هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

لواضعه للأوّل ، ولو بالاعتبار من جهة اختلاف العرف الذي وقع الوضع فيه ، سواء حصل هناك هجر للمعنى الأوّل أو لا ، فتأمّل.

وحيث إنّ المصنّف رحمه‌الله اقتصر في مباحث الألفاظ على قليل من مطالبها وكان هناك فوائد عديدة تليق بالإشارة إليها ومطالب جمّة يتوقف كثير من المباحث المتعلّقة بالألفاظ عليها كان الحريّ الإشارة إلى ما يسع المقام لذكرها ، ولنضع ذلك في فوائد :

الاولى

أنّ دلالة اللفظ على المعنى قد تكون بالوضع وقد تكون بغيره ، فمن الأوّل دلالة اللفظ على ما استعمل فيه من المعاني المطابقية الحقيقيّة ، ومن الثاني دلالته على المعاني التضمّنيّة والالتزاميّة ، فإنّ دلالته عليها من جهة استلزام الكلّ لجزئه والملزوم للازمه ، وهو إنّما يأتي من جهة العقل من غير ارتباط له بالوضع ، وقد يجعل دلالته عليها وضعيّة لتوقّفها على الوضع ، وهو الذي اعتبره المنطقيّون فحكموا بكون الدلالات الثلاث وضعيّة ، وأمّا ما ذكرناه فهو المذكور في كتب البيان ، وهو الأنسب بالمقام.

وكيف كان ، فهذا بحث لفظيّ لا طائل تحته ، فإنّه إن فسّرت الدلالة الوضعيّة بما يكون للوضع مدخليّة في حصولها سواء كانت بلا واسطة أو معها اندرج ذلك في الوضعيّة ، ضرورة توقّفها على الوضع ، إذ دلالة اللفظ على المعاني التضمّنيّة والالتزاميّة فرع الدلالة على المعنى المطابقي المتوقّف على الوضع.

وإن فسّرت بما يكون مستندا إلى الوضع ابتداء ـ كما هو الأظهر في معناها ـ لم تكن من الوضعيّة.

وقد يقال بالتفصيل بين التضمّنيّة والالتزاميّة ، إذ ليست الدلالة على المعنى المطابقي إلّا عين الدلالة على أجزائه ، والمفروض أنّ الاولى وضعيّة ، فتكون دلالته على الأجزاء أيضا كذلك ، وهذا بخلاف الالتزام.

١٤١

وفيه : أنّ هناك فرقا بين ملاحظة الأجزاء بلحاظ واحد هو لحاظ الكلّ وبين ملاحظة كلّ منها منفردا في اللحاظ ، والمعنى التضمّنيّ هو الأخير ، ودلالته عليه غير الدلالة على الكلّ.

وما قد يقال من أنّه إنّما تكون الأجزاء مدلولة للفظ بملاحظتها في ضمن الكلّ لا منفردة ، فهي مدلولة بدلالته على الكلّ ، فكيف يجعل الدلالة على الجزء مغايرة للدلالة على الكلّ؟

مدفوع بأنّهما إنّما يتّحدان ذاتا لا اعتبارا ، بمعنى أنّ هناك دلالة واحدة إذا نسبت إلى الكل كانت مطابقة ، وإذا نسبت إلى الأجزاء كانت تضمّنيا ، فهما مختلفتان في اللحاظ ، فإذا كانت تلك الدلالة بالملاحظة الاولى وضعيّة لم يستلزم أن تكون بالاعتبار الثاني أيضا كذلك.

ثمّ لا يخفى أنّ اعتبار ملاحظة الجزء في ضمن الكلّ بلحاظ مستقلّ غير ملاحظته في ضمن الكلّ بملاحظة الكلّ ، فالجزء مدلول في ضمن الكلّ على النحو الثاني ، إلّا أنّ اعتبار كون الدلالة تضمّنية حاصل باللحاظ الأوّل ، فلا ينافي ذلك ملاحظة الجزء استقلالا ولو اعتبر كونه في ضمن الكلّ ، فلا تغفل.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأظهر إدراج المفاهيم ونحوها في الدلالات العقليّة كسائر الاستلزامات العقليّة ، كدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاصّ ونحوها.

وقد يتفرّع على الوجهين جواز الاعتماد في ذلك على الظنّ إن قيل بكون الدلالة فيها وضعيّة وعدم الأخذ إلّا بالقطع مع كونها عقليّة ؛ لعدم الاعتداد بالظنون العقليّة.

ويدفعه الاكتفاء بالظنّ في الدلالات اللفظيّة لجريان الاستعمالات عليه ، فلا فرق بين جعلها وضعيّة أو عقليّة.

نعم العقليّة الصرفة الغير المستفادة من اللفظ على حسب المخاطبات العرفية لا بدّ فيها من القطع ، سواء كانت الملازمة بين الأمرين بيّنا بالمعنى الأعمّ أو غير

١٤٢

بيّن ، كما هو الحال في الاستلزامات العقليّة من دلالة الأمر بالشيء على الأمر بمقدّمته ونحوها ، فإنّها خارجة عن الدلالات اللفظية وإن كانت الدلالة عليها بواسطة اللفظ ؛ ولذا لم يندرج في شيء من الدلالات الثلاث.

وقد يجعل من الأوّل دلالة المجازات على المعاني المجازيّة ، فإنّه إنّما يصح استعمال المجاز من جهة ترخيص الواضع وإذنه في الاستعمال ، وهو أيضا نحو من الوضع النوعي ، فتكون دلالتها على تلك المعاني أيضا بالمطابقة ؛ لكونها تمام الموضوع له بالوضع المذكور.

وقد يشكل : بأنّه لا حاجة في دلالة اللفظ على معناه المجازي إلى الوضع بعد وجود القرينة ، ضرورة أنّ المعاني المجازيّة من اللوازم الذهنيّة للمعاني الحقيقيّة ولو بحسب العرف والعادة بعد انضمام القرينة ، فالانتقال إليها يحصل من المعاني الحقيقيّة المنضمّة إلى القرينة ، فهي وإن لم تكن لازمة للموضوع له مطلقا لكنّها لازمة له في الجملة ولو بعد انضمام القرينة ، وذلك كاف في حصول الالتزام ، غاية الأمر أن لا تكون لازمة مطلقا ؛ ولذا نصّ علماء البيان على كون الدلالة في المجازات من قبيل الالتزام ، وحينئذ فيكون الحال فيها كسائر الدلالات الالتزاميّة في عدم استنادها إلى الوضع بلا واسطة ، اذ ليس لترخيص الواضع تأثير في دلالتها على تلك المعاني أصلا ، وليس الانتقال إليها إلّا مستندا إلى ما ذكرنا ، فيقوى إذن كونها من قبيل الثاني على نحو غيرها من المداليل الالتزامية ، حسب ما مرّ.

وقد يقال بأنّ الوضع الترخيصيّ الحاصل في المجاز وإن لم يكن مفيدا لدلالة اللفظ على المعنى كما هو الشأن في الحقائق إذ الدلالة هناك حاصلة مع قطع النظر عنه من جهة انضمام القرينة ، إلّا أنّ جواز استعمال اللفظ فيه بحسب اللغة لمّا كان أمرا توقيفيّا متوقّفا على ترخيص الواضع متوقّف عليه ؛ ولذا لا يجوز استعمال اللفظ في أيّ جزء وأيّ لازم فرض ، وإنّما يتّبع جوازه الترخيص المذكور المعلوم من تتبّع استعمالات أهل اللسان ، فالمعاني المجازيّة أيضا ممّا وضع اللفظ بإزائها على الوجه المذكور ، فيكون دلالتها بهذا الاعتبار وضعيّة مندرجة في المطابقة ،

١٤٣

كما قرّر ذلك بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة.

وفيه : أنّ ما ذكر إنّما يفيد إناطة جواز الاستعمال في تلك المعاني على إذن الواضع وترخيصه وأمّا نفس الدلالة فغير مستندة إلى إذنه وتقريره ، والملحوظ في المقام هو حال الدلالة لا جواز الاستعمال ، والمناط في كون الدلالة وضعيّة أو عقليّة كون الباعث على الانتقال إلى ذلك المدلول ابتداء هو الوضع أو العقل ، فإذا لم تكن الدلالة في المقام منوطة بالوضع المفروض وكانت حاصلة من جهة التزام ذلك لمعناه الحقيقي ولو بواسطة القرينة لم يتّجه الحكم بكونها وضعيّة ، وإنّما الحال فيها كسائر المداليل الالتزاميّة ، وتوقّف استعمال اللفظ فيها على الوضع المذكور لا يجعل دلالته عليها وضعيّة ، كما قرّرنا.

نعم ، يصحّ بذلك أن يقال بكونها مداليل مطابقيّة لكونها تمام الموضوع له بهذا الوضع النوعي ، وبذلك يظهر وجه الجمع بين ما ذكره علماء البيان من كون الدلالة في المجازات التزاميّة وما نصّ عليه بعض محقّقي الاصوليّين من كون المعنى المجازي مدلولا مطابقيّا ، فإنّ تلك المعاني مداليل التزاميّة من حيث إنّ الانتقال إليها إنّما يحصل بتوسّط المعاني الحقيقيّة ولو من جهة القرائن المنضمّة ، ومطابقيّة من حيث كونها تمام الموضوع له بهذا الوضع الترخيصي المجوّز لاستعمال اللفظ فيها وإن لم يتوقّف على ذلك دلالتها عليها ، وحيث كان الملحوظ عند البيانيّين هو حال الدلالة أشاروا إلى كونها التزاميّة حاصلة بتوسّط المعاني الحقيقيّة.

هذا ، ولا يذهب عليك أنّ المعاني المجازية وإن كانت لازمة للمعاني الحقيقيّة ولو بعد انضمام القرينة إلّا أنّ فهمها لا يتوقّف على الانتقال إلى المعاني الحقيقيّة ، إذ كثيرا ما يفهم المراد من اللفظ من جهة القرائن من غير علم بما وضع اللفظ له ، فتكون القرينة هي الدالّة على إرادة ذلك المعنى من اللفظ ابتداء من غير انتقال إليه ممّا وضع اللفظ له.

وإن شئت قلت : إنّ اللفظ دالّ عليه بتوسّط تلك القرينة المنضمّة إليه ، وحينئذ يشكل الحال في إدراج ذلك في شيء من الدلالات الثلاث ، إذ ليس الباعث على

١٤٤

الانتقال إليه الوضع ابتداء ولا مع الواسطة ، فالظاهر كونها من الدلالات العقليّة ، لكن المدلول بتلك الدلالة مندرج في المدلول المطابقي بالتقريب المذكور ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الكلام جار في دلالة الحكاية على المحكي ، إذ لا حاجة في دلالتها عليه إلى الوضع ، ضرورة حصول الدلالة بنفس التلفظ بها ، غاية الأمر أن يتوقّف الالتفات إلى نفس اللفظ على قيام القرينة الصارفة عن جعله آلة لملاحظة معناه كما هو الغالب في الاستعمالات ، ولا يبعد القول بتوقّف صحّة استعماله كذلك على ترخيص الواضع وإذنه ؛ لئلّا يخرج به الاستعمال عن قانون اللغة.

وكيف كان ، فيشكل الحال في إدراجها تحت الحقيقة والمجاز ، والظاهر خروجها عنهما ، فهي واسطة بين الأمرين ، والظاهر عدم إدراجهم لها في شيء من أقسام الكلمة إذا لم تكن من الألفاظ الموضوعة وإن نزّلت منزلة الاسم في الاستعمالات.

الثانية

الغالب في أوضاع الألفاظ أن تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات ، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدالّ عليه ، فليس من شأن اللفظ إلّا إحضار ذلك المعنى ببال السامع ، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ ، فيكون اللفظ آلة لإيجاد (١) معناه وأداة لحصوله.

ويجري كلّ من القسمين في المركّبات والمفردات ، فالأوّل من المركّبات : الإخبارات ، والثاني منها الإنشاءات ؛ ولذا قالوا : إنّ الخبر : ما له خارج يطابقه أو لا يطابقه ، والإنشاء : ما ليس له خارج بل يحصل معناه بقصده من اللفظ.

__________________

(١) وكأنّ تعبير المنطقيين عن الحروف بالأداة مبنيّ على ذلك ، إذ كثير من المعاني الحرفية من هذا القبيل ، والمعاني الإنشائية الحاصلة في المركّبات إنّما يكون بملاحظة وضعها الهيئي ، وهو أيضا من قبيل الأوضاع الحرفية. (منه رحمه‌الله).

١٤٥

والنوع الأوّل من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة فإنّها إنّما تقضي بإحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد إثبات تلك المعاني في الخارج ، فهي أعمّ من أن تكون ثابتة في الواقع أولا ، والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة والأفعال الإنشائيّة بالنسبة إلى وضعها النسبي وعدّة من الحروف كحروف النداء والحروف المشبّهة بالفعل ونحوها ، فإنّ كلّا من الإشارة والنسبة الخاصّة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال (هذا ، واضرب ، ويا ، وإنّ) في معانيها ، فمفاد تلك الألفاظ إيجاد معانيها الأفرادية في الخارج نظير الإنشاءات في المعاني التركيبيّة.

هذا ، وقد يكون وضع اللفظ لا بإزاء معنى يستعمل فيه ، وحينئذ فقد يكون موضوعا بإزاء امور اخر غير إفادة المعاني ك (أن المصدرية ، وما الكافّة ، وتنوين الترنّم) ونحوها ، وقد يجعل له فائدة معنويّة كالتأكيد المستفاد من بعض الحروف الزائدة ك (من) في قولك : «ما في الدار من رجل» وقد لا يكون فيه ذلك أيضا كبعض آخر من الحروف الزائدة ، والظاهر خروج الجميع عن قسمي الحقيقة والمجاز كما يظهر من ملاحظة حدّيهما ، وقد يعبّر عن هذا النوع من الوضع في غير الصورة الأخيرة بالوضع الإفادي ، كما قد يعبّر عن الأوّل بالوضع الاستعمالي (١) وقد يكون الوضع لأجل أن يتركّب منه الألفاظ الموضوعة كوضع حروف التهجّي ، وقد يعبّر عنه بالوضع التحصّلي.

الثالثة

قد يكون المقصود باستعمال اللفظ إفادة الموضوع له ، وقد يكون المقصود إفادة غير ما وضع له ابتداء ، وحينئذ فالغالب أن يكون الموضوع له واسطة في الانتقال إليه بمعونة القرينة الدالّة عليه من غير أن يراد ذلك من اللفظ ، بل إنّما يكون واسطة في الانتقال خاصة ، وقد لا يكون المعنى الموضوع له واسطة في الانتقال إليه أيضا ، بل يكون القرينة هي المفهمة لإرادة ذلك المعنى من غير انتقال إلى معناه

__________________

(١) أي الغالب في الأوضاع. (منه رحمه‌الله).

١٤٦

الموضوع له أصلا كما أشرنا إليه ، وقد يكون المقصود بالإفادة غير ما وضع له ، لكن يراد من اللفظ خصوص ما وضع له ابتداء لينتقل منه إلى المعنى المقصود.

ولا إشكال في كون الاستعمال على النحو الأوّل حقيقة ، وعلى الوجه الثاني مجازا ، وأمّا الثالث فيندرج في الحقيقة بملاحظة ما يتراءى من ظاهر حدّها ؛ نظرا إلى استعمال اللفظ حينئذ في المعنى الحقيقي ابتداء وإن جعل ذلك واسطة في الانتقال إلى غيره. وفيه : ما سيأتي الإشارة إليه. وهذه الطريقة أيضا شائعة في الاستعمالات.

منها : العامّ المخصوص على ما هو الأظهر فيه من استعماله في العموم ، ودلالة المخصّص على ما هو المراد بحسب الواقع ، حسب ما يأتي الكلام فيه في محلّه.

ومنها : الكناية حيث إنّ الانتقال إلى المعنى الكنائي إنّما يكون بتوسّط إرادة الموضوع له من اللفظ ابتداء ؛ لينتقل منه إلى لازمه المقصود بالإفادة ، وقد جعلها علماء البيان قسيما للحقيقة والمجاز ، حيث اعتبروا في المجاز لزوم القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة ، وجعلوا الكناية خالية عنها.

قلت : والظاهر أنّ مقصودهم بذلك عدم اعتبار قيام القرينة على كون المراد هو بيان المعنى الكنائي خاصّة كما هو الشأن في المجاز ، بل يعمّ ما لو كان المراد هو ذلك أو اريد به بيان الأمرين معا ، فالمعتبر في الكناية هو كون المعنى الكنائي مقصودا بالإفادة من الكلام ، سواء كان الموضوع له أيضا مقصودا بالإفادة معه أولا ، فهو أعمّ من الوجهين ، بخلاف المجاز فإنّ المقصود فيه إفادة المعنى المجازي خاصّة من دون إفادة المعنى الحقيقي ، فهو ملزوم للقرينة المعاندة.

والسرّ فيه ظاهر ممّا قرّرناه ، فإنّه لمّا كان اللفظ في المجاز مستعملا في معناه المجازي لزمه وجود القرينة المعاندة حسب ما ذكروه ؛ لمنافاة استعماله في المعنى المجازي لاستعماله في المعنى الحقيقي.

وأمّا في الكناية فلمّا كان المستعمل فيه هو الموضوع له واريد الانتقال إلى المعنى الكنائي بتوسّطه كان قيام القرينة على كون المقصود من الكلام إفادة ذلك غير مانع عن كون إفادة الموضوع له مقصودا معه أيضا ؛ فلذا قالوا : إنّ القرينة

١٤٧

المعاندة غير لازمة في الكناية ، إذ يتمّ استعمالها بدونها ، وقيامها في بعض المقامات من المقارنات الاتفاقية وليس من الامور المعتبرة في تحقّقها ، وأمّا قيام القرينة من الحال أو المقال على كون المعنى الكنائي مقصودا بالذات في الجملة فممّا لا مجال للتأمّل فيه ، إذ لا شكّ في انصراف الإطلاق مع عدمه إلى الحقيقة على الوجه الأوّل ، فهي مشاركة للمجاز في لزوم القرينة المفهمة لمشاركتهما في الخروج عن الظاهر.

وإنّما التفاوت بينهما في كون المستعمل فيه في المجاز ابتداء غير الموضوع له غالبا ، وفي الكناية هو الموضوع له ، والمقصود منه الانتقال إلى لازمه أو ملزومه والحكم به.

فإن قلت : إنّ المعنى الحقيقي قد يراد ابتداء في بعض المجازات ويقصد منه الانتقال إلى المعنى المجازي كما يأتي الإشارة إلى عدّة منها ، فلا يتمّ ما ذكر من الوجه في الفرق بينه وبين الكناية ، ولا يمكن الفرق أيضا باعتبار وجود القرينة المعاندة في المجاز وعدمه في الكناية ؛ لإمكان وجود القرينة المعاندة في الكناية أيضا وإن لم تكن من لوازمها ، فأيّ فرق بينها وبين المجاز في تلك الصورة؟ وقد ظهر بذلك أيضا عدم اتّجاه ما ذكر من الوجه في اعتبار القرينة المعاندة في المجاز دون الكناية.

قلت : الانتقال في الكناية إنّما يكون من أحد المتلازمين في الوجود إلى الآخر ، فيحكم بثبوت أحدهما حتّى ينتقل إلى ثبوت الآخر ، فهناك قد يقصد إثبات اللازم خاصّة ، فيكون الحكم بثبوت الآخر لمجرّد الوصلة إليه ، وقد يراد منه إثبات الأمرين من غير منافاة بين القصدين أصلا ، بخلاف الحال في المجاز وإن فرض جعل إرادة المعنى الحقيقي وصلة إلى الانتقال إليه بمعونة القرينة ، فإنّه لمّا كان الانتقال على غير النحو المذكور لم يمكن الجمع بينهما ، كما في التمثيل والعام المخصوص ونحوهما ، فالفارق بينهما كون التعبير في الكناية على نحو لا ينافي إرادة غير الموضوع له لإرادة الموضوع له ، بخلاف المجاز إذا لم نقل بجواز

١٤٨

استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، بل ولو قلنا بجوازه للمنافاة بينهما أيضا بحسب الإرادة الخاصّة المتعلّقة بكلّ منهما ؛ ولذا نصّ أهل البيان بكون المجاز ملزوما للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة ، فالقصدان في الكناية مرتبطان بخلاف الاستعمال في الحقيقة والمجاز ؛ لانفصال كلّ من الإرادتين هناك عن الآخر ، فكأنّ كلّا منهما هو المراد من اللفظ دون الآخر ، حسب ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

هذا على ما هو الأظهر في تفسير الكناية ، ويستفاد من كلام السكّاكي حيث نصّ على أنّ الحقيقة في المفرد والكناية تشتركان في كونهما حقيقتين ، وتفترقان في التصريح وعدمه.

ومن التفتازاني في التلويح حيث قال : إنّه لا بدّ في الكناية من أن يقصد تصوير المعنى الأصلي في ذهن السامع لينتقل عنه إلى المكنّى عنه ، فيكون الموضوع له مقصودا في الكناية من حيث التصور دون التصديق. انتهى.

فإنّ ظاهر كلامه ـ بل صريحه ـ أنّ الموضوع له مقصود في المقام من اللفظ إلّا أنّه ليس مقصودا بالتصديق ، بل الغرض منه الانتقال إلى المكنّى عنه والتصديق به ، فيكون المستعمل فيه في الكناية هو الموضوع له حسب ما ذكرناه.

فما أورد عليه بعض الأفاضل ـ من أنّه لا بدّ في المجاز أيضا من تصوير المعنى الحقيقي ليفهم المعنى المجازي المشتمل على المناسبة المصحّحة للاستعمال ، فدعوى كون الموضوع له مقصودا في الكناية دون المجاز تحكّم ـ بيّن الاندفاع ؛ للفرق البيّن بين المقامين ، فإنّ المعنى الموضوع له يراد من اللفظ في الكناية بخلاف المجاز ، إذ لم يستعمل اللفظ فيه إلّا في المعنى المجازي ، غاية الأمر أنّه يدلّ على المعنى الحقيقي بمقتضى الوضع إن كان عالما به ، وينتقل منه الى ما استعمل فيه اللفظ بمعونة القرينة ، وأين ذلك من استعمال اللفظ فيه وإرادة تصويره في ذهن المخاطب كما في الكناية.

وقد يقال بجواز كون المستعمل فيه في الكناية هو المعنى الكنائي خاصّة ، غير أنّه يجوز معه إرادة الموضوع له أيضا ، إذ ليس معها قرينة معاندة لإرادة الحقيقة.

١٤٩

وتوضيح ذلك : أنّ المعنى الكنائي مقصود من الكناية قطعا ، إمّا باستعمال اللفظ فيه فلا يكون الموضوع له مرادا أصلا ، أو باستعماله في الموضوع له والانتقال إليه بتوسّطه ، فيكون الموضوع له مرادا معه أيضا.

وقد يستظهر ذلك من حدّها المعروف ، من أنّها لفظ اريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه بحمله على كون اللازم مرادا من العبارة قطعا ، وأمّا الموضوع له فيمكن أن يراد معه أيضا بأن يستعمل اللفظ في الموضوع له وينتقل منه إلى اللازم ، وأن لا يراد معه بأن يستعمل في نفس اللازم لينتقل إليه من المدلول الحقيقي كما في المجاز ، فعلى الاحتمال الأوّل يكون حقيقة اصوليّة ، وعلى الثاني مجازا اصوليّا ، وحيث إنّها محتملة للأمرين وليس معها قرينة صارفة عن إرادة الموضوع له رأسا جعلوها في البيان قسما ثالثا ، وجعلوا المائز بينها وبين المجاز وجود القرينة المانعة.

وفيه : أنّ مجرّد دوران اللفظ بين الوجهين المذكورين لا يجعلها قسما ثالثا في المقام ، غاية الأمر أن يصحّ حمل اللفظ على الحقيقة بالنحو المذكور وعلى المجاز ، ومن البيّن أنّ عدّهم الكناية قسيما للحقيقة والمجاز ليس مبنيّا على مجرّد الاصطلاح لمجرّد قيام الاحتمال المذكور ، بل ليس إلّا لكونها نحوا خاصّا من الاستعمال يخالف المجاز والحقيقة بالتفسير المذكور في كلامهم ، وهو ما بيّناه ، والظاهر انطباق الحدّ المذكور على ما ذكرناه ، إذ قضيّة ما ذكر في الحدّ كون المعنى الكنائي مرادا قطعا وكون إرادة الموضوع له معه أيضا محتملا ومن البيّن أنّ ذلك إنّما يصحّ مع عدم استعمال اللفظ في المعنى الكنائي ابتداء ، إذ مع استعماله كذلك فيه لا يصحّ استعماله في المعنى الحقيقي أيضا إلّا على القول بجواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وليس ذلك من الكناية في شيء كما سنبيّنه إن شاء الله.

فالمقصود من إرادة اللازم منها ليس باستعمالها فيه ابتداء ، بل بكونه مقصودا بالإفادة من العبارة وإن كان بتوسّط فهم ملزومه ، وحينئذ فيمكن أن يكون الملزوم مقصودا بالإفادة أيضا ، فيراد بالكلام المذكور إفادة أمرين وأن لا يكون بأن يكون

١٥٠

المراد منه إفادة اللازم خاصّة ، وليس المقصود جواز ذلك فعلا في جميع الكنايات ، بل المراد أنّ إرادة المعنى الكنائي من حيث هو لا تنافي إرادة المعنى الموضوع له كما تنافيها إرادة المعنى المجازي ، فالاحتمال المذكور قائم في الكناية في نفسها مع قطع النظر عن الخارج ، فلا ينافيه قيام قرينة خارجيّة مانعة عن إرادة الموضوع له حسب ما مرّ بيانه ، كيف؟ ولو حمل العبارة على غير ذلك لزم اندراج الكناية المجامعة للقرينة المانعة عن كون الموضوع له مقصودا بالإفادة في المجاز كما هو اللازم على التفسير المذكور ، فلا ينعكس الحدّ.

وممّا قرّرنا ظهر ما في كلام التفتازاني في شرح التلخيص ، حيث نصّ في غير موضع منه على أنّ المستعمل فيه في الكناية إنّما هو غير ما وضع اللفظ له ، إلّا أنّه يجوز إرادة الموضوع له أيضا ، قال في أوائل بحث الحقيقة والمجاز : إنّ الكناية لم يستعمل في الموضوع له ، بل إنّما استعمل في لازم الموضوع له مع جواز إرادة الملزوم ، ومجرّد جواز إرادة الملزوم لا يوجب كون اللفظ مستعملا فيه. انتهى.

إذ من الظاهر أنّه إن قام هناك قرينة توجب الصرف عن الموضوع له فلا مجال لاحتمال إرادته ، ويندرج ذلك إذن في المجاز ، وليس من الكناية في شيء وإن لم تقم هناك قرينة صارفة تعيّن الحمل على الحقيقة أخذا بالقاعدة المعلومة التي جرت عليها المخاطبات من بدوّ اللغة ، فقيام احتمال إرادة الموضوع له على الوجه المذكور ممّا لا وجه له.

فإن قلت : إنّه لا بدّ من قيام القرينة على إرادة المعنى الكنائي قطعا ، لكن يقوم هناك احتمال إرادة الموضوع له معه وعدمها ، وهو الفارق بينها وبين المجاز.

قلت : إن كان المقصود من الاحتمال المذكور استعماله في كلّ من المعنيين المذكورين كان مبنيّا على جواز استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي وعدم كونه مرجوحا بالنسبة إلى استعماله في المجازي خاصّة ، وأمّا مع عدم جوازه أو مرجوحيته بالنسبة إلى استعماله في خصوص المجازي فلا مجال لهذا الاحتمال.

١٥١

وإن اريد استعماله في المجموع المركّب من المعنيين فلا شكّ في كون الاستعمال هناك مجازيّا متوقّفا على وجود القرينة الصارفة ، وليس ذلك من الكناية في شيء وهو ظاهر.

وقد ينزّل ما ذكره على ما بيّناه ، ويظهر الوجه فيه بملاحظة ما يأتي بيانه في آخر هذه الفائدة إن شاء الله.

فتلخّص ممّا ذكرناه أنّ الكناية مستعملة ابتداء في معناه الحقيقي لينتقل منه إلى الأمر الخارج عنه ، سواء كان المقصود هو إفادة ذلك الأمر الخارج خاصّة أو إفادة المعنى الحقيقي معه أيضا ، ومن البيّن أنّ في ذلك أيضا مخالفة للظاهر ، فلا تحمل العبارة عليه إلّا مع قيام قرينة على كون الغرض المسوق له الكلام بيان غير مدلوله الحقيقي في الجملة ، سواء كان المدلول الحقيقي مقصودا بالإفادة أيضا أو لا.

وهذا الوجه كما ترى طريق خاصّ في التعبير يخالف التعبير بكلّ من الحقيقة والمجاز ، ويقع فيه الاختلاف في الدلالة وضوحا وخفاء على نحو المجاز ؛ ولذا جعلوه أحد المقاصد في فنّ البيان ، فجعلوا الكناية قسيمة للحقيقة والمجاز ، فقسّموا الألفاظ على أقسام ثلاثة ، واعتبروا في المجاز الاقتران بالقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة ، فتأمّل.

ومنها : الاستعارة على قول السكّاكي ، حيث ذهب إلى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي ، وأنّ التصرف فيها في أمر عقلي فلا يطلق اسم المشبّه به على المشبّه إلّا بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبّه به ، فإذا كان نقل اسم المشبّه به إلى المشبّه من جهة نقل معناه لم يكن مجازا لغويّا ؛ نظرا إلى ظاهر حدّه.

واحتجّ لذلك بأنّه لو لا ابتناء الاستعارة على ما ذكر لم تكن مشتملة على المبالغة ، إذ لا مبالغة في نقل مجرّد اللفظ كما في نقل لفظ المشبّه به إلى المشبّه بالوضع الجديد ، مع ما هو ظاهر من حصول المبالغة فيها زيادة على التشبيه.

وردّ ذلك بظهور إطلاق اسم المشبّه به على المشبّه وظهور عدم اندراج المشبّه في المشبّه به على سبيل الحقيقة ، فلا محالة يكون مستعملا في غير ما وضع له ،

١٥٢

وهو معنى المجاز ، والمبالغة إنّما تحصل هناك من جهة ملاحظة المشابهة والتشبيه المضمر في النفس ، فالفرق بينها وبين نقل الاسم بالوضع الجديد ظاهر ، والفرق بينها وبين التشبيه التصريح بالمغايرة وعدم اندراج المشبّه في المشبّه به هناك وإيهام اندراجه فيه في الاستعارة ؛ نظرا إلى ظاهر اللفظ لإضمار التشبيه في النفس ، فيكون أبلغ في إظهار المشابهة حيث اطلق عليه اسم المشبّه به ؛ ولذا اختار جمهور أهل البيان كونها من قبيل المجاز اللفظي.

أقول : إنّ مجرد إطلاق اسم المشبّه به على المشبّه مع كون المشبّه خارجا عن أفراده الحقيقية لا يقضي بالتزام استعمال اللفظ في غير ما وضع له ؛ للفرق بين استعمال اللفظ في المعنى وإطلاق الكلّي على الفرد ، ألا ترى أنّ استعمال الكلّي في خصوص الفرد مجاز مع أنّ إطلاقه على ذلك ليس من المجاز ، ألست في قولك : «رأيت إنسانا» قد أطلقت الإنسان على خصوص الفرد الذي رأيته ، مع أنّه ليس مجازا قطعا لاستعماله في نفس مفهومه ، ينبّهك على ذلك أنّك لو قلت : «رأيت إنسانا» وقد رأيت شجرا كان قولك كذبا ، ولم يكن الاستعمال غلطا ، فإنّك لم تستعمل قولك : «إنسانا» إلّا في مفهوم فرد من الإنسان الغير الصادق على الشجر ، وكذا الحال في قولك : «رأيت عالما» وقد رأيت زيدا الجاهل، وقولك : «رأيت زيدا العالم» وهو جاهل في الواقع ، فلو اشتبه عليك الحال فزعمته على ما أخبرت ظهر عليك حصول الغلط في الحكم دون الغلط في الاستعمال ، وكذا في الأخير بالنسبة إلى الحكم الضمني اللازم من التوصيف ، وهذا هو الوجه في عدم كون الأسامي الواردة على الشبح المرئيّ من بعيد بحسب اختلاف اعتقاد المتكلّم فيه غلطا ؛ لاستعمالها فيما وضعت لها ، وإطلاقها على ذلك من جهة اعتقاد انطباق كلّ من تلك المعاني معها ، وإنّما الغلط هناك في الاعتقاد المذكور.

إذا تبيّن ذلك ظهر أنّ مجرّد إطلاق اسم المشبّه به على المشبّه لا يقضي باستعماله في مفهومه ؛ لإمكان استعماله في المفهوم الذي وضع اسم المشبّه به بإزائه وإطلاقه على ذلك الفرد لدعوى انطباقه عليه من غير استعمال اللفظ في

١٥٣

المفهوم المفروض ليكون مجازا ، فالمعنى الموضوع له هو المراد من اللفظ ، إلّا أنّه غير منطبق على ما اطلق عليه على سبيل الحقيقة ، ففيها مخالفة للظاهر من تلك الجهة وهي جهة اخرى غير استعمال اللفظ فيه أوّلا الذي عليه مدار الكلام في المقام ، فالاستناد في استعمال الاستعارة في غير ما وضع له إلى الإطلاق المذكور غير متّجه ، وكذا دعوى استعمالها فيما وضع له البتة ، إذ لا شاهد على تعيّنه كما عرفت وإمكان استعمالها في غير ما وضع له تنزيلا له منزلة الموضوع له من جهة المشابهة ، كأن يراد بالأسد في «أسد يرمي» مطلق الشجاع الصادق على الفرد المخصوص المتعلّق للحكم في الاستعمال المفروض.

فظهر بما قررنا تصحيح الاستعارة بكلّ من الوجهين المذكورين ودوران الأمر فيها بالخروج عن الظاهر على كلّ من النحوين ، إلّا أنّ الوجه الأوّل أبلغ فلا يتعيّن أحدهما بحسب الاستعمال وإنّما يتعيّن بملاحظة المستعمل ، نعم الظاهر في بعض أنواع الاستعارة استعمال اللفظ فيما وضع له ، والمقصود منها الانتقال إلى ما يشبهه أو أمر آخر.

فمن ذلك : الاستعارة في المركّبات ويسمّى بالتمثيل ، كما في قولك : «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى» المستعمل في مقام بيان تردّد المخاطب ، فإنّ من البيّن أنّ تلك المفردات لا يمكن إخلاؤها عن المعنى.

والقول باستعمال المركّب في المعنى الذي شبّه بمعناه الأصلي من دون استعمال المفردات في شيء بيّن الفساد ؛ لوضوح أنّ المعنى التركيبي إنّما يؤخذ من معاني المفردات ، فإذا لم تكن مستعملة في شيء لم يعقل استعمال المركّب في المعنى المقصود ، فهي لا محالة مستعملة في معانيها الحقيقيّة أو المجازيّة ، وحيث إنّ استعمالها في المعاني الذي يتركّب منها المعنى المجازي المقصود في المقام غير ظاهر بل فاسد ـ ولو أمكن تصحيحه في المثال المفروض على بعض الوجوه الركيكة فلا يجري في غيره ـ انحصر الأمر في استعمالها في معناها الحقيقي ، فيكون الغرض من استعمالها في معانيها هو إحضار معناها التركيبي في ذهن

١٥٤

السامع لينتقل منها بمعونة القرينة إلى ما يشابهه ، فالمقصود من تأدية العبارة المذكورة هو الحكم بالمعنى المجازي ، إلّا أنّ اللفظ غير مستعمل فيه وإنّما استعمل في معناه الحقيقي ؛ للانتقال إلى المجازي المشابه له بواسطة القرينة حسب ما بيّناه. هذا ما يقتضيه التحقيق في المقام ، وقد يرجع إليه ما ذكره علماء البيان في بيانه ، إلّا أنّ تطبيق كلامهم عليه لا يخلو عن خفاء.

ومن ذلك : الاستعارة التخييلية كما في قوله : «وإذا المنيّة أنشبت أظفارها» فإنّ المقصود منها إثبات ذلك الأمر المختصّ بالمشبّه به ؛ لتخييل أنّ المشبّه من جنسه ، وهو إنّما يكون باستعمالها فيما وضعت له.

ومنها : المبالغة بأصنافها الثلاثة من التبليغ والإغراق والغلو ، فإنّ المبالغة هناك إنّما تحصل باستعمال اللفظ فيما وضع له ، غير أنّه ليس المقصود منه إثبات ذلك المعنى على سبيل الحقيقة ، بل المراد المبالغة في الأمر المقصود في ذلك المقام من المدح أو الذمّ ونحوهما.

هذا ، ولا يذهب عليك أنّ الصور المذكورة كلّها مندرجة في حدّ الحقيقة على ظاهر حدّها المعروف بين علماء الاصول والبيان ، لما عرفت من استعمال اللفظ في معناه الموضوع له في الجميع ، مع أنّ الظاهر بعد التأمّل في الاستعمالات عدم اندراج شيء منها في الحقيقة ، واتّفق الفريقان على عدّ بعضها من المجاز ، واختلفوا في الكناية فالبيانيّون جعلوها قسما برأسه ، وظاهر علماء الاصول إدراجها في المجاز ، وقد نصّ عليه بعضهم بل ربّما يحكى إجماعهم عليه ، وحينئذ يشكل الحال في الحدّ المشهور بالنسبة إلى كلّ من الحقيقة والمجاز.

والذي يخطر بالبال في تصحيح هذا المرام أن يقال : إنّ المراد باستعمال اللفظ في المعنى في المقام هو إطلاق اللفظ وقصد إفادة المعنى الملحوظ بأن يكون ذلك المعنى أوّل ما يراد حقيقة من اللفظ ، سواء تقدّمه مراد صوري جعل واسطة في الانتقال إليه كما في الصور المفروضة ، أو لا كما في الحقائق وسائر أنحاء المجاز.

فيتفرّع على ذلك إدراج الكناية في أحد وجهيها في الحقيقة باصطلاح أهل

١٥٥

الاصول ، وهو ما إذا أريد من اللفظ إفهام معناه الحقيقي واريد الانتقال منه إلى لازمه أيضا ، فيكون المعنيان مقصودين بالإفادة ، فالمستعمل فيه ـ على ما قرّرنا ـ هو المعنى الحقيقي خاصّة ، إذ ليس لازمه مرادا بالأصالة ابتداء ، وإنّما اريد بتوسّط إرادة المعنى الحقيقي ، فهو مدلول التزاميّ للّفظ قد صارت دلالة اللفظ عليه من جهة كونه لازما لما اريد منه مقصودا للمتكلم من غير أن يستعمل اللفظ فيه ؛ ولذا لا يكون قصده لتلك الدلالة تصرّفا في اللفظ ليتوقّف جوازه على ترخيص الواضع كما هو الحال في إستعمال اللفظ في معانيه المجازيّة ، فبعد إستعمال اللفظ في معناه الحقيقي وتعلّق القصد به يحصل الدلالة على ذلك اللازم قهرا ، ولا يتفاوت الحال في استعمال اللفظ بين أن تكون تلك الدلالة الخارجيّة مقصودة للمتكلّم أيضا أو لا.

فالفرق بينه وبين ما إذا لم يكن المعنى الحقيقي مقصودا بالإفادة ظاهر للمتأمّل ؛ لوضوح حصول التصرف في اللفظ هناك ، حيث اطلق واريد به غير معناه الموضوع له ، فيتوقّف على ترخيص الواضع له لئلّا يخرج عن كلام العرب ، من غير فرق بين ما يستعمل اللفظ في غير الموضوع له ابتداء وما يجعل إرادة المعنى الموضوع له صورة وصلة إليه ، فإنّه حينئذ هو الذي يستعمل اللفظ فيه على الوجهين.

فظهر بما ذكرنا عدم اندراجها إذن في استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي معا ، وسيجيء لذلك مزيد توضيح في محلّه إن شاء الله.

فإن قلت (١) : إذا كان المناط في استعمال اللفظ في المعنى أن يكون ذلك

__________________

(١) قوله : «فإن قلت : إذا كان المناط ... الخ» غرض المورد إبطال التفسير المذكور للاستعمال ، بأنّه لو كان معنى استعمال اللفظ في المعنى ما ذكر من كونه مقصودا أصليّا أوّليا من اللفظ وإن تقدّمه مراد صوريّ لمجرد الايصال إليه لزم أن يكون اللفظ مستعملا في مثل التلذّذ بمخاطبة المحبوب ، حيث يكون هو الغرض الأصلي من الخطاب أو في لازم الحكم ، حيث يكون الغرض المسوق له الكلام إفادته فلا يكون حقيقة ، ضرورة أنّ اللفظ غير موضوع لتلك الأغراض ، وبطلانه ظاهر. ولو جعل الثاني كون اللفظ في الموارد المذكورة غلطا نظرا إلى انتفاء الوضع والمناسبة للموضوع له لوضوح انتفاء العلاقة المصحّحة للاستعمال بين مضمون ـ

١٥٦

المعنى هو المقصود الأصلي الأوّلي من العبارة بمعنى أن لا يتقدّمه مقصود أصلي آخر يكون الانتقال إليه من جهته ، وإن تقدّمه إرادة معنى آخر لمجرّد الايصال إليه لزم خروج كثير من الاستعمالات عن الحقيقة ، كما إذا كان الغرض المسوق له الكلام إفادة لازم الحكم أو كان(١) الغرض الأصلي هو التلذّذ بمخاطبة المحبوب ونحو ذلك من الأغراض ، مع أنّه من الظاهر إدراج ذلك كلّه في الحقيقة ، فما الفارق في المقام؟

قلت (٢) : من البيّن أنّ هناك لوازم لنفس الإخبار والمخاطبة ولوازم للمعنى

__________________

ـ الخبر ولازم الإخبار ـ كما سينبّه عليه في ذيل الجواب ـ كان بطلان الثاني أوضح ، وإنّما عدل عنه لأنّه لم يميّز بعد بين لازم الإخبار ولازم المخبر به حتّى يفرّق بينهما بانتفاء العلاقة في الأوّل وثبوتها في الثاني ، وإنّما يتضح ذلك فيما يذكره في الجواب ، وإنّما اقتصر هنا على لزوم انتفاء الحقيقة. للشيخ محمّد سلّمه الله تعالى. [وهو ابن اخت المصنّف وتلميذه والمصحّح للطبع الحجري وكان صهرا له على بنته كما مرّ في المقدمة]. من المطبوع (١).

(١) قوله : «أو كان الغرض الأصلي هو التلذّذ بمخاطبة المحبوب ... الخ» لا يخفى وهن الإشكال المذكور بالنسبة إلى مثل التلذّذ بمخاطبة المحبوب ؛ لأنّه اعتبر في الاستعمال كون المعنى مقصودا بالإفادة ، ومن البيّن أنّ التلذّذ وأشباهه من الأغراض ليست ممّا يقصد إفادتها للمخاطب وانتقاله إليها لوضوح عدم صلوحها للإفادة ، وأنّ المتكلّم إنّما يقصد نفس حصولها في الخارج ، فكان الأولى الاقتصار في تقرير الإشكال على لازم الحكم فإنّه المقصود بالإفادة للمتكلم ، فجعلهما من باب واحد والجواب عنهما بوجه واحد ليس على ما ينبغي. للشيخ محمّد (سلّمه الله). من المطبوع (١).

(٢) قوله : «قلت : من البيّن ... الخ» محصّل الجواب منع الملازمة المذكورة ، وتوضيحه أنّ المراد بما اعتبرناه في معنى الاستعمال من كون المعنى مقصودا أصليّا أن لا يكون مقصودا لمجرّد الانتقال منه إلى غيره كما هو الحال في أحد وجهي الكناية ، وحينئذ فلا يلزم ما ذكر من كون اللفظ مستعملا في لازم الحكم حيث يكون المقصود بالإفادة للمتكلّم ، إذ ليس المعنى الموضوع له حينئذ واسطة في الانتقال إلى اللازم المذكور ؛ لوضوح أنّ الانتقال إلى اللازم إنّما يكون بتوسّط ملزومه ، والمفروض أنّ ملزومه الإخبار والحكم دون نفس المعنى الموضوع له ، فإنّما يراد الانتقال إلى اللازم المفروض من ملزومه الذي هو الإخبار ، والحكم لا من نفس المعنى الموضوع له. وبالجملة : ففرق بيّن بين قولك : «زيد كثير الرماد» وغرضك من كثرة الرماد مجرّد الانتقال إلى جوده وقولك : «مات زيد» وغرضك من الإخبار بذلك ـ

١٥٧

المخبر به ، فإن كان المقصود بالإفادة هو اللازم على الوجه الثاني فهو يندرج في المجاز وينطبق حدّه عليه ؛ لكونه من استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع مناسبته له ، وأمّا إرادة اللازم على الوجه الأوّل فليس من استعمال اللفظ في ذلك أصلا ، بل المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي ، إلّا أنّه ليس مقصود المتكلّم من الكلام إفادة مضمونه ، بل سائر الفوائد المترتّب على ذلك الكلام من لازم الحكم أو غيره ، فالمعنى الموضوع له مقصود بالذات من ذلك الكلام بالنظر إلى ما قصد من الألفاظ وإن لم يكن ذلك هو المقصود بالذات من التكلّم ، ولا يعتبر في قصد المعنى من اللفظ بالذات أن يكون المقصود بالذات من التكلّم إفادة ذلك ؛ لوضوح أنّه قد يكون المراد امورا اخر مع عدم استعمال اللفظ في شيء منها.

وبتقرير أوضح : أنّ لوازم الكلام إمّا أن يكون من لوازم المعنى الموضوع له فلا يراد من الكلام إفادة الموضوع له بل إفادتها فيكون ذلك إذن من المجاز ، وإمّا أن يكون من لوازم الإخبار أو التكلّم أو المخاطبة ونحوها. فكونها هي المقصودة بالإفادة لا ربط له باستعمال اللفظ ، كيف ولو كان اللفظ هناك مستعملا في تلك اللوازم لزم أن يكون غلطا ؛ إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز ، والاستعمال الصحيح منحصر فيهما عندهم ؛ وذلك لانتفاء المناسبة بين الموضوع له وبينها ، ألا ترى أنّ المعنى الموضوع له لقولك : «زيد مات» هو موت زيد بحسب الواقع

__________________

ـ مجرّد انتقال المخاطب إلى علمك به ، فإنّهما وإن اشتركا في أنّ المعنى الموضوع له مراد من اللفظ فيهما ، إلّا أنّك في المثال الأوّل إنّما قصدت المعنى الموضوع له أعني كثرة الرماد لمجرّد الانتقال منه إلى لازمه ، وفي الثاني لم يقصد المعنى الموضوع له أعني موت زيد بحسب الواقع ليكون ذلك المعنى واسطة في الانتقال إلى غيره ، وكون غرضك من الإخبار المذكور أن ينتقل المخاطب إلى لازم ذلك الإخبار أمر آخر لا ربط له بإرادة المعنى الموضوع له في نفسه ، أي لا لأجل الانتقال منه إلى غيره ، ولذا قلنا : يكون المعنى الموضوع له مقصودا أصليّا من اللفظ هنا واللفظ مستعملا فيه وحقيقة ، بخلاف الأوّل فإنّ المقصود للأصلي عن اللفظ فيه هو اللازم واللفظ مستعمل فيه ومجاز. للشيخ محمد (سلّمه الله). من المطبوع (١).

١٥٨

وهو ممّا لا ربط له بعلم المتكلّم ، وليس بينهما مناسبة مصحّحة لاستعمال اللفظ الموضوع بإزائه فيه ، وإنّما هو من لوازم الإخبار به حيث إنّ الإخبار بشيء يقضي بعلم المخبر بمضمون ما يخبر به ، فذلك من الفوائد المترتّبة على الكلام ، وقد كان مقصود المخبر حينئذ هو إفادة تلك الفائدة دون الفائدة الأصليّة المترتّبة على ذلك الكلام ، أعني إفادة ذلك المخبر به ، وهذا ممّا لا ربط له بالمعنى الذي يستعمل فيه اللفظ أصلا.

ويعرف بالتأمّل فيما قرّرناه أنّ إرادة التذلّل والتخضّع ونحو ذلك من الكلام على الوجه المذكور كما في قولك : «أنا عبدك ومملوكك» ونحو ذلك من القسم المتقدّم ، فيكون اللفظ المستعمل على ذلك الوجه مندرجا في المجاز ، إلّا أنّ المجاز هناك غالبا في المركّبات ، فتأمّل في المقام.

فصار المتحصّل : أنّه ليس المراد بالمستعمل فيه في المقام ما اريد من اللفظ ابتداء ولو من جهة التوصّل إلى غيره ، بل المراد ما كان المقصود الأصلي الأوّلي من اللفظ إفادته ، فحينئذ إن كان المقصود من اللفظ كذلك إفادة ما وضع له كان حقيقة ، وإن أراد مع ذلك الانتقال إلى لازم ذلك المعنى أيضا ـ كما هو أحد وجهي الكناية ـ وإن كان المقصود كذلك إفادة غيره كان مجازا ، سواء كان ذلك بتوسّط إرادة الموضوع له أو بدون توسّطها ، مع قيام القرينة الصارفة عن إرادة الموضوع له مطلقا ومع عدمه ، ويندرج في ذلك الوجه الآخر من الكناية ، هذا على اصطلاح الاصوليّين.

وأمّا على اصطلاح البيانيّين فإن كان المقصود بالإفادة هو المعنى الموضوع له خاصّة فهو الحقيقة ، وإن كان المقصود بالإفادة هو غير ما وضع له مع قيام القرينة المعاندة لإرادة الموضوع له فهو المجاز ، وإن كان غير ما وضع له مقصودا بالإفادة من دون اعتبار قرينة معاندة لإرادة الموضوع له فهو الكناية ، سواء كان الموضوع له مقصودا بالإفادة أيضا أو لا.

فالاصطلاح الاصولي في كلّ من الحقيقة والمجاز مغاير للاصطلاح البياني ،

١٥٩

وهما بالمعنى الأوّل أعمّ مطلقا منهما بالمعنى الثاني ، ولتحقيق الكلام في الكناية محلّ آخر ليس هذا موضع ذكره ، ولعلّه يجيء الإشارة إلى بعض منه في بحث استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه إن شاء الله تعالى.

وقد ظهر بما ذكرنا أنّ استعمال الاستعارة على الوجهين المذكورين من المجاز اللفظي ، إذ ليس المقصود الأصلي من اللفظ هو بيان المعنى الحقيقي ، فما ذكره السكّاكي ـ من كونها حقيقة لغوية بناء على الوجه الأوّل وأنّ التصرف حينئذ في أمر عقلي خاصّة ـ ليس على ما ينبغي ، فالأظهر فيها هو القول المشهور.

هذا غاية ما يوجّه به المقام ، ومع ذلك فتصحيح المقصود بذلك لا يخلو عن كلام ، وتطبيق الحدّ عليه لا يخلو عن خفاء ، والاتيان بمثل تلك التعبيرات في الحدود والتقسيمات غير خال عن إشكال ، وكأنّ وضوح الحال عندهم من الخارج قرينة متمّمة للحدّ ، فتأمّل.

الرابعة

الوضع باعتبار الموضوع قد يكون شخصيّا وقد يكون نوعيّا ، وذلك لأنّ الواضع إمّا أن يلاحظ شخصا من اللفظ متعيّنا بمادّته وهيئته ويضعه بإزاء المعنى فالوضع فيه شخصي ؛ لتعلّقه بشخص معيّن من اللفظ غير ممكن الصدق على ألفاظ مختلفة وإن كان بحسب الواقع كليّا لتعدّده بحسب تعدّد أزمنة الاستعمال وتعدّد المستعملين ولو في زمان واحد ، فإنّ ذلك لا يوجب تعدّدا في نفس اللفظ ، وإنّما يقضي بتعدّد الاستعمال ، فوحدة اللفظ من قبيل الوحدة النوعيّة لا ينافي التكثّر في الوجود.

فليس المراد بالشخص في المقام ما لا يمكن صدقه على كثيرين كما يتراءى في بادئ النظر ، بل المراد به ـ كما قلنا ـ هو اللفظ المخصوص الذي يستحيل صدقه على ألفاظ مختلفة ، وحينئذ فإذا وضع ذلك اللفظ لمعنى تعيّن له حيث ما وجد من غير أن يحتاج تعيّن تلك الجزئيات له إلى معيّن آخر ، بل يتعيّن له بذلك الوضع ، وحينئذ فلا وجه لجعل اللفظ حال الوضع مرآة لمستعملاته ووضع

١٦٠