هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

خصوص كلّ من تلك المستعملات بإزاء المعنى المقصود ، فإنّ الاعتبار المذكور تعسّف ركيك لا داعي إلى الالتزام به ولا إلى احتماله في المقام مع ظهور خلافه.

وإمّا أن يلاحظ حال الوضع أمرا عامّا شاملا لألفاظ مختلفة شمول الكلّي لجزئياته أو شمول العرض لأفراد معروضه ، فيضع ذلك الأمر بإزاء المعنى أو يجعل ذلك مرآة لملاحظة ما يندرج تحته من الألفاظ الخاصّة أو الخصوصيّات العارضة لها ، ويضع كلّا منها بإزاء ما يعيّنه من المعنى ، فيكون الوضع حينئذ نوعيّا.

أمّا على الأوّل فظاهر لكون الموضوع نفس النوع ، وأمّا على الثاني فلكون النوع هو المتصوّر حال الوضع ، والأمر الموضوع حينئذ وإن كان أشخاص تلك الألفاظ أو الخصوصيّات العارضة للألفاظ الخاصّة إلّا أنّها غير متصوّرة بشخصها ، بل في ضمن النوع حيث جعل تصوّر النوع مرآة لملاحظتها ، فلمّا كان الملحوظ حال الوضع هو النوع وكانت الأشخاص الموضوعة متصوّرة إجمالا بتصوّر ذلك النوع عدّ الوضع نوعيّا.

فالوضع النوعي يتصوّر في بادئ الرأي على كلّ من الوجوه الأربعة المذكورة ، لكنّ الوجه الأوّل منها غير حاصل في وضع الألفاظ ، ضرورة تعلّق الوضع فيها بخصوص كلّ واحد منها.

وأخذ اللفظ على وجه عامّ ووضعه للمعنى من غير أن يتعلّق الوضع بلفظ مخصوص غير معهود في وضع الألفاظ ، فالقول به في وضع المشتقات ـ بأن يجعل الموضوع هناك هو مفهوم ما كان على هيئة فاعل مثلا الصادق على تلك المصاديق من غير أن يتعلّق الوضع بخصوص شيء منها ـ تعسّف ركيك.

ولو قلنا بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج فإنّه إن اريد بذلك كون المفهوم المذكور موضوعا بإزاء ذلك فهو بعيد جدّا ؛ إذ من الظاهر بملاحظة الاستعمالات تعلّق الوضع بنفس تلك الألفاظ ، ومن البيّن أنّ المفهوم المذكور ليس من قبيل اللفظ ، وإنّما هو معنى صادق عليه. وإن اريد به كون مصاديق ذلك المفهوم موضوعة بإزائه فهو خروج عن الفرض.

١٦١

والحاصل : أنّ الظاهر تعلّق الوضع في المشتقات بخصوص كلّ من تلك المصاديق كما هو معلوم من ملاحظة العرف واللغة ، فإنّ كلّا من الضارب والناصر والقائم والقاعد ونحوها موضوع لمن قام به كلّ من المبادئ المذكورة ، لا أنّ الموضوع هناك أمر عامّ حاصل في ضمن كلّ واحد منها من غير تعلّق الوضع بتلك الألفاظ.

وممّا قرّرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل من أنّ الواضع إن كان غرضه تعلّق بوضع الهيئة أي ما كان على زنة فاعل لمن قام به المبدأ ، فحينئذ إنّما وضع لفظا كليّا منطقيّا لمعنى كلّي منطقي ، وكما يتشخّص كلّي اللفظ في ضمن مثل «ضارب» كذلك يتشخّص كلّي المعنى في ضمن من قام به الضرب ، ولا يستلزم ذلك وضعا جزئيا لمعنى جزئي ، بل لفظة «ضارب» من حيث إنّه تحقّق فيه الهيئة الكلّية موضوعة لمن قام به الضرب من حيث إنّه تحقّق فيه المعنى الكلّي ، أعني من قام به المبدأ ، ولا يلزم من ذلك تجوّز في لفظة «ضارب» إذا اريد به من قام به الضرب ، كما أنّه لا يلزم التجوّز في إطلاق الكلّي على الفرد مثل «زيد إنسان». وبالجملة : وضع اللفظ الكلّي للمعنى الكلّي مستلزم لوضع اللفظ الجزئي للمعنى الجزئي ، لا أنّ اللفظ الجزئي موضوع للمعنى الجزئي بالاستقلال ، بل بملاحظة المعنى الكلّي. انتهى.

فإنّه يرد عليه أوّلا : أنّ ما ذكره ـ من كون الموضوع في المقام عامّا منطقيّا وهو ما كان على زنة فاعل ـ غير متّجه ؛ إذ قضيّة ذلك أن يكون المفهوم المذكور موضوعا بإزاء المعنى المفروض دون خصوص الألفاظ ، وقد عرفت أنّه في غاية البعد.

وثانيا : أنّ إطلاق المشتقات على معانيها بناء على ما ذكره إنّما يكون حقيقة إذا اريد بها مفهوم ما قام به المبدأ لكن على وجه مخصوص ؛ ليقال إذن يكون الخصوصيّة غير مقصودة من اللفظ ، فيكون من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد على وجه الحقيقة ، وليس المقام من ذلك لما عرفت من أنّ المقصود من لفظة «ضارب»

١٦٢

مثلا هو خصوص من قام به الضرب ، وذلك من مصاديق من قام به المبدأ ، ولم يؤخذ فيه ذلك المفهوم أصلا ، وحينئذ فبعد القول بكون الموضوع له هو مفهوم ما قام به المبدأ كيف يعقل القول بكون استعماله فيما قام به الضرب حقيقة ، وهو مفهوم مغاير للمفهوم المذكور قطعا.

وما ذكره من التنظير غير منطبق عليه ، فإنّ المراد بالإنسان هناك هو مفهوم الإنسان، وقد حمل على زيد لاتّحاده معه ، وأين ذلك ممّا نحن فيه ، والمثال الموافق للمقام إطلاق الماشي وإرادة مفهوم الحيوان منه ، نظرا إلى صدق مفهوم الماشي عليه ، ولا ريب أنّه ليس استعمالا له في الموضوع له أصلا ، وقد يكون ذلك في بعض الصور غلطا.

وثالثا : أنّه لو سلّم كون ذلك استعمالا له في المفهوم المذكور المأخوذ مع الخصوصية فلا شكّ أنّه ليس المراد به مطلق ذلك المفهوم لتكون الخصوصية مرادة من الخارج ، بل لا ريب في إرادة الخصوصية من اللفظ ، إذ ليس المفهوم من لفظة «ضارب» إلّا خصوص من قام به المبدأ الذي هو الضرب ، فليست تلك الخصوصيات مرادة إلّا من نفس اللفظ ، ولا شكّ في كون إطلاق الكلّي على الفرد مجازا إذا اريد الخصوصية من اللفظ.

وقد يذبّ عنه : بأنّ الخصوصية المذكورة إنّما تراد من المادّة ، فمعناه الهيئي على حاله من غير تصرّف فيه سوى إطلاقه على ذلك ، ويمكن دفع الوجه الثاني بما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى لو صحّ حمل كلامه عليه.

هذا ، وقد يستدلّ على عدم كون الموضوع في المقام عامّا بأنّه لو كان كذلك لزم أن لا يكون شيء من استعمالات خصوصيات الصيغ حقيقة ـ ضرورة عدم تعلق الوضع بخصوص كلّ من تلك الأفراد المندرجة تحت ذلك الأمر العام ـ ولا مجازا أيضا ، إذ ليس ذلك من استعمال اللفظ الموضوع في غير ما وضع له من جهة علاقته للموضوع له ، بل استعمال لغير اللفظ الموضوع فيما وضع له ما يناسب ذلك اللفظ ، فهو على عكس المجاز لكون وضع اللفظ هناك لمعنى مخصوص ، فيستعمل

١٦٣

ذلك اللفظ في غيره لعلاقته له ، وهنا قد تعلّق الوضع للمعنى بلفظ مفروض ، فيستعمل غيره فيه لارتباطه بذلك اللفظ ارتباط الخاصّ بالعامّ والمقيّد بالمطلق.

وبالجملة : أنّ الوضع المتعلّق بالكلّي على ما فرض في المقام لا يسري إلى أفراده ، فهي باقية على إهمالها فلا يصحّ استعمالها ، ومع الغضّ عن ذلك فغاية الأمر أن تكون تلك الاستعمالات مجازات أو واسطة بين الحقيقة والمجاز لو قلنا بثبوت الواسطة بينهما ، وعلى أيّ من الوجهين فلا شكّ في خروج ذلك عن مقتضى الظاهر ، فلا وجه للالتزام به في جميع تلك الاستعمالات من غير باعث عليه.

وفيه : أنّ وضع الكلّي لمعنى قاض بموضوعيّة جميع جزئيّاته من حيث اتّحادها بتلك الطبيعة الكلية كما هو الحال في الأوضاع الشخصيّة حسب ما عرفت ، فليس المستعمل حينئذ مغاير للموضوع حتى يرد ما ذكر لما تقرّر من اتّحاد الطبيعة الكليّة مع أفرادها في الخارج.

واجيب عنه : بأنّ المستعمل هنا إنّما هو خصوص الجزئيات المتقوّمة بخصوص المواد لا مطلق النوع الكلي المتّحد معها ، إذ المفهوم من لفظة «ضارب» مثلا هو الذات المتّصفة بالضرب ، وهو مدلوله المطابقي المعلوم بالرجوع الى العرف ، واللغة ، ولو كان استعماله بملاحظة النوع الكلّي الحاصل في ضمنه لكان معناه مطلق الذات المتّصفة بالمبدأ ، من غير أن يؤخذ فيه الاتّصاف بخصوص الضرب أصلا ؛ لوضوح عدم وضع النوع لتلك الخصوصيّة مع أنّها مستفادة من نفس اللفظ قطعا ، ولا يتمّ ذلك إلّا بالقول بتعلّق الوضع بخصوص كلّ من تلك الألفاظ الخاصّة.

وما قد يقال من أنّ استفادة تلك الخصوصية إنّما تجيء من ملاحظة وضعها المادّي المتعلّق بالمبدأ المخصوص فبعد انضمام الوضع الكلّي إلى ذلك يكون مفاد المشتقّ وضعا خصوص المعنى المذكور.

فمدفوع : بأنّ اعتبار خصوصية المادّة غير قاض بذلك أيضا ، أمّا إذا قيل بأنّ وضعها الكلّي للدلالة على ذات ما ثبت له المبدأ مطلقا فظاهر ، إذ المستفاد حينئذ

١٦٤

من خصوص تلك الألفاظ بعد ملاحظة الوضعين هو ذلك المعنى ومعنى المادّة ، وأين ذلك من مفاد المشتقات؟ كضارب ونظائره.

وأمّا إذا قيل بوضعها للدلالة على ذات ما ثبت له خصوص المبدأ المقترن به فلأنّ المفهوم المذكور أيضا أمر عامّ حاصل في جميع المشتقات ، غاية الأمر أن يلزم من ذلك بعد ملاحظة وضع المادّة كون تلك الذات متّصفة بالمبدأ المخصوص كالضرب مثلا ، فلا يكون خصوص ذات ثبت له الضرب معنى مطابقيّا لضارب ، بل أمرا حاصلا بالالتزام من ملاحظة وضعه النوعي المتعلّق بالهيئة والشخصي المتعلّق بالمادة ، ومن المعلوم خلافه ، إذ ليس مفاد ضارب ابتداء إلّا ذات ثبت له الضرب لا ذات ثبت له المبدأ المقترن بالهيئة المخصوصة الذي هو الضرب بملاحظة معناه المادّي ، فيفهم بعد ملاحظة الأمرين أنّ الضارب من ثبت له الضرب ، وما يتوقّف فهمه من اللفظ على ملاحظة وسط لا يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ضرورة عدم الحاجة في فهم المعنى الحقيقي بعد العلم بالوضع إلى وسط يكون الانتقال من جهته.

وفيه : أمّا أوّلا : فبأنّ وضعها الهيئي لمن قام به المبدأ ليس على نحو يتكرّر ملاحظة المبدأ في الصيغ المندرجة تحت ذلك العنوان ـ بأن يلاحظ تارة مبادئها الخاصّة الموضوعة بالأوضاع الشخصيّة ثمّ يلاحظ فيها المبدأ على سبيل الإجمال ؛ نظرا إلى أخذها كذلك في وضعها الهيئي حتّى يكون الحال فيها على ما ذكر ـ بل ليس مدلول كلّ من تلك الصيغ بملاحظة الوضعين المذكورين إلّا من قام به ذلك المبدأ الخاصّ الحاصل فيها ، غير أنّ دلالتها على المادّة بملاحظة وضعها المادّي ودلالتها على من يقوم به ذلك بوضعها النوعي الكلّي ، فالموضوع له بوضعها الهيئي هو الذات من حيث قيام المبدأ بها ، فمعناها الهيئي مفهوم ناقص تعلّقي لا يتمّ إلّا بمادّتها ، فأخذ المادّة في معناها الهيئي إنّما هو لكونها من متمّمات ذلك المفهوم لا لكونها جزء منه ، بل لتوقّف تصورها عليها فحيث كان وضعها الهيئي منوطا بوضعها المادي وكان معناها الهيئي مرتبطا في ذاته بمعناها المادّي

١٦٥

لزم أخذ معناها المادّي في معناها الهيئي ليصحّ بذلك تصوّره ، فالمادّة المأخوذة في وضعها الهيئي مرآة لملاحظة معناها المادّي على سبيل الكلّية ، والإجمال قد اخذت فيه لتوقّف تصوّره عليها ، فإذا فرض قيام تلك الهيئة بمادّة مخصوصة تعيّن ذلك الكلّي في ضمن ذلك وكان مفاد الهيئة هو من قام به ذلك المبدأ فإرادة خصوص من قام به ذلك المبدأ الخاصّ ليس خروجا عن معناها الموضوع له ، ولا متوقّفا فهمه على ما يزيد على ملاحظة الوضعين المذكورين ، إذ التعيين المذكور من لوازم ذلك المعنى حيث اخذ في مفهومه الارتباط إلى الغير ، فمع تعيّن ذلك الغير بوضعها المادّي لا بدّ من تعيينه.

فظهر بما قرّرنا أنّ ما ذكر ـ من توقّف دلالة الضارب على ذات ثبت له الضرب على ملاحظة الوسط بناء على كون ما وضع له الهيئة كليّا ـ إن اريد به عدم كفاية وضع الهيئة فيه بل لا بدّ من ملاحظة وضع المادة أيضا فهو ممّا لا كلام فيه ؛ لوضوح عدم تماميّة وضع تلك الألفاظ بناء على الوجه المذكور إلّا بهما ؛ لما عرفت من ارتباط وضعها الهيئي بالمادّي.

وإن اريد توقّف الفهم المذكور بعد ملاحظة الوضعين إلى وسط ـ كما هو مبنى الكلام المذكور ـ فهو ممّا لا وجه له ؛ ضرورة تعيّن معناها الهيئي بذلك بعد تعلّق الهيئة بمادّة مخصوصة حسب ما بيّناه ، فينتقل الذهن إلى المعنى المذكور بمجرّد ملاحظة تلك المادة والهيئة المقترنتين من غير حاجة إلى الوسط أصلا ، فتأمّل.

وأمّا ثانيا : فبأنّ ذلك على فرض تسليمه إنّما يفيد عدم وضع النوع (١) المذكور لذات ثبت له المبدأ على سبيل الإطلاق ، وأمّا إن قيل بوضعه لجزئيات المفهوم المذكور فلا مانع منه أصلا ، فغاية الأمر أن يكون الوضع هناك عامّا والموضوع له خاصّا ، أعني خصوص الذات المقترنة بخصوص الموادّ المفروضة ، فيكون الموضوع له للنوع الكلّي الحاصل في ضمن ضارب هو الذات المتّصفة بمبدأ الضرب وإن كان ذلك ملحوظا بعنوان كلّي ، إذ لا يلزم من ملاحظته على نحو كلّي

__________________

(١) كذا في الأصل وفي المطبوع (١) : وضعه النوعي.

١٦٦

أن يكون الموضوع له أيضا كلّيا ، ولا أن يكون خصّص ذلك المفهوم ملحوظة بخصوصها في الخصوصيات التي وضعت بإزائها.

فتبيّن بما قرّرناه أنّه كما يراد دفع الإشكال المذكور بجعل الوضع في الموضوع عامّا والموضوع [له](١) خصوص الجزئيات كذا يمكن دفعه بجعل الوضع في الموضوع له عامّا والموضوع له خصوص الجزئيّات وإن كان الموضوع عامّا.

على أنّا نقول : يتوقّف اندفاع الإشكال المذكور على جعل الموضوع له هناك خاصّا ، إذ لا يندفع الإشكال بمجرّد جعل الموضوع خصوص الجزئيات وإن كان الموضوع له مطلق ما قام به المبدأ بأيّ من الوجهين المذكورين ، وإذا جعل الموضوع له خصوص تلك الجزئيات فقد اندفع الإشكال من غير حاجة إلى جعل الموضوع أيضا خصوص الجزئيات كما هو المدّعى.

فدفع الإشكال المذكور بمجرّد جعل الموضوع خصوص الجزئيات ـ كما يتراءى من التقرير المذكور ـ كما ترى ، والقول باستلزام خصوصية الموضوع كون الموضوع له أيضا خاصّا بيّن الفساد.

فظهر بذلك أنّ الاستناد في إبطال عموم الموضوع في المشتقات إلى ما ذكر غير ظاهر، وأنّ الظاهر الاستناد فيه إلى ما أشرنا إليه ، فظهر أيضا صحّة وقوع الوضع النوعي على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المذكورة دون الأوّل.

وقد يقال بكون الوضع النوعي المتعلّق بالمشتقات على أحد الوجهين الأخيرين ، وذلك بأن يقال : إنّ هناك وضعين تعلّقا بتلك الألفاظ : أحدهما بالمواد المعروضة لتلك الهيئات ، والآخر بالهيئات العارضة لها ، ودلالة تلك الألفاظ على معانيها باعتبار الوضعين المذكورين ، فالموضوع بالوضع الأوّل خصوص المادّة المعروضة ووضعه شخصي ، والموضوع في الثاني كلّي ومدلوله أيضا مثله ، وخصوص الجزئيات المندرجة تحته وكون مفاد ضارب من قام به الضرب

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المطبوع (١).

١٦٧

إنّما حصل من الوضعين المذكورين.

وقد نصّ بعض الأفاضل بأنّ الهيئة من حيث هي لا تدلّ إلّا على الأمر الكلّي والخصوصية مدلول المادّة ، فعلى هذا يكون الوضع هناك على الوجه الثالث ، ولو قلنا بكون الهيئة المفروضة مرآة لملاحظة جزئيّات الهيئات العارضة لقائم وقاعد ونائم ونحوها والموضوع خصوص تلك الجزئيات كان من قبيل الرابع ، وعلى أيّ من الوجهين المذكورين يكون الوضع المتعلّق بتلك الهيئات مقيّدا بما إذا كانت عارضة لمادّة موضوعة متصرّفة ، والوضع المتعلّق بالموادّ بما إذا كانت معروضة لهيئة موضوعة ، فيكون الوضع المتعلّق بموادها مغايرا للوضع المتعلّق بمصادرها ، إذ ذلك الوضع غير كاف في موضوعيّة المواد الحاصلة في ضمن هيئات المشتقّات ، ضرورة اختصاص ذلك الوضع بتلك الهيئة الخاصّة العارضة للمصادر ، فلا يعقل موضوعيّة الموادّ الحاصلة في المشتقات بذلك الوضع.

هذا غاية ما يوجّه به احتمال كون الوضع في المشتقات على أحد الوجهين (١) المذكورين ، لكنّه ضعيف أيضا ؛ لما عرفت من بعد تعلّق الوضع فيها بغير اللفظ ، ولزوم التعسّف البيّن في التزام تعلّق وضعين بلفظ واحد ، إذ الظاهر عدم تعدّد الوضع المتعلّق بكل من الألفاظ ، فالهيئة والمادّة المعروضة لها موضوعة بوضع واحد نوعيّ ، كما أشرنا إليه.

وما يقال من كون وضع موادّ المشتقّات شخصيّا فإنّما يعني به الأوضاع المتعلّقة بمصادرها لا الموادّ الحاصلة في ضمنها ، أو أنّه لما كان المنظور في الوضع المذكور هو دلالة المادّة على الحدث ودلالة الهيئة على اعتبار ذلك الحدث جاريا على الذات نزّل ذلك منزلة وضعين ، وكان وضعه بالنسبة إلى الأوّل شخصيّا ؛ لاختصاصه بالمادّة المعيّنة تسرية إليها من المبدأ من جهة الوضع المذكور ،

__________________

(١) وربّما يقال بناء على أحد الوجهين المذكورين بكون وضعها المادّي تابعا لما ذكر من أوضاع هيئآتها حاصلا بتعلّق الوضع بها من غير أن يتعلّق بها وضع آخر ، وهو أيضا كما ترى. (منه رحمه‌الله).

١٦٨

وبالنسبة إلى الثاني نوعيا كلّيا ، ثمّ إنّه يجري في إبطال تعدّد الوضع في المقام ما مرّ من الكلام.

ويدفعه أيضا ما عرفت من الجواب ، نعم يندفع به القول بكون مفاد الهيئة مفهوم من قام به المبدأ كما قد يستفاد من كلمات بعضهم ، وقد مرّ الكلام فيه.

وكيف كان ، فظهر بذلك أيضا عدم كون وضع المشتقات على أحد الوجهين الأخيرين.

نعم ، إن قلنا بثبوت الوضع في المركّبات فالظاهر كون الموضوع فيها نفس الهيئات العارضة ، إذ يبعد جدا التزام وضع هناك في مجموع الجملة ، بأن تكون تلك الألفاظ المجتمعة المعروضة للهيئات المفروضة موضوعة ثانيا بوضع وحداني متعلّق بالمجموع ، كما لا يخفى.

فما يستفاد من كلام بعض الأجلّة ـ من كون الحال في المركّبات على نحو المشتقات ـ محلّ نظر.

وحينئذ فيحتمل تعلّق الوضع بتلك الهيئات على كلّ من الوجهين المذكورين ، والأظهر كون الموضوع حينئذ مطلق الهيئة فيسري الوضع إلى جزئياتها لانطباقها معها ، إذ لا داعي إلى التزام تعلّق الوضع بجزئيات ذلك المفهوم كما قلنا به في المشتقات ، لكن ستعرف أنّ الأظهر عدم ثبوت وضع في المركّبات ، فلا يظهر بما ذكر وقوع الوضع النوعي على شيء من الوجهين المذكورين.

نعم ، لا يبعد القول به في كثير من الأوضاع الكلّية المذكورة في العربية ، فإنّ كلّا من تلك القواعد حكم وضعي صادر من الواضع ، فهي مندرجة في الأوضاع النوعيّة على أحد الوجهين المذكورين ، إذ ليس الموضوع هناك خصوص اللفظ ، بل ما يلابسه من الأعاريب والعوارض اللاحقة له.

والأظهر كون الموضوع هناك عامّا دون كلّ من الخصوصيات المندرجة تحته ، إذ لا داعي إلى الاعتبار المذكور والعدول عن وضع الأمر المتصوّر إلى جعله مرآة لوضع جزئياته ، حسب ما أشرنا إليه.

١٦٩

ومن جملة الأوضاع النوعية : الوضع الحاصل في المجازات ، وفيه عموميّة من جهة اللفظ والمعنى ، إذ لم يلحظ فيه خصوص مادّة ولا هيئة ولا خصوص معنى دون آخر ، وحيث إنّ الوضع هناك غير قاض بتعيين اللفظ للمعنى ـ بحيث يفيد دلالة اللفظ عليه على ما هو الحال في الأوضاع الحقيقية ، بل الدلالة الحاصلة في اللفظ هناك إنّما هي من جهة القرينة ، وإنّما يثمر الوضع المذكور جواز استعمال اللفظ فيه بحسب اللغة لا غير ، كما مرّت الإشارة إليه ـ لم يندرج ذلك في الوضع بمعناه المعروف ؛ ولذا قالوا باختصاص الوضع بالحقائق ، وجعلوا المجاز خاليا عن الوضع واستعمالا للّفظ في غير ما وضع له ، إلّا أنّ الترخيص الحاصل من الواضع في استعمال اللفظ فيه دون المعاني الخالية عن تلك العلاقة نحو من الوضع بمعناه الأعمّ ، وبهذا الاعتبار صحّ شمول الوضع له ، وربّما يسمّى الوضع الحاصل فيه ترخيصا ، ويمكن اعتبار الموضوع هناك عامّا منطقيّا ، فيكون كلّ من الوضع والموضوع عامّا وعامّا اصوليّا ليكون الوضع عامّا والموضوع خاصّا ؛ لصحّة وقوع الترخيص على كلّ من الوجهين المذكورين من غير تفاوت في المقام بين كلّ من الاعتبارين.

ومن الوضع النوعي الترخيصيّ : وضع التوابع اللاحقة للكلمات ، كقولهم : عطشان بطشان ، وخراب يباب وهرج مرج ونحوها ، فإنّ تلك الألفاظ وإن كانت مهملة في أصلها إلّا أنّ الواضع قد رخّص في إستعمالها في مقام الاتباع إشباعا وتأكيدا ، وذلك أيضا نحو من الوضع حسب ما أشرنا إليه.

ومن الوضع الترخيصيّ النوعي أيضا : وضع الحكايات بإزاء المحكي ، والثمرة المتفرّعة على الترخيص المذكور جواز استعمال اللفظ في ذلك بحسب اللغة دون إفادته الدلالة عليه ؛ لحصولها بدون اعتباره ، كما أشرنا إليه في المجاز.

الخامسة

ينقسم الوضع باعتبار الموضوع له والمعنى المتصوّر حال الوضع إلى أقسام أربعة :

١٧٠

وتفصيل القول في ذلك : أنّ من البيّن توقّف الوضع على ملاحظة المعنى وتصوّره ، وحينئذ فإمّا أن يكون المعنى الذي يتصوّره حين الوضع أمرا جزئيا غير قابل الصدق على كثيرين ، أو كلّيا شاملا للجزئيات. وعلى التقديرين فإمّا أن يضع اللفظ لعين ذلك المعنى الذي تصوّره ، أو لغيره ممّا يعمّه أو يندرج تحته بأن يجعل ذلك المعنى عنوانا له ومرآة لملاحظته ليصحّ له بذلك وضع اللفظ بإزائه.

فهذه وجوه أربعة لا سبيل إلى الثاني منها ، ضرورة أنّ الخاصّ لا يمكن أن يكون عنوانا للعامّ ومرآة لملاحظته إلّا أن يجعل مقياسا لتصوّره ، كأن يتصوّر جزئيا من الجزئيّات ويضع اللفظ بإزاء نوعه ، وهو خروج عن المفروض ؛ لتصوّر ذلك الأمر العام حينئذ بنفسه وإن كان ذلك بعد تصوّر الخاص ، فبقي هناك وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يتصوّر معنى جزئيّا غير قابل الصدق على كثيرين ويضع اللفظ بإزائه ، فيكون الوضع خاصا والموضوع [له](١) أيضا خاصّا ، ولا خلاف في وقوعه كما هو الحال في الأعلام الشخصيّة ، وفي معناه ما إذا تصوّر مفهوما جزئيّا وجعله مرآة لملاحظة مفهوم آخر يتصادقان ، فيضع اللفظ بإزاء ذلك الآخر كما إذا تصوّر زيدا بعنوان هذا الكاتب ووضع اللفظ بإزائه.

ثانيها : أن يتصوّر مفهوما عامّا قابل الصدق على كثيرين ويضع اللفظ بإزائه ، فيكون كلّ من الوضع والموضوع له عامّا ، وهو أيضا ممّا لا كلام في تحقّقه كما هو الحال في معظم الألفاظ.

ومناقشة بعض الأفاضل ـ في جعل هذه الصورة من قبيل الوضع العامّ نظرا إلى أنّه لا عموم في الوضع لتعلّقه إذن بمفهوم واحد ـ ليس في محلّها ؛ بعد كون المقصود من عموم الوضع ـ كما نصّوا عليه ونبّه عليه ذلك الفاضل ـ عموم المعنى الملحوظ حال الوضع لا نفس الوضع ، فلا مشاحة في الاصطلاح.

ومع الغضّ عن ذلك فعموم الموضوع له وشموله لأفراده يقضي بعموم الوضع

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المطبوع (١).

١٧١

أيضا ؛ لسريانه إلى جميع المصاديق المندرجة في ذلك الأمر العام ، فيصحّ إطلاق ذلك اللفظ عليها على سبيل الحقيقة من حيث انطباقها على تلك الطبيعة المتّحدة معها.

وحيث إنّ العامّ الملحوظ في المقام هو العام المنطقي فلا يندرج فيه العام الاصولي ؛ لعدم صدقه على كلّ من جزئياته ، فعلى هذا قد يتوهّم كون الوضع فيه من قبيل القسم الأوّل وليس كذلك ، فإنّ معنى العموم أيضا كلّي منطقي بالنسبة إلى موارده وإن لم يكن كذلك بالنظر إلى الجزئيّات المندرجة فيه ، فإنّ العموم الحاصل في كلّ رجل غير الحاصل في كلّ امرأة وهكذا ، والملحوظ في وضع «كلّ» للعموم هو المعنى الشامل للجميع ، وهكذا الكلام في نظائره ، فهي مندرجة في هذا القسم قطعا ، نعم لا يندرج فيه نحو «كلّ إنسان» إلّا أنّه لم يتعلّق هناك وضع بمجموع اللفظين ، والوضع عام بالنسبة إلى كلّ منهما.

ومن هذا القبيل الوضع المتعلّق بأسماء الأجناس وأعلامها وإن اخذ في الأخير اعتبار التعيّن والحضور في الذهن ، فإنّ ذلك أيضا أمر كلّي ملحوظ في وضعها على جهة الإجمال، فتعريفها من الجهة المذكورة مع اختلاف حضورها باختلاف الأذهان والأشخاص لا يقضي بتعلّق الوضع بالخصوصيّات ، على أنّه لو فرض أخذ كلّ من تلك الخصوصيات في وضعها فهو لا يقضي بتعدّد المعنى ، إذ المفروض أنّ الموضوع له نفس الطبيعة الكلّية وتلك الخصوصيات خارجة عن الموضوع له. ومن ذلك أيضا أوضاع النكرات والمشتقات.

وقد يشكل الحال في المشتقات نظرا إلى أنّ الملحوظ في أوضاعها هو المعنى العامّ الشامل لخصوص كلّ من المعاني الخاصّة الثابتة (١) لكلّ ما يندرج في الصيغة المفروضة دون خصوص كلّ واحد واحد منها ، مع أنّ الموضوع له هو تلك الخصوصيات ، فيكون مرآة الوضع هناك عامّا والموضوع له خصوص جزئيّاته ؛ ولذا اختار العضدي فيها ذلك وجعلها كالمبهمات ، وكون كلّ من تلك المعاني

__________________

(١) في المطبوع (١) : الشاملة.

١٧٢

الخاصّة أيضا عامّة شاملة لما تحتها من الأفراد لا ينافي ذلك ، إذ لا يعتبر في القسم الثالث أن يكون الموضوع له خصوص الجزئيّات الحقيقية.

ويمكن دفعه : بأنّه لمّا كان كلّ من تلك الألفاظ الخاصّة متصوّرا إجمالا في ضمن الأمر العامّ الملحوظ للواضع حين وضعه النوعي كان كلّ من معانيها متصوّرة على سبيل الإجمال أيضا ، لكن الوضع المتعلّق بتلك الجزئيّات إنّما تعلّق بكلّ منها بالنظر إلى معناه المختصّ به حسب ما مرّ في بيان الوضع النوعي ، فلفظة «ضارب» إنّما وضعت في ضمن ذلك الوضع لخصوص من قام به الضرب ، ولفظة «عالم» لخصوص من قام به العلم ... وهكذا ، فينحلّ الوضع المذكور إلى أوضاع شتّى متعلّقة بألفاظ متعدّدة لمعان مختلفة ، فالوضع المتعلّق بكلّ لفظ من تلك الألفاظ إنّما هو لما يقابله من المعنى ، فالمعنى الملحوظ في وضع كلّ منها عامّ والموضوع له أيضا ذلك المعنى لا خصوص جزئيّاته ، فملاحظة ما يعمّ خصوص كلّ من تلك المعاني حين الوضع إنّما هي من جهة ملاحظة ما يعمّ مخصوص كل واحد من تلك الألفاظ المتعيّنة بإزاء كلّ منها ، فحيث لم يلحظ لفظا مخصوصا لم يلحظ هناك معنى خاصّا. وأمّا إذا لوحظ كلّ لفظ منها بإزاء ما يخصّه من المعنى كان كلّ من الوضع والموضوع له بالنسبة إليه عامّا بتلك الملاحظة التي هي المناط في وضع كلّ من تلك الألفاظ بحسب الحقيقة.

فإن قلت : إنّ شيئا من تلك المعاني الخاصّة لم يلحظ حين الوضع بخصوصه ، وإنّما الملحوظ هو مفهوم من قام به مبدؤه ، وهو أمر عامّ شامل للجميع فكيف يتصوّر القول بكون كلّ من المعاني الخاصّة ملحوظة للواضع؟

قلت : إنّ كلّا من تلك المعاني وإن لم يكن ملحوظا بنفسه لكنّه ملحوظ بما يساويه ويساوقه ، فإنّ مفهوم من قام به مبدؤه إذا لوحظ بالنظر إلى خصوص كلّ واحد من الألفاظ المختلفة في المبادئ كقائم وقاعد ونائم ونحوها انطبق على المفهوم المراد من كلّ واحد منها من غير أن يكون أعمّ منه ، فلا يكون المعنى الملحوظ في وضع كلّ من تلك الألفاظ لمعناه ما يعمّ ذلك المعنى وغيره وإن لم

١٧٣

يكن كلّ من تلك المفاهيم الخاصّة ملحوظة بخصوصها ، إذ لا يعتبر فيما يكون كلّ من الوضع والموضوع له فيه عامّا أن يكون الموضوع له متصوّرا على سبيل التفصيل ، بل لو جعل بعض وجوهه عنوانا لتصوّره فوضع اللفظ بإزائه كان جائزا ـ كما مرّ نظيره ـ فيما يكون فيه كلّ من الوضع والموضوع له خاصّا.

والحاصل : أنّ مفهوم من قام به المبدأ ليس ممّا تعلّق الوضع به على إطلاقه ولا لجزئيّاته من حيث انطباقها على ذلك المفهوم كما هو الحال في أسماء الإشارة ونحوها ، بل جعل المفهوم المذكور عنوانا لإحضار تلك المفاهيم المختلفة المندرجة تحته على حسب ملاحظة الألفاظ الموضوعة في ضمن الأمر العامّ المفروض ، فوضع كلّ من تلك الألفاظ المختلفة الملحوظة على سبيل الإجمال لكلّ من تلك المفاهيم المختلفة المساوية للمفهوم المذكور بعد ملاحظة المادّة الخاصّة المعتبرة في كلّ لفظ من تلك الألفاظ المخصوصة ، فملاحظة تلك المعاني على سبيل الإجمال إنّما هي لكون الألفاظ الموضوعة بإزائها ملحوظة كذلك ، وتلك الملاحظة الإجمالية منزّلة منزلة التفصيل في وضع كلّ لفظ منها لمعناه الخاصّ به ، كما إذا ذكر ألفاظ مخصوصة ومعان خاصّة وقال : وضعت كلّا من الألفاظ المذكورة لكلّ من تلك المعاني المفروضة ، فإنّه وإن أخذ الألفاظ والمعاني حال الوضع على نحو إجمالي إلّا أنّه منزّل منزلة التفصيل كما مرّت الإشارة إليه.

فالفرق بين المشتقّات وأسماء الإشارة ونحوها ظاهر لا سترة فيه ، فإن اريد بكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصّا جعلهما من قبيل واحد فهو واضح الفساد ، وإن اريد به كون تلك المفاهيم المختلفة ملحوظة في الوضع النوعي المتعلّق بها بلحاظ واحد فهو ممّا لا ريب فيه وإن انحلّ ذلك في الحقيقة إلى أوضاع عديدة وتعيّن بسببه ألفاظ متعدّدة لمعان كلّية مختلفة ، فيشبه أن يكون الاختلاف في ذلك لفظيا ؛ نظرا إلى اختلاف الاعتبارين المذكورين.

وقد ظهر بما قرّرناه أنّه لو قلنا بكون الموضوع في المقام هو ما تصوّره الواضع من المفهوم الكلّي ـ أعني مفهوم ما كان على هيئة فاعل مثلا ـ دون

١٧٤

خصوصيّات الألفاظ المندرجة تحت المفهوم المذكور والموضوع له هو الجزئيّات المندرجة تحت مفهوم ما قام به مبدؤه كان الوضع هناك عامّا والموضوع له خاصّا من غير إشكال ، كما أنّا إذا قلنا بكون الموضوع له أيضا ذلك المفهوم مطلقا كان كلّ من الوضع والموضوع له عامّا قطعا.

وإنّما يجري الوجهان المذكوران إذا قلنا بكون الموضوع خصوص جزئيات المفهوم المذكور لخصوص جزئيات المفهوم الآخر ؛ لما عرفت حينئذ من حصول الاعتبارين ، وإن كان الأظهر حينئذ هو ما عليه جماعة من المحقّقين من كون كلّ من الوضع والموضوع له في كلّ من تلك الألفاظ المندرجة في ذلك العنوان عامّا ، كما ظهر ممّا ذكرناه.

ثالثها : أن يتصوّر معنى عامّا ويضع اللفظ بإزاء جزئيّاته ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصا ، سواء كان الموضوع له هناك جزئيّات حقيقيّة أو إضافيّة ، وما يظهر من كلام بعضهم من اختصاصه بالأوّل غير متّجه ، كيف ولا يجري ذلك في كثير ممّا جعلوه من هذا القسم كالحروف ، فإنّها وإن وضعت عندهم لخصوص المعاني المتعيّنة بمتعلّقاتها إلّا أنّها مع ذلك قد تكون مطلقة قابلة للصدق على كثيرين ، كما في قولك : «كن على السطح» و «كن في البلد» ونحوهما ، فإنّ كلّا من الاستعلاء والظرفيّة المتعيّنين بمتعلّقاتهما في المثالين قد استعمل فيهما لفظة «على» و «في» لكنّهما مع ذلك صادقان على أفراد كثيرة لا تحصى.

وبالجملة : أنّ مفاد «على» و «في» في المثالين المذكورين قد جعل مرآة لملاحظة حال الكون الكلّي بالنسبة إلى السطح والبلد ، فهو تابع له في الكلّية وإن كان ذلك جزئيا إضافيّا بالنسبة إلى مطلق الاستعلاء والظرفيّة ، وكذا الحال في أسماء الإشارة إن قلنا بوضعها للأعمّ من الإشارة الحسّية وغيرها ، فإنّ الكلّيات يشار إليها بعد ذكرها.

وما قيل من أنّ الكلّي المذكور من حيث إنّه مذكور بهذا الذكر الجزئي صار في حكم الجزئي ، فاستعملت لفظة «هذا» فيه من تلك الحيثية ، فهو جزئي بتلك الملاحظة.

١٧٥

مدفوع : بأنّ تلك الحيثية إنّما تصحّح الإشارة إليه ، وأمّا المشار إليه فهو نفس الماهيّة من حيث هي ، ألا ترى أنّك لو قلت : وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق وذلك المعنى عامّ لم ترد بذلك إلّا الإشارة إلى ذلك المفهوم من حيث هو ، لتحكم عليه بالعموم لا إلى خصوص ذلك المفهوم الخاصّ من حيث تقيّده بالحضور في ذهنك أو ذهن السامع وإن كان ذلك الحضور مصحّحا للإشارة إليه كما هو الحال في المعهود ، ينبّهك على ذلك ملاحظة الاسم المعرّف الواقع بعد ذلك في المثال المذكور ، إذ لا ينبغي التأمّل في كونه كلّيا مع أنّه إشارة إلى المذكور أوّلا ، وهو عين ما اريد بذلك ، وإن قلنا بوضعها لخصوص الإشارة الحسّية تعيّن وضعها للجزئيّات الحقيقيّة ، فتكون الإستعمالات المذكورة مجازية.

وأمّا الضمائر فلا ينبغي التأمّل في إطلاقها على المفاهيم العامّة فيما إذا كان مرجعها كلّيا ، غاية الأمر أن لا يراد به الطبيعة المرسلة بل بملاحظة تقدّمها في الذكر ، وذلك لا يقضي بصيرورتها جزئيا حقيقيّا كما عرفت ، فما في كلام بعضهم ـ من الحكم بوضع الضمائر وأسماء الإشارة لخصوص الجزئيّات الحقيقية لكون التعيّن فيهما بأمر حسّي يفيد الجزئية ـ ليس على ما ينبغي ، كما عرفت الوجه فيه.

وأمّا الموصولات فوضعها ـ بناء على القول المذكور ـ للأعمّ من الوجهين أمر ظاهر لا سترة فيه ، فإنّ غاية ما اخذ فيها من الخصوصية هي التعيّنات الحاصلة بصلاتها ، ومن البيّن أنّ التعيّن الحاصل بها كثيرا ما يكون أمرا كلّيا ، كما في قولك : «أكرم الذي أكرمك» و «أعط من جاءك» ونحو ذلك ، وممّا يوضّح الحال فيها ملاحظة الموصولات المأخوذة في الحدود ، فإنّها إنّما اوتيت بها لبيان المفاهيم الكلّية ، فلا يراد هناك من الموصول إلّا أمرا كلّيا.

ومن الغريب ما يوجد في كلام بعض الأفاضل وحكي التصريح به عن العضدي في رسالته الوضعيّة من كون الموضوع له في كلّ من المبهمات الثلاثة جزئيا حقيقيّا.

وأجاب عمّا ذكره بعضهم ـ من كون الصلة في نفسها أمرا كلّيا وضمّ الكلّي

١٧٦

إلى الكلّي لا يفيده تشخّصا ـ بأنّ التشخّص الحاصل في المقام ليس بمجرّد ضمّ ذلك الكلّي إليه ، بل من جهة الإشارة به إلى ذاته المخصوصة ، كما في قولك : «الذي كان معنا أمس» قال : وذلك نظير إضافة النكرة إلى المعرفة الباعثة على تعريفها ، كما في قولك : «غلام زيد» فإنّه وإن كان ذلك المفهوم كلّيا أيضا إلّا أنّ المقصود بالإضافة هو الإشارة إلى غلام شخصيّ.

وفيه : أنّ ما ذكره لو تمّ فإنّما يتم فيما فرضه من المثال ونظائره لا في سائر المواضع حسب ما أشرنا إليه ، والبناء على اختصاص وضع الموصولات بما ذكره وكون استعمالها فيما ذكرناه من المجاز مجازفة بيّنة.

نعم قد اعتبرت خصوصية في المفاهيم التي وضعت بإزائها الألفاظ المذكورة تكون تلك الخصوصية جزئيّا حقيقيّا بالنسبة إلى كلّيها الملحوظ حال وضعها ، فإنّ الحروف مثلا إنّما وضعت لخصوص المفاهيم الواقعة مرآة لملاحظة حال غيرها ، فتلك المفاهيم الخاصّة وإن كانت كلّية في نفسها في كثير من الصور لكن خصوصيّة وقوعها مرآة لملاحظة الحال في غيرها جزئي حقيقي من جزئيات كونها مرآة لملاحظة الغير ، فلفظة «على» مثلا إنّما وضعت لخصوصيات الاستعلاء الواقع مرآة لتعرّف حال الغير ، وحينئذ فمفهوم الاستعلاء الواقع مرآة لحال متعلّقه وإن كان كليّا في نفسه لكن في كونه مرآة لملاحظة حال الكون والسطح في قولك : «كن على السطح» جزئيّ حقيقيّ من جزئيّات الاعتبار المذكور.

والحاصل : أنّ نفس المعنى الجزئي المأخوذ مرآة لحال الغير وإن كانت كليّة في نفسها إلّا أنّ كونها مرآة لخصوص كلّ من متعلّقاتها جزئي حقيقيّ بالنسبة إلى ما اعتبر فيها حال وضعها من كونها مرآة لحال غيرها ، ويجري ذلك في جميع المبهمات ومعاني الأفعال ، ألا ترى أنّ الموصول إنّما وضع للشيء المتعيّن بصلته ، وتعيّنه بصلته الخاصّة جزئي حقيقي من جزئيّات التعيّن بالصلة وإن كان نفس المفهوم التعيّن بها كلّيا أيضا.

وأنت خبير بأنّ تلك الخصوصيّات لا يجعل نفس ما وضع له تلك الألفاظ

١٧٧

جزئيّات حقيقيّة ، وإنّما يكون الاعتبار المأخوذ في كلّ منها جزئيا حقيقيّا لمطلقه حسب ما بيّناه ، فإن عنى القائل بوضعها للجزئيّات الحقيقية إفادة ذلك فلا كلام ، لكن لا يساعده العبارة وإن أراد به كون نفس المفهوم الذي وضعت بإزائه جزئيّا حقيقيّا ، ففساده ظاهر ممّا قرّرنا.

هذا ، وقد اختلفوا في تحقّق الوضع على الوجه المذكور على قولين ، فقد ذهب إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين وقالوا به في أوضاع المبهمات الثلاثة والحروف بأجمعها والأفعال الناقصة وكذا الأفعال التامّة بالقياس إلى معانيها النسبيّة ، والضابط فيه كلّ لفظ استعمل في أمر غير منحصر لمعنى مشترك لا يستعمل فيه على إطلاقه ، فإنّ الملحوظ عندهم حين وضع تلك الألفاظ هو ذلك الأمر الجامع المشترك بين تلك المستعملات والموضوع له هو خصوص تلك الجزئيات ، فجعل ذلك الأمر العامّ مرآة لملاحظتها حتى يصحّ وضع اللفظ بإزائها ، وهذا القول هو المعزى إلى أكثر المتأخّرين ، بل الظاهر إطباقهم عليه من زمن السيّد الشريف إلى يومنا هذا.

والمحكي عن قدماء أهل العربية والاصول القول بكون الوضع والموضوع له في جميع ذلك عامّا ، فيكون الحال في المذكورات من قبيل القسم الثاني عندهم ، وهذا هو الذي اختاره التفتازاني لكنّه ذكر أنّ المعارف ما عدا العلم إنّما وضعت لتستعمل في معيّن ، وظاهر كلامه أنّ الواضع اشترط في وضعها لمفهومها الكلّي أن لا تستعمل إلّا في جزئياته.

وفي الحواشي الشريفيّة أنّ جماعة توهّموا وضعها لمفهوم كلّي شامل للجزئيّات ، والغرض من وضعها له استعمالها في أفرادها المعيّنة دونه ، والظاهر أنّ هذا الاعتبار إنّما وقع في كلام جماعة من المتأخّرين تفصّيا من المنافاة بين وضعها للمفهوم الكلّي وعدم صحة استعمالها إلّا في الجزئيات ، وإلّا فالقدماء لم ينبّهوا على ذلك فيما عثرنا عليه من كلامهم.

حجّة القول الأوّل وجوه :

١٧٨

أحدها : أنّه لو كانت تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الكلّية لصحّ استعمالها فيها بلا ريبة ، ضرورة قضاء الوضع بصحّة الاستعمال ، فإنّه أقوى السببين في جواز استعمال اللفظ لاندراج الاستعمال معه في الحقيقة ، فعلى هذا ينبغي أن يصحّ استعمال «هذا» في مفهوم المفرد المذكّر المشار إليه على سبيل الإطلاق ، وإستعمال «أنا» في مفهوم المتكلّم على الإطلاق ، واستعمال «الذي» في مطلق الشيء المتعيّن بصلته ، والتالي باطل ، ضرورة عدم جواز الاستعمالات المذكورة بحسب اللغة والعرف ، فإنّه لا يقصد بتلك الألفاظ إلّا بيان المعاني الجزئية دون المفاهيم الكلّية ، والفرق بينها وبين الألفاظ الدالّة على تلك الكلّيات واضح جليّ بعد ملاحظة العرف.

واورد عليه بقلب الدليل ، بأنّها لو كانت موضوعة بإزاء الجزئيات لجاز استعمالها في المطلقات على سبيل المجاز ؛ لوجود العلاقة المصحّحة للاستعمال ، فكما أنّ وضعها للمفاهيم الكلّية قاض بجواز استعمالها فيها كذا وضعها للجزئيات قاض بجواز استعمالها في المفاهيم الكلّية ، غاية الأمر أن يكون المصحّح لاستعمالها في تلك الكلّيات بناء على الأوّل هو الوضع الحقيقي ، وبناء على الثاني هو الوضع المجازي ، مع أنّه لا يجوز استعمالها فيها ولو على سبيل المجاز ، فما يجاب به بناء على الثاني يجاب به بناء على الأوّل أيضا.

والجواب عنه ظاهر بعد ملاحظة ما سنقرّره إن شاء الله تعالى من بيان الحال في المجاز ، فإنّ مجرّد وجود نوع العلاقة المعروفة غير كاف عندنا في صحّة التجوّز ، وإنّما المناط فيه العلاقة المعتبرة في العرف بحيث لا يكون الاستعمال معها مستهجنا عرفا ، فعلى هذا يدور جواز استعمال المجاز مدار عدم الاستقباح في العرف بخلاف الحال في الحقيقة ؛ لدوران جواز الاستعمال هناك مدار الوضع ، فالفرق بين الصورتين واضح.

وأمّا على ظاهر كلام القوم من الاكتفاء في صحّة التجوّز بوجود نوع العلاقة المنقولة فبأنّ وجود واحد من تلك العلائق من المقتضيات لصحّة الاستعمال ،

١٧٩

وقد يجامع حصول المقتضي وجود المانع فلا يعمل عمله ، فالترخيص العامّ الحاصل من الواضع في استعمال اللفظ في غير الموضوع له مع حصول واحد من تلك العلائق لا يقضي بجواز الاستعمال مع تحقّق المنع منه في خصوص بعض المقامات ؛ لقيام الدليل عليه كما في المقام ؛ لوضوح تقديم الخاصّ على العامّ.

والحاصل : أنّ الترخيص المذكور كسائر القواعد المقرّرة إنّما يؤخذ بها في الجزئيّات مع عدم ظهور خلافها في خصوص المقام ، وهذا بخلاف الوضع لكونه علّة تامّة لجواز الاستعمال في الجملة ، ولا يعقل هناك المنع من الاستعمال بالمرّة مع تحقّق الوضع له.

واورد عليه : بأنّا قد نرى المنع من الاستعمال مع تحقّق الوضع كما في لفظ «الرحمن» والأفعال المنسلخة عن الزمان.

والجواب عنه ظاهر ، أمّا عن لفظ «الرحمن» فبعد تسليم صدق مفهومه الحقيقي على غيره تعالى بأنّه لا مانع من الاستعمال بحسب اللغة وإنّما المانع هناك شرعيّ فلا ربط له بالمقام ، وأمّا عن الأفعال المنسلخة عن الزمان إن سلّم أوّلا وضعها للزمان فلنقلها عن ذلك بحسب العرف فالمنع في استعمالها في الزمان إنّما طرأها في العرف بعد حصول النقل ، ولا مانع من إستعمالها فيه بملاحظة وضع اللغة ، والتزام مثله في المقام غير متّجه ؛ لظهور المنع من استعمالها في ذلك بحسب اللغة أيضا ، ومع الغضّ عنه فلا داعي إلى التزام النقل من غير باعث عليه ، فإنّه ـ بعد ثبوت كون الموضوع له لتلك الألفاظ عرفا هو الجزئيّات ـ يثبت بضميمة أصالة عدم النقل كونها كذلك بحسب اللغة أيضا ، على أنّ المقصود في المقام تحقّق الوضع العامّ مع كون الموضوع له هو خصوص الجزئيات ، ووجود ذلك في الأوضاع العرفية كاف في ثبوت المرام ، فتأمّل.

أقول : ويمكن الجواب عن الحجّة المذكورة بأنّ المعاني الكلّية المأخوذة في وضع الألفاظ المفروضة إنّما اخذت على وجه لا يمكن إرادتها من اللفظ إلّا حال وجودها في ضمن الجزئيّات ، من غير أن يكون خصوص شيء من تلك الجزئيّات ممّا وضع اللفظ له.

١٨٠