هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

بقي الكلام في القول باعتبارها قيدا في الوضع أو الموضوع له بأن يقال : إنّ الألفاظ المفردة إنّما وضعت لمعانيها على أن يراد منها تلك المعاني على سبيل الإنفراد ، بأن لا يراد من لفظ واحد إلّا معنى واحدا ، لا أعني به أن لا يراد به معنى مركّب من الموضوع له وغيره ، أو من الموضوعين لهما ، أو من غيرهما لجواز ذلك كلّه في الجملة قطعا ، بل المقصود أن لا يراد من لفظ واحد إلّا معنى واحدا بأن لا يكون هناك إرادتان مختلفتان من اللفظ ليكون كلّ من المعنيين مرادا من اللفظ بإرادة مستقلّة ، ويكون للّفظ معنيان مطابقيان مستقلّان قد اريد دلالته على كلّ منهما.

واعتبار الوحدة على الوجه المذكور ممّا لا يأبى عنه العرف في بادئ الرأي ، بل قد يساعد عليه بملاحظة تبادر المعنى الواحد من اللفظ الواحد ، وقد يستدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ الظاهر من وضع اللفظ للمعنى هو تعيين اللفظ بإزاء المعنى ، بأن يكون ذلك المعنى تمام المراد والمقصود من اللفظ ، لا أن يكون المقصود من الوضع إفادة اللفظ لذلك المعنى في الجملة ، سواء اريد معه غيره أو لا ، وهذا هو المراد باعتبار الوحدة في الوضع أو الموضوع له ، لمساوقته لها فلا ينافيه ما هو الظاهر من عدم ملاحظة الوحدة بخصوصها حال الوضع ، وتبادر إرادة أحد المعاني من المشترك عند خلوّه عن القرائن أقوى شاهد على ذلك ، لدلالته على اعتبار ذلك في الوضع.

ودعوى كونه إطلاقيا ، غير مسموعة ؛ إذ ظاهر الحال استناده الى الوضع حتّى يتبيّن خلافه.

ثانيهما : أنّ وضع اللفظ للمعنى إنّما كان في حال الإنفراد وعدم ضمّ معنى آخر اليه ، فإذا لم يقم دليل على اعتبار الإنفراد وعدمه في الوضع فقضية الأصل في مثله البناء على اعتباره وانتفاء الوضع مع عدمه ، اقتصارا في الحكم بثبوت الوضع على مورد الدليل ، وهو ما إذا كان القيد المذكور مأخوذا معه دون ما إذا كان خاليا عنه ،

٥٢١

نظرا الى الشكّ في تحقّق الوضع بالنسبة اليه ، فلا يصحّ إجراء حكم الوضع فيه لكونه من الامور التوقيفية المتوقّفة على التوقيف.

والقول بأصالة عدم اعتبار ذلك فيه بيّن الفساد ؛ لمعارضته بأصالة عدم تعلّق الوضع بالخالي عن ذلك القيد.

ومع الغضّ عن ذلك فقد عرفت أنّه لا مسرح للأصل في هذه المقامات ، كما مرّت الإشارة اليه مرارا ، كيف! ولو صحّ الرجوع اليه في ذلك لجاز الحكم بوضع اللفظ لأحد الشيئين إذا دار الأمر بين القول بوضعه له أو للمركّب منه ومن الآخر ، ومن الواضح خلافه.

فصار الحاصل : أنّه لا يجوز إرادة الزائد على المعنى الواحد بالنحو المذكور ، لاحتمال اعتبار الإنفراد الحاصل للمعنى حال الوضع في تحقّقه ، وقضية الأصل الاقتصار في الحكم بالوضع على هذا المقدار دون غيره.

ويمكن الإيراد على ذلك أمّا على الأوّل فبأنّ دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا منه ليس من جهة الوضع المتعلّق به وليس كون المعنى مرادا من اللفظ ملحوظا في وضعه له وإنّما ذلك ثمرة مترتّبة على الوضع ، فليس اللفظ موضوعا بإزاء المعنى مقيّدا بكونه مرادا للمتكلّم حتّى يعتبر فيه التوحد في تلك الإرادة ، بل إنّما وضع اللفظ لنفس المعنى لأجل الدلالة عليه ، فإذا استعمله المستعمل دلّ ظاهر حاله على إرادته ، أو أنّ ذلك أمر دلّ عليه قاعدة أصالة الحمل على الحقيقة ، الثابتة من تتبّع الاستعمالات إن جعلناها أمرا آخر مغايرا للظاهر المذكور ، حسب ما مرّت الإشارة اليه.

نعم ، غاية ما يمكن اعتباره في المقام أن يقال بملاحظة الواضع حال وضع اللفظ للمعنى كون ذلك تمام مدلوله ، وذلك أمر حاصل من غير اعتباره أيضا ، إذ بعد كون ذلك الوضع خاصّا به لا يمكن اندراج غيره في المدلوليّة ، فهو تمام المدلول بذلك الوضع ، ولا مانع من أن يكون غيره مدلولا بوضع آخر ، فحينئذ يجتمعان في المدلولية بملاحظة الوضعين ، كما هو الحال في المشتركات لحصول

٥٢٢

الدلالة على المعنيين بعد العلم بوضع اللفظ لهما قطعا.

والحاصل : أنّه قد تعلّق كلّ من الوضعين بالمعنى المتّصف بالوحدة في ملاحظة الواضع، وذلك المعنى هو تمام الموضوع له بالنسبة الى كلّ من الوضعين ، وليس الموضوع له إلّا ذات المعنى ، والظاهر أنّه غير مقيّد بالوحدة ؛ إذ لو اريد باعتبار الوحدة فيه تقييد الوضع بكون ذلك المعنى واحدا غير مأخوذ معه غيره في المدلولية بالنسبة الى ذلك الوضع فقد عرفت أنّه أمر حاصل بمجرّد ملاحظة المعنى الواحد في الوضع وعدم ضمّ غيره اليه من غير حاجة الى الاشتراط.

ولا ينافي ذلك استعماله في كلّ منهما بإرادة مستقلّة ، نظرا الى كلّ من الوضعين ، كما هو المفروض في محلّ البحث.

وإن اريد به اعتبار الواضع عدم إرادة غيره معه ولو من جهة وضع آخر بإرادة اخرى فذلك ممّا لا وجه للقول به ؛ إذ ذلك ممّا لا يخطر غالبا ببال الواضع حين الوضع أصلا ، فضلا عن اعتباره ذلك في الوضع.

وقد عرفت أنّ إرادة المعنى من اللفظ شيء وتعيين اللفظ بإزائه شيء آخر ، غاية الأمر أنّ الإرادة منه تابعة لذلك التعيين ، والمقصود في المقام هو تبعية الإرادة لكلّ من الوضعين ، ولا دليل على اعتبار الواضع في الوضع ما يمنع منه كما عرفت ، بل من البيّن أنّه لم يعتبر في وضع اللفظ لكلّ من المعنيين عدم تبعية المتكلّم للوضع الآخر في الإرادة ، لا حال تبعيته لذلك الوضع ولا في حال آخر.

وقد ظهر بذلك فساد الوجه الثاني أيضا فإنّه إنّما يتمّ إذا شكّ في كون وحدة المعنى في الإرادة على الوجه المذكور مأخوذة في نظر الواضع معتبرة عنده ، إمّا في الوضع أو الموضوع له ، وأمّا إذا كان عدم اعتباره لذلك ظاهرا بل كان الغالب عدم خطور ذلك بباله أيضا ـ حسب ما عرفت ـ فلا وجه لذلك أصلا ، إذ لا شكّ حينئذ حتّى يقتصر على القدر المذكور ، كيف! وقد عرفت أنّ دلالة اللفظ على كون معناه مرادا للمتكلّم ليست من جهة الوضع ابتداء ، بأن يكون ذلك قيدا مأخوذا في الوضع أو الموضوع له فضلا عن أن تكون خصوصية تلك الإرادة قيدا فيه على أحد الوجهين.

٥٢٣

فلا وجه إذن للقول باشتراط الوحدة في الإرادة في الوضع أو الموضوع له بشيء من الوجهين المذكورين ، بل ليس محصّل كلّ من الوضعين المفروضين سوى تعيين اللفظ بإزاء المعنى الواحد ، وليس المستفاد منهما سوى دلالة اللفظ على المعنى الواحد من غير زيادة عليه ، وليس المقصود في الاستعمال المفروض سوى دلالته على كلّ من المعنيين كذلك على حسب ما وضع له ، فكما أنّ كلّا منهما مدلول اللفظ حينئذ على سبيل الإنفراد ـ كما هو مقتضى الوضعين ومعلوم من ملاحظة إطلاق المشتركات بعد العلم بأوضاعها ـ فأيّ مانع من أن يراد منها على حسب تلك الدلالة ، بل ليس إرادة المعنى من اللفظ سوى كون دلالتها مقصودة للمستعمل ، فإذا كانت الدلالة على كلّ من المعنيين حاصلة قطعا من غير مزاحمة أحد الوضعين للآخر كان قصد المتكلّم لتينك الدلالتين استعمالا للّفظ في المعنيين.

وما يتوهّم من عدم دلالة المشترك على المعنيين معا بل إنّما يدلّ على أحد المعاني فقد ظهر فساده ممّا مرّ ، فلا مانع إذن من صحّة الاستعمال المفروض من جهة وضع اللفظ لخصوص كلّ من المعنيين أصلا.

ثانيها : أنّك قد عرفت أنّ دلالة اللفظ على المعنى غير إرادة ذلك المعنى منه وأنّ الاولى إنّما تحصل بمجرد وضع اللفظ للمعنى والعلم به ، وأمّا إرادته منه فقد تحصل كما في الحقائق ، وقد لا تحصل كما في المجازات ، فدلالته على المعنى وضعية حاصلة من وضع اللفظ له ، وأمّا دلالته على إرادة المستعمل ذلك فليست بذلك الوضع.

وحينئذ نقول : كما أنّ دلالة الألفاظ على معانيها حاصلة من جعل الواضع مقصورة على القدر الثابت من توقيفه ولا يتعدى عن ذلك المقدار فكذا جواز قصد المتكلّم لتلك الدلالة وإفادته المعنى المدلول عليه بها مقصور على القدر الثابت من تجويز صاحب اللغة ، فلو منع عن قصد نحو من الدلالة أو لم يعلم من تتبّع استعمالات أهل اللغة تجويزه لها وإذنه في استعمال اللفظ لإفادته لم يجز ذلك قطعا ، لوضوح كون اللغات امورا جعلية توقيفية متوقفة على نحو ما قرّره الجاعل ،

٥٢٤

فمجرّد دلالة اللفظ على المعنى لا يقضي بجواز قصده وإرادته من اللفظ ، كما هو الحال في اللوازم البينة للحقائق فإنّه لا يصحّ إرادة إفهام تلك اللوازم من نفس اللفظ من غير أن يكون ذلك على النحو المتداول في المحاورات الكاشفة عن تجويز الواضع.

وكذا الحال في إرادة سائر المجازات ولو بعد إفهام المعاني من الألفاظ بإقامة القرينة عليها ، فإنّ مجرّد دلالة اللفظ على إرادة المعنى نظرا الى ظاهر الحال أو بواسطة القرينة غير كاف في صحّة استعماله فيه ، بل لا بدّ في صحّة الاستعمال من كونه على النحو المأذون فيه من واضع اللغة ، ولذا ذهبوا الى اعتبار الوضع النوعي في المجاز مع أنّ فهم المعنى من اللفظ ودلالته على المراد إنّما هو بواسطة القرينة من غير حاجة فيها الى الوضع المذكور.

وحينئذ نقول : إنّ القدر الثابت من تتبّع الاستعمالات هو تجويز الواضع إرادة معنى واحد من اللفظ أعني تعلق إرادة واحدة بها وإن كانت متعلقة بأمرين أو أزيد لكون المعنى حينئذ واحدا مع عدم الخروج في ذلك أيضا عن مقدار ما ثبت فيه الإذن كما مرّ.

وأمّا تجويزه لتعلق إرادتين متعدّدتين باللفظ الواحد فيتعلّق للمتكلّم قصدان بإفهام معنيين فغير ثابت من اللغة ، بل الظاهر ثبوت خلافه ، كما يظهر من تتبّع الاستعمالات المنقولة عن العرب وملاحظة الاستعمالات الجارية بين أهل العرف من غير فرق بين كون المعنيين حقيقيّين أو مجازيين أو مختلفين ، فلم يجوّز الواضع أن يكون اللفظ الواحد إلّا علما لمراد واحد ومتضمنا لإرادة واحدة بمقتضى الاستقراء ولا أقلّ من عدم ثبوت تجويزه لذلك ، وهو أيضا كاف في المقام حسب ما عرفت.

فإن قلت : إنّه إذا عيّن الواضع لفظا للمعنى فالفائدة فيه إفهام المتكلّم لذلك المعنى بواسطة وضعه له ، فأيّ حاجة إذن الى توقيفه في ذلك؟.

قلت : إنّ ما ذكرت أيضا نحو من التوقيف لكن لا يثبت به إلّا تجويز إرادة

٥٢٥

إفهام ذلك المعنى في الجملة ، غاية الأمر أن يثبت به تجويزه لإرادته منه إنفرادا على حسب ما تعلّق الوضع به.

وأمّا إفهام كلّ من المعنيين بقصدين مستقلّين ـ كما هو الملحوظ في المقام ـ فلا يلزم من ذلك أصلا ، سيّما بعد جريان طريقة أهل اللغة والعرف على خلاف ذلك ، وظهور عدم تجويزه لذلك من استقراء الاستعمالات الشائعة والمحاورات الدائرة.

وممّا يوضح ذلك ملاحظة التثنية فإنّها قد وضعت لإفادة تكرار المعنى المراد من مفردها فدلالتها على الفردين دلالة مطابقية ، فلو صحّت إرادة معنيين من اللفظ الواحد ـ كما هو المفروض ـ لجاز أن يراد من مثنى المشترك إفهام فردين من معنى وفردين من معنى آخر ، فيراد بها مرّة هذا ومرّة هذا بإرادتين مستقلّتين في استعمال واحد على نحو المفرد حسب ما بيّنا ، ومن الواضح عدم جواز استعمالها كذلك في المحاورات ، ولذا لم يقع الخلاف في استعمالها في المعنيين على النحو المذكور حسب ما أشرنا اليه ، وبيّنا أنّ الخلاف فيها على نحو آخر غير ما قرّر في المفرد.

فإن قلت : إنّ المانع هناك تعدّد الوضع في التثنية ، فإنّ لمفردها وضعا ولعلامتها وضعا آخر ، وحيث إنّه قد ضمّ فيها أحد الموضوعين الى الآخر ولا اشتراك في وضع العلامة بل إنّما وضعت لإفادة الفردين لا غير لم يصحّ ذلك.

قلت : لا شكّ أنّ وضع العلامة على نحو وضع سائر الحروف فهي إنّما وضعت لإفادة التعدد فيما اريد من مدخولها ، فإذا صحّ أن يراد من مدخولها معنيان مستقلّان بالإرادة كانت تلك العلامة دالّة على تعدّد كلّ منهما بملاحظتين.

فإن قلت : إنّه لمّا كان الوضع فيها واحدا لم يجز فيه إرادة إفهام التعدّد مرّتين.

قلت : أوّلا : إنّ ذلك جار في المفردات أيضا فإنّ للتنوين واللام ونحوهما اللاحقة للأسماء أيضا أوضاعا حرفية على النحو المذكور ، وهم قد جوّزوا إرادة المتعدّد من مدخولاتها فيتعدّد مفادها تبعا لها كما في المقام.

٥٢٦

وثانيا : أنّه لا مانع من استعمالها في المتعدّد بعد كون الموضوع له فيها خصوص الجزئيات ، فيراد منها هذا مرّة وهذا مرّة لتعلّق الوضع بكلّ منهما وإن كان الوضع فيها واحدا.

ولذا نقول أيضا في إيضاح ما ذكرناه : إنّه لو جاز استعمال المشترك على النحو المذكور لجاز استعمال أسماء الإشارة ونحوها فيما يزيد على الواحد أيضا ، لتعلّق الوضع بكلّ منها على المعروف بين المتأخّرين ، فيراد منها إفادتها.

وكون الوضع فيها واحدا وفي المشترك متعدّدا غير قاض بالفرق بعد تعدّد الموضوع له وتكثّر المعنى في الجملة ، فهناك أيضا معان متعدّدة قد وضع اللفظ بإزائها فلم لا يجوز إرادتها في استعمال واحد ، بل نقول بلزوم جواز تلك الإرادة من النكرات أيضا لوضعها للفرد المنتشر ، وهو صادق على كلّ من الآحاد ، فأيّ مانع على ما بنوا عليه من إرادة واحد منها وإرادة آخر؟ وهكذا بإرادات متعدّدة نظرا الى كون كلّ منها مندرجا في الموضوع له.

والحاصل : أنّ التعدّد في ما يطلق اللفظ عليه قد يكون ناشئا من تعدّد الوضع كما في المشتركات وقد يكون من جهة تعدّد الموضوع له مع اتّحاد الوضع كما في الضمائر وأسماء الإشارة ونحوها على المعروف بين المتأخّرين ، وقد يكون من جهة ملاحظة الإبهام فيما وضع اللفظ له كما في النكرات ، فهناك وإن لم يكن تعدّد في نفس المعنى لكن التعدّد حاصل فيما يطلق اللفظ عليه نظرا الى اتّحاده مع الموضوع له ، فإنّك تطلق النكرة على خصوص الأفراد من جهة كونه فردا فالتعدّد هناك حاصل أيضا في الجملة.

بل وكذا الحال في سائر المطلقات من الألفاظ الموضوعة للمعاني الكلّية والطبائع المطلقة ، نظرا الى صدقها على أفرادها وإطلاق تلك الألفاظ عليها من جهة اتّحادها معها ، فإن كان كون المعنى موضوعا له في الجملة كافيا في صحّة الإطلاق على المتعدّد لزم الاكتفاء به في جميع ذلك ، وإلّا فليمنع من الكلّ إلّا أن يقوم دليل على الجواز ، ولا وجه للتفصيل من غير بيان دليل.

٥٢٧

وممّا يشير الى ما قلناه أيضا أنّ اتّحاد اللفظين قد يكون باتّحادهما في أصل الوضع ـ كما هو الحال في المشترك على ظاهر حدّه ـ وقد يكون بالعارض نظرا الى طروّ الطوارئ ـ كما إذا اتّحد المفرد والتثنية في اللفظ من جهة إضافته الى المعرّف باللام ـ وقد يكون اتّحادهما في الصورة مع كون أحدهما لفظا واحدا موضوعا لمعنى مخصوص والآخر متعدّدا بملاحظة أوضاع شتّى لأبعاضه ، كما في : «سلعا» و «سل عن» و «عبد الله» بملاحظة وضعه العلمي ومعناه الإضافي ، و «تأبّط شرا» بالنسبة الى معناه التركيبي والعلمي.

فلو قيل بجواز إرادة معاني عديدة من اللفظ لوضعه بإزائها فلا بدّ من القول بجوازه في جميع ذلك إن لم يكن هناك مانع من جهة الحركات الطارئة ، كما أشرنا اليه في أوّل البحث.

والتزام ذلك في غاية البعد ، بل قد يقطع بفساده بعد ملاحظة الاستعمالات ، والبناء على التفصيل مع اتّحاد المناط ممّا لا وجه له أيضا ، فتأمّل في المقام جيدا.

ثالثها : أنّ الحروف اللاحقة للأسماء أو الأفعال إنّما تفيد معاني زائدة متعلّقة بتلك الأسماء أو الأفعال ، فهي ليست قاضية بخروجها عن معانيها وأوضاعها الحاصلة لها قبل لحوقها كما هو معلوم من ملاحظة الاستعمالات ، ولا أقلّ من قضاء الأصل بذلك حتّى يثبت المخرج ، وحينئذ فالنفي الوارد على اللفظ إنّما ينفي المعنى الثابت له قبل طروّه ، فلا وجه إذن للتفصيل بين النفي والإثبات ، لكون النفي مفيدا للعموم فيتعدّد مدلوله. بخلاف الإثبات فإنّه إذا أفاد العموم فإنّما يفيده بالنسبة الى معناه قبل طروّ النفي والمفروض أنّه لا تعدّد فيه حينئذ فكيف! يعقل تعدّده بعد ورود النفي عليه فغاية ما يفيده إذن هو العموم بالنسبة الى المعنى الواحد ، ولا كلام فيه.

نعم ، إذا قلنا بأنّ مدلول المشترك عند الإطلاق هو أحد المعاني الصادق على كلّ منها كما هو أحد الوجوه فيما عزي الى صاحب المفتاح أمكن التفصيل المذكور.

فإنّه قد يقال بأنّ سلب أحد المعاني إنّما يكون بسلب الجميع لصدق نقيضه

٥٢٨

بحصول أحد أقسامه ، بخلاف الإثبات لصدقه بحصول واحد منها.

لكنّك قد عرفت ضعف الكلام المذكور ، وأنّه لا دلالة لكلام صاحب المفتاح عليه ، وعلى فرض دلالته فلا حجّة فيه بعد مخالفته لصريح فهم العرف وكلام المعظم ، ومع ذلك فليس من الاستعمال في المعنيين كما هو مورد البحث.

ثمّ إنّه لو تمّ الوجه المذكور لجرى فيما إذا كان الإثبات موردا لأدوات العموم ، إذ لا يختصّ العموم بالنفي فلا يتّجه التفصيل المذكور.

وكذا الحال في علامتي التثنية والجمع اللاحقتين للمفرد ، فإنّهما إنّما يفيدان تعدّد معناه الحاصل حال الإفراد كما أنّ لحوق التنوين له يفيد الوحدة ، ولحوق اللام يفيد التعريف ، فاللفظ مع قطع النظر عن لحوق تلك الطوارئ له موضوع للطبيعة المطلقة القابلة لاعتبار كلّ من المذكورات معها بواسطة ما يلحقها من اللواحق المذكورة ، فليس مفاد كلّ من علامتي التثنية والجمع سوى إفادة حال ملحوقها بحصوله في ضمن فردين أو أكثر ، وحينئذ فمن أين يجيء اختلاف أصل المعنى فيهما؟.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت لو تمّ فإنّما يجري في التثنية والجمع المصحّح ، وأمّا المكسّر فليست إفادته للتعدّد إلّا بواسطة وضعه لذلك استقلالا من غير بقاء لوضعه الأفرادي في ضمنه ، لخروج المفرد عن وضعه بالتكسير وحينئذ فأيّ مانع من تعدّد مفاده على الوجه الملحوظ في المقام؟.

قلت : إنّ المعنى المتبادر من الجمع في الصورتين أمر واحد لا اختلاف فيه من هذه الجهة أصلا ، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف ، فإذا ثبت عدمه في المصحّح ثبت في المكسّر أيضا ، مضافا الى عدم قائل بالفصل.

ثمّ مع الغضّ عمّا ذكرناه والمنع من ثبوت وضع حرفي لعلامتي التثنية والجمع ـ ليتمّ ما ذكر من البيان ـ لا بدّ من القول بثبوت وضع للمجموع.

والمرجع فيه علماء العربية ، وقد ذهب المعظم منهم الى عدم جواز بناء التثنية والجمع الّا مع اتفاق المعنى ، ولا يعادله قول من ذهب الى جوازه مع الاختلاف

٥٢٩

فيه ، لرجحان الأوّل من وجوه شتّى.

ومع الغضّ عن ملاحظة كلامهم فالرجوع الى التبادر كاف في إثباته ، إذ لا يستفاد من التثنية والجمع عرفا إلّا تعدّد المعنى المعروض للأفراد ، ويشهد له ملاحظة الاستعمالات.

نعم ، لا يجري ذلك في تثنية الأعلام وجمعها ، وقد عرفت قضاء الدليل فيهما بالتصرّف في معروضيهما ، وأمّا تثنية الضمائر والموصولات وجمعهما فلا يبعد كونهما موضوعات ابتدائية كمفرداتها ، هذا إن قلنا بكون الوضع فيهما عامّا والموضوع له خاصّا ، وإلّا فلا إشكال ، على انّه من جهة اتّحاد الوضع فيهما يكون المعنى المستفاد منهما أمرا واحدا.

وإن كان اللفظ موضوعا بإزاء خصوصياته فالتعدّد المأخوذ في تثنيتهما وجمعهما إنّما يلحق ذلك المعنى الواحد المعروض للوحدة في مفرداتهما ، فتأمّل.

إذا تقرّر ما ذكرناه فبناء التثنية والجمع مع فرض تعدد المراد من مفرديهما خروج عن وضع التثنية والجمع ، فيفتقر جوازه على وجود العلاقة المعتبرة في العرف بأن لا يكون خارجا عن مجاري الاستعمالات ، وهو غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه كما يظهر بالتأمّل في موارد الإطلاقات.

على أنّ التصرف في الأوضاع الحرفية مقصور على السماع في الغالب ، ولذا اعتنى علماء العربية بضبط معانيها المجازية حتّى أنّه ذهب بعضهم الى لزوم نقل الآحاد فيه ، وقد مرّت الإشارة اليه.

قوله : (لكان ذلك بطريق الحقيقة)

اورد عليه أنّه لا حاجة الى ضمّ المقدّمة المذكورة للاكتفاء في المقام بمجرد الاستعمال ، سواء كان بطريق الحقيقة أو المجاز ؛ إذ المفسدة المدعاة إنّما تتبع وقوع الاستعمال مطلقا ، فيكفي أن يقال : إنّه مستعمل حينئذ في هذا وحده وفي هذا وحده ، والتناقض حاصل بذلك.

واجيب عنه بأنّ المقدّمة المذكورة لا بدّ منها في المقام ، إذ لو فرض عدم الالتفات

٥٣٠

اليها لم يلزم كونه مستعملا في هذا وحده وفي هذا وحده ، لإمكان سقوط الوحدة حينئذ فيكون مستعملا في نفس المعنى بدون القيد ، غاية الأمر أن يكون مجازا.

وفيه : أنّ المفروض في محلّ البحث استعمال اللفظ في معنييه الموضوع لهما ، وذلك إنّما يصدق باستعماله في هذا وحده وفي هذا وحده ، فاعتبار ذلك في محلّ النزاع مغن عن المقدمة المذكورة.

وأنت خبير بأنّ ما ذكر في الإيراد والجواب مبني على كون المفسدة المترتّبة على ذلك هو لزوم اجتماع المتنافيين في الإرادة حيث يراد المعنى وحده ، ولا يراد وحده بعد البناء على اعتبار الوحدة في الموضوع له.

لكنّك تعلم أنّه لو كان ذلك مقصود المستدلّ في المقام لم يحتج الى إطالة الكلام ، وضمّ المقدّمات المذكورة ، وردّه المشترك بين المعنيين الى المشترك بين الثلاثة ثمّ التمسّك في بيان الاستحالة بالمنافاة بين إرادة المعنيين معا مع إرادة كلّ منهما منفردا ، بل كان يكفيه التمسّك الى المنافاة الظاهرة بين إرادة أحد المعنيين مع الآخر نظرا الى اعتبار قيد الوحدة في كلّ منهما فإرادة كلّ منهما مع الآخر ينافي الوحدة الملحوظة من جهتين.

والّذي يظهر من التأمّل في كلامه أنّه لم يأخذ في الاحتجاج اعتبار الوحدة في وضع اللفظ لكلّ من المعنيين ، سواء كانت جزء من الموضوع له ، أو شرطا فيه ، أو في الوضع ، كيف! ولو اخذ ذلك لم يصحّ ما ادّعاه من كون معاني اللفظ حينئذ ثلاثة ، لكون استعماله في المعنيين معا كاستعماله في كلّ منهما منفردا حقيقة أيضا ، ضرورة إسقاط الوحدة المعتبرة حينئذ ، فيكون اللفظ مستعملا في غير الموضوع له قطعا ، فكيف! يلزم أن يكون ذلك أيضا حقيقة حسب ما ادّعاه؟

بل الظاهر أنّ مقصوده إلزام كون المعنيين معا أيضا معنى حقيقيا للّفظ ، نظرا الى وضعه لكلّ منهما واستعماله فيهما ، فيكون ذلك إذن بناء على القول بجواز الاستعمال فيهما معنى ثالثا للّفظ مغايرا لكلّ منهما ، ويكون اللفظ مشتركا بين تلك الثلاثة.

ولما كان مورد النزاع هو استعمال المشترك في جميع معانيه فلا بدّ من كونه

٥٣١

مستعملا في المعاني الثلاثة المذكورة ، ورتّب على ذلك لزوم التناقض.

ويمكن تقرير كلامه في بيان التناقض بوجهين :

أحدهما : أن يريد بذلك لزوم التناقض بين المرادين ، فإنّ إرادة المعنيين معا قاضية بعدم الاكتفاء بكلّ منهما في الامتثال والإطاعة ، بل لا بدّ فيه من حصول الأمرين ، وإرادة كلّ منهما منفردا قاضية بحصول الامتثال بالإتيان لكلّ منهما ، وهما متنافيان.

ثانيهما : أن يقرّر ذلك بالنسبة الى نفس الإرادتين ، نظرا الى أنّ إرادة المعنيين معا قاضية بعدم إرادته لكلّ منهما منفردا ، وإرادته لكلّ منهما منفردا إنّما يكون بعدم إرادته الأمرين معا.

وكأنّ الأظهر حمل كلامه على الأوّل ؛ إذ لو أراد الثاني لم يقتصر في بيان المنافاة على المنافاة الحاصلة بين إرادة كلّ منهما منفردا وإرادة المعنى الثالث الّذي أثبته في المقام ـ أعني المعنيين معا ـ لثبوت المنافاة بين إرادة المعنيين الأوّلين أيضا ، نظرا الى ملاحظة الوحدة في كلّ منهما.

وكأنّ هذا الوجه ناظرا الى التقرير المتقدّم ، فقد يلغو معه اعتبار تلك المقدّمات ، لإمكان التمسّك به من أوّل الأمر.

إلّا أن يقال : إنّ ذلك لا يقضي بإلغاء المقدّمات المذكورة بالنظر الى ما ذكره من التقرير ، غاية الأمر أن لا يحتاج اليها في التقرير الآخر ، فلا يرد عليه استدراك بعض المقدّمات ، بل يرد عليه أنّ هناك طريقا آخر في الاحتجاج لا حاجة فيه الى ضمّ المقدّمات المذكورة ، وهو لا يعدّ إيرادا على الحجّة.

وكيف كان ، فلا يخفى وهن الحجّة المذكورة على التقرير المذكور ، وعلى ما قرّرناه من وجوه شتى.

قوله : (له حينئذ ثلاثة معان ... الخ)

لا يخفى أنّه إن قيل بكون اللفظ موضوعا لكلّ من المعنيين بقيد الإنفراد لم يكن استعماله في المعنيين معا على سبيل الحقيقة قطعا ، لسقوط قيد الإنفراد.

وإن قيل بكونه موضوعا لكلّ من المعنيين لا بشرط الإنفراد وعدمه لم يكن

٥٣٢

استعماله في المعنيين استعمالا في معنى ثالث ، لكونه استعمالا في نفس المعنيين المفروضين.

نعم ، يكون استعمال المشترك حينئذ على وجوه ثلاثة ، لا أن يثبت له هناك معان ثلاثة ، والفرق بين الأمرين ظاهر.

وكأنّ مقصوده باستعماله في المعنيين أن يستعمل في مجموعهما ، كما يومئ اليه قوله : «معا» والتعبير عنه بعد ذلك بإرادة المجموع ، وحينئذ فكون المعاني ثلاثة ممّا لا ريب فيه مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة أيضا ، إلّا أنّ دعوى كون استعماله في المعنيين كذلك حقيقة بيّن الفساد.

ثمّ إنّه لو صحّ ما ذكره في بيان كون المعاني ثلاثة لجرى في كونها أربعة ... وهكذا فلا تقف معانيه على حدّ.

قوله : (وقد فرض استعماله في جميع معانيه)

لا يخفى أنّ ذلك غير مأخوذ في محلّ البحث ، فإنّ المبحوث عنه في المقام هو استعماله في أزيد من معنى سواء استعمل في الجميع أو لا ، نعم القائل بظهوره في الاستعمال في جميع معانيه يحمله عليه عند التجرّد عن القرائن ، وذلك ممّا لا ربط له بمحلّ النزاع في المقام.

قوله : (الاكتفاء بكلّ واحد منهما)

ظاهر ذلك يعطي ما ذكرناه من كون مقصوده الاكتفاء به في الامتثال لظهور لفظ «الاكتفاء» في ذلك ، وكذا قوله : «وكونهما مرادين على الإنفراد» فإنّ الظاهر كون قوله : «على الإنفراد» قيدا للمراد لا للإرادة لما يشتمل عليه ذلك من التناقض في نفسه.

وحينئذ فيرد عليه أنّ غاية ما يلزم حينئذ أن يكون هناك تكاليف ثلاثة.

أحدها : الإتيان بهما على الاجتماع بأن يكون كلّ منهما بعضا من المراد ، كما هو ظاهر كلامه.

والثاني والثالث : التكليف بكلّ منهما منفردا فلا تناقض.

نعم ، لو تعلق هناك تكليف واحد بما ذكر على النحو المذكور ثبت التناقض ،

٥٣٣

إلّا أنّ استعمال المشترك في معانيه لا يقضي بذلك أصلا.

ومع الغضّ عن ذلك فالمفروض في محلّ النزاع استعمال المشترك في معانيه التي يمكن الاجتماع بينها في الإرادة حسب ما مرّ ، فعلى فرض كون المعنيين معا معنى ثالثا لا يلزم من القول بجواز استعمال المشترك في معانيه أن يراد أيضا ، لعدم إمكان إرادته أيضا نظرا الى ما قرّره من لزوم التناقض ، فليكن المراد حينئذ هو كلّ منهما منفردا ، وبه يحصل ما هو المقصود.

على أنّا نقول : إنّ موضع النزاع هو المعنى الثالث على ما يقتضيه جعله مقدّما في القياس الأوّل ، فما ذكر في تالي القياس الثاني من لزوم كونه مريدا لأحدهما خاصّة غير مريد له كذلك فاسد ؛ إذ مع إرادة المعنيين معا لا يراد كلّ منهما منفردا ، غاية الأمر أن لا يكون ذلك استعمالا له في معانيه ، بل في معنى واحد ، ولا مناقشة فيه بعد وضوح المراد.

قوله : (والجواب : أنّ ذلك مناقشة لفظية ... الخ)

هذا الجواب ينطبق على التقرير المتقدّم ، وقد عرفت بعده من كلام المستدلّ كيف! وكثير من مقدّماته المذكورة حينئذ مستدركة ، ولا حاجة فيه الى التطويل المذكور حسب ما أشرنا إليه.

قوله : (فإن أفاد المفرد التعدد أفاد ... الخ)

الظاهر أنّه أراد بما ذكره أوّلا من كونهما مفيدين للتعدّد ، هو الدلالة على تعدّد المفرد، وبما ذكره ثانيا هو الدلالة على تعدّد نفس المعنى فهما مستقلّان في الدلالة على التعدّد ، لكن على الوجه الأوّل ، وهو الفارق بينهما وبين المفرد ، وأمّا دلالتهما على التعدّد بالوجه الثاني فتابعة لإفادة المفرد إيّاه.

قوله : (فإنّ السجود من الناس ... الخ)

لا يخفى أنّ قضية ظهور المشترك في جميع معانيه أن يكون المنسوب في الآيتين الى كلّ من المعطوف والمعطوف عليه هو جميع المعاني ، كما هو شأن الدلالة على العموم عند إسناد العامّ الى كلّ من المذكورات ، وليس مفاد الآيتين ذلك ولا ادّعاه المستدلّ ، فلا يطابق ما ادّعوه.

٥٣٤

قوله : (وهو غاية الخضوع)

قد يستشكل في المقام بأنّه لو اريد به ذلك لم يتّجه تخصيصه بكثير من الناس إن اريد به الخضوع التكويني وإن اريد به التكليفي فلا يعمّ ما عدا المكلّفين فلا يصحّ إسناده الى غيرهم أيضا.

ويدفعه : أنّ المراد به مطلق الخضوع الأعمّ من الوجهين ، إلّا أنّ ذلك إذا اسند الى غير ذوي العقول انصرف الى الأوّل وإذا اسند الى ذويها انصرف الى الثاني ، لظهور الفعل المنسوب اليهم فيما صدر منهم على سبيل الاختيار.

أو يقال : إنّ الكفّار من ذوي العقول ، لمّا تعارض فيهم الخضوع التكويني والعناد والاستكبار الحاصل منهم في مقام التكليف تعادلا ، فكأنّه لا خضوع فيهم.

أو يقال : إنّ الفائدة في تخصيصهم بالذكر شرافتهم وظهور الخضوع والانقياد بالنسبة اليهم بخلاف غيرهم.

ويؤيّد ذلك اندراج الكلّ في قوله تعالى : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(١) فيكون ذكر الخاصّ بعد العامّ لأحد الوجهين المذكورين ، فلا حاجة الى التزام التخصيص في الأوّل.

وقد يجعل ذكر الشمس والقمر وغيرهما أيضا من ذلك بناء على شمول من في المقام لذوي العقول وغيرهم ، تنزيلا للكلّ في المقام منزلة أرباب العقول.

هذا ، ولنختم الكلام في المرام بالتنبيه على امور :

أحدها : أنّ الظاهر أنّ البحث في المقام إنّما هو في المشترك ، وأمّا غيره من الألفاظ المتّحدة في الصورة المختلفة بحسب المعنى ممّا أشرنا اليه ـ كالألفاظ المشتركة من جهة الإعلال أو غيره ، والألفاظ المشتركة بين المفرد والمركّب التامّ أو غيره ـ فالظاهر خروجها عن موضوع البحث في المقام.

لكن قد عرفت أنّ الوجه المذكور لجواز استعمال المشترك في معانيه جار فيه ، وأمّا الوجه الّذي ذكروه للمنع فلا يخلو جريانه فيه عن تأمّل (٢).

__________________

(١) سورة الحج : ١٨.

(٢) إذ ليس في ذلك إرادة معنيين من لفظ واحد لينافي الوحدة الملحوظة في الوضع حسب ـ

٥٣٥

وقد يتخيّل بعض الوجوه للمنع من إرادة ما يزيد على الوجه الواحد في بعض الصور المذكورة ، لكنّه لا ينهض حجّة على المنع.

نعم ، ظاهر المحاورات يأبى عنه كمال الإباء ، والظاهر أنّه لا مجال للتأمل في المنع منه، وذلك من الشواهد على المنع من استعمال المشترك أيضا ، كما مرّت الإشارة اليه.

ثانيها : أنّ إرادة الظاهر والباطن من القرآن ليست من قبيل استعمال المشترك في أزيد من معنى ، لما هو ظاهر من عدم كون البطون ممّا وضع اللفظ بإزائها ليكون اللفظ مشتركا لفظيا بين الظاهر والباطن ، فذلك أشبه باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه إن كان الظاهر معنى حقيقيا ، وفي مجازيه إن كان مجازيا ، إلّا أنّ الظاهر أنّه ليس من ذلك القبيل أيضا ؛ إذ كثير من البطون المذكورة في الروايات ليس بينها وبين المعنى الظهري مناسبة بيّنة يصحّح استعمال اللفظ فيها بحسب المتعارف في المحاورات.

والظاهر أنّ إرادة البطون مبنية على مراتب اخر عدا الأوضاع اللغوية شخصية كانت أو نوعية بمعناها الأخصّ أو الأعمّ ، وإنما هي مبنية على إشارات لا يعرفها إلّا الراسخون في العلم ، فلا دلالة في إرادة امور عديدة من الآيات الكريمة على الوجه المذكور على جواز استعمال اللفظ في الحقيقتين أو الحقيقة والمجاز ، أو المجازين كما قد يتوهم في المقام.

ثالثها : أنّ الخروج عن مقتضى اللغة قد يكون باللحن في أصل الكلمة أو في عوارضها ولواحقها الطارئة ، كالإعراب والتقديم والتأخير والوقف بالحركة والوصل بالسكون بناء على المنع منهما بحسب اللغة.

وقد يكون بالخروج عن القواعد الكلّية المقرّرة في اللغة ممّا لا يتعلّق

__________________

ـ ما بني عليه الاستدلال المذكور ، وإنما جعل الملفوظ في بعض الوجوه المفروضة إشارة الى لفظين متعددين ، واريد بكلّ منهما معناه بعد جعل اللفظ كلمة مستقلة في أحد وجهيه وجزء من آخر في الوجه الآخر ، كما في بعض آخر من الوجوه المذكورة ، فتأمّل. (منه رحمه‌الله).

٥٣٦

بخصوص صنف من الألفاظ ، كمقصودية المعنى من اللفظ فإنّ التلفّظ بالكلام من غير قصد الى معناه أصلا خارج عن قانون اللغة ، ولا يندرج اللفظ معه في شيء من الحقيقة والمجاز ، إلّا أنّه ليس فيه لحن في أصل الكلمة ولا في عوارضها اللاحقة ، وإنّما يخالف ذلك ما تقرّر في اللغة من ذكر الألفاظ لإرادة معانيها الموضوع لها أو غيرها ممّا يقوم القرينة عليها ، حيث إنّ اللغات إنّما قرّرت للتفهيم والتفهّم وإبداء ما في الضمير.

وقد (١) يجعل من ذلك استعمال المجازات من دون ضمّ قرينة اليها لخروجه بذلك عمّا اعتبره الواضع من ضمّ القرينة اليها في الاستعمال.

والظاهر أنّ ما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، فليس في استعمال المشترك في معنييه لحن في نفس الكلمة ولواحقها ، لما عرفت من عدم مخالفته لوضع اللفظ لكلّ من المعنيين ، وإنّما المخالفة فيه للقاعدة المذكورة حسب ما مرّ بيانها ، فكما أنّ في عدم قصد المعنى من اللفظ وإخلائه عن إرادة المعنى خروجا عن القانون المقرّر في اللغة في استعمال الألفاظ ، فكذا في جعل اللفظ علما لما زاد على المعنى الواحد وإرادة كلّ منهما منه بإرادة مستقلّة على نحو ما مرّ بيانه ، فلا يحمل عليه الكلام الوارد في المحاورات.

نعم ، ربما يخرج المتكلّم عن القانون المقرّر فيريد ذلك من العبارة كما قد يقع من بعض الناس في بعض المقامات ، كمقام المطايبة والتمليح ، وهو إذن من تصرّفات المتكلّم.

كما قد (٢) يقع منه غير ذلك أيضا من التصرّفات الغير الشائعة في اللغة في مقامات خاصّة ، ولا ربط لذلك بجواز الاستعمال المفروض بحسب اللغة كما هو محطّ الكلام ، فتأمّل.

__________________

(١) هذا إذا قلنا بكون اعتباره لضمّ القرينة من جهة التفهيم كما هو الظاهر ، لا في أصل تجويزه لاستعمال اللفظ فيما يناسب معناه. (منه عفي عنه).

(٢) كبعض الاشتقاقات المخترعة ، وإدخال الألفاظ العجمية في الكلام العربي على النحو الخارج عن النحو الوارد. (منه رحمه‌الله).

٥٣٧
٥٣٨

معالم الدين :

أصل

واختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ ، كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه فمنعه قوم ، وجوّزه آخرون. ثمّ اختلف المجوّزون فأكثرهم على أنّه مجاز. وربّما قيل بكونه حقيقة ومجازا بالاعتبارين.

حجّة المانعين : انه لو جاز استعمال اللّفظ في المعنيين ، للزم الجمع بين المتنافيين. أمّا الملازمة ، فلأنّ من شرط المجاز نصب القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ؛ ولهذا قال أهل البيان: إنّ المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة ، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء. وإلّا لزم صدق الملزوم بدون اللازم وهو محال ، وجعلوا هذا وجه الفرق بين المجاز والكناية. وحينئذ، فإذا استعمل المتكلّم اللّفظ فيهما ، كان مريدا لاستعماله فيما وضع له ، باعتبار إرادة المعنى الحقيقيّ غير مريد له باعتبار إرادة المعنى المجازيّ ، وهو ما ذكر من اللّازم. وأمّا بطلانه فواضح.

وحجّة المجوّزين : أنّه ليس بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معا منافاة. وإذا لم يكن ثمّ منافاة لم يمتنع اجتماع الارادتين عند التكلّم.

واحتجّوا لكونه مجازا : بأنّ استعماله فيهما استعمال في غير ما وضع له أوّلا ؛ إذ لم يكن المعنى المجازيّ داخلا في الموضوع له وهو الآن داخل ، فكان مجازا.

واحتجّ القائل بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللفظ مستعمل في كلّ واحد من المعنيين. والمفروض أنّه حقيقة في أحدهما ، مجاز في

٥٣٩

الآخر ، فلكلّ واحد من الاستعمالين حكمه.

وجواب المانعين عن حجّة الجواز ، ظاهر بعد ما قرّروه في وجه التنافي.

وأمّا الحجّتان الأخيرتان ، فهما ساقطتان بعد إبطال الأولى. وتزيد الحجّة على مجازيته: بأنّ فيها خروجا عن محلّ النزاع ؛ إذ موضع البحث هو استعمال اللفظ في المعنيين ، على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ، ومتعلّقا للاثبات والنفي ، كما مرّ آنفا في المشترك. وما ذكر في الحجّة يدلّ على أنّ اللفظ مستعمل في معنى مجازيّ شامل للمعنى الحقيقيّ والمجازيّ الأوّل ، فهو معنى ثالث لهما. وهذا ممّا لا نزاع فيه ؛ فانّ النافي للصحّة يجوّز إرادة المعنى المجازيّ الشامل ويسمّى ذلك ب «عموم المجاز» ، مثل أن تريد ب «وضع القدم» في قولك : «لا أضع قدمى في دار فلان» الدخول ، فيتناول دخولها حافيا وهو الحقيقة ، وناعلا وراكبا ، وهما مجازان.

والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقيّ الذي يستعمل فيه اللفظ حينئذ تمام الموضوع له حتّى مع الوحدة الملحوظة في اللفظ المفرد ، كما علم في المشترك، كان القول بالمنع متوجّها ، لانّ إرادة المجاز تعانده من جهتين : منافاتها للوحدة الملحوظة ، ولزوم القرينة المانعة ؛ وإن أرادوا به : المدلول الحقيقيّ من دون اعتبار كونه منفردا ، كما قرّر في جواب حجّة المانع في المشترك ، اتّجه القول بالجواز ، لأنّ المعنى الحقيقيّ يصير بعد تعريته عن الوحدة مجازيّا للّفظ ؛ فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده. وحيث كان المعتبر في استعمال المشترك هو هذا المعنى ، فالظاهر اعتباره هنا أيضا. ولعلّ المانع في الموضعين بناؤه على الاعتبار الآخر. وكلامه حينئذ متّجه ، لكن قد عرفت أنّ النزاع يعود معه لفظيّا. ومن هنا يظهر ضعف القول بكونه حقيقة ومجازا حينئذ ، فإنّ المعنيّ الحقيقيّ لم يرد بكماله ، وإنّما اريد منه البعض ، فيكون اللفظ فيه مجازا أيضا.

٥٤٠