هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

الواقعية ، كيف! ولو لا ذلك لم يقم للمسلمين سوق لاختلافهم في أحكام الذبائح والجلود وغيرها ، وكثير من العامّة لا يشترطون الإسلام في المذكّي ويحلّلون ذبائح أهل الكتاب ، وجماعة منهم يقولون بطهر جلد الميتة بالدباغ ، فلو لم نقل بأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة الواقعية لم يجز لنا أن نأخذ منهم شيئا من اللحوم والجلود مع عدم علمنا بحقيقة الحال، وهو خلاف الطريقة الجارية من لدن أعصار الأئمّة عليهم‌السلام بل يجري ذلك أيضا بالنسبة الى أهل الحقّ أيضا ، لاشتباه العوامّ كثيرا في الأحكام فيزعمون صحّة ما هو فاسد عند العلماء ، فإذا كان مفاد الأصل المذكور مجرّد إفادة الصحّة بزعم العامل صعب الأمر جدّا ولم يمكن الحكم بصحّة شيء من العقود والإيقاعات ولم يجز أخذ شيء من اللحوم والجلود ولو من أهل الحقّ إلّا بعد التجسّس عمّا يعتقده ذلك الشخص وهو ممّا تقضي الضرورة بفساده.

ومع الغضّ عن ذلك ـ إذ قد يذبّ عنه ببعض الوجوه ـ فالاختلاف الحاصل بين علماء الفرقة وحكم بعضهم بفساد ما يزعم الآخر صحّته كاف في ذلك ، غاية الأمر أنّه يحكم بصحّة العقود والإيقاعات الواقعة على كلّ من تلك المذاهب بالنسبة الى من لا يذهب اليه ، ولا يجري ذلك في سائر المقامات كمباحث الطهارات والنجاسات وكثير من الأحكام ، فالإشكال من جهته حاصل قطعا.

ثمّ بعد تسليم ما ذكر فعدم الاكتفاء بالصحيحة عند العامل محلّ منع.

نعم ، إذا لم يكن مكلّفا في حكم الشرع بالعمل به بأن لا يكون تكليفا شرعيا ولو ثانويا في حقّه صحّ ما ذكر ، للحكم بفساده شرعا كما في صلاة المخالفين وإن بذلوا جهدهم في تحصيل الحقّ وقلنا بإمكان عدم الوصول حينئذ الى الحقّ ، إذ غاية الأمر حينئذ معذوريتهم في عدم الإتيان بما تعلّق بهم من التكاليف الواقعية وذلك لا يقضي بتعلق التكليف الثانوي بالإتيان بما زعموه ، كما هو الحال بالنسبة الى سائر الأديان.

وأمّا إذا كان ذلك مطلوبا منه في الشرع كما في الأحكام الثابتة باجتهاد أهل

٤٨١

الحقّ بالنسبة الى ذلك المجتهد ومن يقلّده فيه فعدم اندراجه إذن في الصلاة مع مخالفته للواقع محلّ إشكال ؛ لصحّة صلاته شرعا بالنظر الى تكليفه الثانوي المقطوع به من ملاحظة المقدّمتين المشهورتين ، فلا يبعد شمول الصلاة الصحيحة لها كما سيجيء الإشارة اليه إن شاء الله تعالى.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا ، فلو بني على ما ذكر اشكل الحال في ذلك بناء على القول بوضع تلك الألفاظ للأعمّ أيضا ، نظرا الى أنّ المفهوم عرفا بحسب المقام المفروض هي الصحيحة ، ولذا حكم بخروج معلوم الفساد عنه ولو بالنظر الى معتقد الناذر إذا عرف منه المخالفة كما مرّ.

وحينئذ فنقول : إنّه إذا حكم بفساد الفعل مع عدم موافقته لمعتقده ولم يكن عالما من الخارج بكون ما يأتي به موافقا لما يعتقده ، ولا أصالة صحّة فعل المسلم قاضية بصحّته كذلك لم يمكن حكمه إذن بصحّة ما يأتي به ويكون دائرا عنده بين الوجهين ، وحينئذ كيف يمكن الحكم بخروجه عن الاشتغال اليقيني بالدفع اليه مع الشكّ في كونه متعلّقا للنذر ، وكون الدفع اليه أداءا للمنذور؟

ومجرّد صدق اسم الصلاة على ما أتى به لا يقضي بحكمه بالصحّة ليكون من متعلّق النذر.

والقول بأنّ القدر المعلوم خروجه عن المسمّى هو ما علم مخالفته لما يعتقده فيبقى غيره مندرجا تحت الإطلاق بيّن الفساد ؛ لوضوح أنّ الباعث على خروج ذلك إنّما هو فساده عنده من غير مدخلية لنفس العلم في ذلك ، وإنّما العلم به طريق اليه ، فإذا لم يكن هناك طريق الى ثبوت الفساد ولا الصحّة وجب الوقف لا الحكم بالصحّة.

فظهر بذلك ما في قوله : «إنّ ذلك هو غاية ما دلّ الدليل على خروجه عن متعلّق النذر» وجعله لما ذكره مبنى حكمهم بجواز القدوة مع عدم علمه بموافقة مذهب الإمام لمذهبه ، وكيف يمكن القول بصحّة القدوة بمجرّد صدق اسم الصلاة عليه؟! والمفروض عدم قضاء أصل ولا غيره بصحّته على الوجه المذكور ، فيكون

٤٨٢

احتمال فساده في ظاهر الشرع مكافئا لاحتمال صحّته من غير فرق مع وضوح اعتبار صحّة صلاة الإمام ، ولو في ظاهر الشرع في صحّة الائتمام فالظاهر أنّ الوجه في البناء المذكور أيضا أحد الوجهين المتقدّمين.

هذا ، والوجه في القول بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط أمّا في اعتبار الأجزاء فبما مرّت الإشارة اليه من ظهور عدم إمكان تحقّق الكلّ مع انتفاء الجزء ، فإذا تحقّقت الجزئية لم يعقل صدق الكلّ حقيقة بدونه ، وإذا شكّ في حصوله أو في جزئيته مع عدم وجوده لزمه الشكّ في صدق الكلّ.

وأمّا في عدم اعتبار الشرائط فبظهور خروج الشروط عن ماهية المشروط ، كيف! ولو كانت مندرجة فيه لما تحقّق فرق بين الجزء والشرط ، فإذا وضع اللفظ بإزاء المشروط كان مفاده هو ذلك من غير اعتبار للشرائط في مدلوله ، وعدم انفكاك المشروط بحسب الخارج عن الشرط لا يقضي بأخذه في مفهومه ؛ إذ غاية ما يقضي به ذلك امتناع وجوده بدونه ، وذلك ممّا لا ربط له باعتباره في موضوع اللفظ.

وفيه : ما عرفت ممّا فصّلناه ، أمّا ما ذكر من عدم تعقّل الحكم بصدق الكلّ بدون الجزء أو الشكّ فيه فبما مرّ توضيح القول فيه في توجيه كلام القائل بوضعها للأعمّ ، فلا حاجة الى تكراره.

وأمّا ما ذكر من لزوم اندراج الشرط في الجزء على فرض اعتباره فيه فيدفعه ما أشرنا اليه من الفرق بين اعتبار الشيء جزء واعتباره شرطا ، فإنّ الملحوظ في الأوّل إدراجه في الموضوع له ودخوله فيه ، والمعتبر في الثاني هو تقييد الموضوع له به ، وأمّا نفس الشرط فخارجة عنه.

ومع الغضّ عن ذلك فلا يلزم من القول بوضعها للصحيحة مطلقا اعتبار كلّ من الشرائط بخصوصها في المفهوم من اللفظ ، لإمكان أن يقال بوضعها لتلك الأجزاء من حيث إنّها صحيحة أو مبرئة للذمّة ونحوهما ، وحينئذ فيتوقّف حصولها في الخارج على حصول تلك الشرائط من غير أن تكون معتبرة بخصوصها في الموضوع له.

٤٨٣

المقام الرابع في بيان ثمرة النزاع في المسألة :

فنقول : عمدة الثمرة المتفرعة على ذلك صحّة إجراء الأصل في أجزاء العبادات وشرائطها ، فإنّها إنّما يثبت على القول بوضعها للأعمّ دون القول بوضعها للصحيح ، وعلى القول بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط يفصّل بينهما.

وتوضيح المقام : أنّ الشكّ المتعلّق بالأجزاء أو الشرائط إن كان فيما يشكّ مع انتفائه في التسمية ولو على القول بوضعها للأعمّ نظرا الى وضوح اعتبار القائل به أجزاء وشرائط في الجملة لتحقّق التسمية فلا يمكن إجراء الأصل فيه على شيء من المذهبين ، لتحقّق اشتغال الذمّة بالمسمّى وعدم حصول العلم بأدائه ، من دون ذلك من جهة الشكّ المفروض.

وأمّا إذا علم بحصول المسمّى على القول بوضعها للأعمّ وحصل الشكّ في اعتبار جزء أو شرط في تحقّق الصحّة فالقائل بالأعمّ ينفيه بالأصل ، نظرا الى إطلاق المكلّف به من غير ثبوت للتقييد ، بخلاف القائل بوضعها للصحيحة ؛ لإجمال المكلّف به عنده وعدم العلم بحصول المسمّى في مذهبه ، إلّا مع العلم باستجماعه لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في الصحّة.

فالشكّ في اعتبار جزء أو شرط في الصحّة يرجع عنده الى الشكّ في الجزء أو الشرط المعتبر في التسمية ، كما في الوجه الأوّل فلا يجري فيه الأصل عنده لقضاء اليقين بالاشتغال اليقين بالفراغ ، ولا يحصل إلّا مع الإتيان بما يشكّ في جزئيته أو شرطيته وترك ما يحتمل مانعيته.

فإن قلت : لا شكّ في كون مطلوب الشارع والمأمور به في الشريعة إنّما هو خصوص الصحيحة ، لوضوح كون الفاسدة غير مطلوبة لله تعالى بل مبغوضة له لكونها بدعة محرّمة ، فأيّ فارق إذن بين القولين مع حصول الشكّ في إيجاد الصحيحة من جهة الشكّ فيما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط؟.

قلت : لا ريب في أنّ العلم بالصحّة إنّما يحصل من ملاحظة الأوامر الواردة ، فما وجد متعلّقا للأمر ولو بالنظر الى إطلاقه من غير أن يثبت فساده يحكم بصحّته ؛

٤٨٤

إذ ليست الصحّة في المقام إلّا موافقة الأمر ، فإذا تعيّن عندنا مسمّى الصلاة وتعلّق الأمر بها قضى ذلك بصحّة جميع أفرادها وأنحاء وقوعها لحصول تلك الطبيعة بها ، إلّا ما خرج بالدليل وقامت الحجّة الشرعية على بطلانه ، فيثبت الصحّة إذن بملاحظة إطلاق الأمر وعدم قيام دليل على الفساد ، نظرا الى حصول المأمور به بذلك بملاحظة الإطلاق ولا يجري ذلك على القول بوضعها للصحيحة ، لإجمال المأمور به عنده ، فكون المطلوب في الواقع هو الصحيحة لا يقضي بإجمال العبادة حتّى لا يثبت بملاحظة إطلاق الأمر بها صحّتها في ظاهر الشريعة.

فإن قيل : إن العلم الإجمالي بكون مطلوب الشارع هو خصوص الصحيحة يوجب تقييد تلك الإطلاقات بذلك ، فيحصل الشكّ أيضا في حصول المكلّف به ؛ إذ هو من قبيل التقييد بالمجمل فلا يمكن تحصيل العلم بالامتثال بحسب الظاهر أيضا.

قلت : قبل ظهور ما يقضي بفساد بعض الأفراد من ضرورة أو إجماع أو رواية ونحوها فلا علم هناك بفساد شيء من الأقسام ليلتزم بالتقييد ، فلا بدّ من الحكم بصحّة الكلّ ، وبعد ثبوت الفساد في البعض يقتصر فيه على مقدار ما يقوم الدليل عليه ويحكم في الباقي بمقتضى الأصل المذكور ، فلا تقييد هناك بالمجمل من الجهة المذكورة ويتّضح ذلك بملاحظة الحال في المعاملات ، فإنّ حكمه تعالى بحلّ البيع وأمره بالوفاء بالعقود ليس بالنسبة الى الفاسدة قطعا ، ومع ذلك لا إجمال في ذلك من تلك الجهة لقضائه بصحّة كلّ البيوع ووجوب الوفاء بكلّ من العقود ، فلا يحكم بفساد شيء منها إلّا بعد قيام الدليل على إخراجه من الإطلاق والعموم المذكورين ، وحينئذ يقتصر على القدر الّذي ثبت فساده بالدليل.

نعم ، لو قام دليل إجمالي على فساد بعض الأفراد ودار بين أمرين أو امور لم يمكن معه الأخذ بمجرّد الإطلاق ، وهو كلام آخر خارج عن محلّ الكلام.

وربما يقال بجريان الأصل في أجزاء العبادات وشرائطها بناء على القول بوضعها للصحيحة أيضا ، لدعوى إطلاق ما دلّ على حجّية أصالة البراءة والحكم

٤٨٥

ببراءة الذمّة الى أن يعلم الشغل ، لشموله لما إذا علم الاشتغال في الجملة أو لم يعلم بالمرّة.

والتحقيق خلافه ؛ فإنّ الظاهر الفرق بين الصورتين وما دلّ الدليل على حجّية أصالة البراءة بالنسبة اليه إنّما هو الصورة الثانية ، وما يرجع اليها من الصورة الاولى بالآخرة ، ويأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله عند الكلام في أصالة البراءة.

وقد ظهر ممّا أشرنا اليه أنّه لو لم يكن هناك توقّف في صحّة الإتيان ببعض أجزاء العبادة على بعض آخر كما في الزكاة صحّ إجراء الأصل فيه على القولين ، حسب ما يأتي تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله.

هذا ، ولا يذهب عليك بعد ملاحظة ما قرّرناه أنّ الأصل في المسألة بحسب الثمرة مع القائل بوضع تلك الألفاظ للصحيحة إذا فرض عدم قيام الدليل على شيء من الطرفين، وعدم نهوض شيء من الحجج المذكورة للقولين وإن لزم التوقّف حينئذ في تعيين الموضوع له ، نظرا الى وضوح عدم إجراء الأصل في تعيين موضوعات الألفاظ لكونها من الامور التوقيفية المتوقّفة على توقيف الواضع ولو على سبيل المظنّة ، فلا وجه لإثباتها بمجرّد الأصل كما مرّت الإشارة اليه ، والظاهر أنّه ممّا لا إشكال فيه ولا كلام.

وأمّا بالنسبة الى ملاحظة تفريغ الذمّة فلا بدّ من الإتيان بما شكّ في جزئيته أو شرطيته، ليحصل اليقين بتفريغ الذمّة بعد تيقّن الاشتغال ، حسب ما أشرنا اليه ويأتي تفصيل القول فيه في محلّه.

وممّا يستغرب من الكلام ما ذكره بعض الأعلام في المقام حيث حكم بإجراء الأصل فيما يشكّ فيه من الأجزاء والشرائط على القولين ، وأسقط الثمرة المذكورة بالمرّة من البين.

ومحصّل كلامه : أنّا إذا تتبعنا الأخبار والأدلّة وتصفحنا المدارك الشرعية على قدر الوسع والطاقة ولم يثبت عندنا إلّا أجزاء مخصوصة للعبادة وشرائط خاصّة لها حكمنا بأنّه لا يعتبر في تلك العبادة إلّا تلك الأجزاء والشرائط الثابتة عندنا ، فإن ادّعى أحد جزئية شيء أو شرطيته من غير أن يقيم عليه دليلا تطمئن النفس

٤٨٦

اليه دفعناه بالأصل ولو قلنا بكون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء وشرائط الصحّة ، وذكر أنّ الوجه فيه أنّ الوجه فيه أنّه لو ثبت هناك جزء أو شرط آخر لعثرنا عليه ولحصل النقل بالنسبة اليه ، لتوفّر الدواعي الى النقل وتحقّق الحاجة بالنسبة الى الكلّ ، ولا فارق بين أجزائها وشرائطها في توفّر الحاجة الى كلّ منها ، فكما حصل النقل فيما وصل ينبغي حصوله في غيره أيضا على فرض ثبوته في الواقع ، فعدم وصوله الينا مع عظم الجدوى وعموم البلوى دليل على العدم ، واستشهد لذلك بأنّ أكثر الفقهاء والاصوليين قائلون بكون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة ، كما هو ظاهر من تتبّع الكتب الاصولية مع أنّهم لا زالوا يجرون الأصل في العبادات بالنسبة الى الأجزاء والشرائط من غير فرق ، كما يظهر من ملاحظة كتب الاستدلال سوى بعض المتأخرين منهم ، فلا يبعد دعوى اتفاقهم عليه ، والظاهر أنّ السرّ فيه هو ما بيّناه.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه مع ملاحظة ذلك لا يكون عدم اعتبار ذلك الجزء أو الشرط مشكوكا فيه ، كما هو المفروض للظنّ بعدمه حينئذ.

وأجاب بأنّ حصول الشكّ إنّما هو في أوّل الأمر وأمّا بعد التتبّع في كلمات الشارع والالتفات الى الأصل فلا.

وأنت خبير بما فيه أمّا أوّلا : فلأنّه لو تمّ لقضى بعدم وقوع النزاع في شيء من أجزاء العبادات وشرائطها ، لقضاء عموم البلوى وعظم الحاجة والجدوى بعدم خفاء شيء منها على العلماء المتقنين الباذلين وسعهم في تحصيل أحكام الدين ، إذ لو جاز ذلك بالنسبة اليهم لجاز بالنسبة الينا بالطريق الأولى ، وفساده من أوضح الضروريات.

وأمّا ثانيا : فلأنّ دعوى عموم البلوى بجميع أجزاء العبادات وشرائطها على جميع الأحوال ممنوعة ، كيف! وكثير منها إنّما يتحقّق الحاجة اليه في موارد خاصّة نادرة ، كما في مراتب التيمّم بعد العجز عن تحصيل التراب ، وأحكام اللباس بالنسبة الى غير المتمكّن من الثوب الطاهر ، واعتبار ستر العورة بالطين ونحوه عند تعذّر الستر بالمعتاد ، وحكم القبلة في حال الاشتباه وعدم التمكّن من

٤٨٧

الاستعلام ولو على سبيل الظنّ ... الى غير ذلك من المسائل الكثيرة المتعلّقة بالأجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة حال الضرورة ممّا لا يتّفق عادة إلّا على سبيل الندرة ... وهكذا الحال في غيرها من العبادات.

وأمّا ثالثا : فلأنّ مجرّد عموم البلوى لا يقضي بثبوت الحكم عندنا ، غاية الأمر وروده في الأخبار وروايتها لنا بتوسّط الرواة ، وبمجرّد ذلك لا يثبت الحكم عندنا لما فيها من الكلام سندا ودلالة وتعارضا ، كما هو الحال في معظم تلك المسائل ووقوع التشاجر فيها من الأواخر والأوائل ، وحينئذ فمن أين يحصل الظنّ بالحكم بمجرّد عدم قيام الدليل عليه عندنا؟ كيف! والضرورة الوجدانية قاضية بخلافه في كثير من تلك المسائل ، ولا مفزع حينئذ إلّا الى الرجوع الى الأصل أو الحائطة بعد حصول الشكّ من ملاحظة الأقوال والأدلّة المتعارضة.

وأمّا رابعا : فلأنّ ذلك عين القول بحجّية عدم الدليل وأنّه دليل على العدم ، والوجه المذكور الّذي قرّره عين ما استدلّوا به على حجّية الأمر المذكور ، ومن البيّن أنّ ذلك على فرض إفادته الظنّ من قبيل الاستناد الى مطلق الظنّ ولا حجّية فيه عندنا إلّا بعد قيام الحجّة عليه ، ومن البيّن عدم اندراجه في شيء من الظنون الخاصّة الّتي ثبت اعتبارها والرجوع في استنباط الأحكام الشرعية اليها ، واحتمال خفاء الحكم للفتن الواقعة وذهاب معظم الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام في غاية الظهور ، فكيف يمكن الاعتماد على مجرد ذلك الظنّ الضعيف؟.

على أنّه لو تمّ الاستناد الى عدم وجدان الدليل على ذلك فهو إنّما يتمّ عند فقدان الدليل بالمرّة ، وأمّا مع وجوده في الجملة مع تعارض الأدلّة فلا وجه له أصلا ، كما أشرنا اليه.

نعم ، إن تمّ دليل أصالة البراءة بحيث يعمّ الموارد المفروضة كان ذلك وجها ، وهو كلام آخر لم يستند اليه القائل المذكور ، والظاهر أنّه لا يرتضيه أيضا ، ولا حاجة معه الى ما ذكره.

نعم ، للفقيه الاستاذ حشره الله تعالى مع محمّد وآله الأمجاد كلام في المقام بالنسبة الى خصوص ما قد يشكّ فيه من الأجزاء والشرائط ممّا لم يرد به نصّ

٤٨٨

ولا رواية ولا تعرّض الأصحاب لذكر خلاف فيه في كتاب أو رسالة ، فذهب الى عدم وجوب الاحتياط فيه ، لحصول العلم العادي إذن بعدم اعتباره أو قيام الإجماع عليه كذلك ؛ إذ من المعلوم أنّه لو كان ذلك شطرا أو شرطا لتعرّضوا له وأشاروا اليه ولا أقلّ من ورود رواية تدلّ عليه ، فإذا لم نعثر له في الروايات وكلمات الأصحاب على عين ولا أثر حكمنا بعدمه، وغرضه من ذلك حصر الاحتياط في اعتبار الأجزاء والشرائط المشكوكة فيما لا يخرج عمّا هو مذكور في الروايات وكلام الأصحاب حتّى لا يشكل الأمر في الاحتياط ؛ إذ قد يعسر الأمر مع الغضّ عنه في مراعاة الاحتياط ، ويؤول الى الإتيان بعبادة خارجة عن الطريق المألوف ، فربما يشكل الحال فيه من جهة اخرى فلا معوّل على تلك الاحتمالات الواهية ، ولا يجب مراعاة الاحتياط من تلك الجهة ، وهذا كلام آخر غير بعيد عن طريق الفقاهة.

ولنتمّم الكلام في المرام برسم امور :

أحدها : أنّ الصحّة المأخوذة في المقام هل هي الصحّة الواقعية ـ أعني الموافقة للأمر الواقعي ـ أو الصحّة الشرعية؟ ـ سواء كانت حاصلة بموافقة الأمر الواقعي أو الظاهري ، فيندرج فيه الفعل الصادر على سبيل التقية المخالف لما عليه الفعل في الواقع في الموارد التي حكم الشرع بصحّته ، وكذا الأفعال المختلفة باختلاف فتاوى المجتهدين وإن لم يجز كلّ من تلك الأفعال عند غير القائل به ، نظرا الى أنّ كلّا من تلك الأفعال محكوم بصحّته شرعا قد دلّ الدليل القاطع على تعلّقه بذلك المجتهد ومقلّده ، فيندرج الكلّ فيما يشمله أسامي تلك العبادات وإن قطع بعدم موافقة الجميع للحكم الأوّلي الثابت بحسب الواقع ـ وجهان :

أوجههما الأخير ، ولذا يحكم كلّ مجتهد بأداء المجتهد الآخر ومقلّده العبادة المطلوبة منه بحسب الشرع وإن كانت فاسدة لو وقعت منه ومن مقلّده ، حسب ما يأتي تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله.

هذا بالنسبة الى اختلاف الأحكام من جهة الاختلاف في الاستنباط إذا تعلّق

٤٨٩

التكليف الثانوي بذلك على فرض مخالفته للواقع دون ما إذا لم يتحقّق هناك تكليف ثانوي به وإن قلنا بمعذورية الفاعل على فرض بذل وسعه أو غفلته لانتفاء الأمر بالفعل القاضي بصحّته ولو في الظاهر ، كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

وأمّا الاختلاف الحاصل من جهة الموضوعات فإن كان الحكم فيه دائرا بحسب الواقع مدار ما دلّ عليه الطرق الشرعية في إثبات ذلك الموضوع ـ كما هو الحال في القبلة في بعض الوجوه والظنّ المتعلق بأداء الواجبات غير الأركان في الصلاة ـ فالظاهر الحكم بالصحّة واندراج الفعل في تلك العبادة وإن خالف الحكم الأوّلي.

وأمّا ما كان الحكم فيه دائرا مدار الواقع وإن انيط الحكم ظاهرا بما دلّ عليه الدليل الذي جعل طريقا اليه فلا يبعد القول بالخروج عن المسمّى مع المخالفة.

وقد يفصّل بين صورة انكشاف الخلاف وعدمه ، وما إذا علم بخلوّ أحد الفعلين والأفعال المحصورة عن الأمر المعتبر في الصحّة وعدمه ، فمع عدم انكشاف الخلاف وعدم العلم به على النحو المذكور يقال بحصول الطبيعة واتصافها بالصحّة الشرعية ، فيندرج الكلّ في العبادة المطلوبة وإن كان على خلاف ذلك بحسب حكمه الأوّلي.

بخلاف صورة الانكشاف أو دوران المانع بين فعلين أو أفعال محصورة ، كما لو دارت الجنابة بين شخصين فلا يحكم معه بصحّة الفعلين وإن حكم بصحّة كلّ منهما في ظاهر الشرع بالنظر الى المتلبّس به ، ولتفصيل الكلام في ذلك مقام آخر لعلّنا نشير اليه في بحث دلالة الأمر على الإجزاء إن شاء الله تعالى.

ثانيها : أنّه يمكن إجراء البحث المذكور في غير العبادات ممّا ثبت فيه للشارع معنى جديد كاللعان والإيلاء والخلع والمبارات ... ونحوها بناء على استعمال الشارع لتلك الألفاظ في غير المعاني اللغوية ، فيقوم احتمال كونها أسامي لخصوص الصحيحة منها ، أو الأعمّ منها ومن الفاسدة.

وكان الأظهر فيها أيضا الاختصاص بالصحيحة ، ويجري بالنسبة اليها كثير من الوجوه المذكورة ، ويتفرّع عليه عدم الحكم بثبوت تلك الموضوعات إلّا مع

٤٩٠

قيام الدليل على استجماعها للأجزاء والشرائط ، فلا يصحّ نفي جزء أو شرط عنها بمجرّد الأصل حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ثالثها : أنّه نصّ الشهيد الثاني في المسالك بكون عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجازا في الفاسد ، لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز ، كالتبادر وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّها.

قال : ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى أنّه لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه الى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة.

وقال الشهيد الأوّل قدس‌سره في القواعد : الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه.

وظاهره أيضا كون العقود أيضا حقيقة في خصوص الصحيحة.

وقد يشكل ذلك بأنّه بناء على ما ذكر يكون ألفاظ المعاملات مجملة كالعبادات متوقّفة على بيان الشارع لها ، لفرض استعمالها إذن في غير معناها اللغوي ، فلا يصحّ الرجوع فيها الى الإطلاقات العرفية والأوضاع اللغوية.

والقول بكون ما وضعت له بحسب اللغة أو العرف هو خصوص الصحيحة الشرعية بيّن الفساد ؛ لظهور المغايرة بين الأمرين ، مع أنّ صحّة الرجوع فيها الى العرف واللغة ممّا أطبقت عليه الامّة ولا خلاف فيه ظاهرا بين الخاصّة والعامّة.

فقضية ذلك هو حملها على الأعمّ من الصحيح الشرعي وغيره ، فلا يتّجه القول بكونها حقيقة في خصوص الصحيحة ، ولا يوافق ذلك إطباقهم على ما ذكر ، ولذا نصّ جماعة من المتأخّرين بكونها حقيقة في الأعمّ من الصحيح والفاسد ، فالوجه في انصرافها الى الصحيح قضاء ظاهر الإطلاق به ، فيكون التبادر المذكور إطلاقيا ناشئا من حمل المطلق على الفرد الكامل ، أو من جهة قضاء ظاهر المقام ، أو ظاهر حال المسلم به.

ويشكل ذلك أيضا بأنّ الظاهر انفهام ذلك من نفس اللفظ في الإطلاقات واحتمال استناده الى غير اللفظ في غاية البعد ، ولذا يصحّ سلبها عن الفاسدة عند

٤٩١

التأمّل في إطلاقات المتشرّعة ، بل صحّة سلبها بالنسبة الى بعضها في غاية الظهور ، مع أنّ إطلاق تلك الأسامي على ذلك كغيره من غير فرق.

فالأظهر أن يقال بوضعها لخصوص الصحيحة أي المعاملة الباعثة على النقل والانتقال أو نحو ذلك ممّا قرّر له تلك المعاملة الخاصّة ، فالبيع والإجارة والنكاح ونحوها إنّما وضعت لتلك العقود الباعثة على الآثار المطلوبة منها ، وإطلاقها على غيرها ليس إلّا من جهة المشاكلة أو نحوها على سبيل المجاز.

لكن لا يلزم من ذلك أن تكون حقيقة في خصوص الصحيح الشرعي حتّى يلزم أن تكون توقيفيته متوقّفة على بيان الشارع لخصوص الصحيحة منها ، بل المراد منها إذا وردت في كلام الشارع قبل ما يقوم دليل على فساد بعضها هو العقود الباعثة على تلك الآثار المطلوبة في المتعارف بين الناس ، فيكون حكم الشرع بحلّها أو صحّتها أو وجوب الوفاء بها قاضيا بترتّب تلك الآثار عليها في حكم الشرع أيضا ، فيتطابق صحّتها العرفية والشرعية ، وإذا دلّ الدليل على عدم ترتّب تلك الآثار على بعضها خرج ذلك عن مصداق تلك المعاملة في حكم الشرع وإن صدق عليه اسمها بحسب العرف ، نظرا الى ترتّب الأثر عليه عندهم.

وحينئذ فعدم صدق اسم البيع ـ مثلا ـ عليه حقيقة عند الشارع والمتشرّعة لا ينافي صدقه عليه عند أهل العرف مع فرض اتحاد العرفين ، وعدم ثبوت عرف خاصّ عند الشارع، إذ المفروض اتحاد المفهوم منه عند الجميع ، وإنّما الاختلاف هناك في المصداق فأهل العرف إنّما يحكمون بصدق ذلك المفهوم عليه من جهة الحكم بترتّب الأثر المطلوب عليه ، وإنّما يحكم بعدم صدقه عليه بحسب الشرع للحكم بعدم ترتّب ذلك الأثر عليه ، ولو انكشف عدم ترتب الأثر عليه عند أهل العرف لا من قبل الشارع لم يحكم عرفا بصدق ذلك عليه أيضا كما أنّ البيوع الفاسدة في حكم العرف خارجة عندهم عن حقيقة البيع.

فظهر أنّه لا منافاة بين خروج العقود الفاسدة عند الشارع عن تلك العقود على سبيل الحقيقة ، وكون المرجع في تلك الألفاظ هو المعاني العرفية من غير أن يتحقّق هناك حقيقة شرعية جديدة ، فتأمّل جيّدا.

٤٩٢

معالم الدين :

أصل

الحقّ أنّ الاشتراك واقع في لغة العرب. وقد أحاله شرذمة. وهو شاذّ ضعيف لا يلتفت إليه.

ثمّ إنّ القائلين بالوقوع اختلفوا في استعماله في أكثر من معنى إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا ؛ فجوّزه قوم مطلقا ، ومنعه آخرون مطلقا ، وفصّل ثالث : فمنعه في المفرد وجوّزه في التثنية والجمع ، ورابع : فنفاه في الاثبات وأثبته في النفي.

ثمّ اختلف المجوّزون ؛ فقال قوم منهم : إنّه بطريق الحقيقة. وزاد بعض هؤلاء : أنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ؛ فيجب حمله عليه حينئذ. وقال الباقون : إنّه بطريق المجاز.

والأقوى عندي جوازه مطلقا ، لكنّه في المفرد مجاز ، وفي غيره حقيقة. لنا على الجواز: انتفاء المانع ، بما سنبيّنه : من بطلان ما تمسّك به المانعون ، وعلى كونه مجازا في المفرد : تبادر الوحدة منه عند إطلاق اللّفظ ، فيفتقر إرادة الجميع منه إلى إلغاء اعتبار قيد الوحدة. فيصير اللفظ مستعملا في خلاف موضوعه. لكنّ وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز أعني : علاقة الكلّ والجزء يجوّزه ، فيكون مجازا.

فإن قلت : محلّ النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين بأن يراد به ـ في إطلاق واحد ـ هذا وذاك ، على أن يكون كلّ

٤٩٣

منهما مناطا للحكم ومتعلّقا للاثبات والنفي ، لا في المجموع المركّب الذي أحد المعنيين جزء منه. سلّمنا ، لكن ليس كلّ جزء يصحّ إطلاقه على الكلّ ، بل إذا كان للكلّ تركّب حقيقيّ وكان الجزء ممّا إذا انتفى انتفى الكلّ بحسب العرف أيضا ، كالرقبة للانسان ، بخلاف الإصبع والظفر ونحو ذلك.

قلت : لم ارد بوجود علاقة الكلّ والجزء : أنّ اللفظ موضوع لأحد المعنيين ومستعمل حينئذ في مجموعهما معا ، فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء وإرادة الكلّ كما توهّمه بعضهم ، ليرد ما ذكرت. بل المراد : أنّ اللفظ لمّا كان حقيقة في كلّ من المعنيين ، لكن مع قيد الوحدة ، كان استعماله في الجميع مقتضيا لإلغاء اعتبار قيد الوحدة كما ذكرناه ، واختصاص اللفظ ببعض الموضوع له أعني : ما سوى الوحدة. فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للكلّ وإرادة الجزء. وهو غير مشترط بشيء ممّا اشترط في عكسه ، فلا إشكال.

ولنا على كونه حقيقة في التثنية والجمع : أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف. والظاهر: اعتبار الاتفاق في اللفظ دون المعنى في المفردات ؛ ألا ترى أنّه يقال : زيدان وزيدون ، وما أشبه هذا مع كون المعنى في الآحاد مختلفا. وتأويل بعضهم له بالمسمّى تعسّف بعيد. وحينئذ، فكما أنّه يجوز إرادة المعاني المتعدّدة من الألفاظ المفردة المتّحدة المتعاطفة ، على أن يكون كلّ واحد منها مستعملا في معنى بطريق الحقيقة ، فكذا ما هو في قوّته.

احتجّ المانع مطلقا : بأنّه لو جاز استعماله فيهما معا ، لكان ذلك بطريق الحقيقة ، إذ المفروض : أنّه موضوع لكلّ من المعنيين ، وأنّ الاستعمال في كلّ منهما بطريق الحقيقة. وإذا كان بطريق الحقيقة ، يلزم كونه مريدا لأحدهما خاصّة ، غير مريد له خاصّة ، وهو محال.

بيان الملازمة : أنّ له حينئذ ثلاثة معان : هذا وحده ، وهذا وحده ،

٤٩٤

وهما معا ، وقد فرض استعماله في جميع معانيه ، فيكون مريدا لهذا وحده ، ولهذا وحده ، ولهما معا. وكونه مريدا لهما معا معناه : أن لا يريد هذا وحده ، وهذا وحده. فيلزم من إرادته لهما على سبيل البدليّة ، الاكتفاء بكلّ واحد منهما ، وكونهما مرادين على الانفراد ؛ ومن إرادة المجموع معا عدم الاكتفاء بأحدهما ، وكونهما مرادين على الاجتماع. وهو ما ذكرنا من اللازم.

والجواب : أنّه مناقشة لفظيّة ؛ إذ المراد نفس المدلولين معا ، لا بقاؤه لكلّ واحد منفردا. وغاية ما يمكن حينئذ أن يقال : إنّ مفهومي المشترك هما منفردين ، فاذا استعمل في المجموع ، لم يكن مستعملا في مفهوميه ، فيرجع البحث إلى تسمية ذلك استعمالا له في مفهوميه ، لا إلى إبطال أصل الاستعمال. وذلك قليل الجدوى.

واحتجّ من خصّ المنع بالمفرد : بأنّ التثنية والجمع متعدّدان في التقدير ، فجاز تعدّد مدلوليهما ، بخلاف المفرد.

واجيب عنه : بأنّ التثنية والجمع إنّما يفيدان تعدّد المعنى المستفاد من المفرد. فان أفاد المفرد التعدّد ، أفاداه ، وإلّا ، فلا.

وفيه نظر يعلم ممّا قلناه في حجّة ما اخترناه.

والحقّ أن يقال : إنّ هذا الدليل إنّما يقتضي نفي كون الاستعمال المذكور بالنسبة إلى المفرد حقيقة ، وأمّا نفي صحّته مجازا حيث توجد العلاقة المجوّزة له ، فلا.

واحتجّ من خصّ الجواز بالنفي : بأنّ النفي يفيد العموم فيتعدّد ، بخلاف الاثبات.

وجوابه : أنّ النفي إنّما هو للمعنى المستفاد عند الاثبات ؛ فاذا لم يكن متعدّدا فمن أين يجيء التعدّد في النفي؟

حجّة مجوّزيه حقيقة : أنّ ما وضع له اللفظ واستعمل فيه هو كلّ من المعنيين ، لا بشرط أن يكون وحده ، ولا بشرط كونه مع غيره ، على ما هو

٤٩٥

شأن الماهيّة لا بشرط شيء ، وهو متحقّق في حال الانفراد عن الآخر والاجتماع معه فيكون حقيقة في كلّ منهما.

والجواب : أنّ الوحدة تتبادر من المفرد عند إطلاقه ، وذلك آية الحقيقة. وحينئذ ، فالمعنى الموضوع له فيه ليس هو الماهيّة لا بشرط شيء ، بل هي بشرط شيء. وأمّا فيما عداه فالمدّعى حقّ ، كما أسفلناه.

وحجّة من زعم أنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ، قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). فانّ السجود من الناس وضع الجبهة على الأرض ، ومن غيرهم أمر مخالف لذلك قطعا. وقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ). فانّ الصلاة من الله : المغفرة ، ومن الملائكة : الاستغفار. وهما مختلفان.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ معنى السجود في الكلّ واحد ، وهو : غاية الخضوع. وكذا في الصلاة وهو الاعتناء باظهار الشرف ولو مجازا.

وثانيها : أن الآية الاولى بتقدير فعل ، كأنّه قيل : «ويسجد له كثير من الناس» ، والثانية بتقدير خبر ، كأنّه قيل : إنّ الله يصلّى. وإنّما جاز هذا التقدير ، لأنّ قوله : (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) ، وقوله : (وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) مقارن له ، وهو مثل المحذوف ، فكان دالا عليه ، مثل قوله :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

أي نحن بما عندنا راضون. وعلى هذا ، فيكون قد كرّر اللفظ ، مرادا به في كلّ مرّة معنى ؛ لأنّ المقدّر في حكم المذكور. وذلك جائز بالاتّفاق.

وثالثها : أنّه وإن ثبت الاستعمال فلا يتعيّن كونه حقيقة ، بل نقول : هو مجاز ، لما قدّمناه من الدليل. وإن كان المجاز على خلاف الأصل. ولو سلّم كونه حقيقة ، فالقرينة على إرادة الجميع فيه ظاهرة ؛ فأين وجه الدلالة على ظهوره في ذلك مع فقد القرينة؟ كما هو المدّعى.

٤٩٦

قوله : (وقد أحاله شرذمة)

أراد بالاستحالة مخالفته للحكمة ، فلا يصدر من الحكيم كما يدلّ عليه ما احتجّوا به من أنّه إن ذكر مع القرينة كان تطويلا بلا طائل وإلّا كان مخلّا بالتفاهم.

وفساد الوجه المذكور كأصل الدعوى ممّا لا يكاد يخفى ؛ لوضوح فوائد الاشتراك ووجود الفوائد في استعماله مع القرينة وعدم إخلاله بمطلق الفهم مع تجريده عن القرائن. على أنّه قد يكون الإجمال مطلوبا في المقام.

مضافا الى أنّه مبني على كون الواضع هو الله سبحانه أو من يستحيل عليه مخالفة الحكمة ، وأمّا لو كان ممّن يجوز عليه ذلك فلا يستحيل أن يقع منه ذلك.

على أنّه قد يقع ذلك من جهة تعدّد الواضع وعدم اطّلاع أحدهم على وضع الآخر.

ثمّ إنّ في القائلين بإمكانه من يمنع من وقوعه فيؤوّل ما يرى من المشتركات الى الحقيقة والمجاز أو غيره ، وهو تعسّف ظاهر لا موجب له.

وفي القائلين بوقوعه من يذهب الى وجوبه ، مستدلّا بما وهنه أبين ممّا مرّ.

نعم ، قد يقال بوجوبه بمعنى كونه مقتضى الحكمة ، لقضائها بوجود المجملات في اللغة نظرا الى مسيس الحاجة اليها في بعض الأحوال ، ولما فيه من فوائد اخر لفظية ومعنوية.

قوله : (إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا)

قيل (١) أراد به أن يكون المعنيان ممّا يجتمعان في الإرادة بحسب استعمالات العرف ، فالمراد بغير الممكن ما لم يعهد الجمع بينهما في الإرادة كاستعمال الأمر في الوجوب والتهديد ولو بالنسبة الى شخصين ، ولا يريد به ما يستحيل اجتماعهما عقلا ، إذ لا استحالة فيما ذكر.

وفيه : أنّه لا وجه حينئذ للحكم بعدم إمكان الاجتماع ، إذ عدم معهودية

__________________

(١) ذكره الفاضل الشيرواني. (منه رحمه‌الله).

٤٩٧

استعمالهم له في ذلك لا يقضي بالمنع منه مع وجود المصحّح ، ومن البيّن أن كثيرا من المجازات ممّا لم تكن جارية في كلام العرب القديم ولا كانوا يعرفونها وإنّما اقترحها المتأخّرون بخيالاتهم ، كيف! ولو بني على إخراج المتروكات عن محلّ البحث لم يبق هناك محلّ للنزاع ، لوضوح متروكية استعمال المشترك في معنييه من أصله ، إذ لم نجد شيئا من ذلك في الاستعمالات الدائرة ولو ورد من ذلك شيء محقّق في كلماتهم لكان ذلك من أقوى أدلّة المجوّزين ، فلم لم يستند اليه أحد منهم في إثبات الجواز ، فلو قطعنا النظر عن ظهور عدم وروده في كلامهم فلا أقلّ من عدم تحقّق الورود أيضا فلا يكون هناك موضع يعرف كونه من محلّ الخلاف.

ومع الغضّ عن ذلك فمتروكية الاستعمال لا يمنع من استعمال الحقائق.

والقول بكون الاستعمال المذكور حقيقة إمّا مطلقا أو في بعض الصور من الأقوال المعروفة في المسألة فلا وجه إذن لاعتبار عدم المتروكية في محلّ النزاع.

وقيل (١) أراد به إخراج ما لا يمكن إرادتهما معا منه في إطلاق واحد كاستعمال صيغة الأمر في الوجوب والتهديد ، وكأنّه أراد ذلك بالنسبة الى شخص واحد وفعل واحد وزمان واحد ، نظرا الى استحالة اجتماع الأمر والنهي كذلك ، هذا إذا قلنا باستحالة اجتماع الأمر والنهي بناء على كونه من قبيل التكليف المحال ، لا التكليف بالمحال كما قيل.

ولو قلنا بالثاني فلا مانع من نفس الاستعمال الذي هو محطّ الكلام في المقام ، غاية الأمر عدم وروده في كلام الحكيم.

وكذا الحال في استعمال اللفظ في الضدّين ممّا لا يمكن تحقّقهما في الخارج ، كما في قولك : «هند في القرء» إذا أردت به الطهر والحيض معا ، فإنّ عدم جواز الاستعمال حينئذ من جهة لزوم الكذب لا لمانع في اللفظ ، فلا منع من جهة نفس الاستعمال الذي هو المنظور في المقام كيف! ولو قيل بالمنع من الاستعمال لأجل

__________________

(١) ذكره سلطان العلماء. (منه رحمه‌الله).

٤٩٨

ذلك لجرى في استعمال سائر الألفاظ إذا لم يطابق مفادها الواقع ، ومن البيّن أنّ أحدا لا يقول به ، إذ لا مدخلية لمطابقة المدلول للواقع وعدمه في صحّة الاستعمال بحسب اللغة وعدمها ، هذا إذا أراد بإمكان الجمع بينهما في الإرادة من جهة صحّة اجتماع المعنيين بحسب الواقع.

وأمّا إذا أراد به صحّة اجتماع الإرادتين بأنفسهما كما هو قضية ما ذكرناه أولا فله وجه إن تمّ ما ادّعوه من الاستحالة ، إلّا أنّ عدم قابلية المعنيين حينئذ للاجتماع ليس لمانع في نفس الاستعمال ، بل لعدم إمكان حصول الأمرين في أنفسهما ولو أدّيا بلفظين ، فليس المنع حينئذ من جهة اللغة ولا لمدخلية اجتماعهما في الإرادة من اللفظ الواحد ، فلا يكون للتقييد به كثير مدخلية في المقام.

وكان الأولى تفسير ذلك بما إذا كان المعنيان ممّا يختلفان في الأحكام اللفظية ولم يمكن اجتماعهما في الإرادة بحسب ما يلزمهما من التوابع المختلفة ، كما إذا كان اللفظ بالنظر الى أحد المعنيين اسما ، وبالنظر الى الآخر فعلا أو حرفا ، أو كان اللفظ بالنظر الى أحد المعنيين مرفوعا ، وبالنظر الى الآخر منصوبا أو مجرورا مع ظهور الإعراب فيه.

قوله : (ثمّ إنّ القائلين بالوقوع اختلفوا ... الخ)

أقول : قبل تحقيق المرام وتفصيل ما يرد على الأقوال من النقض والإبرام لا بد من تبيين محلّ الكلام وتوضيح ما هو المقصود بالبحث في هذا المقام ، فنقول : للمشترك على ما ذكروه إطلاقات :

أحدها : أن يستعمل في كلّ من معنييه أو معانيه منفردا ، ولا كلام في جوازه ولا في كونه حقيقة ، وهو الشائع في استعماله.

ثانيها : أن يستعمل في القدر المشترك بين معنييه أو معانيه كالأمر المستعمل في الطلب على القول باشتراكه لفظا بين الوجوب والندب ، ومنه إطلاقه على مفهوم المسمّى بذلك اللفظ كإطلاق زيد على المسمّى به حسب ما ذكروه في مثنى

٤٩٩

الأعلام ، ولا تأمّل في كون ذلك مغايرا لمعناه الموضوع له فيتبع جوازه وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز ، وليس مجرّد كون ذلك قدرا مشتركا كافيا في صحّة التجوّز ، فما يظهر من بعض الأفاضل من صحّة الاستعمال على النحو المذكور مطلقا كما ترى.

ثالثها : أن يطلق على أحد المعنيين من غير تعيين ، وعزي الى السكّاكي أنّه حقيقة فيه ، وحكي عنه أنّ المشترك كالقرء ـ مثلا ـ مدلوله أن لا يتجاوز الطهر والحيض غير مجموع بينهما ، يعني أنّ مدلوله واحد من المعنيين غير معيّن ، فهذا مفهومه ما دام منتسبا الى الوضعين لأنّه المتبادر الى الفهم ، والتبادر الى الفهم من دلائل الحقيقة.

أقول : إطلاق المشترك على أحد معنييه إمّا أن يكون باستعماله في مفهوم أحدهما ، أو في مصداقه.

وعلى الأوّل فكلّ من المعنيين ملحوظ في المقام إلّا أنّه مأخوذ قيدا فيما استعمل فيه ، أعني مفهوم الأحد فالقيد خارج عن المستعمل فيه والتقييد داخل فيه على نحو العمى ، فإنّه العدم الخاصّ المضاف الى البصر ، فليس خصوص كلّ من المعنيين ممّا استعمل اللفظ فيه ، وحينئذ فإمّا أن يراد به المفهوم الكلّي الشامل لكلّ منهما ، أو يراد به أحدهما على سبيل الإبهام ، بأن يجعل آلة لملاحظة أحد ذينك المعنيين على سبيل الترديد والإجمال فيدور بينهما.

والفرق بين الوجهين أنّ الأوّل من قبيل المطلق فيحصل الامتثال بكلّ منهما ، والثاني من قبيل المجمل فلا يتعيّن المكلّف به إلّا بعد البيان.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون المستعمل فيه أحد المعنيين المفروضين على سبيل الإبهام والإجمال بحسب الواقع فلا يكون متعيّنا عند المتكلّم ولا المخاطب ، أو يكون معيّنا بحسب الواقع عند المتكلّم إلّا أنّه يكون مبهما عند المخاطب ، نظرا الى تعدّد الوضع وعدم قيام القرينة على التعيين والأوّل باطل ؛ إذ استعمال اللفظ

٥٠٠