هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

لا يقضي الظنّ به مع تعدّده ، كما هو المفروض في المقام ، مضافا إلى أنّ تلك الغلبة غير مفيدة للظنّ بالوضع مع شيوع التجوّز وكثرته أيضا.

وكون الأصل في الاستعمال الحقيقة مع تميّز الحقيقة من المجاز والشكّ في المراد لا يقضي بجريانه في صورة تميّز المعنى المراد ، والشكّ في الوضع ودعوى اتّحاد المناط في المقامين بيّن الفساد ؛ فإنّ قضيّة وضع اللفظ للمعنى بعد ثبوته هي الحمل عليه حتى يقوم دليل على خلافه ، إذ ذلك ثمرة الوضع وعليه بناء المحاورات من لدن آدم عليه‌السلام إلى الآن ولولاه لما أمكن التفهيم والتفهّم إلّا بواسطة القرائن ، وفيه هدم لفائدة الأوضاع ، وأمّا بعد تعيّن المراد بالقرينة والشكّ في حصول الوضع له فأيّ دليل يقضي بثبوت الوضع هناك؟

والاستظهار المذكور مجرّد دعوى لا شاهد عليه ، غاية الأمر أن يسلّم ذلك في متّحد المعنى لما تقدّم في بيانه.

ودعوى كون الاستعمال بمنزلة الحمل على فرض تسليمها لا يفيد شيئا ؛ لما عرفت من أنّ الحمل وصحّته لا يدلّ على الحقيقة ، إلّا على بعض الوجوه ؛ ولذا لم يعدّوا ذلك من أمارات الحقيقة وإنّما اعتبروا عدم صحّة السلب.

وأمّا عن الثاني فبالمنع من جريان الطريقة على استعلام الحقائق المتعدّدة من مجرّد الاستعمال ، بل الظاهر حكمهم بها من الرجوع إلى أمارات الحقيقة أو ملاحظة الترديد بالقرائن ، وهي الطريقة الجارية في معرفة الأوضاع كما هو الحال في الأطفال في تعلّم اللغات، غاية الأمر أن يسلّم ذلك في متّحد المعنى. وكأنّ أحد الوجهين المذكورين هو الوجه فيما حكي عن ابن عباس والأصمعي.

نعم ، لو لم يكن هناك علاقة بين المعنيين أمكن الاستعلام من مجرّد الاستعمال ، وهو خارج عن محلّ الكلام.

وأمّا عن الثالث فبالفرق البيّن بين المقامين كما مرّ تفصيل القول فيه ، فقياس المتعدّد على المتّحد ممّا لا وجه له ، وكفى فارقا بين المقامين ما عرفت من ذهاب المعظم إلى دلالة الاستعمال على الحقيقة في الأوّل وإعراضهم عن القول به في

٣٠١

الثاني ومن البيّن بناء الأمر في المقام على الظنّ ، وهو حاصل بذلك. وما ذكر في التأييد ممّا لا يفيد ظنّا بالمقصود ، وقد عرفت الحال في أكثر ما ذكر ممّا قرّرناه فلا حاجة إلى التفصيل.

ومن الغريب احتجاج السيّد رحمه‌الله بالوجه الأوّل منها على ما ادّعاه مع ما هو ظاهر من أنّه لا مقتضي للالتزام بحصول العلم الضروري بذلك ، وحصول العلم به في بعض الأمثلة لا يقضي بكلّية الحكم ، كيف! وهو منقوض بالحقائق ؛ فإنّا نعلم بالضرورة من اللغة وضع السماء والأرض والنار والهواء وغيرها لمعانيها ، فلو كان المعنى المشكوك فيه حقيقة لعلمنا ذلك بالضرورة من الرجوع إلى اللغة ، كما علمناه في غيرها.

مضافا إلى ما هو معلوم من عدم لزوم حصول العلم الضروري ولا النظري بذلك ؛ إذ كثير من الحقائق والمجازات مأخوذ على سبيل الظنّ ونقل الآحاد ، فالاحتجاج على نفي المجازيّة بمجرّد انتفاء العلم الضروري به غريب.

هذا ، واعلم أنّه بناء على ترجيح المجاز على الاشتراك كما هو المشهور لو علم بوضع اللفظ بإزاء أحدهما بخصوصه حكم بكون الآخر مجازا ، وأمّا إذا لم يثبت ذلك فإنّما يحكم حينئذ بكون أحدهما على سبيل الإجمال حقيقة والآخر مجازا ، ولا يمكن الحكم إذن بإرادة خصوص أحدهما مع انتفاء القرينة على التعيين ، فلا بدّ من الوقف ، فعلى هذا لا يترتّب هنا على القولين ثمرة ظاهرة كما مرّت الإشارة إليه. نعم قد يثمر ذلك في مواضع.

منها : أن يكون أحد المعنيين مناسبا للآخر بحيث يصحّ كونه مجازا فيه لو فرض اختصاص الوضع بالآخر دون العكس ؛ إذ لا ملازمة بين الأمرين كما في استعمال «الرقبة» في الإنسان حيث لا يصحّ استعمال الإنسان في خصوص الرقبة ، وحينئذ فيحكم بكونه حقيقة في خصوص أحدهما مجازا في الآخر.

ومنها : أنّه لا يجوز التجوّز في اللفظ بملاحظة مناسبة المعنى لشيء من المعنيين لاحتمال كونه مجازا ولا يجوز سبك المجاز من المجاز ، نعم لو كان هناك

٣٠٢

معنى مناسب لكلّ منهما صحّ التجوّز فيه ، هذا على المشهور وأمّا على القول الآخر فيصحّ ذلك مطلقا.

ومنها : أنّه لا يتعيّن الحمل على كلّ منهما بمجرّد القرينة الصارفة عن الآخر على المشهور إذا لم يكن هناك قرينة على التعيين ، وقام في المقام احتمال إرادة معنى مجازي آخر ، بخلاف ما لو قيل بالاشتراك بينهما.

وينبغي التنبيه لامور :

أحدها : أنّه كما يقال بترجيح اتّحاد المعنى على الاشتراك كذا يقال بترجيح الاشتراك بين المعنيين على الاشتراك بين الثلاثة ... وهكذا ، وبالجملة كما أنّ المجاز يقدّم على أصل الاشتراك فكذا على مراتبه ، والشواهد المذكورة تعمّ الجميع ، إلّا أنّه قد يتأمّل في جريان البعض ، وفي البعض الآخر الّذي هو العمدة في المقام كفاية في ذلك.

ثانيها : أنّه لو استعمل اللفظ في معنيين لا مناسبة بينهما وأمكن كون اللفظ موضوعا بإزاء ثالث يناسبهما بحيث يصحّ التجوّز فيهما على فرض كونه موضوعا بإزائه لكن لم نجد اللفظ مستعملا في ذلك فلا وجه إذن لتقديم المجاز على الاشتراك ، بل يحكم بالاشتراك أخذا بظاهر الاستعمال على نحو ما يقال في متّحد المعنى بعينه ، فإنّ شيوع استعمال اللفظ في معنى وعدم استعماله في غيره يفيد الظنّ بالوضع له دون الآخر.

ثالثها : لو ثبت وضع لفظ لمعنى وكان مجازا في غيره لكن اشتهر المجاز إلى أن حصل الشكّ في معادلته للحقيقة وحصول الاشتراك من جهة الغلبة أو لطروّ وضع عليه بعد ذلك فالظاهر أنّه لا كلام إذن في تقديم المجاز استصحابا للحالة الاولى ، إلّا أن يجيء في خصوص المقام ما يورث الظنّ بالاشتراك أو يقضي بالشكّ فيتوقّف.

رابعها : لو كان اللفظ مشتركا بين معنيين فترك استعماله في أحدهما واستعمل في الآخر إلى أن احتمل هجر الأوّل في العرف وصيرورته مجازا في المحاورات

٣٠٣

لم يحكم به من دون ثبوته ، بل بنى على الاشتراك إلى أن يتبيّن خلافه أو يشكّ في الحال فيتوقّف.

خامسها : لو نقل اللفظ عن معناه واستعمل في معنيين آخرين وحصل الشكّ في نقله إليهما معا أو إلى أحدهما فإن كان وضعه الطارئ من جهة التعيين وغلبة الاستعمال فلا ريب في الاقتصار على القدر الثابت وعدم تقديم الاشتراك وإن قيل بترجيح الاشتراك على المجاز استصحابا لحال الاستعمال ، وكذا لو كان الوضع الثانوي على سبيل التعيين مع ثبوت استعماله فيه قبل ذلك على سبيل المجاز ، وأمّا مع حدوث المعنى والشكّ في كون الاستعمال من جهة الوضع أو العلاقة فعلى القول بتقديم الاشتراك وجهان ، ولا يبعد البناء حينئذ على ترجيح الاشتراك أيضا.

ثانيها : الدوران بين الاشتراك والتخصيص ، وحيث عرفت ترجيح المجاز على الاشتراك ظهر ترجيح التخصيص عليه أيضا ، سيّما بملاحظة شيوعه وكثرته ورجحانه على المجاز ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثالثها : الدوران بين الاشتراك والتقييد ، والأمر فيه أيضا ظاهر ممّا مر ، سيّما إذا كان التقييد خاليا عن التجوّز.

رابعها : الدوران بين الاشتراك والإضمار ، والحال فيه أيضا ظاهر ممّا عرفت ؛ إذ الإضمار عديل المجاز ، والظاهر أنّ القائل بتقديم الاشتراك على المجاز لا يقول بتقديمه على هذين ، إذ العمدة فيما استند إليه ظهور الاستعمال فيه والاستعمال في غير المعنى الواحد غير ظاهر في المقامين ، نعم إن كان التقييد بالاستعمال في خصوص المقيّد جرى فيه ما ذكر ، ويجري الوجهان في التخصيص ، فإن قلنا باستعمال اللفظ في الخصوص كما هو المشهور قام الوجه في ترجيح الاشتراك وإلّا فلا وجه له ، لعدم تعدّد المستعمل فيه.

خامسها : الدوران بين الاشتراك والنقل وذلك بأن يكون اللفظ موضوعا بحسب اللغة مثلا لمعنى ثمّ يستعمل في العرف في معنى آخر إلى أن يبلغ حدّ

٣٠٤

الحقيقة ، أو يوضع له في العرف وضعا تعيينيّا ، ويشكّ حينئذ في هجر المعنى الأوّل ليكون منقولا ، وعدمه ليكون مشتركا قولان.

ذهب العلّامة رحمه‌الله إلى كلّ منهما في النهاية والتهذيب.

والأوّل محكيّ عن جماعة من العامّة كالرازي والبيضاوي واختاره في المنية.

وكأنّ الأظهر الثاني ؛ أخذا بأصالة بقاء الوضع الأوّل وعدم هجره إلى أن يثبت خلافه، وغاية ما ثبت حينئذ بلوغ المعنى الثاني إلى حدّ الحقيقة أو الوضع له ، وأمّا هجر الأوّل فغير معلوم ، والقول بغلبة النقل على الاشتراك على فرض تسليمه مدفوع ، بأنّها ليست بمثابة تورث الظنّ به لشيوع الأمرين ، غاية الأمر أن يكون ذلك أغلب في الجملة ، وقد عرفت أنّ مثل تلك الغلبة لا يفيد ظنّا في الغالب.

نعم ، قد يقال : إنّ الغالب في الأوضاع الجديدة هجر المعنى السابق وتركه في ذلك العرف ، كما يعرف ذلك من ملاحظة المعاني العرفيّة العامّة والخاصّة بل لا يكاد يوجد صورة يحكم فيها ببقاء المعنى الأوّل ، فقد يستظهر بملاحظة ذلك الحكم بالهجر. فتأمّل.

وربّما يؤيّده أيضا ذهاب الجماعة إليه حيث إنّه لا يعرف القول الآخر إلّا للعلّامة رحمه‌الله ، وهو ممّن ذهب إلى الثاني أيضا.

ومن التأمّل فيما ذكرناه ينقدح وجه آخر ، وهو التفصيل بين ما إذا كان ثبوت المعنى الثاني في عرف غير العرف الأوّل أو عند أهل ذلك العرف ، فيقال بترجيح النقل في الأوّل والاشتراك في الثاني ، وكأنّه الأوجه. فتأمّل.

ثمّ إنّه ربّما يعارض أصالة بقاء المعنى الأوّل وعدم هجره بتوقّف المشترك في إفادة المراد على القرينة بخلاف المنقول.

وفيه : أنّه إن اريد بذلك التمسّك بأصالة عدم التوقّف عليها ففيه أنّ الحكم بالفهم من دون القرينة خلاف الأصل أيضا ، فينبغي أن يقتصر فيه على القدر الثابت ، وهو صورة وجود القرينة.

فإن قلت : وضع اللفظ للمعنى قاض بفهمه من اللفظ فالأصل البناء عليه حتّى يثبت خلافه.

٣٠٥

قلت : لا مجال لذلك بعد ثبوت الوضع للمعنيين ؛ فإنّ قضيّة ذلك الوقف بين الأمرين ، غاية الأمر أن يشكّ في كون أحدهما ناسخا للآخر فمع الغضّ عن أصالة عدمه لا أقلّ من الوقف في الفهم ، لاحتمال الأمرين فلا محصّل لأصالة عدم التوقّف عليها ، مضافا إلى ما عرفت من أنّ التوقّف المذكور من فروع أصالة بقاء المعنى الأوّل ، فلا وجه لجعله معارضا لأصله.

وإن اريد به أصالة عدم ذكر القرينة في مقام التفهيم فمرجعه أيضا إلى الوجه الأوّل ؛ إذ ذكر القرينة في المقام إنّما يتبع وجود الحاجة إليها ، فإن فرض استقلال اللفظ في الدلالة وإلّا فلا معنى لعدم الحاجة إليها وأصالة عدمها ، مع أنّ المفروض الشكّ في الأوّل ومع الغضّ عن ذلك فهو معارض بأصالة عدم استقلال اللفظ في الإفادة.

وإن اريد به التمسّك بذلك في إثبات قلّة المؤن في جانب النقل وكثرتها في الاشتراك فذلك مع عدم إفادته ظنّا في المقام معارض بوجود ما يعارضه في جانب النقل أيضا.

ثمّ إنّه قد يقع الدوران بين الاشتراك والنقل في صور اخرى :

منها : أن يكون اللفظ حقيقة بحسب اللغة في معنى مخصوص ويوجد في العرف حقيقة في آخر ، ويشكّ حينئذ في ثبوت ذلك المعنى في اللغة أيضا ليكون مشتركا بينهما ، وعدمه ليكون منقولا ، وقد يشكّ حينئذ في ثبوت المعنى اللغوي في العرف أيضا ليكون مشتركا بينهما في اللغة والعرف ، وقضيّة الأصل حينئذ عدم اشتراكه بحسب اللغة فيقدّم النقل عليه ، ويرجع الحال في اشتراكه بحسب العرف إلى الصورة المتقدّمة ؛ نظرا إلى الشكّ في هجر المعنى الأوّل وعدمه.

ومنها : أن نجد للفظ معنيين في العرف ونجد استعماله في اللغة في معنى ثالث يناسبهما ونشكّ في كون ذلك هو معناه الحقيقي في اللغة ليكون متّحد المعنى بحسبها فيكون منقولا إلى ذينك المعنيين في العرف ، أو أنّه حقيقة فيهما من أوّل الأمر ليكون مشتركا بحسب اللغة من دون نقل ، وقضيّة أصالة تأخّر الحادث عدم

٣٠٦

ثبوت الوضع لهما في اللغة ، إلّا أنّه لمّا لم يكن وضعه للمعنى الآخر معلوما من أصله فقضيّة الأصل عدم ثبوت الوضع له أيضا ، وحينئذ فيحتمل ثبوت المعنيين له بحسب اللغة ؛ لأصالة عدم تغيير الحال فيه ، وأن يقال بوضعه لأحدهما ثمّ طروّ وضعه للآخر ، اقتصارا في إثبات الحادث على القدر الثابت. فتأمّل.

ومنها : أن يكون مشتركا بين المعنيين بحسب اللغة واستعمل في العرف في معنى ثالث واشتهر استعماله فيه إلى أن شكّ في حصول النقل وهجر المعنيين ، فيدور الأمر بين الاشتراك بينهما بحسب العرف ـ كما كان في اللغة ـ ونقله إلى المعنى الثالث ، ولا ريب أنّ قضيّة الأصل حينئذ بقاء اشتراكه بين المعنيين المفروضين إلى أن يثبت النقل.

سادسها : دوران الأمر بين الاشتراك والنسخ ، كما إذا قال : «ليكون ثوبي جونا» وعلمنا بوضع الجون للأحمر ، ثمّ قال بعد ذلك : «ليكون أسود» فشكّ حينئذ في وضع الجون للأسود أيضا حتى يكون مشتركا ، فيكون قوله الثاني قرينة معيّنة لإرادة ذلك من أوّل الأمر ، أو أنّه نسخ الحكم الأوّل بذلك من غير أن يكون هناك اشتراك بين المعنيين ، وليفرض هناك انتفاء العلاقة المصحّحة للتجوّز لئلّا يقوم احتمال المجاز أيضا ، وحينئذ ربّما يرجّح الاشتراك ؛ لغلبته على النسخ ، ولأنّه يثبت بأيّ دليل ظنّي اقيم عليه بخلاف النسخ ؛ إذ لا يثبت إلّا بدليل شرعي بل ربّما يعتبر فيه ما يزيد على ما اعتبر في الدليل على سائر الأحكام ، ولأنّ غاية ما يلزم من الاشتراك الإجمال أحيانا بخلاف النسخ ، فإنّ قضيّته إبطال العمل بالدليل السابق.

وأنت خبير بما في جميع ذلك ؛ فلا وجه لإثبات الوضع للمعنى المفروض بهذه الوجوه الموهونة من غير قيام شاهد عليه من النقل أو الرجوع إلى لوازم الوضع ونحو ذلك ممّا يفيد ظنّا به.

فالأظهر عدم ثبوت اشتراك اللفظ بين المعنيين بمجرّد دفع احتمال النسخ في مورد مخصوص ، ولا الحكم بثبوت النسخ هناك أيضا ، وقضيّة ذلك التوقّف في حكمه بالنظر إلى ما تقدم على ورود الدليل المذكور وإن كان البناء على حمله

٣٠٧

على معناه الثابت والحكم بكون الثاني ناسخا له لا يخلو عن وجه.

سابعها : الدوران بين النقل والمجاز ، والمعروف فيه ترجيح المجاز لا نعرف فيه خلافا ؛ لأصالة عدم تحقّق الوضع الجديد وعدم هجر المعنى الأوّل ، ولتوقّف النقل غالبا على اتّفاق العرف العامّ أو الخاصّ عليه ، بخلاف المجاز ، مضافا إلى غلبة المجاز وشيوعه في الاستعمالات.

وما قد يتخيّل في المقام من أنّ الدوران بين النقل والمجاز إنّما يكون مع كثرة استعمال اللفظ في ذلك المعنى ـ كما في الحقائق الشرعيّة ـ ليكون من مظانّ حصول النقل حتّى يتحقّق الدوران بين الأمرين ، وحينئذ فترجيح المجاز يستلزم اعتبار وجود القرينة في كلّ من استعمالاته مع كثرتها وشيوعها ، وقضيّة الأصل في كلّ واحد منها عدمها ، بخلاف ما لو قيل بالنقل ، وربّما يحكى عن البعض ترجيحه النقل على المجاز لأجل ذلك ، ففرّع عليه ثبوت الحقيقة الشرعيّة أخذا بالأصل المذكور.

موهون جدّا ؛ إذ بعد ظهور التجوّز في نظر العقل من جهة أصالة بقاء الوضع الثابت وعدم حصول ناسخ له ، مضافا إلى كثرته وشيوعه يحكم بلزوم ضمّ القرينة في كلّ استعمال واقع قبل ذلك أو بعده ؛ إذ ذلك من لوازم المجازيّة ومتفرّعاته ولا يجعل أصالة عدمه مانعا من جريان الأصل في أصله ، لما عرفت من عدم معارضة أصالة عدم الفروع المترتّبة على عدم الشيء لأصالة عدمه ، فإنّ قضيّة حجّية الأصل الأخذ بمتفرّعاته.

نعم ، لما كان الأمر في المقام دائرا مدار الظنّ فلو فرض تفرّع امور بعيدة عن نظر العقل على الأصل المفروض أمكن معارضته له من جهة ارتفاع المظنّة ـ كما هو الحال في الحقيقة الشرعيّة ـ إلّا أنّ المقام ليس كذلك ، بل بالعكس لشيوع التجوّز في الاستعمالات.

ومع الغضّ عن ذلك فإثبات الوضع بمجرّد أصالة عدم ضمّ القرينة في الاستعمال استناد في إثبات الأوضاع إلى التخريجات ، وقد عرفت وهنه.

مضافا إلى أنّ لزوم ضمّ القرينة إليه مقطوع به قبل حصول النقل ، فقضيّة

٣٠٨

الأصل بقاؤه ، فإن اريد من أصالة عدم ضمّ القرائن أصالة عدم لزومه فهو واضح الفساد ؛ إذ قضيّة الأصل فيه بالعكس استصحابا للحكم السابق.

وإن اريد به أصالة عدمه مع لزوم اعتباره فهو أوضح فسادا منه.

فظهر بما قرّرنا أنّ قضيّة الأصل في ذلك تقديم المجاز ولو مع قطع النظر عن ملاحظة الظهور الحاصل من غلبة المجاز.

ثامنها وتاسعها : الدوران بين النقل والتخصيص وبينه وبين التقييد ، والأمر فيهما ظاهر ممّا قرّرناه سيّما بملاحظة اشتهارها في الاستعمالات ، مضافا إلى أنّ التزام التقييد غير ظاهر في استعمال اللفظ في المقيّد ، فضلا عن ثبوت الوضع له.

عاشرها : الدوران بين النقل والإضمار كما في قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) فإنّ الربا حقيقة لغة في الزيادة ، ويحتمل نقله شرعا إلى العقد المشتمل عليها ، فعلى الأوّل يفتقر إلى إضمار مضاف كالأخذ دون الثاني.

وقد عرفت ممّا ذكرناه ترجيح الإضمار ؛ إذ مجرّد أصالة عدم الإضمار لا يثبت وضعا للّفظ سيّما مع عدم ثبوت الاستعمال فيه ، فبعد ثبوت المعنى الأوّل وتوقّف صحّة الكلام على الإضمار لا بدّ من الالتزام به ، لا أن يثبت وضع جديد للّفظ بمجرّد ذلك ، وقد نصّ جماعة على أولويّة الإضمار على النقل من غير خلاف يعرف فيه.

وفي كلام بعض الأفاضل نفي البعد عن ترجيح النقل عليه لكونه أكثر ، ولا يخفى بعده ، على أنّ الكثرة المدّعاة غير ظاهرة ؛ إذ اعتبار الإضمار في المخاطبات أكثر من أن يحصى وربّما كان أضعاف المنقولات.

حادي عشرها : الدوران بين النقل والنسخ ، ففي المنية ترجيح النقل عليه ، وكأنّه لكثرة النقل بالنسبة إلى النسخ.

وأنت خبير بأنّ بلوغ كثرة النقل وقلّة النسخ إلى حدّ يورث الظنّ بالأوّل

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٣٠٩

غير معلوم ؛ لطريان النسخ كثيرا على الأحكام الشرعيّة والعادية ، فلو سلّم الغلبة في المقام فليست بتلك المثابة ، فقضيّة ثبوت المعنى الأوّل وعدم ثبوت الثاني هو البناء على النسخ ، أخذا بمقتضى الوضع الثابت.

وقد يرجّح النقل أيضا بما مرّ من الوجه في ترجيح الاشتراك على النسخ ، وقد عرفت وهنه. فتأمّل.

المقام الثاني : في بيان ما يستفاد منه حال اللفظ بالنسبة إلى خصوص الاستعمالات، وهي وجوه عشرة :

أحدها : الدوران بين المجاز والتخصيص ، والمعروف ترجيح التخصيص ، وقد نصّ عليه جماعة من الخاصّة والعامّة ، كالعلّامة وولده والبيضاوي والعبري والاصفهاني وغيرهم.

وربّما يعزى إلى المصنّف التوقّف في الترجيح ، فيتوقّف البناء على كلّ منهما على مرجّح خارجي ، وكأنّه لما في كلّ من الأمرين من مخالفة الظاهر ، ولا ترجيح بحسب الظاهر بحيث يورث الظنّ بأحدهما.

وفيه : أنّ في التخصيص رجحانا على المجاز من وجوه شتّى :

أحدها : أنّ التخصيص أكثر من المجاز في الاستعمال حتّى جرى قولهم : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» مجرى الأمثال.

وقد يستشكل فيه بأنّ الأكثريّة الباعثة على المظنّة ما إذا كان الطرف الآخر نادرا ، وأمّا إذا كان شائعا أيضا فإفادتها للظنّ محلّ تأمّل ، كما هو الحال فيما نحن فيه ؛ لعدم ندرة المجاز في الاستعمالات ، كيف! وقد اشتهر أنّ أكثر اللغة مجازات.

وقد يقال بأنّ استعمال العامّ في عمومه نادر بالنسبة إلى استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ؛ لشيوع الثاني فإذا دار الأمر في الخروج عن الظاهر بين الأمرين فالظاهر ترجيح الأوّل.

وقد يناقش فيه بأنّ أقصى ما يدلّ عليه ذلك ترجيح التخصيص على المجاز في العامّ الّذي لا يظهر له مخصّص سوى ما هو المفروض ، وأمّا إذا ثبت

٣١٠

تخصيصه بغير ذلك فهو كاف في الخروج عن الندرة ، فترجيح التخصيص الثاني يحتاج إلى الدليل.

ويمكن الذبّ عنه بأنّه إذا ثبت ترجيح التخصيص في العامّ الّذي لم يخصّص ففي غيره بالاولى ؛ لوهن العموم بعد تطرّق التخصيص إليه حتّى أنّه قيل بخروجه بذلك عن الحجّية في الباقي.

ثانيها : أنّ ذلك هو المفهوم بحسب العرف بعد ملاحظة الأمرين ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا يجب إكرام زيد ، فإنّه لا شكّ في فهمهم من ذلك استثناء زيد من الحكم ، لا أنّه يحمل الأمر في «أكرم» على الندب أو يتوقّف بين الأمرين. فتأمّل.

ثالثها : ما عرفت من شهرة القول بترجيح التخصيص ، ونصّ جماعة من فحول الاصوليين عليه ، فيقدّم في مقام الترجيح لابتناء المقام على الظنّ هذا إذا لوحظ كلّ من التخصيص والمجاز في نفسه ، وقد يعرض لكلّ منهما ما يوجب رجحان المجاز أو التوقّف بينهما ـ كما إذا كان المجاز مشهورا أو كان التخصيص نادرا ـ فهناك إذن وجوه :

منها : أن يكون المجاز مشهورا والتخصيص بعيدا مرجوحا ، ولا شبهة إذن في ترجيح المجاز.

ومنها : أن يكون التخصيص نادرا ـ كما إذا اشتمل على إخراج معظم أفراد العامّ من غير أن يكون في المجاز مزيّة باعثة على رجحانه ـ والظاهر حينئذ ترجيح المجاز أيضا ؛ لبعد التخصيص كذلك حتّى أنّه ذهب جماعة إلى امتناعه في بعض صوره.

ومنها : أن يكون في المجاز مزيّة باعثة على رجحانه من غير أن يكون في التخصيص ما يوجب وهنه ، فإن كان رجحان المجاز من جهة شهرته وقد بلغ في الشهرة إلى حيث يترجّح على الحقيقة بملاحظة الشهرة أو يعادلها فلا شبهة إذن في ترجيح المجاز ، وإلّا ففي ترجيحه على التخصيص إشكال.

٣١١

وقد يقال بترجيحه عليه مع كون الباعث على رجحانه الشهرة ؛ نظرا إلى كون الغلبة الحاصلة فيه شخصيّة بخلاف غلبة التخصيص ، فإنّها غلبة نوعيّة ، والأظهر الرجوع حينئذ إلى ما هو المفهوم بحسب المقام بعد ملاحظة الجهتين.

ومنها : أن يكون المجاز نادرا والتخصيص اللازم أيضا كذلك ، فقد يتخيل إذن ترجيح التخصيص أيضا ؛ لغلبة نوعه والأظهر الرجوع إلى ما هو الظاهر في خصوص المقام ومع التكافؤ فالتوقّف.

ثانيها : الدوران بين المجاز والتقييد ، والظاهر أنّ حكمه حكم الدوران بينه وبين التخصيص ، فالظاهر ترجيح التقييد لظاهر فهم العرف ، مؤيّدا بما مرّ من الغلبة ، مضافا إلى أنّ التقييد قد لا يكون منافيا لاستعمال اللفظ فيما وضع له فهو وإن كان خلاف الظاهر أيضا إلّا أنّه راجح بالنسبة إلى ما كان مخالفته للظاهر من جهة ارتكاب التجوّز.

وقد يفصّل بين التقييد الّذي يندرج في المجاز بأن يستعمل المطلق في خصوص المقيّد وما لا تجوّز فيه ، فإنّ الأوّل نوع من المجاز مع التأمّل في شيوعه ، فإنّ معظم التقييدات من قبيل الثاني فهو بمنزلة سائر المجازات بخلاف الثاني. ولا يخلو عن وجه.

ثالثها : الدوران بين المجاز والإضمار ، وقد نصّ العلّامة رحمه‌الله في النهاية والتهذيب على تساويهما ، فيتوقّف الترجيح على ملاحظة المرجّحات في خصوص المقامات ، وكأنّه الأظهر ؛ لشيوع كلّ من الأمرين واشتراكهما في مخالفة الظاهر. ومجرّد أشيعيّة المجاز على فرض تسليمه لا يفيد ظنّا في المقام ، ليحكم بثبوت ما يتفرّع عليه من الأحكام ، هذا إذا اختلف الحكم من جهة البناء على كلّ من الوجهين ، وأمّا إذا لم يكن هناك اختلاف كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) فلا إشكال.

وذهب غير واحد من المتأخّرين إلى ترجيح المجاز ؛ نظرا إلى كثرته ، وربّما

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

٣١٢

ضمّ إليه أفيديته ، وكلا الأمرين في محلّ المنع ، وبعد ثبوتها فكون ذلك باعثا على الفهم كما ترى.

وحكي عن البعض ترجيح الإضمار ، وكأنّه من جهة أصالة الحمل على الحقيقة ؛ إذ لا مجاز في الإضمار.

ويدفعه : أنّه وإن لم يكن الإضمار باعثا على الخروج عن مقتضى الوضع إلّا أنّ فيه مخالفة للظاهر قطعا ، فإنّ الظاهر مطابقة الألفاظ للمعاني المقصودة في الكلام ، فبعد كون الأمرين مخالفين للظاهر يحتاج الترجيح إلى مرجّح.

وفيه تأمّل ؛ إذ بعد قيام القرينة الظاهرة على المحذوف لا حاجة إلى ذكره بل قد يعدّ ذكره لغوا ، فلا مخالفة فيه إذن للظاهر ، بخلاف المجاز للخروج فيه عن مقتضى الظاهر على كلّ حال.

نعم ، لو قيل بثبوت الوضع النوعي في المركّبات وجعلت الهيئة الموضوعة هي ما كانت طارئة على الكلمات الّتي يراد بيان معانيها الإفراديّة للتوصّل إلى المعنى المركّب بعد ملاحظة وضع الهيئة من دون إسقاط شيء منها كان في الحذف إذن خروج عن ظاهر الوضع ، إلّا أنّه أجاز الواضع ذلك مع قيام القرينة على المحذوف إلّا فيما قام الدليل على المنع منه حسب ما فصّل في محلّه.

وحينئذ فقد يقال بكون التوسّع في المدلول ، وقد يجعل من قبيل التوسّع في الدالّ.

وكيف كان يكون ذلك أيضا نحوا من المجاز ، وقد يشير إليه عدّهم الإضمار أو بعض أقسامه من جملة المجاز حيث يعبرون عنه بمجاز الحذف. فتأمّل.

رابعها : الدوران بين المجاز والنسخ ، وقد نصّ في المنية على ترجيح المجاز عليه ، وكأنّه ممّا لا ريب فيه ؛ لظاهر فهم العرف ، ولغلبة المجاز بالنسبة إلى النسخ ، وندور النسخ بالنسبة إليه.

وقد يقال بكون النسخ من أقسام التخصيص ، فإنّه تخصيص في الأزمان ، وقد مرّ ترجيح التخصيص على المجاز ، فينبغي إذن ترجيح النسخ عليه أيضا.

٣١٣

ويدفعه : بعد تسليم كونه تخصيصا أنّه ليس المراد بالتخصيص هناك ما يشمل ذلك ، بل المراد به ما عداه ؛ لوضوح ندرة النسخ بالنسبة إلى المجاز وغيره وعدم انصراف الكلام إليه مع دوران الأمر بينه وبين المجاز.

وبالجملة : أنّه ليس من التخصيص المعروف الذي مرّت الإشارة إليه.

نعم ، لو كان نفي الحكم بالنسبة إلى بعض الأزمان مندرجا في التخصيص المعروف لم يبعد ترجيحه على المجاز ـ كما إذا قال : «أكرم زيدا كلّ يوم» ، ثمّ قال بعد عدّة أيّام : «لا يجب عليك إكرام زيد» ـ إذ من القريب حينئذ البناء على تخصيص الحكم بالأيّام السالفة ، إلّا أنّه قد يتأمّل في اندراج ذلك في النسخ المذكور في المقام.

هذا ، ولو كان ورود ما يحتمل النسخ بعد حضور وقت العمل تعيّن الحكم بالنسخ ، لما تقرّر من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو حينئذ خارج عن محلّ الكلام ، هذا إذا علم انتفاء البيان السابق.

وأمّا مع الشكّ فيه ـ كما هو الحال في غالب الأخبار الواردة عندنا سواء كانت نبويّة ليحتمل كونها هي الناسخة ، أو إماميّة لا يحتمل فيها ذلك ؛ لقيام احتمال كونها كاشفة عن الناسخ ـ فالظاهر أيضا فيها ترجيح المجاز ؛ لما قلناه ، ويحتمل التوقّف في الأوّل ، أو ترجيح النسخ ، نظرا إلى أصالة عدم تقدّم غيره.

خامسها : الدوران بين التخصيص والتقييد ، كما في قولك : «أكرم العلماء ، وإن ضربك رجل فلا تكرمه» فيدور الأمر في المقام بين تخصيص العامّ في الأوّل بغير الضارب ، وتقييد الرجل في الثاني بغير العالم ، وجهان :

التوقّف في المقام حتّى يظهر الترجيح من ملاحظة خصوصيّات الموارد ؛ لشيوع الأمرين وتساويهما في كونهما مخالفين للأصل.

وترجيح التقييد ؛ لضعف شموله للأفراد بالنسبة إلى شمول العامّ ، فإنّ شمول العامّ لها بحسب الوضع وشمول المطلق من جهة قضاء ظاهر الإطلاق ، وأنّه لا تجوّز في التقييد في الغالب بخلاف التخصيص. وكأنّه الأظهر.

٣١٤

وقد يتأمّل فيما لو كان التقييد على سبيل التجوّز باستعمال المطلق في خصوص المقيّد، إذ قد يقال حينئذ بكونه من المعارضة بين التخصيص والمجاز. فتأمّل.

وقد يعدّ من ذلك دوران الأمر بين إخراج بعض الأفراد عن العموم أو تقييد الحكم فيما يراد إخراجه ببعض الأحوال ، كما في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) فإنّه بعد ثبوت خيار المجلس مثلا في البيع يجب ارتكاب أحد الأمرين من القول بخروج البيع عن العامّ المذكور وتخصيصه بغيره أو تقييد الحكم الثابت للبيع بغير الصورة المفروضة.

وأنت خبير بأنّه لا دوران في المقام بين التقييد والتخصيص ، فإنّا إن قلنا بعموم الحكم لكلّ الأفراد في كلّ الأحوال فلا تأمّل إذن في أنّ القدر الثابت إخراجه هو خصوص الحالة المذكورة ، وهو أيضا تخصيص للعامّ ، وإن قلنا بأنّ عمومه إنّما يثبت بالنسبة إلى الأفراد دون الأحوال فلا موجب إذن للقول بالتخصيص ؛ إذ الدليل إنّما دلّ على عدم ثبوت الحكم بالنسبة إلى الحال المفروض فيثبت اللزوم في سائر أحواله من جهة إطلاق دلالة العامّ على ثبوت اللزوم.

وبالجملة : أقصى ما يقتضيه الدليل المذكور إخراج البيع بالنسبة إلى خصوص الحالة المفروضة ليس إلّا ، فمن أين يجيء الدوران بين التخصيص والتقييد ، فما في كلام بعض الأفاضل من عدّ ذلك من المسألة كما ترى.

سادسها : الدوران بين التخصيص والإضمار ، والظاهر ترجيح التخصيص ؛ لرجحانه على المجاز المساوي للإضمار ، وعلى القول برجحان المجاز على الإضمار فالأمر أوضح ، وأمّا على القول برجحان الإضمار على المجاز فربّما يشكل الحال في المقام ، إلّا أنّه لا يبعد البناء على ترجيح التخصيص أيضا ؛ نظرا إلى غلبته وشيوعه في الاستعمالات.

سابعها : الدوران بين التخصيص والنسخ ، فعن ظاهر المعظم ترجيح التخصيص

__________________

(١) سورة المائدة : ١.

٣١٥

مطلقا ، وهو الأظهر ؛ إذ هو المفهوم بحسب العرف سيّما مع تأخّر الخاصّ ، بل الظاهر الاتّفاق عليه حينئذ ، ولغلبة التخصيص على النسخ ، ولما في النسخ من رفع الحكم الثابت ومخالفة ظاهر ما يقتضيه المنسوخ من بقاء الحكم ، بخلاف التخصيص ؛ إذ ليس فيه إلّا مخالفة لظاهر العامّ ، كما مرّت الإشارة إليه ، وأيضا قد عرفت تقدّم المجاز على النسخ فيقدم عليه التخصيص الراجح على المجاز.

وعن جماعة منهم السيد والشيخ القول برجحان النسخ على التخصيص في الخاصّ المتقدّم على العامّ ، لدعوى فهم العرف ، وأنّ التخصيص بيان فلا يتقدّم على المبيّن. وهما مدفوعان بما لا يخفى ، وسيجيء تفصيل القول في ذلك إن شاء الله تعالى في مباحث العموم والخصوص عند تعرّض المصنّف رحمه‌الله له.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من ترجيح التخصيص على النسخ إنّما هو بملاحظة كلّ منهما في ذاته حسب ما مرّ ، وأمّا بملاحظة الخصوصيّات اللاحقة ، فقد يقدّم النسخ عليه ، كما إذا كان التخصيص بعيدا وكان البناء على النسخ أقرب منه كما إذا لزم مع البناء على التخصيص إخراج معظم أفراد العامّ ، أو كان في المقام ما ينافي ذلك ، وهو كلام آخر خارج عن المرام.

واعلم أنّه لو كان في المقام ما يوجب تكافؤ احتمالي التخصيص والنسخ فالواجب التوقف حينئذ في الحكم بأحد الأمرين ، إلّا أنّه لا فرق بين الوجهين مع تأخّر الخاصّ بالنسبة إلى ما بعد وروده ؛ للزوم الأخذ الخاصّ حينئذ والعمل بمقتضى العامّ فيما عداه من أفراده ، وإنّما الكلام حينئذ في حال الزمان السابق ممّا يحتمل وقوع النسخ بالنسبة إليه ولا يتفرّع عليه ثمرة مهمّة ، مضافا إلى ما عرفت من كون احتمال النسخ حينئذ في كمال الوهن فاحتمال تكافؤهما بعيد جدّا.

وأمّا إذا تقدّم الخاصّ وتأخّر العامّ فلا إشكال إذن بالنسبة إلى سائر أفراد العامّ ؛ إذ لا معارض بالنسبة إليها ، وأمّا بالنسبة إلى مورد الخاصّ فهل يحكم بعد تكافؤهما وانتفاء المرجّحات بمقتضى الاصول الفقهيّة من التخيير ، أو الطرح والرجوع إلى البراءة ، أو الاحتياط ، أو لا بدّ من الأخذ بالخاصّ؟ وجهان ، من أنّهما

٣١٦

بعد تكافؤهما لا ينهضان حجّة على المطلق فلا بدّ من البناء على الوجه المذكور ، ومن أنّ الحكم بمدلول الخاصّ قد ثبت أوّلا قطعا وإنّما الكلام في رفعه وهو مشكوك بحسب الفرض فيستصحب إلى أن يعلم الرافع ، وحيث أنّ حجّيّة الاستصحاب مبنيّة على التعبّد فلا مانع من الأخذ به مع انتفاء الظنّ. وكأنّ هذا هو الأظهر.

ثامنها : الدوران بين التقييد والإضمار.

تاسعها : الدوران بينه وبين النسخ ، والحال فيهما كالحال في دوران الأمر بين التخصيص وكلّ منهما ، بل الظاهر أنّ الحكم بالتقديم فيه أوضح من التخصيص ، لانتفاء التجوّز فيه في الغالب ، ويجيء في الأوّل منهما نظير ما مرّ من احتمال التفصيل.

عاشرها : الدوران بين الإضمار والنسخ ، وقد نصّ في المنية بترجيح الإضمار ، ولم أعرف من حكم فيه بتقديم النسخ أو بنى على الوقف. ويدلّ عليه ظاهر فهم العرف ، وبعد النسخ ، وشيوع الإضمار ، ومخالفة النسخ للأصل والظاهر ، كما مرّت الإشارة إليه.

ولو تكافأ الاحتمالان بملاحظة خصوصيّة المقام ، فإن كان هناك قدر جامع اخذ به ، ولا بدّ في غيره من الوقف والرجوع ، الى القواعد والاصول الفقهيّة.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ ما ذكرناه من ترجيح بعض الوجوه المذكورة على آخر إنّما هو بالنسبة إلى معرفة المراد من اللفظ ، وتعيين ما هو المستفاد منه في متفاهم أهل اللسان بعد معرفة نفس الموضوع له ، وأمّا استعلام المعنى الموضوع له بملاحظة ذلك ـ كما إذا كان ترجيح التخصيص باعثا على الحكم بثبوت الوضع للعموم ـ فلا يحصل بمثل ذلك ؛ فإنّ الاستناد إليها في ذلك يشبه الاعتماد على التخريجات العقليّة في إثبات الامور التوقيفيّة ، وتحصيل الظنّ بالوضع من جهتها في كمال البعد ، والفرق بين المقامين ظاهر كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا ملخّص القول في مسائل الدوران ، وقد عرفت أنّ ما ذكرناه من ترجيح

٣١٧

بعض هذه الوجوه على البعض إنّما هو بملاحظة كلّ منهما في نفسه مع قطع النظر عن الامور الطارئة بحسب المقامات الخاصّة ، فلا بدّ إذن في الحكم بالترجيح في خصوص المقامات من الرجوع إلى الشواهد القائمة في خصوص ذلك المقام.

ولا يغرنّك ما ذكر من وجوه الترجيح في الحكم به مع الغفلة عن ملاحظة سائر المرجّحات الحاصلة في المقامات الخاصّة ، كيف! وليس الأمر في المقام مبنيّا على التعبّد وإنّما المناط فيه تحصيل الظنّ وحصول الفهم بحسب المتعارف في المخاطبات ، فإن حصل ذلك من ملاحظة ما ذكرناه مع ضمّ ما في خصوص المقام إليه فلا كلام ، وإلّا فلا وجه للحكم بأحد الوجهين وترجيح أحد الجانبين من غير ظنّ به.

فالعمدة في فهم الكلام عرض العبارة الواردة على العرف وملاحظة المفهوم منها عند أهل اللسان فيؤخذ به وإن كان فيه مخالفة لما قرّر لما في التراجيح من وجوه شتّى ، فلا يمكن دفع فهم العرف في خصوص المقام بمثل ما مرّ من الوجوه.

نعم ، إن لم يكن في خصوص المقام ما يقضي بالحكم بأحد الوجوه فالمرجع ما قرّرناه ، والظاهر جريان فهم العرف على ذلك كما مرّت الإشارة إليه.

هذا ولو دار الأمر بين المجازين والمجاز الواحد والتخصيصين أو التخصيص الواحد رجّح الواحد على المتعدّد ... وهكذا الحال في غيرهما من سائر الوجوه ، إلّا أن يكون في المقام ما يرجّح جانب المتعدّد.

ولو دار الأمر بين المجاز الواحد والتخصيصين لم أر من حكم بترجيح أحد الجانبين. والظاهر الرجوع إلى فهم العرف في خصوص المقام.

ولو دار الأمر بين المجازين والإضمار الواحد أو الإضمارين والمجاز الواحد قدّم الواحد في المقامين بناء على مساواة المجاز والإضمار.

ويعرف بذلك الحال في التركيبات الثلاثيّة والرباعيّة وما فوقها ، الحاصلة من نوع واحد أو ملفّقة من أنواع متعدّدة مع اتّفاق العدد من الجانبين واختلافه ، والمعوّل عليه في جميع ذلك ما عرفت من مراعاة الظنّ بالمراد على حسب متفاهم العرف.

٣١٨

ولنختم الكلام في المقام بذكر مسائل متفرّقة من الدوران غير ما بيّناه ليكون تتميما للمرام.

منها : أنّه لو كان اللفظ مشتركا بين معنيين أو معان ودار المراد بينها حيث لم ينصب قرينة على التعيين فإن كان بعض تلك المعاني مشهور في الاستعمالات دون الباقي تعيّن الحمل عليه ، فيكون اشتهاره قرينة معيّنة للمراد. لكن قد عرفت أنّ مجرّد الأغلبيّة غير كاف في ذلك ، بل لا بدّ من غلبة ظاهرة بحيث توجب انصراف الإطلاق إليه عرفا ولو على سبيل الظنّ.

ولو لم يكن هناك شهرة مرجّحة للحمل على أحد المعنيين أو المعاني وجب التوقّف في الحمل ، وكذا الحال بالنسبة إلى المعاني المجازيّة بعد وجود القرينة الصارفة وانتفاء ما يفيد التعيين رأسا كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

وعلى قول من يذهب إلى ظهور المشترك في جميع معانيه عند الإطلاق يجب حمله على الكلّ مع الإمكان ، فيرجع إلى العموم. وعلى ما ذهب إليه صاحب المفتاح من ظهوره في أحد معانيه بناء على كون مراده من أحد المعاني هو الكلّي الصادق على كلّ منها يتخيّر في الإتيان بأيّ منها ، فيرجع إلى المطلق.

وهما ضعيفان حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وقد يتعيّن الحمل على أحد المعاني الحقيقيّة أو المجازيّة من جهة لزوم أحد الامور المخالفة ، للأصل في بعضها ، وعدم لزومه في الآخر ، فيترجّح الخالي عن المخالفة على المشتمل عليها والمشتمل على الأهون على غيره أخذا بمقتضى ما قرّر في مسائل الدوران ، فيكون ذلك قرينة على التعيين ، وليس ذلك استنادا في تعيين المراد إلى التخريجات والمناسبات ، بل لقضاء فهم العرف به ، فالبناء على ذلك مبتن على فهم العرف فلو انتفى الفهم في خصوص بعض المقامات لم يصحّ الاتكال عليه حسب ما مرّت الإشارة إليه.

ثمّ مع تكافؤ الحمل على كلّ من المعنيين لتساوي الاحتمالين في أنفسها أو من جهة ملاحظة العرف في خصوص المقام فلا بدّ من التوقّف في الحمل ، وحينئذ

٣١٩

فإن كان أحدهما مندرجا في الآخر اندراج الخاصّ تحت العامّ أو الجزء تحت الكلّ اخذ به قطعا ودفع الباقي بالأصل إن كان الحكم هناك مخالفا للأصل ، وإلّا اخذ به من جهة الأصل لا لاستفادته من اللفظ.

ثمّ على الأوّل إنّما يصحّ دفع الزائد بالأصل إذا لم يكن الحكم في الكلّ منوطا بجميع أجزائه أو جزئيّاته بحيث لا يحصل الامتثال إلّا باجتماع الكلّ ، وأمّا مع ذلك فالأظهر لزوم الاحتياط أخذا بيقين الفراغ بعد اليقين بالاشتغال ، وسيجيء تفصيل القول فيه في مباحث أصالة البراءة إن شاء الله.

ولو علّق عليه ثبوت تكليف آخر فالظاهر إذن عدم ثبوته إلّا مع ثبوت الأخصّ أو الأكثر أخذا بالبراءة.

ولو علّق جواز الفعل فإن لم يكن محرّما مع قطع النظر عن ذلك اخذ بالأقل أو الأعم، عملا بالأصل ، وإلّا اخذ بالأخصّ أو الأكثر تقليلا للتخصيص بناء على جواز التخصيص بالمفهوم.

وإن لم يكن أحدهما مندرجا في الآخر فإن كان هناك قدر جامع بين المعنيين ثبت ذلك إن أمكن الأخذ به ، ويرجع فيما عداه إلى حكم الأصل فيما إذا كان الحكم في أحدهما موافقا له دون الآخر ، وإلّا يرجع الأمر فيه إلى التخيير أو الطرح والرجوع إلى أصل البراءة أو الاحتياط حسب ما يبنى عليه في ذلك.

وإن لم يكن هناك قدر جامع فإن كان أحد المعنيين موافقا للأصل والآخر مخالفا اخذ بما يوافق الأصل ؛ لعدم ثبوت ما يخالفه نظرا إلى إجمال اللفظ.

وقد يرجّح الحمل على المخالف ؛ نظرا إلى كونه على الأوّل مؤكدا لحكم الأصل ، فالتأسيس أولى منه. وهو ضعيف وإلّا لزم الرجوع إلى الاصول الفقهيّة.

ومنها : أنّه لو قامت قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي وكانت هناك معان مجازيّة ودار الأمر بينها فإن كان الكلّ متساويا بحسب القرب من الحقيقة والبعد عنها وكذلك في كثرة الاستعمال فيها وقلّته فلا إشكال في لزوم الوقف في الحمل ، والحكم بإجمال المراد إلى أن يجيء قرينة على التعيين ، والحكم فيه إذن على

٣٢٠