هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

في نحو القاتل والجارح والبائع والمشتري والمعلّم والمضروب والمنصور ونحوها.

واخرى بأنّ التبادر المدّعى في تلك الأمثلة معارض بتبادر خلافه في أمثلة اخرى ، فإن اجيب بكون تبادر الأعمّ في تلك الأمثلة من جهة الغلبة لم يكن ذلك أولى من العكس.

ثانيها : صحّة السلب مع انتفاء التلبّس في الحال في الأمثلة المذكورة.

ويرد عليه المعارضة المذكورة بعدم صحّته في الأمثلة الأخيرة.

وقد يقرّر ذلك بوجه آخر ، بيانه : أنّه يصحّ أن يقال لمن انقضى عنه الضرب في الحال : «إنّه ليس بضارب الآن» واذا صحّ السلب المقيّد صحّ السلب المطلق ، ضرورة صدق المطلق بصدق المقيّد.

وبعبارة اخرى قولنا : «ليس بضارب الآن» قضيّة وقتيّة وصدق الوقتيّة يستلزم صدق المطلقة العامّة ، فيصحّ القول بأنّه ليس بضارب مع الإطلاق ، وصحّة سلبه كذلك دليل المجاز ، فيكون مجازا في الماضي فلا يكون موضوعا لما يعمّه ، فتعيّن وضعه لخصوص المتلبّس في الحال وهو المدّعى.

ويمكن الإيراد عليه بالنقض والحلّ ، أمّا الأوّل فلأنّه لو تمّ ذلك لدلّ على صحّة سلبه عن المتلبّس في الحال أيضا ؛ إذ يصحّ أن يقال لمن لم يكن متلبّسا بالضرب في الماضي وقد تلبّس به في الحال : «إنّه ليس بضارب أمس» وصدق المقيّد يستلزم صدق المطلق ... الى آخر الدليل.

وأمّا الثاني فبأنّ قوله «الآن» امّا أن يؤخذ قيدا في المحمول أو ظرفا للحكم ، فعلى الأوّل يسلّم صدق السالبة المذكورة ، لكن لا يكون نفس السلب حينئذ مقيّدا بل يكون من قبيل سلب المقيّد ، ومن البيّن أنّ سلب المقيّد لا يستلزم سلب المطلق ، وعلى الثاني صدق القضيّة المذكورة ممنوع ، بل هو أوّل الدعوى ؛ إذ القائل بعدم اشتراط البقاء يقول بصدق الضارب عليه في الحال مع تلبّسه به في الماضي.

وقد يجاب أيضا بعد تسليم صدق النفي مع جعل القيد ظرفا للحكم بأنّ قضيّة ذلك صدق السلب في الوقت الخاصّ ، وأقصى ما يلزم من ذلك صدق السلب على

٣٨١

سبيل الإطلاق العامّ وهو غير مناف لصدق الايجاب كذلك ؛ ضرورة عدم تناقض المطلقتين.

ويدفعه أنّ المطلقتين إنّما لا يتناقضان في حكم العقل لا في حكم العرف ، ضرورة وجدان التناقض عرفا بين قولك : «زيد ضارب وزيد ليس بضارب» وهو المحكّم في المقام وأيضا لو سلّم صدق الايجاب أيضا فهو غير مانع لصحّة الدليل ؛ إذ المقصود صحّة السلب لا عدم صحّة الايجاب ، فإنّه المأخوذ دليلا في المجاز ، وأمّا صحّة الايجاب فلا ربط له بالدلالة على حال اللفظ ، ولذا لم يعدّ من علائم الحقيقة.

ويمكن الجواب عن ذلك بالفرق بين صدق السلب على سبيل الإطلاق بملاحظة الإطلاق العامّ المنظور في حكم العقل وصدقه على سبيل الإطلاق في حكم العرف ، فالأوّل مسلّم ، ولا ثمرة فيه ؛ إذ ليس مجرّد ذلك علامة للمجاز ، والثاني ممنوع.

قلت : بعد تسليم صدق السلب المذكور في الحال على أن يكون الحال ظرفا للحكم كما هو المفروض يتمّ الاحتجاج ولو اخذ صدق الإطلاق العامّ اللازم لذلك بملاحظة العقل، والرجوع الى العرف إنّما هو في الحكم الأوّل وأمّا الثاني فلا حاجة فيه الى ملاحظة العرف ، بل قطع العقل بصحّة السلب كاف في الدلالة على المقصود.

وأنت خبير بأنّه لا حاجة إذن الى ضمّ المقدّمات الأخيرة ، بل مجرّد إثبات صدق السالبة المفروضة كاف في إثبات المطلوب ، إذ عدم صدق المفهوم من اللفظ عليه في الحال وصحّة سلبه عنه حينئذ قاض بعدم وضع اللفظ للمفهوم الأعمّ وإلّا لما صحّ سلبه عن مصداقه ، فلا حاجة الى إثبات صحّة سلبه عنه مع إسقاط القيد المذكور ؛ إذ المفروض إطلاق المسلوب وإن اعتبر كون السلب في الحال.

فإن قلت : إنّ صحة السلب الدالّ على المجاز إنّما هو صحّة السلب المنافي للايجاب، وليس صحّة السلب المذكور منافيا للايجاب ؛ لإمكان صحّة الإثبات أيضا.

٣٨٢

قلت : أوّلا : أنّه لا دليل على اعتبار الشرط المذكور ، بل لا وجه له حسب ما عرفت تفصيل القول فيه.

وثانيا : أنّ المعتبر في منافاته للايجاب لو قيل به إنّما هو على نحو ما تعلّق به السلب ، ومن البيّن أنّه لا يصحّ أن يقال له : «إنّه ضارب الآن» فتعيّن الجواب في المنع عن صحّة السلب لو اخذ الحال قيدا للحكم.

وما يتراءى من صحّة السلب مع التقييد فإنّما هو مبني على انصراف التقييد الى كونه قيدا في المحمول ، وفيه تأمّل سيأتي الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.

ثالثها : أنّها لو كانت موضوعة للأعمّ لصحّ إطلاق القاعد على القائم والقائم على القاعد والنائم على المستيقظ والمستيقظ على النائم ونحوها ، ومن الواضح فساده ، وكذا يلزم صحّة إطلاق الكافر على المؤمن والمؤمن على الكافر ، وليس كذلك وإلّا لكان جملة من أكابر الصحابة كفّارا على الحقيقة ، والمرتدّ عن الدين مؤمنا على الحقيقة ، وليس كذلك إجماعا.

واجيب أوّلا : بالتزام المنع والتخصيص في محلّ النزاع ، لطريان الضدّ الوجودي في المقام ، ومحلّ النزاع ما إذا لم يطرأ ذلك ، وكون المبدأ ثبوتيا في بعضها ومحلّ النزاع ما إذا كان حدوثيّا ، وقد عرفت ما فيه.

وثانيا : بأنّ ذلك معارض بأنّه لو كان موضوعا للحال لما صحّ إطلاق القاتل والضارب والجارح والبائع والمشتري ونحوها على من انقضى عنه المبدأ إلّا على سبيل المجاز ، مع أنّ ملاحظة الاستعمالات تشهد بخلافه.

والوجه في التفصيل بين ما يمكن حصوله في الحال وما لا يمكن فيه ذلك هو الأخذ بأدلّة القائل باشتراط التلبّس في الحال ، إلّا أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما يمكن فيه ذلك دون غيره ؛ إذ لا يعقل اشتراط التلبّس في الحال فيما لا يمكن حصوله فيها كالمخبر والمتكلّم ونحوهما ، فلا يمكن القول بوضعه لخصوص المتلبّس في الحال ؛ إذ لا وجه لوضع اللفظ للمعنى على وجه لا يمكن إرادته في الاستعمالات ، ولأنّه يلزم أن يكون استعمالاته كلّها مجازات لا حقيقة لها ، وذلك وإن لم يكن

٣٨٣

متعذرا إلّا أنّه لا أقلّ من كونه مستبعدا مخالفا للظاهر ، وهو كاف في المقام لابتناء ثبوت الأوضاع على الظنّ.

ويدفعه ما عرفت في ردّ أدلّة القائلين باعتبار الحال وأنّ المعتبر في صدق وجود المبدأ في الحال على القول باشتراطه كونه على النحو الصادق في العرف دون التدقيقات العقليّة ... الى آخر ما مرّ.

حجّة التفصيل الّذي اختاره بعض المتأخّرين أنّهم يطلقون المشتقّات مع حصول الاتّصاف على النحو المذكور من دون نصب قرينة كالكاتب والخيّاط والقارئ والمعلّم والمتعلّم ونحوها ولو كان المحلّ متّصفا بالضدّ الوجودي كالنوم ونحوه ، قال : والقول بأنّ الألفاظ المذكورة كلّها موضوعة لملكات هذه الأفعال ممّا يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الأمثلة ، وغير موافق لمعنى مبادئها على ما في كتب اللغة.

وفيه أوّلا : أنّ صدق المشتقّات المذكورة ليس مبنيّا على أكثريّة الاتّصاف بالمبدأ ، إذ ليس هناك أغلبيّة في الغالب ، غاية الأمر حصول الاتّصاف في زمان يعتدّ به وإن كان مغلوبا بالنسبة الى أزمنته عدم الاتّصاف ، بل قد يكون زمان عدم الاتّصاف به أضعاف زمان الاتّصاف كما في المعلّم والمتعلّم والقارئ ونحوها فلا يطابق ما عنون به الدعوى.

وثانيا : أنّه منقوض بالنائم والمستيقظ والساكن والمتحرّك والحاضر والمسافر ، فإنّه لا يصدق شيء من تلك المشتقّات مع زوال المبدأ مع عدم إعراض الذات عنها وعدم قصور زمن الاتّصاف بها عمّا فرض في المبادئ المذكورة ، بل ومع أغلبيّة اتصافها بها.

وثالثا : أنّ ما ذكر على ما فرض صحّته إنّما يثبت كونه حقيقة في الصورة المذكورة ، وأمّا عدم صدقه على سبيل الحقيقة في غيرها فلا دلالة في ذلك عليه ، مضافا الى ما يرى من صدقها حقيقة بحسب العرف كالقاتل والضارب والبائع والمشتري ونحوها ، لوجود أمارات الحقيقة في تلك الأمثلة مع عدم اتّصاف

٣٨٤

الذات بمبادئها إلّا في زمان يسير ولو مع إعراضها عن ذلك ، فإنّك تقول : «فلان قاتل عمرو» بعد مضيّ اتّصافه بقتله مع عدم إمكان عوده اليه ، وكذا يصدق عليه أنّه جارحه أو ضاربه ولو مع ندامته عن ذلك وعزمه على عدم العود اليه ، وتقول : «فلان بائع الدار أو مشتريه» ولو ندم عن ذلك وعزم على عدم إقدامه عليه.

فظهر أنّ جعل المناط في صدق المشتقّ وعدمه ما ذكر ممّا لا وجه له أصلا ، واعتبار الإعراض عن المبدأ وعدمه ممّا لا مدخل له في صدقها.

نعم ، إنّما يلاحظ ذلك في الصنائع والملكات كالبقّال والبنّاء والعطّار والخيّاط ونحوها ؛ لقضاء الإعراض برفع اليد عن الصنعة ، فلا بقاء للمبدأ معه ، والمبادئ المأخوذة في الأمثلة المفروضة يطلق على الصنعة والملكة قطعا ، بل لا يبعد كونها حقيقة في ذلك عرفا كما يظهر ذلك من ملاحظة الاستعمالات الدائرة ، خصوصا بالنسبة الى الخيّاط فإنّ الشائع إطلاقه على صاحب الصنعة المعروفة.

والوجه في التفصيل الأخير اختلاف الحال في المشتقّات بعد الرجوع الى العرف وعدم جريانها على نحو واحد في الاستعمالات ، ولم يثبت هناك أصل كلّي يعمّ جميعها ، ولا وضع نوعي يجري عليه فيها ، فينبغي الرجوع في كلّ منها الى ما هو المتبادر منه في العرف ، ودلّ عليه أمارات الحقيقة والمجاز.

نعم ، لا يبعد البناء على أصالة الحمل على الحال في الصفات المشبّهة وأفعل التفضيل؛ لغلبتهما في ذلك بل لا يعرف فيهما مثال اريد به غير ذلك ، وأصالة الحمل على الأعمّ في اسم المفعول ؛ لغلبته في ذلك مع احتمال خروج الثلاثة عن محلّ البحث حسب ما مرّ نقله عن الفاضل المذكور.

وأنت خبير بأنّ إرجاع الأمر الى خصوصيّات الألفاظ والبناء على الرجوع الى المتبادر من كلّ لفظ من غير أن يكون هناك معنى ملحوظا في وضع الجميع ينافي كون الوضع نوعيّا في المشتقّات ، كما هو المعروف بل الثابت من تتبّع أقوالهم ، وملاحظة المشتقّات الدائرة في المحاورات الجارية.

وأنا الى الآن لم يحضرني قائل بكون الوضع في المشتقّات شخصيّا ، فالبناء

٣٨٥

على ذلك في غاية البعد ، وكان الوقف في موضوعها الأوّلي والبناء على النقل فيما يتبادر منه خلاف ذلك أولى من التزام شخصيّة أوضاعها كما لا يخفى.

هذا والّذي يتقوّى في بادئ النظر أن يقال بالتفصيل بين المشتقّات المأخوذة على سبيل التعدية ولو بواسطة الحرف والمأخوذة على سبيل اللزوم ، فالاولى موضوعة للأعمّ من الماضي والحال ، والثانية موضوعة لخصوص الحال ، فيكون هناك وضعان نوعيّان متعلّقين بالمشتقّات باعتبار نوعيها ولو مع اتّحاد الصيغة ، فاعتبر في أحدهما حصول الاتّصاف في الجملة ، سواء كان حاصلا في الحال أو لا ، وفي الآخر تحقّقه بالفعل على النحو المذكور.

يشهد بذلك استقراء الحال في المشتقّات ، فإنّ ما كان من قبيل الأوّل يكون المتبادر منه هو المعنى الأعمّ ، فيصدق أساميها بحسب العرف مع حصول الاتّصاف في الحال وعدمه ، كالقاتل والضارب والبائع والمشتري والمضروب والمنصور والمكتوب والمنقوش وغيرها من الأمثلة ممّا اخذ متعديا ، سواء كان من أسماء الفاعلين أو المفعولين.

وما كان من قبيل الثاني فالمتبادر منه هو الاتّصاف في الحال ، كالقائم والقاعد والجالس والمضطجع والمستلقي والنائم والمستيقظ والأحمر والأصفر والحسن والقبيح والأفضل والأحسن الى غير ذلك.

وحيث كانت الصفات المشبّهة وأسماء التفضيل مأخوذة على وجه اللزوم كان المتبادر منها هو الحال وكان استعمالها في الماضي خروجا عمّا يقتضيه وضعها ، ولمّا كانت أسماء المفعولين مأخوذة على سبيل التعدية في الغالب كان الغالب صدقها مع زوال المبدأ أيضا ، ولو كانت مأخوذة على وجه اللزوم لم تصدق كذلك كالمحموم والمهموم والمغموم والموجود والمعدوم ونحوها ، فإنّ المقصود بها ما ثبت له صفة الحمّى والهمّ والغمّ أو الوجود أو العدم من غير ملاحظة تعدية تلك الصفة من الغير اليه ، ولو لوحظ ذلك في وضعها بواسطة الحرف كانت كالأوّل كالممرور به والمهدى اليه فتتبع صيغ المشتقّات ، واستقراء أقسامها شاهد لما فصّلناه ،

٣٨٦

ولو وجد هناك بعض الصيغ على خلاف ذلك فيمكن القول بثبوت وضع ثانوي بالنسبة اليه ولا ينافي ذلك ما قررناه ، إذ الأوضاع النوعيّة إنّما تستفاد من ملاحظة غالب الألفاظ وتتبّع معظم الموارد. هذا ما يقتضيه ظاهر النظر في المقام.

وأمّا ما يفضي اليه التحقيق بعد التأمل في المرام أن يقال بكون المشتقّات موضوعة بإزاء مفاهيم الصفات المدلول عليها بها ، فالعالم والقائم والقاعد والأحمر والأصفر ونحوها أسام للمفهومات المعيّنة والصفات المعلومة الجارية على الذوات المتّحدة معها المحمولة عليها ، فهي عنوانات لتلك الذوات ومفاهيم يصحّ التعبير عن تلك الذوات بها من جهة اتّحادها معها واندراجها فيها ، وهذا هو المراد باعتبار الذات المطلقة في تلك الأوصاف ، فإنّ المقصود بذلك إجراؤها على الذوات والتعبير عن تلك الذوات بها وبالعكس ، نظرا الى اتّحادها بها ، لا أنّه قد اعتبر هناك صريح مفهوم الذات جزء من مداليلها حتّى يكون مفهوم «الضارب» هو ذات ثبت له الضرب ومفهوم «العالم» ذات ثبت له العلم ... وهكذا وإن أمكن التعبير عنها بذلك حيث إنّها جارية على تلك الذوات ، فيقال : إنّ العالم ذات ثبت له العلم ، كما أنّه قد يقال ذلك في الجوامد أيضا فيقال : إنّ الحيوان ذات ثبت له الحسّ والحركة ، وذلك لا يستدعي كون الذات جزء من مفاهيمها.

كيف! ولو كان كذلك لكانت مفاهيم تلك الألفاظ عبارة عن الموصوف والصفة معا فتكون دالّة على كلّ من الأمرين بالتضمّن ، بل وعلى الاتّصاف أيضا فيكون مفادها مفاد المركّب التامّ أو الناقص ، ومن البيّن خلافه ؛ إذ لا يستفاد منها بحسب الوضع إلّا معنى واحد ومفهوم فارد وضعي عنوان لذات متّصفة بتلك المبادئ ، غاية الأمر أن يقال بدلالتها على الذات والاتّصاف بالالتزام ، بناء على وضع اللفظ لتلك المفاهيم من حيث كونها جارية على الذوات بخلاف نفس المبادئ حيث لم تؤخذ عنوانا للذات ولا اجريت عليها وإنّما وضعت للصفات المباينة لموصوفاتها.

وأيضا لو أخذ بظاهر التفسير المذكور كان المشتقّ اسما لنفس الذات المقيّدة

٣٨٧

بالقيد المفروض على أن يكون القيد خارجا والتقييد داخلا ، فإنّ مفاده حينئذ هو الذات المتّصفة بالمبدأ لا مجموع الذات واتّصافها بالمبدأ ، ليكون كلّ من الأمرين جزء ممّا وضع له ، فيتخلّص وضعه إذن للذات ويكون معناه الحدثي خارجا عن معناه قيدا فيه ، كما في العمى والبصر ، ولا ينبغي الريب في فساده.

ومما يشير الى ذلك أيضا أنّها تقع محمولات على الذوات من غير تكلّف وتأويل ، ومن المقرّر أنّ المأخوذ في جانب الموضوع الذات وفي جهة المحمول المفهوم.

كيف! ولو كانت الذات جزء من مفاهيم تلك الصفات لكان في قولك : «هذا الذات ضارب» تكرار للذات ، فكأنّك قلت : «هذا الذات ذات ثبت له الضرب» وهو مع ركاكته بعيد عن فهم العرف ، كما لا يخفى بعد إمعان النظر.

فإن قلت : إذا لم يكن الذات مأخوذة في مفاهيم تلك الصفات لم يلائم ذلك جعلها موضوعات والحكم عليها ؛ لما تقرّر من اعتبار الذات في جانب الموضوع مع وقوعها موضوعات من غير تكلّف.

قلت : لمّا كانت تلك المفاهيم جارية على الذوات وعنوانات لها صحّ جعلها موضوعات بذلك الاعتبار ، ففي قولك : «العالم كذا» قد جعلت «العالم» عنوانا للذات المعيّنة وحكمت على تلك الذات المعلومة بذلك العنوان المندرجة فيه بما ذكر في المحمول ... وهكذا في سائر الأمثلة.

إذا تقرّر ما ذكرناه فنقول : إنّه إذا اريد التعبير عن الذوات بتلك المفاهيم وجعلها عنوانات لها فلا بدّ من صدق تلك المفاهيم عليها واندراجها فيها ، وإلّا لم يصحّ إطلاقها عليها على سبيل الحقيقة ؛ إذ ذلك إنّما يكون من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد ولا يعقل ذلك إلّا بصدق تلك المفاهيم عليها ، فإذا حصل ذلك صحّ التعبير المذكور سواء كانت تلك الذوات مندرجة تحت تلك العنوانات حال التكلّم أو لا ، ففي قولك : «كلّ عالم كامل» قد حكمت بثبوت الكمال للذات المتّصفة بالعلم ، سواء كان اتّصافها به حال قولك هذا أو قبله أو بعده ، فالمقصود ثبوت

٣٨٨

الكمال لها حين الاندراج في ذلك العنوان ، فالتعبير المذكور حينئذ ممّا لا إشكال فيه ولا خروج فيه عن مقتضى الوضع أصلا ، والحال فيه كحال سائر الألفاظ الجامدة الموضوعة للمفاهيم الكلّية أو الجزئيّة ، وهذا هو المراد بإطلاق المشتقّ على الذات باعتبار حال التلبّس وقد عرفت أنّه لا خلاف في كونه حقيقة جاريا على وفق الوضع.

وأمّا إذا أردت التعبير بها عن تلك الذات بملاحظة حال عدم اندراجها في ذلك العنوان فإن كان ذلك باعتبار ما يحصل من الاندراج بعد ذلك فمن البيّن حينئذ عدم صحّة الإطلاق المذكور على سبيل الحقيقة ؛ إذ التعبير المذكور كما عرفت من قبيل إطلاق الكلّي على فرده والمفروض أنّ ما اطلق عليه اللفظ حينئذ ليس من جملة أفراده ، فلا يكون ذلك المفهوم حاصلا في ضمنه حتى يصحّ الإطلاق من جهته ، فلا بدّ إذن من التصرّف في معنى اللفظ بأن يكون من قبيل استعمال اللفظ فيما يؤول اليه حتّى يصحّ إطلاقه على ذلك الفرد، فيصير اللفظ بذلك مجازا غير مستعمل في المفهوم الّذي وضع له ، وهذا ما ذكروه من كونه مجازا في المستقبل.

وقد يجعل ذلك من باب المجاز في الحمل كما في الاستعارة على مذهب السكّاكي ، فيكون مجازا عقليّا ، إلّا أنّه بعيد عن ظاهر الاستعمالات. نعم ، لو قام قرينة على ملاحظته فلا مانع منه.

وهكذا الحال إذا اطلق المشتقّ على الذات بملاحظة حصول الاتّصاف في الماضي إذا كان المنظور صدق المشتقّ في الحال من جهة سبق الاتّصاف بالمبدأ ؛ إذ لا معنى لصحّة إطلاق اللفظ عليه على سبيل الحقيقة ، مع أنّ المفروض عدم كونه من مصاديقه.

والقول بكون المفهوم من تلك الألفاظ هو المعنى الأعمّ الصادق مع بقاء المبدأ وزواله مدفوع ببعد ذلك عن ظاهر تلك الألفاظ لوضوح عدم حصول ذلك المفهوم فيه بعد زوال المبدأ ، ولذا لا يصحّ أن يحمل المشتقّ عليه مع تقييد الحمل بالحال ،

٣٨٩

فلا يقال : «إنّه ضارب الآن» على أن يكون الآن ظرفا للنسبة ، ومنع صحّة سلبه عنه كذلك كما مرّت الاشارة اليه مما لا وجه له.

كيف! ومن البيّن صحّة السلب المذكور بأدنى التفات الى العرف ، وهو أقوى شاهد على المجازيّة وعدم كون الموضوع له هو المفهوم الأعمّ من الماضي والحال.

فإن قلت : لا شبهة في صحّة إطلاق القاتل والضارب والناصر ونحوها حقيقة على من تلبّس بتلك المبادئ ولو بعد زوالها ، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات العرفيّة ، ولذا لا يصحّ سلبها عنه مع الإطلاق كما مر فكيف الجمع بين الأمرين؟.

قلت : يمكن تصحيح كون الإطلاقات المذكورة على سبيل الحقيقة بملاحظة جعل الوصف المفروض عنوانا لتلك الذات ، من حيث اتّحادها معه حين اتّصافها به وثبوت ذلك المفهوم لها ، فتلك الذات لمّا كانت أمرا واحدا في الحالين لا تغيير فيها باعتبار ثبوت ذلك الوصف لها وعدمه صحّت الإشارة اليها بذلك العنوان ، بملاحظة حال اندراجها فيه وإن لم تكن مندرجة فيه حال الإطلاق ، فقد جعل ذلك الوصف من جهة صدقه على تلك الذات حال تلبسها به عنوانا لها وان ارتفع صدقه عليها بعد ذلك ، نظرا الى اتّحاد الذات في الحالين ، فاللفظ حينئذ مستعمل فيما وضع له ، أعني نفس ذلك المفهوم وجعل ذلك المفهوم عنوانا لتلك الذات مطلقا ، فإطلاق ذلك المفهوم على تلك الذات إنّما هو باعتبار حال اتّحادها معه ، إلّا أنّه لم يلحظ تلك الذات بشرط الاتّحاد المذكور ، بل جعل ذلك عنوانا معرّفا لها في نفسها فيصحّ الحكم عليها مع ملاحظة حال الاتّصاف وبعدها ، فإطلاق القاتل على زيد إنّما هو باعتبار حال اتّصافه بالقتل حين صدوره منه ، إلّا أنّه جعل ذلك عنوانا معرّفا له ولو بعد انقضاء الاتّصاف.

وقد يجري الاعتبار المذكور في الجوامد أيضا ، كما إذا قلت : «أكرم زوجة زيد» وأردت بذلك العنوان بيان الذات الواقعة مصداقا له من غير أن يكون المقصود صدق العنوان عليه حال الإطلاق ، بل المراد تعيين تلك الذات بالوجه

٣٩٠

المذكور بملاحظة حال اتّحادها به وصدقه عليها ، سواء بقي الصدق أو لا ، ولذا يثبت الحكم حينئذ بعد زوال الصدق أيضا ويصحّ الحكم عليها ولو كانت حال الإطلاق خارجة عن ذلك العنوان من غير أن يكون هناك تجوّز في استعماله على النحو المذكور.

نعم ، لا بدّ هناك من قيام قرينة على كون المقصود ذلك حيث إنّه مخالف لظاهر متفاهم العرف حال الإطلاق.

فإن قلت : إن إطلاق الكلّي على الفرد ينزّل منزلة حمل ذلك الكلّي على الفرد المفروض حملا شائعا ، ولا وجه لصحّة الحمل في المقام بعد انقضاء الاتّصاف ؛ لانتفاء الاتّحاد الّذي هو المناط في صحّة الحمل.

قلت : إنّ إطلاقه على الفرد المفروض إنّما هو بملاحظة حال اتّحاده معه ، إلّا أنّه جعل ذلك عنوانا لمعرفة تلك الذات وآلة لملاحظتها في نفسها والحكم عليها من غير اعتبار للوصف العنواني في إطلاقه ، وقد تقرّر عدم لزوم اعتبار ذلك في صحّة الحمل فكما أنّه قد لا يعتبر الوصف العنواني في صحّة الحمل فقد لا يعتبر في صحّة عقد الوضع يجعل العنوان آلة لملاحظة الذات المأخوذة في جانب الموضوع ، ولذا صحّ تقييد العامّتين باللادوام من دون لزوم تجوّز في اللفظ ، فمجرّد الاتّحاد المفروض كاف في صحّة الإطلاق المذكور وجعل ذلك العنوان آلة لملاحظة تلك الذات في نفسها وإن ارتفع الاتّحاد حين الإطلاق ، إذ لا منافاة بين ارتفاع الاتّحاد حال الإطلاق وملاحظة حال حصوله في إطلاق اللفظ.

وحيث كان المعتبر في جانب الموضوع هو الذات وعند وقوع المشتقّ موضوعا للحكم إنّما يراد به الإشارة الى الذات التي وقعت مصداقا له كان المفهوم المذكور ملحوظا من حيث كونه عنوانا للذات ومرآة لملاحظته ، فلذا يكثر فيه الملاحظة المذكورة حتّى أنّه قيل بالاتّفاق(١) على كونه حقيقة في الأعمّ عند وقوعه موضوعا ، كما مرّ.

__________________

(١) باتّفاقهم خ ل.

٣٩١

والوجه فيه في الحقيقة هو ما بيّناه ، لا كونه إذن موضوعا للأعمّ كما هو ظاهر الكلام المذكور ؛ إذ لا وجه لالتزام وضع خاصّ للّفظ حال وقوعه موضوعا دون سائر الأحوال ، وهو وإن جاز عقلا إلّا أنّه عديم النظير في الأوضاع اللفظيّة.

فإن قلت : على هذا لا فرق بين إطلاقه على الذات المفروضة بعد اتّحادها مع المفهوم المذكور أو قبله ، إذ كما يصحّ جعل الاتّحاد المفروض حال حصوله مصحّحا لإطلاق اللفظ وجعل ذلك المفهوم آلة لملاحظتها في نفسها من غير لزوم تجوّز فيما إذا حصل الاتّصاف في الماضي فليصحّ ذلك بالنسبة الى المستقبل أيضا.

قلت : الحال على ما ذكرت إلّا أنّه لمّا كان الاتّحاد المفروض حاصلا في الأوّل صحّ جعله عنوانا لمعرفة تلك الذات معرّفا لها ، نظرا الى حصول الاندراج بخلاف الثاني ، إذ مع عدم حصول الاندراج والإتّصاف يبعد الاعتبار المذكور بحسب ملاحظة العرف ، ولذا لم يجر عليه الاستعمالات العرفيّة ، إلّا أنّه لا تجوّز فيما لو اعتبر ذلك وقام عليه القرينة ، كما هو الحال في الخاصّتين بجعل الوصف هناك عنوانا للذات مصحّحا للحكم عليه ولو مع زوال الاتّصاف أو عدم حصوله ، فإنّ مضمون اللا دوام سلب الحكم عن الموضوع حال عدم اتّصافه بالوصف المأخوذ في العنوان وهو يعمّ الوجهين.

ودعوى التجوّز في الاستعمال المفروض ممّا لا وجه له ، بعد ما عرفت ، غاية الأمر عدم انصراف اللفظ اليه عرفا مع الإطلاق ، لما عرفت من مخالفته لظاهر الملاحظات العرفيّة ، وهو لا يقضي بالمجازيّة بعد ثبوت استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، حسب ما قرّرناه وإن كان اعتباره كذلك خارجا عن الملحوظ في أنظار العرف.

فإن قلت : على هذا ينبغي صحّة الإطلاق المذكور بالنسبة الى سائر المشتقّات ، مع أنّا نرى الفرق بينها فإنّ ما كان مبادئها من قبيل الأفعال الصادرة كالقتل والضرب والإكرام ونحوها نجد صحّة استعمالها في الغالب مع زوال المبدأ

٣٩٢

أيضا ، ولذا يقال : «هذا قاتل زيد أو ضاربه أو مكرمه» وإن لم يكن في حال صدور تلك الأفعال منه ، وأمّا ما كان من قبيل الصفات كالصغير والشاب والحيّ والأحمر والأصفر ونحوها فالغالب عدم استعمالها كذلك ، ولذا لا يطلق شيء من تلك الألفاظ بعد زوال الاتّصاف سيّما مع طريان الضدّ الوجودي ، كما في تلك الأمثلة.

قلت : لا يخفى أنّ ظاهر إطلاق اللفظ بملاحظة معناه الموضوع له على مصداق من المصاديق تحقّق ذلك المعنى في ذلك المصداق بالفعل واندراجه تحته بحسب الحال الّذي لو حظ إطلاق اللفظ عليه بحسبه وإن لم يكن حال النطق ، فإطلاقه عليه باعتبار تحقّقه في زمان سابق وجعل ذلك عنوانا لملاحظة تلك الذات المندرجة تحته ولو بعد زوال الإتّصاف خروج عن مقتضى ظاهر اللفظ ، إلّا أنّه لمّا قام الدواعي على ملاحظة ذلك في جملة من المشتقّات كان ذلك باعثا على جريان الإطلاقات عليها كما في الأمثلة المتقدّمة ، فإنّه لمّا كان اتّصاف الذات بذلك المبدأ في آن من الأوان وكانت الأغراض متعلّقة بحسب العادة بتعريف تلك الذات وبيانها بالجهة المذكورة جروا في التعبيرات على النحو المذكور ، وشاع فيها الملاحظة المذكورة في الإطلاقات العرفيّة بحيث صار الاعتبار المذكور هو الظاهر في كثير منها بخلاف الصفات اللازمة ، فإنّ تعريف الذات وبيانها غالبا إنّما يكون بتلك الصفة الحاصلة فيها سيّما مع طريان الضدّ الوجودي فهناك وإن أمكن الاعتبار المذكور بحسب العقل ، إلّا أنّه لم تجر العادة به ولم يتعارف في المخاطبات ، فلذا لا ينصرف اللفظ اليه مع الإطلاق ، بل ولا مع القرينة في بعضها ؛ إذ إرادة المجاز من جهة علاقة ما كان قد يكون أقرب منه في الملاحظات العرفيّة ، اللهم إلّا أن يقوم قرينة دالّة على خصوص الاعتبار المذكور كما إذا وقع ذلك موضوعا في الخاصّتين لدلالة اللا دوام بملاحظة المقام على الاعتبار المذكور.

فتحصّل ممّا بيّناه أنّ إطلاق المشتقّات على من زال عنه المبدأ على سبيل الحقيقة كما هو الظاهر في كثير من الأمثلة لا ينافي وضعها لخصوص الحال بالمعنى المذكور ، وتبيّن الوجه في الفرق الحاصل بين الأمثلة من غير حاجة الى

٣٩٣

التزام شيء من التفصيلات المذكورة ممّا أورده في تخصيص محلّ النزاع ، وما ذهب اليه الجماعة من المتأخرين فيما حكينا عنهم من التفاصيل ، فتأمّل في المقام ؛ فإنّه من مزال الأقدام.

تتميم : قد فرّع على الخلاف في المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس بعد زوال السخونة عنه على القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ بخلاف ما لو قيل بالاشتراط ، وكذا الحال في كراهة التخلّي تحت الأشجار المثمرة بعد رفع الثمرة ، وكذا لو نذر مالا لمجاوري المشاهد المشرّفة أو لساكني بلدة معيّنة أو لخدمة الروضات المعظّمة ، أو وقف دارا عليهم ، أو أوصى بمال لهم ، أو للغزاة أو المعلّمين أو المتعلّمين ، أو وقف شيئا عليهم ، أو شرط خروج المحدودين أو الفسّاق أو شاربي الخمور ونحوهم عن الوقف ... الى غير ذلك من الأحكام المتعلّقة بنحو تلك الألفاظ ، سواء تعلّقت بها في أصل الشرع أو بحسب جعل الجاعل في العقود أو الإيقاعات أو سائر الالتزامات الواقعة من الناس.

والّذي يقتضيه التأمّل في المقام ـ حسب ما مرّ من الكلام من القول بوضع تلك الألفاظ للمفاهيم المعيّنة المعلومة الجارية على الذوات الصادقة عليها ـ أنّ قضيّة تعلّق الحكم بتلك العنوانات اعتبار اندراج الأفراد تحت تلك العناوين وصدقها عليها ، إلّا أنّه يختلف الحال فيها من جهة الاختلاف في ملاحظة ذلك العنوان على الوجهين المذكورين ، فقد يكون العنوان ملحوظا بذاته فلا بدّ إذن في اندراج المصداق تحت ذلك العنوان من حصوله فيه بالفعل ، وقد يؤخذ مرآة لملاحظة الذوات الصادق عليها على الوجه الّذي فصّلناه ، وحينئذ يكتفى بتحقّقه في ضمن ذلك الفرد ولو في الماضي ، كما في المحدود والزاني والسارق والقاتل ونحوها ومعظم أسماء المفعولين من هذا القبيل ، فيكون اندراجه تحت العنوان بعد زوال المبدأ بملاحظة الاعتبار المذكور الملحوظ في ذلك العنوان حسب ما مرّ ، وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة الحال في اللفظ المفروض ومراعاة ما هو الملحوظ فيه بحسب المحاورات وفي خصوص ذلك المقام ، ومع الشكّ لا يبعد البناء على

٣٩٤

الوجه الأوّل لما عرفت من أنّه قضية ظاهر اللفظ ، مضافا الى أصالة عدم تعلّق الحكم بما عدا ذلك وكذا يختلف الحال فيه من جهة اختلاف المبادئ المأخوذة في المشتقّات فقد يكون المبدأ فيها وصفا أو قولا ، وقد يكون ملكة راسخة أو حالة مخصوصة ، وقد يكون حرفة وصناعة.

ويختلف الحال في صدق التلبّس بحسب اختلافها فلا بدّ في الأوّل من حصول التلبّس بالفعل في صدقه.

وأمّا الثاني فيعتبر فيه بقاء الملكة والحالة ، ومنه شارب الخمر وشارب القهوة وشارب القليان ونحوها ، فإنّ المراد بتلك الألفاظ من كان مشتغلا بذلك الفعل وكان ديدنه ذلك ، فالمأخوذ مبدأ في تلك المشتقّات هو المعنى المذكور كما يعرف من الرجوع الى العرف ، ونحوه الكلام في المجاور والساكن والقاطن والخادم ونحوها.

وأمّا الثالث فلا بدّ في صدقه من عدم ترك الحرفة والإعراض عن الصنعة وإن وقع منه ذلك أحيانا على سبيل الاتّفاق ، كما يعرف من ملاحظة موارد استعمال المشتقّات المأخوذة على ذلك الوجه كالبقّال والخيّاط والصائغ والتاجر والحائك ونحوها ، وقد يكون المبدأ مشتركا بين الوجوه الثلاثة أو وجهين منها كما في الكاتب والقارئ ونحوهما فيعتبر التعيين من ملاحظة المقام ، ويختلف الحال جدّا من جهة ذلك ، ولا بدّ من ملاحظة ما هو الظاهر في خصوص كلّ من الألفاظ ومراعاة الأمارات القائمة في خصوص المقامات. فتأمّل.

* * *

٣٩٥
٣٩٦

معالم الدين :

أصل

لا ريب في وجود الحقيقة اللغويّة والعرفيّة. وأمّا الشرعيّة ، فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها. فذهب إلى كلّ فريق. وقبل الخوض في الاستدلال ، لا بدّ من تحرير محلّ النزاع.

فنقول : لا نزاع في أنّ الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع ، المستعملة في خلاف معانيها اللّغويّة ، قد صارت حقائق في تلك المعاني ، كاستعمال «الصلاة» في الأفعال المخصوصة ، بعد وضعها في اللّغة للدعاء ، واستعمال «الزكاة» في القدر المخرج من المال ، بعد وضعها في اللّغة للنموّ ، واستعمال «الحجّ» في أداء المناسك المخصوصة ، بعد وضعه في اللّغة لمطلق القصد. وإنّما النزاع في أنّ صيرورتها كذلك ، هل هي بوضع الشارع وتعيينه إيّاها بازاء تلك المعاني بحيث تدلّ عليها بغير قرينة ، لتكون حقائق شرعيّة فيها ، أو بواسطة غلبة هذه الألفاظ في المعاني المذكورة في لسان أهل الشرع ، وإنّما استعملها الشارع فيها بطريق المجاز بمعونة القرائن ، فتكون حقائق عرفيّة خاصّة ، لا شرعيّة.

وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا وقعت مجرّدة عن القرائن في كلام الشارع ؛ فانّها تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأوّل ، وعلى

٣٩٧

اللّغويّة بناء على الثاني. وأمّا إذا استعملت في كلام أهل الشرع ، فأنّها تحمل على الشرعيّ بغير خلاف.

احتجّ المثبتون : بأنّا نقطع بأنّ «الصلاة» اسم للركعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات ، وأنّ «الزكاة» لأداء مال مخصوص ، و «الصيام» لامساك مخصوص ، و «الحجّ» لقصد مخصوص. ونقطع أيضا بسبق هذه المعاني منها إلى الفهم عند إطلاقها ، وذلك علامة الحقيقة. ثمّ إنّ هذا لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع ونقله لها إليها ، وهو معنى الحقيقة الشرعيّة.

وأورد عليه : أنّه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها أن تكون حقائق شرعيّة ، بل يجوز كونها مجازات.

وردّ بوجهين : أحدهما : أنّه إن اريد بمجازيّتها : أنّ الشارع استعملها في [غير] معانيها ، لمناسبة المعنى اللّغويّ ، ولم يكن ذلك معهودا من أهل اللّغة ، ثم اشتهر ، فأفاد بغير قرينة ، فذلك معنى الحقيقة الشرعيّة ، وقد ثبت المدّعى ؛ وإن اريد بالمجازيّة : أنّ أهل اللّغة استعملوها في هذه المعاني والشارع تبعهم فيه ، فهو خلاف الظاهر ؛ لأنّها معان حدثت ، ولم يكن أهل اللّغة يعرفونها ، واستعمال اللّفظ في المعنى فرع معرفته.

وثانيهما : أنّ هذه المعاني تفهم من الألفاظ عند الاطلاق بغير قرينة. ولو كانت مجازات لغويّة ، لما فهمت إلّا بالقرينة.

وفي كلا هذين الوجهين مع أصل الحجّة بحث.

أمّا في الحجّة ، فلأنّ دعوى كونها أسماء لمعانيها الشرعيّة لسبقها منها إلى الفهم عند إطلاقها ، إن كانت بالنسبة إلى إطلاق الشارع فهي ممنوعة. وإن كانت بالنظر إلى اطلاق أهل الشرع فالذي يلزم حينئذ هو كونها حقائق عرفيّة لهم ، لا حقايق شرعيّة.

وأمّا في الوجه الأوّل ، فلأنّ قوله : «فذلك معنى الحقيقة الشرعيّة»

٣٩٨

ممنوع ، إذ الاشتهار والافادة بغير قرينة إنّما هو في عرف أهل الشرع ، لا في إطلاق الشارع. فهي حينئذ حقيقة عرفيّة لهم ، لا شرعيّة.

وأمّا في الوجه الثاني ، فلما أوردناه على الحجّة ، من أنّ السبق إلى الفهم بغير قرينة إنّما هو بالنسبة إلى المتشرّعة لا إلى الشارع.

حجّة النافين وجهان.

الأوّل : أنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللّغوية ، لفهّمها المخاطبين بها ، حيث انّهم مكلّفون بما تتضمّنه. ولا ريب أنّ الفهم شرط التكليف. ولو فهّمهم إيّاها ، لنقل ذلك إلينا ، لمشاركتنا لهم في التكليف. ولو نقل ، فإمّا بالتواتر ، أو بالآحاد. والأوّل لم يوجد قطعا ، وإلّا لما وقع الخلاف فيه. والثّاني لا يفيد العلم. على أنّ العادة تقضي في مثله بالتواتر.

الوجه الثاني : أنّها لو كانت حقائق شرعيّة لكانت غير عربيّة ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أنّ اختصاص الألفاظ باللّغات إنّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها. والعرب لم يضعوها ؛ لأنّه المفروض ، فلا تكون عربيّة. وأمّا بطلان اللّازم ، فلانّه يلزمه أن لا يكون القرآن عربيّا ؛ لاشتماله عليها. وما بعضه خاصّة عربيّ لا يكون عربيّا كلّه. وقد قال الله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا).

وأجيب عن الأوّل : بأن فهّمها لهم ولنا باعتبار التّرديد بالقرائن ، كالأطفال يتعلّمون اللّغات من غير أن يصرّح لهم بوضع اللّفظ للمعنى ؛ إذ هو ممتنع بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من الألفاظ. وهذا طريق قطعيّ لا ينكر. فان عنيتم بالتفهيم بالنقل : ما يتناول هذا ، منعنا بطلان اللازم ، وإن عنيتم به : التصريح بوضع اللفظ للمعنى ، منعنا الملازمة.

وعن الثاني : بالمنع من كونها غير عربيّة. كيف ، وقد جعلها الشارع حقائق شرعيّة في تلك المعاني مجازات لغويّة في المعنى اللّغويّ ؛ فإنّ

٣٩٩

المجازات الحادثة عربيّة ، وإن لم يصرّح العرب بآحادها ، لدلالة الاستقراء على تجويزهم نوعها. ومع التنزّل ، نمنع كون القرآن كلّه عربيّا ، والضمير في «إنّا أنزلناه» للسّورة ، لا للقرآن ، وقد يطلق «القرآن» على السورة وعلى الآية.

فان قيل : يصدق على كلّ سورة وآية أنّها بعض القرآن ، وبعض الشيء لا يصدق عليه أنّه نفس ذلك الشيء.

قلنا : هذا إنّما يكون فيما لم يشارك البعض الكلّ في مفهوم الاسم ، كالعشرة ، فانّها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة ، فلا يصدق على البعض ، بخلاف نحو الماء ، فانّه اسم للجسم البسيط البارد الرطب بالطبع ، فيصدق على الكلّ وعلى أيّ بعض فرض منه ، فيقال : هذا البحر ماء ، ويراد بالماء مفهومه الكلّيّ ، ويقال : إنّه بعض الماء ، ويراد به مجموع المياه الذي هو أحد جزئيات ذلك المفهوم. والقرآن من هذا القبيل ، فيصدق على السورة أنّها قرآن وبعض من القرآن ، بالاعتبارين ، على أنّا نقول : إنّ القرآن قد وضع ـ بحسب الاشتراك ـ للمجموع الشخصيّ وضعا آخر ، فيصحّ بهذا الاعتبار أن يقال السورة بعض القرآن.

إذا عرفت هذا ، فقد ظهر لك ضعف الحجّتين.

والتحقيق أن يقال : لا ريب في وضع هذه الألفاظ للمعاني اللغويّة ، وكونها حينئذ حقائق فيها لغة ، ولم يعلم من حال الشارع إلّا أنّه استعملها في المعاني المذكورة. أما كون ذلك الاستعمال بطريق النقل ، أو انّه غلب في زمانه واشتهر حتّى أفاد بغير قرينة ، فليس بمعلوم ؛ لجواز الاستناد في فهم المراد منها إلى القرائن الحاليّة أو المقاليّة ؛ فلا يبقى لنا وثوق بالإفادة مطلقا. وبدون ذلك لا يثبت المطلوب. فالترجيح لمذهب النافين ، وإن كان المنقول من دليلهم مشاركا في الضعف لدليل المثبتين.

٤٠٠