هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

في المعنى أمر وجودي لا يصحّ أن يتعلّق بالمبهم المحض كما في هذا الفرض ، إذ المفروض عدم استعماله واقعا في خصوص شيء من المعنيين وإلّا لكان المستعمل فيه معيّنا بحسب الواقع ولا في مفهوم أحدهما الشامل لكلّ منهما كما هو المفروض فلا يتصوّر استعماله على النحو المذكور ، وكلّ من الوجوه الثلاثة الباقية ممّا يصحّ استعمال المشترك فيه.

وأنت خبير بأنّ الوجه الأخير هو الوجه الأوّل الشائع في استعماله ، والوجه الأوّل راجع الى الوجه الثاني ، لكونه في الحقيقة من الاستعمال في القدر المشترك وإن لوحظ فيه خصوص كلّ من المعنيين بل وكذا الوجه الثاني ، إذ المستعمل فيه هو القدر المشترك أيضا وإن ضمّ اليه اعتبار آخر ، فلا يكون استعماله في أحد المعنيين إطلاقا آخر ، وكأنّه لذا لم يذكره بعضهم في عداد استعمالات المشترك.

بقي الكلام في العبارة المنقولة عن السكّاكي ، وهي في بادئ الرأي قابلة للحمل على كلّ من الوجوه الثلاثة المذكورة ، وظاهر التفتازاني في المطول حملها على أحد الوجهين الأوّلين حيث ذكر في تحقيق كلامه ما محصّله :

أنّ الواضع عيّن المشترك تارة للدلالة على أحد معنييه بنفسه ، وكذا عيّنه اخرى للدلالة على الآخر كذلك ، وحينئذ فافتقاره الى القرينة ليس لأجل نفس الدلالة بل لدفع مزاحمة الغير ، ثمّ إنّه حصل من هذين الوضعين وضع آخر ضمنا ، وهو تعيينه للدلالة على أحد المعنيين عند الإطلاق غير مجموع بينهما ، وقال : إنّ هذا هو المفهوم منه ما دام منتسبا الى الوضعين ، لأنّه المتبادر الى الفهم ، والتبادر من دلائل الحقيقة.

فعلى هذا يرجع ذلك الى الوجه الثاني من إطلاقاته ، كما أشرنا اليه ، ولعلّه لذا أسقطه في شرح الشرح وجعل استعمالات المشترك أربعة.

وربما يظهر من الفاضل الباغنوي ذلك أيضا ، إلّا أنّ الظاهر من كلامه حمله على الوجه الثاني من الوجهين المذكورين.

٥٠١

وكيف كان ، فالظاهر بعد الحمل المذكور بل فساده ، إذ لا يخفى أنّ المعنى المذكور معنى ثالث مغاير لكلّ من المعنيين المفروضين ، ولا ملازمة بين وضعه لكلّ منهما والوضع لهذا المعنى ، والاحتجاج عليه بالتبادر بيّن الفساد ؛ إذ لا يتبادر من المشترك ذلك أصلا وإنّما المتبادر منه خصوص أحد المعنيين المتعيّن عند المتكلّم المجهول عند المخاطب من جهة تعدّد الوضع وانتفاء القرينة المعيّنة ، فحينئذ يعلم إرادة أحد المعنيين ولا يتعيّن خصوص المراد ، وأين ذلك من استعماله في المفهوم الجامع بين المعنيين؟ كيف! ولو تمّ ما ذكره لم يمكن تحقّق مشترك بين المعنيين ، ولخرج المشترك عن الإجمال واندرج في المطلق بناء على الوجه الأوّل من الوجهين المذكورين ، وفساد ذلك ظاهر.

ولا باعث على حمل كلام السكّاكي عليه من إمكان حمله على المعنى الصحيح سيما مع عدم انطباق العبارة المذكورة عليه ، حيث نصّ على أنّ مدلوله ما لا يتجاوز معنييه ، ومن البيّن أنّ حمله على المعنى المذكور تجاوز عن معنييه وحكم باستعماله في ثالث.

فالأظهر حمل كلامه على الوجه الثالث ، ومقصوده من العبارة المذكورة بيان ما يدلّ عليه المشترك بنفسه ، فإنّه من جهة الإجمال الحاصل فيه بواسطة تعدّد الوضع لا يدلّ على خصوص المعنى المقصود ولا يقضي بانتقال المخاطب الى ما هو مراد المتكلّم بخصوصه.

وتفصيل القول في ذلك : أنّ وضع اللفظ للمعنى بعد العلم به قاض بالانتقال من ذلك اللفظ الى ذلك المعنى وإحضاره ببال السامع عند سماع اللفظ ، وهذا القدر من لوازم الوضع ، ولذا اخذ ذلك في تعريفه من غير فرق بين الحقيقة والمجاز والمشترك ، فإنّ كلّا من المعاني التي وضع المشترك بإزائه مفهوم حال إطلاقه حاضر ببال السامع عند سماع لفظه ، وكذا المعنى الحقيقي مفهوم من لفظ المجاز وإن قامت القرينة على عدم إرادته.

٥٠٢

ثمّ إنّ هذا المدلول هو المراد من عدم قيام قرينة على عدم إرادته إن لم يكن هناك تعدّد في الوضع ، ومع التعدّد يدور المراد بين واحد منها على ما ذهب اليه المحقّقون من عدم ظهوره في إرادة جميع معانيه ، فيكون المشترك حينئذ مجملا في إفادة المراد غير دالّ على خصوصه بنفسه وانّما يدلّ عليه بمعاونة القرينة كالمجاز.

إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ المجاز محتاج غالبا الى القرينة في المقام الأوّل أيضا ، فإنّ إحضار المعنى ببال السامع فيه إنّما يكون بمعاونة القرينة في الغالب أو بتوسّط المعنى الحقيقي فهما مشتركان في الحاجة الى القرينة في تعيين المراد ، ويختصّ المجاز بالاحتياج اليها في فهم السامع وإحضاره بباله في الغالب وذلك فارق بينه وبين الحقيقة.

وهناك فارق آخر ولو على تقدير الانتقال الى المعنى المجازي من دون ملاحظة القرينة ، كما يتفق في بعض المجازات ، فإنّه يحمل اللفظ على معناه الحقيقي الى أن يقوم قرينة صارفة عن الحمل عليه ، بخلاف المشترك.

نعم ، يحصل الأمران بل الامور المذكورة بقرينة واحدة في كثير من المقامات ، إلّا أنّ الحيثيات فيه مختلفة والجهات متعدّدة ، بخلاف قرينة المشترك.

فظهر بما قرّرناه استقلال المشترك في الدلالة على ما وضع بإزائه من المعاني وإحضارها ببال السامع ، بعد علمه بوضعه لها وقصوره في إفادة المراد بنفسه وعدم استقلاله في الدلالة على خصوصه.

ولا ينتقض به حدّ الوضع ، نظرا الى أخذهم فيه استقلال اللفظ في الدلالة على المعنى؛ إذ المأخوذ هناك الاستقلال في الدلالة على الوجه الأوّل لا في الحكم بكونه مرادا للمتكلّم.

كيف! والوضع للمعنى الحقيقي حاصل في المجاز ، مع أنّه غير دالّ على إرادته فوضع اللفظ للمعنى أمر وراء الحكم بكون الموضوع له مرادا للمتكلّم ، وإنّما هو من فوائده وثمراته على نحو مخصوص ، مستفاد من القانون المقرّر في اللغات من

٥٠٣

أصالة الحمل على الحقيقة وغيرها.

وهذا الاستقلال في الدلالة حاصل في المشترك بالنسبة الى جميع معانيه فهو دالّ بنفسه على المراد وإن لم يكن دالّا على كونه هو المراد وهذا هو الفارق بينه وبين المجاز كما قرّرنا ، فإنّ الانتقال الى معناه المجازي لا يكون بنفس اللفظ بل بتوسّط القرينة في الغالب ، أو بتوسّط المعنى الحقيقي خاصّة في بعض المجازات.

وأمّا في عدم الاستقلال في إفادة خصوص المراد فهما مشتركان فيه ، ولا يكون الانتقال اليه إلّا بتوسّط القرينة فيهما كما ذكرنا.

فتحصّل ممّا قرّرنا : أنّ ما يستقلّ المشترك بإفادته إنّما هو الدلالة على إرادة أحد معانيه لا بمعنى المفهوم الجامع بينها بل خصوص واحد منها ، فصحّ القول بأنّ مدلول المشترك واحد من المعنيين غير معيّن.

ولا ينافي ذلك تعيّن ذلك المعنى في الواقع وعند المتكلّم وبحسب دلالة المشترك أيضا في وجه ، فإنّ المقصود عدم دلالة المشترك على خصوصه.

وهذا هو مقصود صاحب المفتاح من العبارة المذكورة ، وقد أحسن التأدية عنه حيث قال : إنّ مدلوله ما لا يتجاوز معنييه غير مجموع بينهما ، فإنّه ظاهر الانطباق على إرادة مصداق أحد معنييه دون مفهوم أحدهما الصادق على كلّ منهما أو الدائر بينهما كما لا يخفى.

ومن الغريب ما صدر عن بعض الاعلام من حمل ذلك الكلام على كونه مستعملا في المعنيين معا ، إلّا أنّه يكون الحكم والإسناد واقعا على أحدهما ، حيث قال : الظاهر منه أنّه يجعل كلّا من المعنيين مفهوما من اللفظ ومتعلّقا للحكم ، لكن على سبيل التخيير والترديد ، فالفرق بينه وبين المتنازع فيه إنّما هو في الجمع بينهما في الحكم وعدمه ، انتهى.

وكأنّه غفل عن قوله : «إنّ مدلوله واحد من المعنيين غير معيّن» لصراحته في خلاف ما ذكره.

على أنّ عبارته المتقدّمة غير ظاهرة أيضا فيما ذكره ، بل ظاهرة في خلافه ،

٥٠٤

فإنّ قوله : «غير مجموع بينهما» بعد قوله : «إنّ مدلوله ما لا يتجاوز معنييه» كالصريح في عدم اجتماع المعنيين في الإرادة ، وحملها على عدم الاجتماع في الحكم بعيد جدّا كما لا يخفى.

ولعلّ الوجه فيما ذكره أنّ ما نصّ عليه من دلالته على أحد المعنيين لا يمكن حصوله إلّا بالدلالة على المعنيين معا ، إذ من دون دلالته على كلّ منهما لا يعقل دلالته على أحدهما ، فيكون كلّ من المعنيين مدلولا للفظ كما هو المفروض في محلّ البحث ، فحكمه بدلالته على أحدهما وكذا التخيير والترديد المستفاد من ذلك إنّما هو بالنسبة الى تعلّق الحكم لا في نفس الدلالة ، إذ المفروض ثبوت دلالته على كلّ منهما.

وأنت خبير بما فيه بملاحظة ما قدّمنا.

رابعها : أن يستعمل في المجموع المركّب من المعنيين بأن يكون كلّ منهما جزء ما تعلّق الحكم به ، كقولك : «زيد يرفع هذا الحجر» إذا أردت أنّ الزيدين معا يرفعانه لا أنّ كلّا منهما يرفعه ، ونقل عن بعضهم أنّ ذلك هو محلّ البحث في المقام ، وهو غلط ظاهر ؛ لعدم انطباق الأقوال عليه ، ضرورة كون الاستعمال المذكور في خلاف ما وضع له اللفظ قطعا ، فلا محالة لو صحّ كان مجازا ، وقد نصّ جماعة على خروجه عن المتنازع فيه.

قال الفاضل الباغنوي : لا نزاع في امتناع ذلك حقيقة ، وفي جوازه مجازا.

قلت : نفيه النزاع عن جواز الاستعمال فيه مطلقا كما هو ظاهر إطلاقه محلّ منع ، بل الظاهر أنّ ذلك يتبع العلاقة المصحّحة للتجوّز عرفا ، بحيث لا يستهجن استعماله كذلك ، فلو اطلق البيع على مجموع البيع والشراء ، والقرء على مجموع الطهر والحيض ، وعسعس على مجموع أقبل وأدبر فلعلّه لا مانع منه ، لوجود المناسبة المعتبرة ، بخلاف إطلاق العين على مجموع الجاسوس وكفّة الميزان ، إذ لا ربط بين الكلّ وكلّ من المعنيين.

ومجرّد كون كلّ من المعنيين الحقيقيين جزء من المستعمل فيه ولو في

٥٠٥

الاعتبار لا يكون مجوّزا للاستعمال مطلقا.

وكأنّه بني على وجود علاقة الكلّ والجزء حينئذ ، فاطلق صحّة استعماله فيه على سبيل المجاز ، وهو بيّن الوهن.

وأنكر بعض الأفاضل جواز استعماله في ذلك مطلقا ، نظرا الى أنّ العلاقة الحاصلة في المقام هي علاقة الكلّ والجزء لا غيرها ، وهي مشروطة بكون الكلّ ممّا ينتفي بانتفاء الجزء وأن يكون للكلّ تركّب حقيقي ، وذلك منتف في المقام فلا مصحّح للاستعمال.

والدعويان الاوليان محلّ منع بل وكذا الثالث ، لإمكان وضع اللفظ بإزاء كلّ من جزئي المركّب الحقيقي مع انتفاء الكلّ بانتفاء كلّ منهما.

خامسها : أن يستعمل في كلّ من المعنيين على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي.

والفرق بينه وبين السابق عليه هو الفرق بين العامّ المجموعي والأفرادي على ما ذكر ، وهذا هو محلّ النزاع على ما نصّ عليه جماعة.

فإن قلت : إذا اريد من اللفظ كلّ واحد من معنييه لم يكن ما استعمل فيه اللفظ إلّا المعنيين معا كما لو اريد منه مجموع المعنيين ، وإلّا لم يكن فيه استغراق فالعامّ في قولك : «كلّ من في الدار يرفع هذا الحجر» ليس مستعملا على كلّ من الوجهين إلّا في الاستغراق ـ أعني جميع مصاديقه ـ غير أنّ تعلّق الحكم في الأوّل بجميع ما استعمل فيه اللفظ ـ أعني مجموع الجزئيات ـ وفي الثاني بكلّ من الجزئيات المندرجة فيما استعمل فيه ـ أعني خصوص كلّ واحد من الأفراد ـ فعلى هذا ليس الفرق بين العامّ المجموعي والأفرادي إلّا في تعلّق الإسناد والحكم ، إذ يجعل الموضوع في القضية تارة خصوص فرد فرد ، فيكون لفظة «كلّ» سورا لها ، وتارة مجموع الأفراد فلا يكون كلّ حينئذ سورا بل الموضوع حينئذ هو مع ما اضيف اليه ، وذلك لا مدخل له في إطلاق اللفظ على معناه واستعماله فيه الذي هو محطّ النظر في المقام ، إذ استعمال اللفظ لم يقع إلّا في معنى واحد على ما بيّنا.

٥٠٦

قلت : الفرق بين المعنيين واضح مع قطع النظر عن ملاحظة الإسناد والحكم ، إذ المراد بكلّ الرجال في العامّ المجموعي هو مجموع الآحاد ، وفي الاستغراقي هو كلّ واحد منها ، وهو معنى آخر ومفهوم مغاير لذلك المفهوم ضرورة كيف! وليس الملحوظ في الأوّل إلّا المجموع وليست الآحاد ملحوظة إلّا في ضمنه ، وكلّ من الآحاد ملحوظة في الثاني على جهة الإجمال ، فالفرق بين المعنيين بيّن لا خفاء فيه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المستعمل فيه في العامّ الاستغراقي أيضا معنى واحد شامل للجزئيات ، فيكون المستعمل فيه في المشترك عند استعماله في جميع معانيه معنى آخر مغايرا لكلّ واحد من معانيه ، غير أنّه يندرج فيه اندراج الخاصّ في العامّ الاصولي ، كما نصّ عليه غير واحد من محرّري محلّ النزاع ، فلا يكون استعمالا في شيء من معانيه ، بل هو استعمال له في غير ما وضع له قطعا ، نظير استعماله في مجموع معانيه ويتوقّف صحّته على وجود العلاقة المصحّحة فلا يكون من محلّ النزاع في شيء ولا ينطبق عليه الأقوال الموجودة في المسألة.

فالحقّ خروج ذلك عن محلّ النزاع أيضا ، وإنّما البحث في استعماله في كلّ من معنييه أو معانيه على نحو آخر.

وتوضيح المقام : أنّ استعمال المشترك في المعنيين يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يستعمل في المعنيين معا فيندرج فيه كلّ منهما على نحو اندراج الآحاد تحت العشرة مثلا ، وحينئذ فقد يكون الحكم منوطا بكلّ منهما بحيث يكون كلّ من المعنيين متعلّقا للإثبات والنفي ، كما قد يناط الحكم بكلّ من آحاد العشرة إذا اسند حكم اليها.

وقد يكون منوطا بالمجموع من حيث المجموع.

وهذان الوجهان مشتركان في استعمال اللفظ في المعنيين معا ، إلّا أنّه قد انضمّ الى كلّ منهما اعتبار غير ما في الآخر حيث اسند الحكم بملاحظته الى كلّ منهما في الأوّل ، والى المجموع في الأخير.

٥٠٧

ويوضح الحال في ذلك : ملاحظة العشرة إذا اسند الحكم اليها على الوجهين لاستعمالها في معناها على الصورتين ، إلّا أنّه يختلف الحال في ملاحظتها في المقامين.

وكذا الحال في التثنية ، فإنّ مدلولها الفردان وكلّ منهما جزء مدلوله قطعا ومع ذلك فقد يناط الحكم بهما على سبيل الاجتماع ، وقد يناط بكلّ واحد منهما ، والمفهوم المراد منها واحد في الصورتين إلّا أنّ هناك اختلافا في الملاحظة يترتّب عليه ذلك.

ثانيها : أن يستعمل في مفهوم كلّ منهما على نحو استعمال العامّ في معناه ، فيكون ما استعمل فيه عبارة عن مفهوم إجمالي شامل لهما وهو ككلّ من المعنيين مفهوم مستقلّ ، ومن البيّن مغايرته لكلّ منهما.

ثالثها : أن يستعمل في كلّ من المعنيين على سبيل الاستقلال والإنفراد في الإرادة بأن يراد به هذا المعنى بخصوصه مرة ، والآخر اخرى فقد استعمل حينئذ في كلّ من المعنيين مع قطع النظر عن استعماله في الآخر.

والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها أنّ كلّا من المعنيين على الاولى ليس ممّا استعمل فيه اللفظ مستقلّا بل المستعمل فيه هو الأمر الشامل لهما كما في العامّ ، إذ من البيّن أنّ لفظ «العامّ» إنّما يستعمل في معنى واحد هو العموم ، وكلّ واحد من الأفراد مراد منه تبعا وضمنا من حيث الاندراج في المعنى المذكور على نحو يشبه إرادة الأجزاء من المستعمل في الكلّ المجموعي.

وأمّا في هذه الصورة فكلّ واحد من المعنيين قد استعمل فيه اللفظ مستقلّا مع قطع النظر عن إرادة الآخر من غير أن يستعمل في مفهوم كلّ منهما الشامل لهما ، فالمفروض هناك استعماله في مفهوم كلّ منهما من غير أن يكون مستعملا في خصوص كلّ منهما ، كما هو الشأن في العامّ الاصولي بالنسبة الى جزئياته ، لوضوح عدم استعمال العامّ في خصوص شيء من الأفراد ، والمفروض في هذه استعماله في خصوص كلّ من المعنيين مستقلّا من غير تبعيّته لاستعماله في

٥٠٨

مجموع الأمرين ولا لاستعماله في مفهوم كلّ منهما الشامل لهما ، نعم يتبعه صدق هذا المفهوم فالأمر هنا على عكس العامّ.

وهذه الصورة هي محلّ البحث في المقام ، وهو المراد من استعماله في كلّ من المعنيين ، فيكون الاستعمال المذكور بمنزلة استعمالين ، فهناك إرادتان مستقلّتان من اللفظ يتعلّق كلّ منهما بأحد المعنيين ، فاللفظ حينئذ مستعمل في معنيين مطابقيين ، كما أنّ دلالته على كلّ منهما على سبيل المطابقة.

وأمّا في الصورة الاولى فقد اريد من اللفظ المعنيان معا ولم يرد خصوص كلّ منهما إلّا بالتبع ، فلا يكون الموضوع له بكلّ من الوضعين إلّا جزء من المراد ، ومن البيّن أنّه ليس هناك وضع ثالث بإزاء المعنيين ، ولا يلزم الوضع لهما من ذينك الوضعين فيكون الاستعمال فيهما مجازا قطعا ، سواء اخذ كلّ من المعنيين مناطا للحكم أو لا.

وكذا الحال في الصورة الثانية ، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ كلّا من المعنيين في الاولى مندرج تحت المستعمل فيه اندراج الجزء تحت الكلّ ، وفي الثانية اندراج الخاصّ تحت العامّ الاصولي ، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له في شيء منهما ، ويتبع صحّة استعماله فيهما وجود العلاقة المصحّحة حسب ما عرفت ، وملاحظة كلماتهم في المقام تنادي بما قلناه.

وممّا يوضح ذلك أنّ استعمال المشترك فيهما على نحو دلالته عليهما ، فكما أنّه يدلّ على كلّ من المعنيين مستقلّا من غير ملاحظة لغيره أصلا كذا يراد استعماله فيه على ذلك النحو ، ولا يتصوّر ذلك إلّا على ما بيّناه ، فهناك وحدة في الإرادة بالنسبة الى كلّ من المعنيين ؛ إذ لا يراد بملاحظة كلّ وضع إلّا معنى واحدا إلّا أنّ هناك انضماما بين الإرادتين ، فما يظهر من غير واحد من الأفاضل من كون محلّ النزاع من الصورة الثانية بيّن الفساد.

وقد نصّ بعضهم في بحث استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ـ في ردّ احتجاج القائل بالمنع بكون المجاز ملزوم القرينة المانعة المعاندة لإرادة الحقيقة ،

٥٠٩

فيلزم الجمع بين المتنافيين ـ ما لفظه : المعتبر في المجاز نصب القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي في هذه الإرادة بدلا عن المعنى المجازي ، وأمّا لزوم كون القرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي بإرادة اخرى منضمّة الى إرادة المعنى المجازي فهو ممنوع بل هو عين النزاع.

وهذا كما ترى صريح فيما قلناه ، ومن البيّن أنّ محلّ النزاع في المقامين من قبيل واحد.

وإذ قد عرفت أنّ المناط في محلّ النزاع كون كلّ من المعنيين ممّا استعمل فيه اللفظ واريد منه على سبيل الاستقلال من غير تبعية واندراج تحت كلّ أو عامّ فهو حينئذ يعمّ ما إذا كان كلّ من المعنيين مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي ، أو كان الحكم متعلّقا بالمعنيين معا.

وتوضيح المقام : أنّ هناك استقلالا في الإرادة من اللفظ بأن يكون كلّ من المعنيين مرادا بإرادة مستقلّة واستقلالا في تعلّق الحكم وكونه مناطا للإثبات والنفي ، فالوجوه في المقام أربعة :

إذ قد يكون كلّ من المعنيين مستقلّا في الإرادة مستقلّا في تعلّق الحكم.

وقد يكون كلّ منهما مستقلّا في الأوّل دون الثاني.

وقد يكون بالعكس.

وقد لا يكون مستقلّا في شيء منهما ، ويعرف الجميع من ملاحظة ما قدّمناه ، والصورتان الاوليان محلّ النزاع في المقام ، بخلاف الأخيرتان.

فإن قلت : إذا كان كلّ من المعنيين مستقلا في الإرادة من اللفظ فكيف يتصوّر كون الحكم منوطا بالمجموع؟ لقضاء ذلك بكون الكلّ مرادا من حيث هو كلّ ، وهو خلف.

قلت : لا منافاة أصلا ، إذ لا ملازمة بين إرادة كلّ من المعنيين بإرادة مستقلّة وكون الحكم منوطا بهما معا ، إذ الاستقلال في الأوّل إنّما يلاحظ بالنظر الى الإرادة من اللفظ والثاني بالنسبة الى تعلّق الحكم والإسناد ، فقد يكون المعنيان مرادين

٥١٠

استقلالا إلّا أنهما يلاحظان معا من حيث وقوع الحكم عليهما.

ألا ترى أنّك إذا قلت : قتل زيد و «عمرو بكرا» فقد أردت من كلّ من اللفظين معناه بإرادة منفردة ، لكنّك أسندت القتل الى المجموع فكذا في المقام ، إذ المفروض وقوع الاستعمال الواحد مقام استعمالين حسب ما ذكرناه.

فقد ظهر بما فصّلناه ما في كلام القوم من الإجمالي في المقام ، وعدم توضيح المرام بما يرفع غشاوة الإبهام عمّا هو محلّ البحث والكلام ، وأنّ ما اعتبروه في المقام من كون كلّ من المعنيين مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي ليس في محلّه.

وكذا ما ذكروه من إناطة الحكم بالمعنيين معا في الوجه الرابع حيث جعلوه وجه الفرق بين الوجهين الأخيرين ، بل أكثر كلماتهم في تحرير محلّ النزاع لا يخلو ظاهره عن إيراد كما لا يخفى على الناظر فيها بعد التأمّل فيما قرّرنا.

وظهر أيضا ممّا قرّرنا أنّ استعمالات المشترك ترتقي الى ثمانية.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكرناه في بيان محلّ النزاع إنّما يتمّ بالنسبة الى المفرد وأمّا في التثنية فلا يصحّ ذلك ، إلّا إذا قرّر النزاع فيها بإرادة الفردين من كلّ من المعنيين أو المعاني التي يراد من مفردها ، ليكون المراد بها الأربعة أو الستّة ، وهكذا على النحو الذي قرّرنا.

والظاهر أنّهم لم يجعلوا ذلك محلّا للنزاع بالنسبة اليها بل اكتفوا فيها بمجرّد إرادة المعنيين ، فيكون تعدّد المعنيين بأنفسهما كافيا فيما يعتبر من التعدّد في مدلولها ، أو يكون المراد بها الفردين ولو كانا من معنيين ، والثاني إنّما يتمّ في غير الأعلام.

وكيف كان ، فليس الاستعمال هناك في معنيين مطابقيين كما هو المفروض في المفرد ، لاعتبار الإثنينية في أصل وضع التثنية والمفروض انتفاء التعدّد بالنسبة اليها وانّما اعتبر في معناه الأفرادي الذي هو جزء مدلولها ، فمرجع النزاع فيها الى أنّه هل يجوز بناء التثنية من معنيين مختلفين أو لا بدّ في بنائها من اتحاد المعنى ،

٥١١

وهي مسألة أدبية لا مدخل لها في استعمال المشترك في معنييه على النحو المذكور.

وقد يقال بأنّ في التثنية وضعين أحدهما بالنسبة الى مفردها ، والآخر بالنسبة الى علامة التثنية اللاحقة لها ، والاشتراك الحاصل فيها إنّما هو بالنسبة الى الأوّل وهو المقصود بالبحث في المقام ، وأمّا وضعها الآخر فهو خارج عن محلّ الكلام ، إذ لا اشتراك بالنسبة اليه.

نعم ، لو كان التعدّد مأخوذا فيها بملاحظة وضع واحد قام الإشكال ، إلّا أنّه ليس الحال فيها على ذلك ، فالنزاع جار فيها على نحو المفرد من غير فرق.

ويشكل بأنّ كلّا من الإثنين ملحوظ في التثنية ، على أنّه بعض المراد.

فالتعدّد المستفاد من وضع العلامة إن كان ملحوظا بالنسبة الى نفس المعنيين فمع خروجه عن وضع تلك العلامة قطعا يخرج ذلك عن محلّ البحث ، لكون كلّ من المعنيين إذن بعضا من المراد.

وإن كان ملحوظا بالنسبة الى الفردين فإن لوحظ ذلك بالنسبة الى كلّ من المعنيين لزم ما قلناه أولا من كون المراد بها على القول بالجواز هو الأربعة أو الستّة ... وهكذا ، والظاهر أنّهم لا يقولون به كما هو ظاهر ما احتجّوا له.

وإن لوحظ كلّ من ذينك الفردين بالنسبة الى معنى غير ما لوحظ في الآخر ففيه أنّه لا يمكن حينئذ إرادة كل من المعنيين على سبيل الاستقلال أيضا حسب ما اعتبرناه في محلّ الخلاف ، إذ المفروض كون دلالتها على كلّ من الفردين على سبيل التضمّن ، والمفروض أيضا ملاحظة كلّ من المعنيين في إرادة الفردين ، فيكون المعنيان مرادين على حسب إرادة الفردين.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه فلا يجري الكلام فيها فيما إذا اريد بها ما يزيد على المعنيين، مع أنّ محلّ البحث في المفرد يعمّ ذلك قطعا ، فالتثنية أولى بالشمول ، إلّا أنّ الظاهر تقييد النزاع فيها بخصوص الاستعمال في المعنيين.

فظهر من جميع ما قرّرناه أنّ محلّ البحث فيها غير محلّ البحث في المفرد ، فمرجع النزاع فيها ما قلناه من الاكتفاء في بنائها بمجرّد الاتفاق في اللفظ من غير

٥١٢

حاجة الى اعتبار الاتحاد في المعنى ، أو يعتبر فيه ذلك أيضا.

ويجري الإشكال المذكور أيضا في الجمع مصحّحه ومكسّره ، غير أنّه لا يجري فيه الإشكال المذكور أخيرا.

والظاهر أنّ محل النزاع فيه على نحو التثنية في الاكتفاء فيه بالاتفاق في اللفظ أو اعتبار الاتفاق في المعنى أيضا ، فتأمّل في المقام جيّدا.

قوله : (لنا على الجواز انتفاء المانع ... الخ)

قد يورد عليه تارة بأنّ مجرّد انتفاء المانع غير كاف في إثبات المقصود من غير إثبات المقتضي ، فاللازم أولا إثبات وجود المقتضي ثمّ بيان انتفاء المانع حتّى يتمّ الاحتجاج.

وتارة بأنّ الحكم بانتفاء مطلق المانع من جهة انتفاء خصوص ما توهّمه المانعون غير متّجه ؛ إذ انتفاء الخاصّ لا يدلّ على انتفاء المطلق ، فلعلّ هناك مانعا آخر وبمجرّد الاحتمال لا يتمّ الاستدلال.

وقد يجاب عن الأوّل بأنّ المهمّ في المقام هو إثبات ارتفاع المانع ، لوضوح وجود المقتضي من جهة حصول الوضع بالنسبة الى كلّ من المعنيين القاضي بصحّة الاستعمال لو لا المانع ، أو من جهة أصالة الجواز ، فتركه ذكر وجود المقتضي من جهة ظهوره لا للاكتفاء في ثبوت المدّعى بمجرد رفع المانع.

وفيه : أنّ دعوى كون الوضع مقتضيا لجواز الاستعمال في المعنيين في محلّ المنع فضلا عن كمال ظهوره ، إذ غاية ما يلزم منه كونه مصحّحا لجواز الاستعمال في كلّ من المعنيين على سبيل البدل ، وأمّا كونه مصحّحا للاستعمال في المعنيين معا فهو في مرتبة الدعوى.

ودعوى قضاء الأصل فيه بالجواز ممنوعة أيضا ، إذ جواز الاستعمال المذكور من الامور التوقيفية المتوقّفة على توقيف الواضع وظهور جوازه من اللغة إمّا لقضاء دليل خاصّ ، أو عامّ به ، فقضية الأصل إذن قبل ثبوته هي المنع ، وسيتّضح لك إن شاء الله تعالى أنّ وجود المقتضي في المقام غير ظاهر إن لم نقل بظهور خلافه.

٥١٣

وعن الثاني بأنّ المسألة لغوية مبنية على الظنّ فاذا انتفى المانع الّذي ادّعاه المانعون بعد بذل وسعهم في ملاحظة الموانع حصل الظنّ بانتفاء المانع مطلقا ، إذ لو كان هناك مانع لاهتدوا اليه مع مبالغتهم في تحصيله ، فمجرّد احتمال مانع لم يهتد اليه أحد خلاف الظاهر ، على أنّه مدفوع بالأصل.

وفيه : أيضا تأمّل لا يخفى.

قوله : (تبادر الوحدة منه ... الخ)

قلت : من الظاهر أنّ الوحدة التي يدّعي اعتبارها في المقام ليس مفهوم الوحدة ، ولا الوحدة اللازمة للشيء المساوقة لوجوده ، ولا الوحدة الطارئة عليه من جهة عدم وجود ثان أو ثالث معه وانّما الوحدة الّتي تدّعى في المقام هي وحدة المعنى بالنسبة الى كونه مستعملا فيه ومرادا من اللفظ.

فظهر أنّ اعتبار المصنّف للوحدة في الموضوع له وعدم اعتبار غيره لها لا ينافي وضع أسماء الأجناس للطبائع المطلقة المعرّاة عن الوحدة والكثرة ووضع النكرات للفرد المنتشر الذي لوحظ فيه الوحدة المطلقة ؛ إذ الوحدة الملحوظة هناك وجودا وعدما هي الوحدة الملحوظة في الطبيعة بالنسبة الى أفرادها ، فيراد في الأوّل وضعه للطبيعة المطلقة من غير ملاحظة شيء من أفرادها من حيث الوحدة أو الكثرة ، وفي الثاني وضعه للفرد الواحد من الطبيعة ، والوحدة الملحوظة في المقام كما عرفت هو كون المعنى الموضوع له منفردا في الإرادة ، بأن لا يضمّ اليه معنى آخر في الإرادة من اللفظ ، فلا منافاة بين ما ذكر في المقامين في شيء من الوجهين.

ثمّ إنّ اعتبار الوحدة في المقام يمكن تصويره بوجوه :

أحدها : أن يكون وحدة المعنى في إرادته من اللفظ جزءا من المعنى الموضوع له ، بأن يكون اللفظ موضوعا بإزاء ذات المعنى وكونه منفردا في الإرادة ، فيكون الموضوع له مركّبا من الأمرين المذكورين ـ أعني نفس المعنى وصفتها المفروضة ـ وهذا هو الذي اختاره المصنّف.

٥١٤

ثانيها : أن يكون الموضوع له هو ذات المعنى مقيّدة بكونها في حال الوحدة المذكورة ، فلا تكون الوحدة جزءا من الموضوع له بل تكون قيدا فيه.

ثالثها : أن تكون الوحدة المذكورة قيدا في الوضع ويكون الموضوع له هو نفس المعنى لا بشرط شيء ، فالواضع قد اعتبر في وضعه اللفظ للمعنى أن يكون المعنى منفردا في إرادته من اللفظ واستعماله فيه.

رابعها : أن يكون الوضع حاصلا في حال الوحدة من غير أن يكون الموضوع له هوالمعنى مع الوحدة ولا بشرط الوحدة ، فيكون المعنى الحقيقي للمفرد هو المعنى في حال الوحدة ، إذ هو القدر الثابت من الوضع له ، وحينئذ فيكون استعماله في المعنى في غير حال الوحدة خروجا عمّا علم وضع اللفظ له.

أمّا الوجه الأوّل ففيه بعد القطع بأنّ الموضوع له هو ذات المعنى من غير أن يكون جزءا ممّا وضع اللفظ له أن إنفراد المعنى في الإرادة من طوارئ الاستعمال والصفات الحاصلة للمستعمل فيه عند استعمال اللفظ فيه ، وليس مدلولا للّفظ فكيف يعقل كونه جزءا ممّا وضع اللفظ له؟ والتبادر الّذي ادّعاه في المقام لا دلالة فيه على ذلك أصلا ، إذ ليس المتبادر من اللفظ هو المعنى ووحدته في الإرادة بحيث ينتقل من اللفظ الى الأمرين معا حتّى يكون كلّ منهما جزءا ممّا استعمل اللفظ فيه ؛ إذ ذلك ممّا يقطع بفساده ، بل لا يخطر الوحدة غالبا بالبال عند سماع اللفظ ، كيف! ولو كان ذلك جزءا من الموضوع له لزم فهمه حال الإطلاق وانسباق الأمرين الى الذهن ، إذ المفروض وضع اللفظ بإزائهما بل المتبادر منه هو المعنى الواحد وهو غير ما ذكره ، فإنّ الوحدة حينئذ قيد للمعنى في وجه لا أنّه جزء له وذلك لا يستلزم إحضار الوحدة بالبال ، إذ انسباق ذات المعنى المتّصف بالوحدة حال الانسباق كاف فيه لحصول القيد بذلك ، بخلاف ما لو كان موضوعا للأمرين للزوم فهمهما إذن حسب ما عرفت.

وأمّا الوجه الرابع ففيه أنّ وضع اللفظ للمعنى في حال الإنفراد لا بشرط الإنفراد المأخوذ في الوضع أو الموضوع له لا يفيد شيئا في المقام.

٥١٥

والقول بعدم ظهور شمول الوضع له حينئذ مطلقا بل في حال انفراده فلا يعلم تعلّقه به في صورة اجتماعه مع غيره فلا بدّ من الاقتصار على ما علم تعلّق الوضع به وهو خصوص حال الانفراد ولا يجوز التعدّي عنه لكون الوضع توقيفيا.

مدفوع بأنّ مجرّد تعلّق الوضع به في حال الانفراد لا يقضي بالاقتصار عليه مع عدم كون الوضع بشرط الانفراد على أحد الوجهين المذكورين ، ضرورة كون ذات المعنى حينئذ متعلّقا للوضع ، وهو حاصل في الحالين.

ومجرد حصول صفة له حال الوضع لا يقضي باختصاص وضعه لذلك المعنى بتلك الحالة الخاصّة مع عدم اعتبار الواضع لتلك الخصوصية قيدا في المقام.

وكون الوضع توقيفيا لا يقضي بالاقتصار عليه مع الاعتراف بكون اللفظ موضوعا لذلك المعنى لا بشرط الانفراد.

كيف! ولو كان وجود صفة في حال الوضع باعثا على الاقتصار في الوضع على ذلك لزم عدم صدق الأعلام الشخصية على مسمّياتها بعد تغيير الحالة الحاصلة لها حين الوضع ، إلّا مع ملاحظة الواضع تعميم الوضع لسائر الأحوال في حال الوضع ، وهو ممّا لا يتوهّمه أحد في المقام ، ولو فرض ذهول الواضع عن تعميم الوضع بل ملاحظته لذات المعنى لا بشرط شيء كاف في التعميم المذكور.

فعلم بما قرّرنا أنّ عدم شمول الوضع في المقام لحال اجتماع المعنى مع غيره متوقّف على اعتبار أحد الوجهين المتوسّطين ، والمآل فيهما واحد ، وسيجيء القول فيهما وفيما هو التحقيق في المقام إن شاء الله.

قوله : (بأن يراد في إطلاق واحد ... الخ)

قد عرفت أنّ مجرّد ذلك غير كاف في المقام بل لا بدّ مع ذلك من تعدّد الإرادة ، بأن يكون كلّ منهما مرادا على سبيل الاستقلال مع قطع النظر عن الآخر ، فمجرّد إرادة المعنيين بإرادة واحدة من اللفظ ولو كان كلّ منهما مستقلّا في تعلّق الحكم غير محلّ النزاع ؛ إذ ليس المستعمل فيه إذن إلّا المعنيين معا ، وليس اللفظ موضوعا بإزائهما قطعا وتعلّق الوضع بكلّ منهما لا يقضي بكون المعنيين معا

٥١٦

موضوعا له أيضا ، ضرورة عدم تعلّق شيء من الوضعين به.

والحاصل : أنّه لا فرق بينه وبين ما إذا تعلّق الحكم بالمجموع أصلا ، إلّا بمجرّد الاعتبار كما مرّ.

ثمّ إنّ اعتبار استقلالهما في تعلّق الحكم كما اعتبره قد نصّ عليه جماعة منهم ، وقد عرفت أيضا أنّه ممّا لا وجه له ، فهم قد أهملوا ما هو المناط في محلّ النزاع أعني الاستقلال في الاستعمال والإرادة من اللفظ ، واعتبروا ما لا يعتبر فيه ، وهو الاستقلال في تعلّق الحكم ، فلا تغفل.

قوله : (وهو غير مشترط بما اشترط في عكسه)

قد عرفت فيما تقدم أنّه لا عبرة بخصوص شيء من أنواع العلائق المعروفة المذكورة في كلمات المتأخّرين ، بل إنّما يتبع جواز التجوّز وجود العلاقة التي لا يستهجن استعمال اللفظ الموضوع لغير المعنى المفروض في ذلك المعنى من جهتها ، وذلك هو المناط في صحّة التجوّز ، وهو غير حاصل في المقام ؛ لظهور متروكية الاستعمال في المعنيين على النحو المذكور وعدم جريانه مجرى الاستعمالات الجارية في كلامهم ، فعلى فرض كون المراد من اللفظ حينئذ مغايرا لما وضع له كيف يصحّ التجوّز بالنسبة اليه؟

ومع الغضّ عمّا ذكرناه فلا ريب في عدم ثبوت الإطّراد في أنواع العلاقات ليحكم بصحّة الاستعمال كلّما تحقّق شيء منها ، بل لا بدّ من ملاحظة عدم استهجان الاستعمال في المحاورات ، وحينئذ فكيف يصحّ الاستناد الى مجرّد وجود نوع العلاقة مع الإعراض عنه في الاستعمالات؟.

قوله : (إنّهما في قوّة تكرير المفرد ... الخ)

إن أراد أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف مطلقا فممنوع ؛ إذ غاية ما يسلّم من ذلك كونهما في قوّة تكرير المفرد في إفادة التعدّد في الجملة ، وإن أراد أنّهما في قوّة ذلك في الجملة فلا يفيده شيئا ؛ إذ هو ممّا لا كلام فيه.

قوله : (والظاهر اعتبار الاتفاق في اللفظ ... الخ)

٥١٧

ظاهر كلامه أنّ ذلك مقدّمة مستقلّة لا أنّه متفرّع على ما ادّعاه أولا ، وحينئذ فنقول: إنّه إن ثبت ما استظهره في المقام فلا حاجة الى ضمّ المقدّمة الاولى ولا الثالثة ؛ إذ مع ثبوت الاكتفاء في بنائهما بالاتفاق في اللفظ يتمّ ما ادّعاه من الاستعمال فيما يزيد على المعنى الواحد.

ثمّ إنّ ما استظهره من الاكتفاء بالاتفاق في اللفظ غير ظاهر ، ومعظم أهل العربية ذهبوا الى المنع منه ، والظاهر المتبادر منهما في العرف هو الفردان أو الأفراد من جنس واحد، بحيث لا يكاد يشكّ في ذلك من تأمّل في الإطلاقات.

وأيضا قد أشرنا سابقا الى أنّ الظاهر أنّ لعلامتيّ التثنية والجمع وضعا حرفيا مغايرا لوضع مدخوليهما ، كما هو الحال في وضع التنوين ، فهي حروف غير مستقلّة لفظا ومعنى لا حقة لتلك الالفاظ ، لإفادة معاني زائدة حاصلة في مدخوليهما ، كما هو الحال في وضع سائر الحروف فلا يكون مفادها منافيا لما يستفاد من مدخولها فعلى هذا ينبغي أن يكون التعدّد المستفاد منها غير مناف للوحدة الملحوظة في مفردها على ما ادّعاه ، فاذا جعلنا التعدّد المستفاد من تلك العلامات بالنظر الى حصول ذلك المعنى في ضمن فردين أو أفراد ـ كما هو الظاهر ـ فلا منافاة بينهما أصلا ، ولا إشارة فيهما إذن الى تعدّد نفس المعنى.

وأمّا على ما ذكره من إفادة التعدّد مطلقا فالمنافاة ظاهرة فيما لو كان التعدّد بسبب الاختلاف في نفس المعنى ، وأيضا لو اريد المعنيان أو المعاني المتعدّدة من المفرد المدخول لتلك العلامات كان التعدّد مستفادا من المفرد بنفسه ، فلا تكون العلامة اللاحقة مفيدة لمعنى جديد على نحو غيرها من الحروف اللاحقة ، فإنّها إنّما وضعت لبيان حالات لاحقة لمدخولها أو متعلّقها ممّا لا يستفاد ذلك إلّا بواسطتها ، كما في : «سرت من البصرة الى الكوفة» لدلالة «من» و «الى» على الابتداء والانتهاء ، وهما حالان لمدخوليهما أو لمتعلّقهما.

وربما يتكلّف لتصحيح ذلك بما مرّت الإشارة اليه ، إلّا أنّه لا يلائم ظاهر كلام المصنّف ، كما عرفت وسنشير اليه إن شاء الله تعالى.

٥١٨

قوله : (وتأويل بعضهم له بالمسمّى تعسّف بعيد)

ما اختاره المصنف في ذلك ظاهر في اكتفائه في التعدّد المستفاد من التثنية والجمع بتعدّد نفس مدلول اللفظ ، من غير دلالته على تعدّد المصداق ، وهو في غاية البعد من العرف ولا يوافق ما هو المعروف في وضع الحروف كما مرّ.

إلّا أن يقال بثبوت وضع خاصّ لمجموع المفرد والعلامة اللاحقة له ، من غير أن يكون هناك وضع حرفي لخصوص العلامة اللاحقة ، كما هو الشأن في الجموع المكسّرة ، وهو بعيد.

وغاية ما يمكن أن يتكلّف في المقام أن يقال : إنّ العلامة المذكورة إنّما تفيد تعدّد الفرد، سواء كان ذلك الفرد المتعدّد من جنس واحد أو أزيد.

وهذا كما ترى غير جار في تثنية الأعلام وجمعها ، فلا مناص فيهما من التوجيه فلا يتّجه الاحتجاج بهما في المقام. ٢

وأيضا لا شكّ في كون تثنية الأعلام وجمعها نكرة حسب ما اتفقت عليه النحاة ، ويدلّ عليه دخول لام التعريف عليهما وخروجهما عن منع الصرف ، فليست تلك الأعلام باقية على معانيها كما هو مناط الاستدلال ، فيكون المراد بها مفهوم المسمّى بذلك ، وهو معنى شائع في الأعلام كما في : «مررت بأحمدكم وبأحمد آخر» فيراد من علامتي التثنية والجمع ما يراد من غيرها فالخروج عن ظاهر الوضع إنّما هو في مدخول العلامة لا فيها.

فما ذكره من أنّ التأويل المذكور تعسّف بعيد ليس في محلّه ، بعد ما عرفت من قيام الدليل عليه.

مضافا الى تصريح جماعة من أساطين النحاة به ، بل لا يبعد كونه المنساق منها في العرف عند التأمّل حيث إنّ لحوق تلك العلامات قرينة دالّة عليه.

قوله : (فكما أنّه يجوز ... الخ)

قد عرفت أن هذه المقدّمة لا حاجة اليها بعد استظهار الاكتفاء بالاتفاق في اللفظ ، وكأنّها منضمّة الى المقدّمة الاولى ومتفرّعة عليها ، فإنّه لما ادّعى كونهما في

٥١٩

قوّة تكرير المفرد بالعطف فرّع عليه أنّه كما يجوز إرادة المعاني المتعدّدة من الالفاظ المتّحدة المتعاطفة فكذا ما بمنزلتها ، فهاتان المقدّمتان تفيدان الاكتفاء بالاتفاق في اللفظ في بنائهما ، فهذا في الحقيقة وجه آخر لما ادّعاه من الاكتفاء بالاتفاق في اللفظ ، وحينئذ فلا يخفى ما في تعبيره من الاضطراب.

وأنت خبير بأنّ الدعوى المذكورة في محلّ المنع وحمل التعدّد المستفاد من التثنية والجمع على التعدّد المستفاد من الالفاظ المتّحدة المتعاطفة قياس في اللغة ، وهو بخصوصه فاسد سيما بعد عدم مساعدة العرف عليه وظهور خلافه منه.

وأيضا ليست التثنية إلّا بمنزلة لفظين متعاطفين فجواز استعمال كلّ واحد منهما في معنى مغاير للآخر بطريق الحقيقة إنّما يفيد جواز استعمال التثنية في معنيين ، مع أنّ محلّ النزاع في المسألة يعمّ ما فوق الواحد من معاني المشترك ، سواء كان معنيين أو أكثر بل لا فارق بين المعنيين وما زاد عليهما بالنسبة الى المفرد ، فلا ينبغي نقص التثنية عنه مع اعتبار التعدّد فيها في الجملة.

والدليل المذكور كما ترى غير ناهض عليه ، بل من الواضع خلافه ؛ إذ لم يعهد في اللغة والعرف إطلاقها على الثلاثة والأربعة وما زاد عليها ، فلا يصحّ إطلاق القول بكونها حقيقة مع استعمالها في الأزيد من معنى واحد ، كما هو الظاهر من تحريرهم لمحلّ النزاع ، وقد يقيّد النزاع فيها بخصوص المعنيين كما مرّت الإشارة اليه ، إلّا أنّه مناف لما أشرنا اليه.

وإذ قد عرفت ضعف ما ذكره المصنف في المقامين تبيّن قوّة القول بالمنع مطلقا ، وقد ظهر الوجه فيه ممّا قرّرناه إجمالا ، إلّا أنّا نوضّح الكلام في المقام بما يتبيّن به حقيقة المرام.

ولنفصّل ذلك برسم امور :

أحدها : أنّك قد عرفت ضعف القول بكون الوحدة جزءا من الموضوع له ، وكذا عدم ثمرة للقول بوضعها لمعانيها في حال الإنفراد مع البناء على عدم تقييد الوضع أو الموضوع له بذلك.

٥٢٠