقديم الوجوب المشروط على الاستحباب المطلق ، والأظهر أيضا ذلك بناء على المختار ، إذ دلالة إطلاق الطلب على الوجوب أظهر من دلالته على الإطلاق فيقدّم عليه عند التعارض ، ويشهد بذلك

٦٧٥

فهم العرف ، وهو المحكّم في أمثال ذلك ، مضافا الى أنّ ذلك هو الأحوط في تحصيل البراءة والأوفق بالأصل من جهة أصالة عدم رجحان الفعل ومشروعيته مع انتفاء الشرط المفروض.

نعم ، لو كان التقييد على وجه يخالف الظاهر جدّا بحيث يكون حمل الأمر على الندب راجحا عليه أو مكافئا له لزم الحمل على الندب أو الوقف بين الأمرين ، وذلك أمر آخر لا ربط له بما هو الملحوظ في المقام.

الثاني : الدوران بين الندب النفسي والوجوب الغيري ، كما إذا أمر بالوضوء من جهة خروج المذي واحتمل إرادة الاستحباب النفسي والوجوب الغيري لأجل الصلاة عند وجوبها ، وقد يتخيّل حينئذ كون الوجوب الغيري من جملة الوجوب المقيّد لتقيّده بالغير وعدم حصوله إلّا من جهة وجوب ذلك الغير فترجع هذه الصورة الى الصورة المتقدّمة ، فيكون من الدوران بين المجاز والتقييد ، ويجري فيه إذن ما مرّ.

وفيه : أنّ انصراف الأمر الى الوجوب النفسي من جهة ظهور الأمر بالشيء في كونه مطلوبا لذاته مرادا لنفسه إمّا لانصراف المطلق اليه كما هو المختار ، أو لكونه حقيقة فيه بخصوصه على ما هو أحد المحتملين على القول المشهور حسب ما مرّت الإشارة اليه ، فيأتي الكلام فيه من غير جهة التقييد أيضا.

وحينئذ فقد يتخيّل ترجيح الندب نظرا الى أنّ فيه مخالفة للظاهر من جهة واحدة بخلاف الحمل على الوجوب ، فانّه قاض بتقييد الإطلاق وبالخروج عن الظاهر المذكور ، ومع الغضّ عن ذلك فأقصى الأمر حينئذ أن يقال بالوقف بين الأمرين ، إذ لا أقلّ من مقاومة الوجهين الأخيرين للوجه الأوّل.

وفيه : أنّ انصراف الأمر الى الوجوب أقوى من انصراف الوجوب الى الوجوب النفسي كما يشهد به ملاحظة العرف.

أمّا على القول بكونه حقيقة في مطلق الوجوب فظاهر ، للزوم المجاز بناء على حمله على الندب بخلاف ما لو حمل على الوجوب الغيري ومن المقرّر

٦٧٦

تقديم الحقيقة على المجاز.

وأمّا على المختار فلكون انصرافه الى الوجوب أقوى من انصراف الوجوب الى النفسي، كيف! وأقصى الأمر بناء على ترجيح الوجوب الغيري رفع اليد عن كيفية الوجوب الظاهر من إطلاق الأمر ، وأمّا مع ترجيح الندب فإنّما يرفع اليد عن أصل الوجوب والثاني أبعد عن الظاهر بالنسبة الى الأوّل.

نعم ، على القول بكون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب النفسي مجازا في غيره قد يشكل الحال في المقام من جهة دوران الأمر بين المجازين وزيادة الأوّل بلزوم التقييد معه أيضا.

ويمكن دفعه بأنّ حمله على الوجوب الغيري أقرب الى الحقيقة من الحمل على الندب فبعد تعذّر الحقيقة يتعيّن أقرب المجازات وإن لزم معه التزام التقييد أيضا ؛ إذ لا يمنع ذلك من حمله على أقرب المجازات سيّما بعد شهادة فهم العرف به ، كيف! وهو الأصل في أمثال هذه المباحث وحصول الفهم المذكور بحسب العرف ممّا لا يداخله ريب بعد الرجوع الى المخاطبات العرفية ، ويعضده فهم الأصحاب وبناؤهم عليه حسب ما ادّعاه بعض الأجلّة في المقام.

وكأنّ هذا الوجه هو الأظهر في النظر ، إلّا أن يكون في المقام ما يرجّح الحمل على الندب أو يجعله مكافئا للحمل على الوجوب على الوجه المذكور فيحمل على الندب أو يتوقّف عن الحمل وذلك أمر آخر.

الثالث : الدوران بين الندب العيني والوجوب الكفائي ، والظاهر حينئذ تقديم الوجوب الكفائي ، لما عرفت من ترجيح دلالة الأمر على الوجوب على دلالته على سائر الخصوصيات ، مضافا الى كونه أوفق بالاحتياط ، هذا على القول بكونه حقيقة في مطلق الطلب على ما هو المختار أو كونه حقيقة في خصوص الوجوب العيني ، وأمّا على القول بكونه حقيقة في مطلق الوجوب مجازا في الندب فالأمر أظهر ، لكونه من الدوران بين الحقيقة والمجاز.

وقد يشكل ذلك بملاحظة غلبة استعماله في الندب بالنسبة الى إطلاقه

٦٧٧

على الوجوب الكفائي فيشكل الحمل على الوجوب الكفائي سيما على أحد الوجهين الأوّلين.

وفيه : أنّ حصول الغلبة الباعثة على الفهم غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه فالحمل على الندب غير متّجه كالتوقّف بين الوجهين.

الرابع : الدوران بين الندب التعييني والوجوب التخييري ولا يبعد أيضا ترجيح جانب الوجوب لما عرفت ، ويشكل الحال فيما إذا لم يكن الفعل الآخر الّذي فرض التخيير بينهما ممّا ثبت شرعيته بدليل آخر لمعارضة الوجه المذكور بأصالة عدم شرعيته ورجحانه.

وفيه : أنّ الأصل لا يقاوم الظاهر ، فبعد ثبوت الوجوب بمقتضى الظاهر يتعيّن البناء على التخيير نظرا الى قيام الدليل عليه ، وذلك كاف في إثبات شرعيته ، ومع ذلك فالأحوط في المقام هو الإتيان به دون ما يقوم مقامه.

الخامس : الدوران بين الوجوب المقيّد النفسي والمطلق الغيري ، وهذا الوجه في الحقيقة ممّا لا يمكن تحقّقه ؛ إذ كلّ واجب غيري يتقيّد وجوبه بوجوب ذلك الغير فهو في الحقيقة دوران بين المقيّد النفسي والمقيّد الغيري ، إلّا أنّه لما لم يتوقّف تقيّد الوجوب الغيري على ثبوت مقيّد من الخارج بخلاف ما فرض من الوجوب النفسي عدّ الوجوب فيه مطلقا ، فيحتمل إذن تقديم النفسي مطلقا ، لاشتراكهما في التقييد.

ويحتمل التفصيل بين ما إذا كان وجوب ذلك الغير مطلقا أو مقيّدا أيضا ، فإن كان مقيّدا اتّجه الوجه المذكور ، وإلّا احتمل ترجيح الغيري ، والتوقّف بين الوجهين ، والتفصيل بين ما إذا كان القيد المأخوذ في المقيّد غالب الحصول وغيره فيرجّح المقيّد في الأوّل والغيري في الثاني.

السادس والسابع : الدوران بين الوجوب المقيّد والكفائي أو التخييري المطلق ، والظاهر توقّف الترجيح على ملاحظة خصوص المقام ، فإن كان هناك مرجّح لأحد الوجهين بني عليه ، وإلّا توقّف بينهما ويرجع في التكليف الى اصول

٦٧٨

الفقاهة ، فمع انتفاء القيد المفروض يبنى على أصالة البراءة ومع حصوله يتعيّن الإتيان به دون ما احتمل التخيير بينه وبينه أخذا بيقين الفراغ بعد تيقّن الاشتغال.

الثامن والتاسع : الدوران بين الوجوب الغيري والنفسي الكفائي أو التخييري ، ويحتمل أن يكون الحال فيه كالسابق فمع انتفاء الترجيح يرجع فيه الى اصول الفقاهة ، ويحتمل ترجيح أحد الأخيرين نظرا الى أنّ المرجوحية في الوجوب الغيري من جهتين.

العاشر : الدوران بين الوجوب الكفائي والتخييري ، والظاهر أنّه لا ترجيح بينهما فيرجع في العمل الى الأصل ، فإن لم يقم به غيره تعيّن عليه الإتيان به أخذا بيقين البراءة بعد تيقّن الاشتغال ، وإن قام به غيره تخيّر بين الإتيان به وببدله ، لحصول اليقين بالبراءة على الوجهين ، أمّا مع الإتيان به فظاهر ، وأمّا مع الإتيان ببدله فلأنّه لو كان كفائيا سقط عنه الواجب بفعل الغير ولو كان تخييريا سقط بفعل البدل ، والأحوط الاقتصار على فعله إن لم يقم دليل آخر على مشروعية ما يكون بدلا عنه على تقدير انتفاء التخيير.

وأنت بعد التأمّل فيما قرّرناه تعرف الحال فيما لو دار الأمر بين ما يزيد على وجهين من الوجوه المذكورة ودار الحال في المخالفة بين واحد منها أو كانت المخالفة فيها مختلفة في الزيادة والنقيصة ، كأن كان الخروج عن الأصل في أحدهما من وجهين وفي الآخر من جهة واحدة فيبنى في الجميع على ما هو الراجح بعد ملاحظة الوجوه المذكورة ، ومع المعادلة يرجع في الحكم الى اصول الفقاهة.

خامسها

أنّ قضية الأمر بعد دلالته على الوجوب بأيّ وجه كان من الوجوه المتقدّمة هو وجوب الإتيان بالمأمور به وأداء الفعل الّذي تعلّق ذلك الأمر به من غير اعتبار أمر آخر في حصوله ، إلّا أن يدلّ دليل على اعتبار ما يزيد على ذلك ، والوجه فيه أنّ ظاهر الأمر هو وجوب الإتيان بما تعلّقت الصيغة به فإذا حصل ذلك من المأمور صدق الإتيان بما أوجبه الآمر ، ومع حصوله يسقط الطلب لحصول متعلّقه ،

٦٧٩

فيحصل أداء الواجب بمجرّد الإتيان به من غير حاجة الى ضمّ شيء آخر اليه ، فقضية الأصل إذن إذا تعلّق الطلب بطبيعة اتصاف أيّ فرد أتى به بعد الطلب المفروض بالوجوب وحصول الواجب به ، سواء كان الإتيان به على وجه القصد الى ذلك الفعل وإرادته أو لا ـ كما إذا وقع منه على وجه الغفلة والذهول أو حال النوم ونحوه أو اشتبه عليه وأتى به على أنّه غير ما كلّف به ـ وسواء غفل عن التكليف المتعلّق به أو لا ، وسواء أتى به على قصد الامتثال أو غيره.

وقد يورد عليه بوجوه :

منها : أنّ متعلّق الطلب وإن كان مطلق الطبيعة من غير تقييدها بشيء بمقتضى ظاهر الأمر لكن تعلّق الطلب به إنّما يكون مع تفطّن الفاعل به وعدم غفلته عنه لوضوح استحالة التكليف بالفعل مع غفلة المأمور وذهوله عن ذلك الفعل وحينئذ فقضية تعلّق الطلب بالطبيعة هو الإتيان بالفعل على وجه القصد اليه فلا يكون الصادر على سبيل الغفلة مندرجا في المأمور به وكذا إذا أتى به معتقدا كونه مغايرا لما امر به.

ومنها : أنّ ظاهر ما يستفاد من الأمر في فهم العرف أنّ ما يتعلّق الطلب به هو ما يكون صادرا على وجه العمد دون الغفلة أو الالتباس بغيره ، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات فلا يندرج فيه الأفعال الصادرة على غير ذلك الوجه وإن شملها الطبيعة المطلقة.

ومنها : أنّ الفعل المتعلّق للطلب إنّما يتّصف بالوجوب من حيث كونه مأمورا به فيتوقّف وجوبه على توجّه الأمر الى الفاعل ، ومن البيّن أنّ تعلّقه به إنّما يكون مع علمه بالتكليف ، إذ لا تكليف مع الغفلة فكون ما يأتي به أداء للواجب إنّما هو بعد علمه بالتكليف ، فلو أتى به قبل ذلك ثمّ انكشف التكليف به لم يكن ما أتى به واجبا حتّى يسقط به ذلك التكليف فلا يكون الإتيان بالفعل أداء للمأمور به إلّا بعد تعلّق العلم به.

ومنها : أنّ القدر اللازم مع الغضّ عمّا ذكر هو اتّصاف الطبيعة المطلقة المتعلّقة

٦٨٠