هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

والجواب : أنّ المجاز ، وإن كان مخالفا للأصل ، لكن يجب المصير إليه إذا دلّ الدليل عليه. وقد بيّنا بالأدلّة السابقة أنّه حقيقة في الوجوب بخصوصه ؛ فلا بدّ من كونه مجازا فيما عداه ، وإلّا لزم الاشتراك المخالف للأصل المرجوح بالنسبة إلى المجاز ، إذا تعارضا ، على أن المجاز لازم بتقدير وضعه للقدر المشترك أيضا ؛ لأنّ استعماله في كلّ واحد من المعنيين بخصوصه مجاز ، حيث لم يوضع له اللفظ بقيد الخصوصية ، فيكون استعماله فيه معها استعمالا في غير ما وضع له. فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك ، سواء جعل حقيقة ومجازا ، او للقدر المشترك. ومع ذلك فالتجوّز اللازم بتقدير الحقيقة والمجاز أقلّ منه بتقدير القدر المشترك ؛ لأنّه في الأوّل مختصّ بأحد المعنيين ، وفي الثاني حاصل فيهما.

وربّما توهّم تساويهما ، باعتبار أنّ استعماله في القدر المشترك على الأوّل مجاز ، فيكون مقابلا لاستعماله في المعنى الآخر على الثاني ، فيتساويان.

وليس كما توهّم ، لأنّ الاستعمال في القدر المشترك ، إن وقع ، فعلى غاية الندرة والشذوذ ، فأين هو من اشتهار الاستعمال في كلّ من المعنيين وانتشاره.

وإذا ثبت أنّ التجوّز اللازم على التقدير الأوّل أقلّ ، كان بالترجيح ـ لو لم يقم عليه الدليل ـ أحقّ.

احتجّ السيّد المرتضى رضى الله عنه على أنّها مشتركة لغة بأنّه لا شبهة في استعمال صيغة الأمر في الايجاب والندب معا في اللغة ، والتعارف ، والقرآن ، والسنّة ، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة ، وإنّما يعدل عنها بدليل.

قال : «وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلّا

٥٦١

كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة».

واحتجّ على كونها حقيقة في الوجوب بالنسبة إلى العرف الشرعيّ بحمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب ، وكان يناظر بعضهم بعضا في مسائل مختلفة ، ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من الله سبحانه او من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يقل صاحبه هذا أمر ، والأمر يقتضي الندب ، أو الوقف بين الوجوب والندب ، بل اكتفوا في اللزوم والوجوب بالظاهر. وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم ومعلوم أيضا : أنّ ذلك من شأن التابعين لهم ، وتابعي التابعين. فطال ما اختلفوا وتناظروا ، فلم يخرجوا عن القانون الّذي ذكرناه. وهذا يدلّ على قيام الحجّة عليهم بذلك حتّى جرت عادتهم ، وخرجوا عمّا يقتضيه مجرّد وضع اللّغة في هذا الباب.

قال رحمه‌الله : «وأمّا أصحابنا ، معشر الاماميّة ، فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه ، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللغة ، ولم يحملوا قطّ ظواهر هذه الألفاظ إلّا على ما بيّناه ، ولم يتوقّفوا على الأدلّة. وقد بيّنا في مواضع من كتبنا : أنّ إجماع أصحابنا حجّة».

والجواب عن احتجاجه الأوّل : أنّا قد بيّنا أنّ الوجوب هو المتبادر من إطلاق الأمر عرفا ، ثمّ إنّ مجرّد استعمالها في الندب لا يقتضي كونه حقيقة ايضا ، بل يكون مجازا ؛ لوجود أماراته ، وكونه خيرا من الاشتراك ، وقوله : «إنّ استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين او الأشياء كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة» ، إنّما يصحّ إذا تساوت نسبة اللفظة إلى الشيئين أو الاشياء في الاستعمال ، أمّا مع التفاوت بالتبادر وعدمه او بما أشبه هذا من علامات الحقيقة والمجاز ، فلا. وقد بيّنا ثبوت التفاوت.

وأمّا احتجاجه على أنّه في العرف الشرعيّ للوجوب ، فيحقّق

٥٦٢

ما ادّعيناه ، إذ الظاهر أنّ حملهم له على الوجوب إنّما هو لكونه له لغة ، ولأنّ تخصيص ذلك بعرفهم يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه اللغوي ، وهو مخالف للأصل. هذا ، ولا يذهب عليك أنّ ما ادّعاه في أوّل الحجّة ، [من] استعمال الصيغة للوجوب والندب في القرآن والسنّة ، مناف لما ذكره من حمل الصحابة كلّ امر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب ، فتأمّل!.

احتجّ الذاهبون إلى التوقّف : بأنّه لو ثبت كونه موضوعا لشيء من المعاني ، لثبت بدليل ، واللازم منتف ؛ لأنّ الدليل إمّا العقل ، ولا مدخل له ، وإمّا النقل ، وهو إمّا الآحاد ، ولا يفيد العلم ، أو التواتر ، والعادة تقتضي بامتناع عدم الاطلاع على التواتر ممّن يبحث ويجتهد في الطلب. فكان الواجب أن لا يختلف فيه.

والجواب : منع الحصر ؛ فانّ ههنا قسما آخر ، وهو ثبوته بالأدلّة الّتي قدّمناها ، ومرجعها الى تتبّع مظانّ استعمال اللفظ والأمارات الدالة على المقصود به عند الاطلاق.

حجّة من قال بالاشتراك بين ثلاثة أشياء : استعماله فيها ، على حذو ما سبق في احتجاج السيد رحمه‌الله على الاشتراك بين الشيئين. والجواب ، الجواب.

وحجّة القائل بأنّه للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الإذن ، كحجّة من قال بأنّه لمطلق الطلب : وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وجوابها كجوابها.

واحتجّ من زعم أنّها مشتركة بين الأمور الأربعة بنحو ما تقدّم في احتجاج من قال بالاشتراك ، وجوابه مثل جوابه.

٥٦٣

قوله : (في الأوامر والنواهي)

هما جمعا الأمر والنهي ، بمعنى القول المخصوص ، ويجريان في الأمر والنهي بمعنى الطلب أيضا ، وليسا جاريين على القانون ، إذ ليس القياس في جمع «فعل» فواعل ، وحكى في النهاية عن بعضهم إنكار مجيء «أوامر» جمعا للأمر ، بل جمعه «امور» سواء كان بمعنى القول المخصوص أو الفعل ؛ إذ «أوامر» جمع آمرة ، وقال : إنّ هذا شيء يذكره الفقهاء.

وربما يؤيّده ما في القاموس حيث ذكر جمع الأمر على امور بعد تفسيره بضدّ النهي والحادثة ، ولم يذكر جمعه على أوامر ، وظاهره كون امور جمعا له على التفسيرين.

إلّا أنّ الظاهر من الاصوليين وغيرهم كونهما جمعين للأمر والنهي بالمعنى المذكور ، ويشهد له ملاحظة الاستعمالات الدائرة في العرف وحملها على التحريفات الطارئة بعيد جدّا.

وقد يجعلان في الأصل جمعا لآمرة وناهية بتأويل كلمة آمرة وناهية على سبيل المجاز من قبيل إسناد الشيء الى الآلة ، فيكون الجمع إذن على القاعدة ، ويكون إطلاقهما على الصيغة مجازا بملاحظة العلاقة المذكورة إلّا أنّه اشتهر ذلك الى أن بلغ حدّ الحقيقة ، فيكون إذن من المنقولات العرفية.

ويظهر من ذلك وجه اختصاص الجمع المذكور بالأمر بمعنى القول المخصوص.

وربما يجعل أوامر جمعا لامور ، حكاه في الإحكام فيكون جمع جمع وكأنّه نقل فيه الواو عن مكانه فقدّم على الميم.

ويضعّفه مع ما فيه من التعسّف أنّه غير جار مجرى الامور في الاستعمالات ، لاختصاصه بالأقوال واختصاص الامور بغيرها ، فلو كان جمعا له كان بمنزلته ، إلّا أن يجعل ذلك من طوارئ الاستعمال في المقامين ، ولا يخلو عن بعد وأنّه لو كان جمع جمع لما كان صادقا على أقلّ من تسعة ، مع أنّه ليس كذلك كما هو ظاهر من ملاحظة الإطلاقات.

٥٦٤

قوله : (صيغة افعل)

الكلام في بيان معنى «الأمر» يقع في مقامات :

أحدها : في بيان مفاد مادّة الأمر على سبيل الإجمال.

ثانيها : في تحديد معناها المقصود في المقام.

ثالثها : في أنّها هل تفيد الوجوب عند الإطلاق أو لا؟.

رابعها : في بيان مفاد الصيغة.

والمصنّف اقتصر على الرابع ، إذ هو المهمّ بالبحث في المقام ، وأمّا البواقي فلا يترتّب عليها ثمرة مهمّة في الأحكام ، ولا بأس أن نشير إليها.

أمّا الأوّل :

فنقول : إن لفظ «الأمر» يطلق على معاني عديدة :

منها : القول المخصوص الدالّ على طلب الفعل حسب ما يأتي بيانه في المقام الثاني.

ومنها : الفعل ، كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١).

ومنها : الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا)(٢).

ومنها : الشيء ، كما تقول : «رأيت اليوم أمرا عجيبا».

ومنها : الشأن ، تقول : «أمر فلان مستقيم».

ومنها : الحادثة ، نصّ عليه في القاموس.

ومنها : الغرض ، كما تقول : «جاء زيد لأمر».

وقد يرجع الستّة الأخيرة الى معنى واحد ، وقد اتّفقوا على كونه حقيقة في القول المخصوص ، كما حكاه جماعة منهم العلّامة والآمدي والحاجبي والعضدي.

والظاهر من ما عدا الآمدي حكاية الاتّفاق على كونه حقيقة في خصوص القول المخصوص ، بل نصّ عليه العضدي في آخر كلامه.

__________________

(١) سورة هود : ٩٧.

(٢) سورة هود : ٦٦ ، ٨٢.

٥٦٥

ولا ينافي ذلك نقل الحاجبي والعضدي القول بوضعه للقدر المشترك ، لاحتمال أن يكون القول المذكور خرقا لما اتّفقوا عليه ، كما أشار اليه الحاجبي ونصّ عليه العضدي.

نعم ، ظاهر الآمدي كونه حقيقة فيه في الجملة ، سواء كان ذلك خصوص ما وضع له أو مصداقا حقيقيا له.

والمحكي عن الأكثر في كلام جماعة هو اختصاصه بالقول المخصوص وكونه مجازا في غيره ، وقد نصّ عليه جماعة من العامّة والخاصّة ، وعزاه فخر الإسلام الى الجمهور ، والسيّد العميدي الى المحقّقين.

وعن جماعة أنّه مشترك لفظا بين القول والفعل ، وعزاه في النهاية الى السيّد وجمع من الفقهاء ، وعن بعضهم إسناده الى كافّة العلماء.

وحكى الحاجبي والعضدي قولا باشتراكه معنى بين القول والفعل ، إلّا أنّه نصّ الحاجبي على حدوث القول به في مقام إبطاله فيومئ الى انعقاد الإجماع على خلافه ، كما نصّ عليه العضدي.

وهذا القول هو مختار الآمدي في الإحكام فقد نصّ في آخر المسألة على كونه متواطئا موضوعا للقدر المشترك بين القول والفعل ، وقد حكي القول به في بعض شروح المختصر عن جماعة.

وقد ظهر من ذلك ضعف ما ذكره في النقود والردود نقلا عن السيّد ركن الدين من تفسيره حكاية الحاجبي للقول بالتواطئ أنّه ممّا ذكره بعضهم على سبيل الإيراد فهو مجرّد إبداء احتمال ، واستند في ذلك الى ما في الإحكام ، وقد عرفت الحال فيما ذكره ، وكأنّه غفل عن ملاحظة آخر كلامه ، وإنّما لاحظ ما ذكره في مقام الإيراد.

وعن أبي الحسين البصري أنّه مشترك لفظا بين عدّة من المعاني المذكورة.

والذي يستفاد من النهاية في بيان احتجاجه كونه مشتركا عنده بين القول

٥٦٦

المخصوص والشأن والشيء والغرض ، وأدرج الفعل في الشأن ولم يجعله معنى مستقلّا مرادا بخصوصه.

وحكى عنه في المعارج القول باشتراكه بين القول المخصوص وبين الشيء والصفة والشأن والطريق ، واختار القول به ، وظاهر ما ذكره في الاحتجاج عليه إرجاعه الطريق الى الشأن والصفة والغرض الى الشيء ، فيكون عنده مشتركا بين الثلاثة.

وكيف كان ، فالأظهر كونه حقيقة في القول المخصوص وما يعمّ المعاني المذكورة ، ولا يبعد أن يجعل الشأن هو المعنى الشامل لها ما عدا القول ، فيكون كلّ من تلك الخصوصيات مفهومة من الخارج ، ويكون اللفظ مشتركا بين المعنيين المذكورين.

لنا تردّد الذهن بين المعنيين حال الإطلاق ، وهو دليل الاشتراك ، وكثرة استعماله في غير القول من غير علاقة ظاهرة بينه وبين القول مصحّحة للتجوّز.

ولو فرض وجود علاقة بعيدة فلا يبتني عليه الاستعمال الشائع ، بل الظاهر من ملاحظة موارد استعماله عدم ملاحظة المناسبة بينه وبين القول ، كما هو ظاهر للمتأمّل فيها.

ودعوى تحقّق العلاقة بينهما كما في النهاية ـ نظرا الى أنّ جملة ما يصدر من الإنسان لمّا اندرج فيها القول سمّى الجميع باسمه ، من باب تسمية الجملة باسم بعضها وأنّ الأفعال تشبه القول في الدلالة على تسديد أغراض الإنسان ـ كما ترى.

واحتمال كونه حقيقة في القدر المشترك بعد ما عرفت من وهنه من جهة الاتّفاق على خلافه حسب ما ذكروه ومخالفته لفهم العرف مدفوع ، بأنّه ليس هناك جامع بيّن بين الأمرين ليمكن القول بوضع اللفظ بإزائه وأخذ مفهوم أحد المعنيين جامعا بينهما في المقام متعلّقا للوضع كما ذكره العضدي بعيد غاية البعد ، بل قد

٥٦٧

يقطع بفساده عند ملاحظة الاستعمالات ، بل ملاحظة سائر الأوضاع إذ لا نظير له في شيء من الأوضاع.

ويظهر من الإحكام جعله القدر المشترك بين المعنيين هو الشأن والصفة حيث قال : إن مسمّى اسم الأمر إنّما هو الشأن والصفة ، وكلّما صدق عليه ذلك نهيا كان أو غيره يسمى أمرا حقيقة ، قال : وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع ، فإنّ ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة مدلولا لاسم الأمر من جملة ما قيل.

وهو أيضا بيّن الوهن ، كيف! ولو كان كذلك لكان صدقه على القول المخصوص وعلى النهي على نحو واحد ، ومن الواضح بعد ملاحظة العرف خلافه.

ومن البيّن أيضا أنّ فهم القول المخصوص من لفظ الأمر ليس من جهة كونه من مصاديق الشأن ، وكأنّ ما ادّعاه في المقام مصادم للضرورة.

والظاهر أنّ ما ذكره من قول بعضهم بكون الشأن والصفة مدلولا لاسم الأمر إشارة الى ما ذهب اليه أبو الحسين حيث لم ينسب ذلك الى غيره ، وهو إنّما يقول باشتراكه لفظا بين معاني عديدة حسب ما حكاه هو وغيره ، فجعل ذلك شاهدا على عدم كون ما ذهب اليه خرقا للإجماع كما ترى.

ويمكن الاحتجاج على فساده أيضا بما يرى من اختلاف جمعه بحسب المعنيين ، فلو كان متواطئا كما ادّعاه لم يتّجه ذلك ؛ إذ لا وجه لاختلاف جموع اللفظ بحسب المصاديق مع اتّحاد معناه ، ولا نظير له في سائر الألفاظ ، وقد مرّت الإشارة اليه في محلّه ، بل ظاهر اختلاف الجمعين يومئ الى الاشتراك حسب ما مر بيانه.

والقول بكون «أوامر» جمعا ل «امور» كما حكاه عن البعض في غاية البعد ، كما عرفت.

حجّة القول بكونه مجازا فيما عدا القول المخصوص وجوه موهونة ، سوى

٥٦٨

الاستناد الى أصالة تقديم المجاز على الاشتراك بعد ثبوت كونه حقيقة في خصوص القول المخصوص ، نظرا الى الاتّفاق عليه.

ويدفعه ما عرفت من قيام الدليل على كونه حقيقة في غيره أيضا.

حجّة القول بكونه للقدر المشترك قضاء الأصل به حيث استعمل في كلّ من المعنيين ، وقضية دفع الاشتراك والمجاز المخالفين للأصل أن يكون حقيقة في القدر الجامع بينهما.

وقد عرفت وهنه ممّا قرّرناه ، سيّما بملاحظة ما مرّ من وهن الأصل المذكور على الإطلاق.

حجّة أبي الحسين ومن وافقه تردّد الذهن بين المعاني المذكورة عند سماع لفظ الأمر خاليا عن القرائن ، وهو دليل الاشتراك.

ويوهنه بعد تسليمه أنّ القدر المسلّم منه أن يدلّ على الأعمّ ممّا ذكره وذكرناه فلا دلالة فيه على خصوص ما ادّعاه.

وأمّا المقام الثاني :

فنقول : إنّهم ذكروا له حدودا شتّى كلّها مدخولة.

منها : ما حكي عن البلخي وأكثر المعتزلة من أنّه قول القائل لمن دونه : «افعل» وما يقوم مقامه.

وهو منقوض بما إذا اريد من الصيغة غير الإيجاب من التهديد والتسلية والإباحة ونحوها.

وما إذا صدرت الصيغة بعنوان الهزل وما إذا كان القائل ناقلا للأمر عن غيره لمن هو دونه ، فإنّ قوله ذلك ليس أمرا مع أنّه مندرج في الحدّ.

وما إذا كان القائل مستخفضا نفسه بجعله مساويا للمقول له أو دونه مع اندراجه إذن في الالتماس أو الدعاء.

وما إذا لم يكن القائل عاليا وكان مستعليا ، فإنّه إذن خارج عن الحدّ مع

٥٦٩

اندراجه في المحدود.

وما إذا استعمل الخبر بمعنى الأمر لاندراجه في الحدّ مع أنّه ليس بأمر على الحقيقة.

مضافا الى أنّ الأمر نفس الصيغة الصادرة لا التلفّظ بها ، فإنّه اسم للكلام دون التكلّم.

وقد يذبّ عن بعض ذلك بما لا يخفى.

ومنها : ما حكي عن القاضي أبي بكر والجويني والغزالي وأكثر الأشاعرة من أنّه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به.

وفيه : أنّه قد اخذ فيه لفظ «المأمور والمأمور به» وهما مشتقّان من الأمر ، فيدور الحدّ ، وأيضا قد اخذ فيه لفظ «الطاعة» ومفهومها موافقة الأمر ، فلا يعرف إلّا بمعرفته فيدور أيضا ، وأنّه يقتضي بيان الثواب أو العقاب على امتثال الأمر أو مخالفته إقدام المأمور على فعل المأمور به ، فيندرج ذلك في الحدّ بل ذلك هو الظاهر من الحدّ المذكور ، نظرا الى ظهور لفظ «المأمور والمأمور به» في حصول العنوانين المذكورين بغير ذلك القول ، وأنّه يندرج فيه قول المتضرّع مع خروجه عن الأمر.

وأنّه يشمل قول الناقل للأمر. وأنّه يندرج فيه الخبر إذا كان بمعنى الأمر.

وقد يذبّ عن الدور بأنّ المراد بالمأمور والمأمور به من تعلّق القول به وما تعلّق به ذلك ، وهذا القدر كاف في تصوّرهما في المقام ، وأنّ المراد بالطاعة مطلق الامتثال والانقياد الشامل للطاعة الحاصلة بموافقة الأمر أو النهي.

أو يتصوّر بغير ذلك على وجه لا يؤخذ فيه ملاحظة الأمر ، إلّا أنّه يندرج فيه حينئذ الصيغ المستعملة في الندب ، فينتقض بها الحدّ بناء على عدم كون المندوب مأمورا به.

ويمكن أيضا دفع عدّة من الإيرادات المذكورة بما لا يخفى.

ومنها : ما حكي عن أبي الحسين البصري من أنّه قول يقتضي استدعاء الفعل

٥٧٠

بنفسه لا على جهة التذلّل.

وفيه : أنّه يندرج فيه الالتماس ، بل وكذا الدعاء إذا لم يلاحظ فيه التذلّل وأنّه يندرج فيه الصيغ المستعملة في الندب فينقض بها الحدّ بناء على عدم كون المندوب مأمورا به وأنّه يندرج فيه الصيغ المستعملة في غير الطلب كالتهديد ونحوه من جهة قيام القرينة عليه لاقتضائها طلب الفعل بنفسها ، وأنّه يخرج عنه «اترك» ونحوه مع اندراجه في الأمر.

ومنها : ما حكي عن بعض المعتزلة من أنّه صيغة «إفعل» بإرادات ثلاث : إرادة وجود اللفظ ، وإرادة دلالتها على الأمر ، وإرادة الامتثال ، ويخرج بالاولى اللفظ الصادر عن النائم ونحوه ، وبالثانية ما إذا اريد بها سائر معاني الصيغة من التهديد والإباحة ونحوهما وكذا إذا ذكر اللفظ هازلا ، وبالثالثة ما إذا كان القائل حاكيا لها عن الغير فإنّه لا يريد بها الامتثال.

وفيه : أوّلا : لزوم الدور ، لأخذه الأمر في حدّ الأمر.

وثانيا : أنّ الأمر إن كان بمعنى الصيغة فكيف يراد بالصيغة الدلالة عليه؟ وإن كان غير الصيغة فكيف يفسّر بها؟.

وقد يذب عنهما بأنّ الأمر المأخوذ في الحدّ غير ما هو المقصود من المحدود ، فإنّ المراد به في الحدّ هو مدلول الصيغة ، وفي المحدود نفس الصيغة ، فقد اخذ مدلول الصيغة في حدّها ولا دور فيه.

نعم ، قد يرد عليه أنّه إحالة على المجهول ، إذ هو في الجهالة كنفس المحدود.

وثالثا : أنّ إرادة الامتثال لا يوجب خروج الصيغة الصادرة عن المبلغ ، إذ قد يقصد بتبليغه حصول الامتثال ولم يؤخذ في الحدّ قصد امتثال خصوص القائل.

ورابعا : أن تخصيصه بصيغة «افعل» يوجب إخراج سائر الصيغ الموضوعة له في العربية وغيرها.

وقد يقال بأنّ صيغة «افعل» من الأعلام الجنسية فهي موضوعة لمطلق الصيغ الموضوعة لطلب الفعل ، سواء كانت على وزن افعل أو غيره.

٥٧١

وقد عرفت ما فيه مضافا الى عدم شموله للأوامر الصادرة بغير العربية من سائر اللغات مع شمول الأمر لها قطعا.

ومنها : ما حكي عن بعضهم من أنّه صيغة «افعل» على تجرّدها عن القرائن الصارفة لها من جهة الأمر الى جهة التهديد وغيره.

وفيه : مع اختصاصه بصيغة «افعل» فلا يشمل غيرها من الصيغ أنّ أخذ الأمر في حدّه يوجب الدور ، وأنّه يندرج فيه الصيغة الصادرة على سبيل الهزل مع الخلوّ عن القرينة الدالّة عليه ، فإنّها ليست بأمر في الواقع وإن اعتقد المأمور ذلك ، وكذا الحال فيما إذا استعملت في غير الطلب مع خلوّ الكلام عن القرينة.

وهذه الحدود كلّها معرّفة له بالصيغة والقول الصادر وإن أمكن حمل ما ورد منها في كلام الأشاعرة على الخطاب النفسي أيضا.

وهناك حدود اخر معرّفة له بالمعنى المدلول عليه بالصيغة.

منها : ما حكي عن جماعة من المعتزلة من أنّه إرادة الفعل.

وفيه : أنّ مطلق إرادة الفعل لا يعدّ أمرا ، إذ هي أعمّ من الطلب حسب ما سنشير اليه ، وأنّه قد يريد الفعل ولا يبرزه بصيغة الأمر بل بالإشارة ونحوها ، وأنّ إرادة الفعل حاصلة في الملتمس والداعي وليست بأمر ، وأنّه يخرج عنه «اترك» ونحوه ، وقد يذبّ عن بعض ذلك بما لا يخفى.

ومنها : ما حكي عن بعض الأشاعرة من أنّه طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعا.

وفيه : أنّ الطاعة : موافقة الأمر ، فيدور.

ويمكن دفعه بما مرّ ، وأنّه يندرج فيه الطلب الحاصل بغير الصيغة المخصوصة من سائر الأقوال ، كالخبر المستعمل في الإنشاء والإشارة والكتابة ، وقد يندرج فيه الالتماس بل الدعاء في وجه.

ومنها : ما حكي عن جماعة من الأشاعرة أيضا من أنّه خبر عن الثواب على الفعل ، وعن آخرين منهم أنّه خبر عن استحقاق الثواب على الفعل.

٥٧٢

وهما في غاية الوضوح من الفساد.

ومنها : ما حكي عن إمام الحرمين في بعض تصانيفه من أنّه استدعاء الفعل بالقول عمّن هو دونه على سبيل الوجوب.

وفيه : أنّه يندرج فيه الطلب الحاصل بغير الصيغة المخصوصة ، كالخبر المستعمل في معنى الأمر ، وأنّه يندرج فيه طلب المستخفض إذا كان عاليا مع اندراجه في الدعاء ، وأنّه يخرج عنه طلب المستعلي إذا لم يكن عاليا ، وأنّه يخرج عنه «اترك» ونحوه.

ويمكن الجواب عن بعض ذلك بما لا يخفى.

ومنها : أنّه طلب الفعل على جهة الاستعلاء ، اختاره الآمدي في الإحكام.

وفيه : أنّه بظاهره يخرج عنه طلب العالي مطلقا ، فإنّ الظاهر من الاستعلاء هو طلب العلوّ الحاصل من غير العالي ـ ومع الغضّ عنه بحمله على الأعمّ منه ـ لظهور أنّه المراد في المقام ـ فالعالي قد لا يلاحظ علوّه حين الأمر ولا يخرج بذلك خطابه عن كونه أمرا كما سنشير اليه إن شاء الله.

وأنّه يخرج عنه طلب الترك بنحو اترك مع اندراجه في الأمر.

وقد يدفع بأنّ المراد بالفعل هو الحدث المدلول عليه بالمعنى المادّي ، فيشمل الترك والكفّ المدلولين للمادّة ونحوهما.

وأنّه يندرج فيه الطلب الحاصل بالإشارة والكتابة والخبر المستعمل في معنى الأمر.

وقد يذبّ عنه بأنّه مبنيّ على ثبوت الكلام النفسي والطلب الحاصل بالإشارة ونحوها نحو منه ، فلا مانع من اندراج ذلك فيه وإن لم تكن الإشارة الدالّة عليه أمرا.

ومنها : ما اختاره العلّامة رحمه‌الله في النهاية والتهذيب من أنّه طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء.

ويرد عليه ما اورد على الحدّ السابق سوى شموله للطلب الحاصل بغير القول ، وأنّه يندرج فيه ما إذا كان الطلب على سبيل الندب ، مع أنّ المندوب ليس بمأمور

٥٧٣

به عنده ، والقول بخروج ذلك بملاحظة الاستعلاء ـ إذ لا استعلاء في الطلب الندبي ـ غير متّجه لما سنشير اليه إن شاء الله.

ومنها : ما اختاره الحاجبي من أنّه اقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء.

ويرد عليه جميع ما يرد على السابق عليه سوى انتقاضه بالأمر الندبي ، فإنّ المندوب مأمور به عنده.

ويرد عليه أيضا شموله للاقتضاء الحاصل بغير القول ، وخروج كفّ نفسك عنه ، فإنّه اقتضاء كفّ.

وقد يجاب عن الأوّل بما سيجيء الإشارة اليه إن شاء الله.

وعن الثاني تارة بأنّ المراد الكفّ عمّا هو مأخذ الاشتقاق عند عود الكلام الى اللفظي ، فيدخل فيه اكفف إذ لا يطلب فيه الكفّ عن الكفّ.

واخرى بأنّ المراد أنّه عند عود الكلام الى اللفظي لا يكون دالّا على الكفّ بصيغته ، فيندرج فيه كفّ لدلالته عليه بالجوهر ، وهو راجع الى الأوّل.

وثالثا : بأنّ الكفّ عن الفعل قد يكون ملحوظا بذاته مقصودا بنفسه فيكون كسائر الأفعال المطلوبة ، وقد يكون ملحوظا من حيث كون متعلّقا بغيره وحالا من أحوال ذلك الغير ، كما هو الحال في الكفّ الملحوظ في النهي ، فإنّه إنّما لوحظ من حيث كونه حالا للمنهي عنه فهو إذن غير مستقلّ بالمفهومية ، والمقصود بغير الكفّ في المقام هو الثاني فلا نقض.

ورابعا : بأنّ الكفّ قد يكون مقصودا بذاته ، وقد يكون مقصودا لحصول الترك به ، فالغرض الأصلي إذن عدم الفعل ، لكنّه لمّا لم يمكن تعلّق التكليف به لكونه غير مقدور جعل تعلّقه بالكفّ وسيلة اليه ، فليس الكفّ مقصودا بذاته ، بل لكونه موصلا الى غيره ، والمقصود في المقام هو الثاني.

وأنت خبير بضعف الجميع ، فإنّ تقييد الكفّ بما إذا كان عن مأخذ الاشتقاق ممّا لا دليل عليه في الحدّ ، بل الظاهر من الإطلاق خلافه ، فإن اريد بالفعل المتعلّق للطلب فعل مأخذ الاشتقاق كان قوله : «غير كفّ» حينئذ لغوا.

٥٧٤

وإن اريد به نفس مأخذ الاشتقاق أو الأعمّ كان ذلك استثناء عنه ، فيخرج به ما إذا كان مأخذ الاشتقاق كفّا ، ومنه يظهر الحال في الثاني.

ثمّ إنّ الظاهر من استثناء الكفّ كونه ملحوظا بذاته ؛ إذ لو كان ملحوظا لغيره كان متعلّق الطلب في الحقيقة هو ذلك الغير دون الكفّ ، وهو خلاف ظاهر الإطلاق.

ومع الغضّ عن ذلك فلا أقلّ من تساوي الوجهين ، وهو كاف في الإيراد.

هكذا ، وظاهر هذه الحدود المأخوذ فيها الطلب وما بمعناه جنسا يعطي كون الأمر موضوعا بإزاء المعنى دون اللفظ ، وهو ينافي ما نصّوا عليه من الاتّفاق على كونه حقيقة في القول المخصوص.

وقد ذكر الكرماني عند الكلام في الحدّ الّذي ذكره الحاجبي : أنّ الواجب عليه أن يقيّد الاقتضاء باقتضاء القول ، لأنّ حقيقة الأمر لا بدّ فيها من القول اتّفاقا.

وبهذا يظهر ضعف ما قيل (١) من أنّ الأمر بالحقيقة هو اقتضاء الفعل ـ أعني ما يقوم بالنفس ـ من الطلب ، وتسمية الصيغة بالأمر مجاز.

وكأنّ ما ذكره مبني على ما ذهب اليه بعض الأشاعرة من كون الكلام هو النفسي وأنّ الكلام مجاز في اللفظي ، وحيث إنّ الأمر نوع منه فيتبعه في ذلك.

وأنت خبير بأنّ ذلك أيضا ينافي ما ادّعوه من الاتّفاق في المقام ، إذ لا ملازمة بين الأمرين ، إلّا أن يقال : إنّ المراد بالقول أيضا هو النفسي. وفيه ما لا يخفى.

نعم ، يصحّ على مذهبهم جواز إطلاق الأمر على الأمرين ، فلذا يصحّ تحديده بالقول وبالأمر القائم بالنفس ، فيكون الأوّل أمرا لفظيا والثاني نفسيا.

ومن ذلك يظهر اندفاع ما أورده الكرماني ، وأمّا على رأي من يرى بطلان الكلام النفسي فقد يشكل الحال في ذلك ، وقد يبنى تحديدهم له على الوجه الثاني على التسامح ، فيكون تحديدا للدالّ بمدلوله.

ولا يبعد أن يقال بثبوت معنيين للأمر بحسب العرف وإن كان المتداول عندهم

__________________

(١) ذكره القطبي في شرحه على المختصر (منه رحمه‌الله).

٥٧٥

في الاصطلاح هو القول المخصوص ، إذ قد يراد به في العرف القول الخاص ، وقد يراد به الطلب المخصوص ، فعلى الثاني يكون مصدرا ، وعلى الأوّل يكون اسما للّفظ المخصوص إن اريد به نفس الصيغة الصادرة كما هو الظاهر من أكثر تعريفاتهم المتقدّمة ، فيكون كالماضي والمضارع ونحوهما.

وإن اريد به التلفّظ بالصيغة وأدائها في الخارج كما هو أحد إطلاقي القول يكون مصدرا أيضا ، كما هو الظاهر من استعمالاته العرفية ، وقضية اشتقاق سائر المشتقات منه ، وعليه ينطبق الحدّ الأوّل من الحدود المذكورة كما مرّت الإشارة اليه.

وكيف كان ، فالظاهر ثبوت المعنيين ، والظاهر أنّه على الأوّل يعمّ جميع الصيغ الموضوعة للطلب المذكور إذا اريد بها ذلك سواء كانت من العربية أو غيرها ، وفي شموله لأسماء الأفعال وجهان.

وعلى الثاني يعمّ الطلب الحاصل بتلك الصيغة المخصوصة أو غيرها كقوله : «آمرك بكذا أو أطلب منك كذا» ونحو ذلك.

فحدّه على الأوّل هو القول الّذي اريد به بمقتضى وضعه إنشاء طلب الفعل مع استعلاء الطالب أو علوّه مع عدم ملاحظة خلافه.

وعلى الثاني هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء أو العلوّ كذلك.

وقد يورد عليهما ب «اترك» ونحوه ؛ إذ ليس طلبا للفعل مع كونه أمرا.

ويمكن الجواب تارة بالتزام خروجه ؛ إذ هو نهي في الحقيقة وإن كان بصورة الأمر.

وتارة بأنّ المراد بالفعل هو المعنى الحدثي المدلول عليه للمادّة ، فيعمّ ما لو كان مدلولها تركا ونحوه حسب ما مرّ.

واخرى بأنّه ليس المراد به مفاد مادّة الأمر بل المقصود به الإيجاد المتعلّق بالمادّة ، كما أنّ المراد بالترك المأخوذ في حدّ النهي هو الترك المتعلّق بمادّته ، وحينئذ فلا نقض إذ مفاد اترك هو طلب إيجاد الترك ، فتأمّل.

٥٧٦

بقي الكلام في المقام في بيان امور تتعلّق بالمرام.

أحدها : أنّهم اختلفوا في اعتبار العلوّ أو الاستعلاء وعدمه في صدق الأمر على أقوال:

ومنها : اعتبار الاستعلاء سواء كان عاليا بحسب الواقع أو مساويا أو دانيا ، وهو المحكي عن جماعة من الخاصّة والعامّة ، منهم الفاضلان والشهيد الثاني وشيخنا البهائي وأبو الحسين البصري والرازي والحاجبي والتفتازاني وغيرهم ، وعزي الى أكثر الاصوليين بل حكى الشيخ الرضي الإجماع على أنّ الأمر عند الاصولي صيغة «افعل» الصادرة على جهة الاستعلاء ، وعزي ذلك أيضا الى النحاة وعلماء البيان.

ومنها : اعتبار العلوّ خاصّة ، وعزي الى السيّد وجمهور المعتزلة وبعض الأشاعرة.

ومنها : اعتبار العلوّ والاستعلاء معا ، واختاره بعض المتأخّرين في ظاهر كلامه وحكاه عن جماعة.

ومنها : عدم اعتبار شيء منهما ، وعزاه في النهاية الى الأشاعرة ، ويظهر ذلك من العضدي ، ويعزى الى ظاهر البيضاوي والإصفهاني.

والأظهر حسب ما أشرنا اليه اعتبار أحد الأمرين من العلوّ أو الاستعلاء ، لكن لا بدّ في الأوّل من عدم ملاحظة خلافه باعتبار نفسه مساويا للمأمور أو أدنى منه.

ويدلّ على ذلك ملاحظة العرف أمّا صدقه مع الاستعلاء وإن خلا من العلوّ فلظهور صدق الأمر بحسب العرف على طلب الأدنى من الأعلى على سبيل الاستعلاء ، ولذا قد يستقبح منه ذلك ويقال له : «ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك» وقد نصّ عليه جماعة.

وأمّا الاكتفاء بالعلوّ الخالي عن ملاحظة الاستعلاء فلانّ من الظاهر في العرف إطلاق الأمر على الصيغ الصادرة من الأمير الى الرعيّة والسيّد بالنسبة الى العبد وإن كان المتكلّم بها غافلا عن ملاحظة علوّه حين الخطاب كما يتّفق كثيرا.

٥٧٧

وممّا يشير الى ذلك انحصار الطلب الصادر من المتكلّم في الأمر والالتماس والدعاء ومن البيّن عدم اندراج ذلك في الأخيرين ، فيتعيّن اندراجه في الأوّل.

والحاصل : أنّهم يعدّون الخطاب الصادر من العالي أمرا إذا لم يستخفض نفسه ، وليس ذلك من جهة استظهار ملاحظة العلوّ لظهور صدقه مع العلم بغفلته أو الشكّ فيها أو الشك في اعتباره بملاحظة خصوص المقام.

والمناقشة بأنّ حال العالي لمّا اقتضت ملاحظة العلوّ في خطابه لمن هو دونه وكان بانيا على ذلك في طلبه جرى ذلك مجرى استعلائه ولو مع غفلته حين إلقاء الصيغة عن تلك الملاحظة مدفوعة بأنّ عدّ مجرّد ذلك استعلاء محلّ منع. ومع الغضّ عنه فقد يخلو المقام عن ملاحظة الاستعلاء قطعا ، كما إذا رأى السيّد أحدا وشكّ في كونه عبده أو رجلا آخر مساويا له أو أعلى فطلب منه شيئا بصيغة الأمر ، فإنّ الظاهر عدّه أمرا إذا كان عبده بحسب الواقع ، ولذا لو عصى العبد مع علمه بكون الطالب مولاه عدّ في العرف عاصيا لأمر سيّده وذمّه العقلاء لأجل ذلك ، مع أنّه لا دليل إذن على اعتبار الاستعلاء.

وأمّا عدم صدقه مع استخفاض العالي نفسه بجعلها مساوية مع المخاطب أو أدنى فلظهور عدّه إذن ملتمسا أو داعيا في العرف ، كما أنّه يعدّ المساوي أو الداني مع استعلائه آمرا.

فصار الحاصل : أنّ الطلب الحاصل بالأمر أو الالتماس أو الدعاء إنّما ينقسم الى ذلك بملاحظة علوّ الطالب أو مساواته أو دنوّه بحسب الواقع ، أو في ملاحظته على سبيل منع الخلوّ ، والعرف شاهد عليه.

والظاهر أنّ الطلب لا يكون إلّا على أحد الوجوه المذكورة ، وفي ذلك أيضا شهادة على ما اخترناه ، وحيث علمت اعتبار الاستعلاء أو العلوّ على النحو المذكور في مفهوم الأمر كان دالّا على ملاحظة العلوّ على أحد الوجهين ، سواء اريد به الطلب أو نفس الصيغة ، وأمّا مصداقه من الصيغة أو الطلب فلا يعتبر في صدقه الأمر عليه ملاحظة العلوّ فيه لما عرفت من صدقه على الصيغة أو الطلب

٥٧٨

مع الخلوّ عن اعتبار العلوّ فيما إذا كان المتكلّم عاليا بحسب الواقع. نعم لا بدّ في إطلاق الأمر عليه من ملاحظة العلوّ على أحد الوجهين.

حجّة القائل باعتبار الاستعلاء أنّ من قال لغيره : «افعل» على سبيل الاستعلاء يقال : إنّه أمره ، ومن قال لغيره : «افعل» على سبيل التضرّع لم يصدق ذلك وإن كان أعلى وأنّهم فرّقوا بين الأمر والالتماس والدعاء بأنّه إن كان الطلب على سبيل الاستعلاء كان أمرا الى آخر ما ذكروه ، مضافا الى ما عرفت من إسناده الى الأكثر ونقل الاتّفاق عليه.

وأنت خبير بأنّ الأوّل لا ينافي ما ادّعيناه ، وما حكي عنهم من اعتبار الاستعلاء في الأمر ممنوع ، بل يظهر من بعضهم في حكاية الفرق بين الامور المذكورة كون الفارق عندهم علوّ الرتبة ومساواتها وانخفاضها ، كما هو الظاهر ممّا سيجيء في دليل القائلين بكون الأمر للندب.

والحاصل : أنّه ليس هناك نقل مضبوط في المقام ليصحّ التعويل عليه ، والحقّ أنّ الفارق بينها هو ما بيّناه كما هو الظاهر من العرف ، وحمل ما نقل عنهم على ذلك غير بعيد.

ودعوى الاتّفاق في المقام بيّن الوهن ، وملاحظة العرف أقوى شاهد على فسادها.

حجّة القائل باعتبار العلوّ أنّه يستقبح أن يقال : «أمرت الأمير» ولا يستقبح أن يقال : «سألته» ولو لا أنّ الرتبة معتبرة في ذلك لما كان كذلك ، وربما يتمسّك لذلك بجعلهم الرتبة فارقة بين الأمر وقرينيه.

وقد عرفت ضعف الأخير.

ويرد على الأوّل أنّ الاستقباح قد يكون من جهة نفس الاستعمال بحسب اللغة ، وقد يكون من جهة قبح ما يدلّ عليه اللفظ بحسب العرف نظرا الى خصوصية المقام ، والشاهد على الخروج عن الوضع إنّما هو الأوّل دون الثاني.

فإن اريد بالاستقباح المدّعى ذلك كان ممنوعا بل هو على إطلاقه فاسد قطعا ،

٥٧٩

لجواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع ولو على سبيل المجاز ولا قبح فيه أصلا. نعم لو كان الاستعلاء منفيا في ذلك المقام أيضا فربما أمكن ما ذكر ، إلّا أنّه لا يفيد المدّعى بل يوافق ما اخترناه.

وإن اريد به الثاني فهو لا يفيد المنع اللغوي بل فيه شهادة على الاكتفاء فيه بالاستعلاء نظرا الى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدّب معه ، ألا ترى أنّه لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صحّ أن يقال له على جهة الإنكار : «أتأمر الأمير من غير استقباح».

حجّة القول باعتبار الأمرين ظهور لفظ «الأمر» عرفا في علوّ الآمر ، إذ هو المفهوم في العرف من قولك : «أمر فلان بكذا» فإذا انضمّ الى ذلك ما يرى من عدم صدق الأمر مع استخفاضه لنفسه دلّ على عدم الاكتفاء في صدقه بمجرّد العلوّ ، فيعتبر الاستعلاء معه أيضا ، والحاصل : أنّه يدّعى فهم العرف منه حصول العلوّ والاستعلاء معا.

وفيه : ما لا يخفى ودلالة إطلاق الأمر على علوّ الآمر بحسب الواقع لا ينافي وضعه لما يعمّ علوّه في نظره واعتباره بعد شهادة العرف به ، فالتبادر المدّعى إن سلّم إطلاقي كما لا يخفى.

وربما يحتجّ لذلك بما يأتي من وضع لفظ «الأمر» للوجوب ، وهو يتوقّف على علوّ الآمر واستعلائه ، إذ لا يتحقق الوجوب إلّا مع تحقّقهما.

وضعفه ظاهر بملاحظة ما يأتي إن شاء الله تعالى.

حجّة القائل بعدم اعتبار شيء من الأمرين قياسه على الخبر وقوله تعالى حكاية عن فرعون : (فَما ذا تَأْمُرُونَ)(١) وقول عمرو بن العاص لمعاوية : «أمرتك أمرا حازما فعصيتني» وقول الآخر ليزيد بن المهلب :

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

__________________

(١) سورة الأعراف : ١١٠ والشعراء : ٣٥.

٥٨٠