هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٥

مرآة لملاحظة ما تعلّقت بها ، وحينئذ فليس الملحوظ بالدلالة إلّا الامور الخارجيّة بالمعنى المذكور من غير أن يكون الصورة ملحوظة أصلا ؛ إذ ذلك قضيّة كونها مرآة فإنّ ذات المرآة غير منظور إليها أصلا في لحاظ كونها مرآة ، فغاية ما يستفاد من الوجه المذكور عدم كون الصور الذهنيّة موضوعا لها من حيث ذواتها لا من حيث كونها مرآة لملاحظة غيرها.

قلت : هذا الاحتمال وإن صحّ قيامه في المقام في بادئ الرأي إلّا أنّه فاسد بعد التأمل في العرف ؛ لصحّة السلب عنها ولو بملاحظة كونها مرآة ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال في العرف : إنّ الصورة الحاصلة من التمر في الذهن ليس تمرا وإن اخذت مرآة لملاحظة الحقيقة الخارجيّة ، من غير أن تكون ذات الصورة ملحوظة أصلا.

وبالجملة : أنّه يصحّ سلب التمر ـ مثلا ـ عن الصورة الذهنيّة مطلقا سواء اخذت ملحوظة بنفسها أو مرآة لملاحظة غيرها.

ثالثها : أنّ المعاني التي يحتاج الى التعبير عنها في المخاطبات إنّما هي تلك المفاهيم على الوجه المذكور ، دون صورها الذهنيّة أو وجوداتها الخارجيّة ، وانّما وجودها في الخارج من جملة أحوالها ، فينبغي أن تكون الألفاظ موضوعة بإزائها.

نعم ، الوجودات الخارجيّة أو الذهنيّة قد تكون مقصودة بالإفادة والموضوع بإزائها هو لفظ الوجود ، لا بأن يكون موضوعا لعين الوجود الخارجي أو الذهني ؛ لعدم إمكان حصول الوجود الخارجي في العقل ، ولا حصول الوجود الذهني الحاصل في ذهن في آخر ، ومن البيّن أنّ الغرض من وضع الألفاظ هو حصول المعنى في الذهن بواسطة اللفظ بل بوجه من وجوهه ، أعني المفهوم المذكور الصادق عليه وهو عنوان كاشف عنه ومرآة لملاحظته ، وقد تقرّر في محلّه أنّ المعلوم بالوجه إنّما يتعلّق العلم حقيقة بذلك الوجه ، فليس الموضوع له هناك أيضا إلّا المفهوم.

حجّة القول بوضعها للامور الخارجيّة أنّ من قال : أكلت الخبز ، وشربت الماء ،

٣٤١

واشتريت العبد ، وبعت الدابّة ، وخرجت من الدار ، ودخلت البلد ... الى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة إنّما يريد من تلك الألفاظ الامور الخارجية كما هو ظاهر من ملاحظة الخطابات العرفيّة ، فلو كانت هي الموضوع لها فهو المدّعى وإلّا لزم أن تكون تلك الاستعمالات كلّها مجازات ، من جهة مشاكلة تلك الامور الخارجيّة لصورها الذهنيّة ، وهو واضح الفساد ؛ لأدائه الى انسداد باب الحقيقة والتزام التجوّز في جميع الألفاظ المتداولة ، وهو مع مخالفته للأصل ضرورة كون الأصل في الاستعمال الحقيقة باطل بالاتفاق.

ويمكن الإيراد عليه من وجوه :

أحدها : المنع من استعمال تلك الألفاظ في الامور الخارجيّة ، بل إنّما استعملت في الامور الذهنيّة من حيث كونها مرآة للامور الخارجيّة ، فالانتقال من تلك الألفاظ الى الامور الخارجية بواسطة تلك الصور الذهنيّة ، فقضيّة الدليل المذكور إبطال القول بوضعها للامور الذهنيّة من حيث حصولها في الذهن ، وذلك ممّا لا يتوهّمه أحد في المقام كما مرّ.

وأمّا وضعها للصور الذهنيّة من حيث كونها مرآة لملاحظة الامور الخارجيّة وآلة موصلة اليها فلا ؛ إذ غاية ما يسلّم من ملاحظة الأمثلة المذكورة وغيرها هو كون الحكم واقعا على الامور الخارجيّة ، وهو لا يستلزم استعمال اللفظ فيها ؛ إذ قد تكون تلك الألفاظ مستعملة في تلك الصور الموصلة الى تلك الامور حيث جعلت مرآة لملاحظتها فوقع الحكم عليها.

ثانيها : المعارضة بالألفاظ المستعملة في المعدومات من الممتنعات وغيرها ، كشريك الباري ، واجتماع النقيضين ، والعنقاء ، وذي الرؤوس العشرة من الإنسان ونحوها ، فإنّ استعمالها في معانيها حقيقة قطعا ولا وجود لشيء منها في الخارج حتى يعقل كونها موضوعة للامور الخارجيّة.

ثالثها : المعارضة أيضا بصدق أحكام كثيرة على المفاهيم ممّا لا تحقّق لها إلّا في الذهن، مثل قولك : «الانسان نوع» و «الحيوان جنس» و «الجوهر صادق

٣٤٢

على كثيرين» ونحوها فليس المراد بتلك الموضوعات إلّا المفاهيم الموجودة في الذهن ، ضرورة عدم ثبوت تلك الأحكام لها في الخارج ، ومن المعلوم بعد ملاحظة العرف انتفاء التجوّز فيها.

ويمكن دفع الأوّل بأنّ المفهوم عرفا من تلك الألفاظ في الأمثلة المفروضة ليس إلّا الامور الخارجيّة ابتداء ، فهي مستعملة فيها قطعا لا أن يكون المراد منها الصور الحاصلة في الأذهان الموصلة الى تلك الامور ليكون فهم الامور الخارجيّة بتلك الواسطة ، وذلك أمر معلوم بالوجدان بعد ملاحظة المفهوم من تلك الألفاظ في تلك المقامات.

فإن قلت : لا شكّ أنّ الانتقال هناك الى الامور الخارجيّة إنّما يكون بتوسط الصّور الذهنيّة ؛ لعدم إمكان إحضار نفس الامور الخارجيّة بواسطة الألفاظ المستعملة من غير واسطة ، فمن أين يعلم كون اللفظ مستعملا في الامور الخارجيّة دون الصور الذهنيّة؟ مع أنّ المفروض حصول الانتقال الى الأمرين ، فكما أنّه يحتمل أن تكون مستعملة في الامور الخارجيّة ـ ويكون الانتقال الى الصور الذهنيّة من باب المقدّمة ، حيث إنّه لا يمكن إحضارها إلّا بصورها ـ كذا يحتمل أن تكون تلك الصّور هي المستعمل فيها من حيث إيصالها الى الامور الخارجيّة ، فيتبعها الانتقال الى الخارج ، فإنّ الانتقال الى الصّور من حيث كونها مرآة للخارج يستلزم الانتقال الى الامور الخارجيّة.

قلت : لا ريب أنّ الصور الذهنيّة الحاصلة في المقام غير ملحوظة من حيث كونها صورا حاصلة في الذهن أصلا ، بل ليست ملحوظة إلّا من حيث ملاحظة الخارج بها ، فليس المفهوم من تلك الألفاظ إلّا الامور الخارجيّة وليس الانتقال من اللفظ في ملاحظة السامع إلّا اليها ابتداء غير أنّ الانتقال اليها في الواقع إنّما كان بواسطة صورها وقضيّة ذلك كون حصول الصورة مقدّمة عقليّة للانتقال الى تلك المعاني ، فإنّ دلالة اللفظ على المعنى كونه بحيث يلزم من العلم به العلم بمعناه ، فمعنى اللفظ في الحقيقة غير العلم بمعناه الحاصل من الدلالة ـ أعني

٣٤٣

الصورة الحاصلة ـ فتلك الصورة الحاصلة من ثمرات الدلالة ، لا أنّها نفس المدلول. فتأمّل.

ويمكن دفع الثاني بأنّه إنّما يتمّ المعارضة المذكورة إذا كان المراد من وضع الألفاظ للامور الخارجيّة وضعها لها بحيث يؤخذ وجودها الخارجي جزء للمدلول أو قيدا فيه ، ولو اريد وضعها للامور الخارجيّة بمعنى كون الملحوظ فيها ذلك ولو كان وجودها تقديريّا حسب ما تقدّمت الإشارة اليه فلا نقض بما ذكر. نعم قد يصحّ المعارضة بمثل المعدوم المطلق واللا شيء ونحوهما.

والتزام القائل المذكور بالتخصيص غير بعيد حينئذ ؛ لبداهة عدم إمكان القول بوضعها للامور الخارجيّة ، حيث إنّه لا مصداق لها في الخارج لا محقّقا ولا مقدّرا.

ودفع الثالث بالتزام التجوّز في الألفاظ المذكورة ، ودعوى القطع بعدم كونها إذن مجازات ممنوعة ؛ كيف! ومن الظاهر أنّ المتبادر من الإنسان والحيوان ونحوهما ليس إلّا الامور الخارجيّة ، ويصحّ سلبها قطعا عن الامور الحاصلة في الأذهان ، وحينئذ فكيف يقطع بانتفاء المجاز في المقام مع كون المراد بها المعاني الحاصلة في الأذهان؟ ولو قرّرت المعارضة بالنسبة الى لفظ «النوع» و «الجنس» و «الفصل» ونحوها فهي من الاصطلاحات الخاصّة ، ولا بعد في الالتزام بالتخصيص بالنسبة اليها أيضا.

ولا يذهب عليك أنّ التزام التخصيص في المقام وفيما مرّ مبني على حمل القول بوضعها للامور الخارجيّة على الوجه الثالث ، وأمّا لو اريد به ما قلناه فالإشكال مندفع من أصله ، كما هو ظاهر من ملاحظة ما قرّرناه.

والأولى الإيراد على الدليل المذكور بأنّه غير مثبت للمدّعى ؛ لإمكان القول بوضعها للماهيّات من حيث هي ، ولا تجوّز إذن في إطلاقها على الامور الخارجيّة ؛ لحصول الماهيّات في الخارج ، إلّا أن يدّعى كون تلك الاستعمالات في خصوص الامور الخارجيّة مع ملاحظة الخصوصيّة في المستعمل فيه ، وهو حينئذ محلّ منع ، مضافا الى ما عرفت من كونه أخصّ من المدّعى ؛ لعدم جريانه

٣٤٤

في كثير من الألفاظ ممّا وضع للامور الذهنيّة كالكلّية ونحوها ، وما وضع للأعمّ كالزوجيّة والفرديّة ونحوهما والتزام التخصيص إذن يرجع الى القول بالتفصيل.

حجّة القول بوضعها للامور الذهنيّة امور :

أحدها : أنّ وضع الألفاظ للمعاني إنّما هو لأجل التفهيم والتفهّم ، ومن البيّن أنّ ذلك إنّما يكون بحصول الصور في الذهن ، فليس المفهوم من الألفاظ إلّا الصور الحاصلة ، وهي التي ينتقل اليها من الألفاظ فتكون الألفاظ موضوعة بإزائها وهي مرآة لملاحظة الامور الخارجيّة وآلة لمعرفتها.

ويدفعه أنّ كون التفهيم والتفهّم بحصول الصور لا يستدعي كون الألفاظ موضوعة بإزاء الصور ؛ لجواز أن تكون موضوعة للامور الخارجيّة ويكون الانتقال اليها بواسطة صورها ، ضرورة انحصار طريق العلم بها حينئذ بذلك ، فليس المنتقل اليه إلّا نفس الامور الخارجيّة إلّا أنّ الانتقال اليها بحصول صورها لا أنّ المنتقل اليه هو نفس الصورة ، وهذا هو الظاهر من ملاحظة العرف.

فإن قلت : إنّ الصورة الحاصلة إذا اخذت مرآة للخارج ووضع اللفظ بإزائها من تلك الجهة كان المنتقل اليه أوّلا بحسب الملاحظة هو الأمر الخارج قطعا ، إلّا أنّ المنتقل اليه في الواقع هو الصورة أوّلا ، فكون المنتقل اليه بحسب العرف هو الامور الخارجيّة أوّلا إنّما هو من هذه الجهة ، لا لكون اللفظ موضوعا بإزائها.

قلت : الظاهر تعلّق الوضع بما يحصل الانتقال من اللفظ اليه ابتداء بحسب ما يفهم منه في العرف حسب ما مرّت الإشارة اليه ، ومع الغضّ عنه فمجرّد قيام ما ذكره من الاحتمال كاف في هدم الاستدلال.

ثانيها : أنّها لو لم تكن موضوعة لذلك لما اختلفت التسمية بحسب اختلاف الصور الذهنيّة مع عدم اختلاف الشيء في الخارج ، فدوران التسمية مدار ذلك دالّ على وضعها بإزاء الصور الذهنيّة حيث اختلفت الأسامي باختلافها من دون اختلاف الأمر الخارجي ، يدلّ على ذلك أنّ من رأى شبحا من بعيد يسمّيه إنسانا إذا اعتقده ذلك ، ثمّ إذا عتقده شجرا يطلق عليه اسم الشجر ، ثمّ إذا اعتقده حجرا

٣٤٥

أطلق عليه اسمه من غير خروج عن حقيقة اللفظ في شيء من ذلك ، فلو كانت الألفاظ أسامي للامور الخارجيّة لزم أن يكون إطلاق غير ما هو اسمه في الواقع عليه إمّا غلطا ، أو مجازا مع أنّه ليس كذلك قطعا فتوارد تلك الأسامي عليه على سبيل الحقيقة ، مع كون الحقيقة الخارجيّة متّحدة ليس إلّا لتعدّد الصور المتواردة عليه ، فيكون أوضاعها متعلّقة بالصور الذهنيّة حيث دار الاستعمال الحقيقي مدارها.

وكذا لو ظنّ الأشياء المختلفة في النوع من نوع واحد واطلق اسم ذلك النوع عليها كان حقيقة وإن كانت حقائقها مختلفة متباينة.

فظهر من اختلاف التسمية على سبيل الحقيقة مع اتّحاد الحقيقة الخارجيّة ومن اتّحادها كذلك مع اختلاف الحقيقة في الحقيقة وضع اللفظ بإزاء الصور الذهنيّة دون الامور الخارجيّة حيث كانت التسمية في المقامين تابعة للاولى دون الأخيرة.

واورد عليه بوجوه :

الأوّل : المنع من الملازمة المذكورة ، فليس اختلاف التسمية بحسب اختلاف الاعتقاد لازما للقول بوضعها للامور الذهنيّة ، لاحتمال كونها موضوعة للامور الخارجيّة على حسب اعتقاد المتكلّم ، فغاية ما يلزم من الدليل المذكور بطلان وضعها للامور الخارجيّة المطابقة لنفس الأمر من غير مدخليّة لاعتقاد المتكلّم فيه ؛ إذ لا وجه إذن لتغيّر التسمية مع عدم اختلاف المسمّى بحسب الحقيقة ، وأمّا لو قيل بوضعها للامور الخارجيّة على حسب ما يعتقده المستعمل فلا مانع ، إذ من الظاهر حينئذ دوران التسمية مدار اعتقاد المتكلّم نظرا الى اختلاف الحال في الأمر الخارجي بحسب معتقده.

ويدفعه أنّه إن أراد بوضعها للامور الخارجيّة على حسب اعتقاد المتكلّم أنّها موضوعة بإزاء ما يعتقده المتكلّم خارجيّا حتّى يكون الاعتقاد مأخوذا في وضع الألفاظ فهو راجع الى المذهب الضعيف المتقدّم وإن خالفه في اعتبار خصوص اعتقاد المتكلّم إن اريد اعتباره فيه مطلقا ، وقد قام الدليل القاطع على فساده ، كما مرّت الإشارة اليه.

٣٤٦

وإن أراد به وضعها للامور الذهنيّة من حيث كونها مرآة للخارج فمع بعده عن التعبير المذكور أنّه بعينه مراد القائل بوضعها للامور الذهنيّة ؛ لظهور فساد القول بكونها موضوعة بإزاء الامور الذهنيّة من حيث حصولها في الذهن ، ولا مجال لذهاب أحد اليه حسب ما مرّ بيانه ، فيكون ذلك إذن تسليما لكلام المستدلّ وإرجاعا للقول الآخر اليه.

الثاني : أنّه يجوز أن يكون لفظ الإنسان والشجر والحجر موضوعا للإنسان والشجر والحجر الخارجي ، إلّا أنّ المتكلّم لمّا ظنّ الشبح إنسانا في الخارج أطلق عليه ما هو موضوع له ثمّ لمّا ظنّه شجرا أطلق عليه اسمه ... وهكذا ، فإطلاق اللفظ ليس إلّا باعتبار كون الموضوع له هو الأمر الخارجي.

وفيه أنّ ذلك لا يصحّح الاستعمال ؛ إذ غاية الأمر أن يكون المستعمل معذورا في إطلاقه نظرا الى ظنّه ، وأمّا بعد الانكشاف فلا بدّ من الحكم بكون الاستعمال غلطا ، وملاحظة حدّي الحقيقة والمجاز تنادي به ؛ لعدم اندراجه في شيء منهما ، ومن البيّن انحصار الاستعمال الصحيح فيهما ، مع أنّه من الواضح أيضا خلافه ، إذ ليس شيء من تلك الإطلاقات غلطا بحسب اللغة.

الثالث : أنّه لو تمّ ذلك لقضي بنفي الوضع للصور الذهنيّة أيضا ، إذ على هذا القول تكون الألفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنيّة المطابقة لذيها بحسب الواقع ، كما أنّ القائل بوضعها للامور الخارجيّة يريد بها الامور الخارجيّة المطابقة للواقع ، فحينئذ ينبغي أن لا يطلق اللفظ إلّا على الصورة الواحدة المطابقة دون غيرها ، والبناء على اعتبار المطابقة في الثاني دون الأوّل تحكّم بل فاسد ؛ إذ لا داعي للفرق.

وأنت خبير بما فيه ؛ إذ من البيّن أنّ القائل بوضعها للامور الخارجيّة لا يحتاج الى اعتبار المطابقة ، ضرورة كون الشيء الخارجي هو نفس الواقع ، وكذا القائل بوضعها للامور الذهنيّة بالنسبة الى مطابقتها لما في الذهن ، إذ ليس الأمر الذهني إلّا الشيء الحاصل في الذهن ، فلا مغايرة في المقامين حتّى يعتبر المطابقة.

٣٤٧

نعم ، يعتبر المطابقة في المقام بين الصورة الحاصلة وذيها ، وهو حاصل ضرورة اتّحادهما بالذات وإن تغايرا بالاعتبار ، وأمّا المطابقة بين الصورة الحاصلة المطابقة للماهيّة المعلومة للمصداق الّذي ينتزع منها تلك الماهيّة ويطلق اللفظ عليها من تلك الجهة ، فلا دليل على اعتبارها ، غاية الأمر حينئذ أن يكون استعمال اللفظ في المعنى المذكور في غير محلّه ، وذلك لا يستدعي غلطا في الاستعمال.

الرابع : المعارضة بقلب الدليل بأن يقال : إنّها لو كانت موضوعة للصور الذهنيّة لما تغيّرت التسمية مع تغيّر الشبح المرئيّ بحسب الواقع إذا لم يعلم به المتكلّم وكانت الصورة الاولى باقية مستمرّة ، والتالي باطل قطعا ؛ لامتناع إطلاق الحجر على الإنسان حقيقة.

فإن قيل : إنّ الموضوع له هو صورة الشبح المطابقة له بحسب الواقع ، فتغيير التسمية إنّما يكون من تلك الجهة.

قلنا : قضيّة ذلك عدم صحّة الإطلاق في الصورتين ، ومبنى الاحتجاج على صحّتهما ، والقول بكون المناط في صحّة الاستعمال اعتقاد المطابقة للواقع جار على القول بوضعها للامور الخارجيّة أيضا ، فيصحّ توارد الأسامي المختلفة مع اتّحاد المسمّى ، نظرا الى اختلاف الاعتقاد ، ففيه هدم للاحتجاج ، وتجويز ذلك على القول بوضعها للامور الذهنيّة دون القول بوضعها للامور الخارجيّة تحكّم بحت.

وفيه : أنّ الاعتقاد لا يصحّح الاستعمال بحسب الواقع وإنّما يصحّحه بحسب اعتقاد المستعمل ، فبعد انكشاف الخلاف ينبغي الحكم بالغلط حسب ما مرّ ومن المعلوم خلافه ، فذلك إذن شاهد على وضعها للامور الذهنيّة ، لما عرفت من الوجه في صحّة الاستعمال حينئذ على القول المذكور ، غاية الأمر أن يكون إرادة المعنى المذكور في غير محلّه ، وذلك لا يوجب غلطا في الاستعمال كما عرفت.

فما ذكر من تغيّر التسمية مع تغيّر الشبح إن اريد به تغيّر الاسم بالنسبة الى من

٣٤٨

يعلم به فممنوع ، وليس ذلك إلّا لملاحظة الصورة الحاصلة ، وإن اريد تغيّره بالنظر الى الواقع مع عدم ملاحظة الصورة الحاصلة فممنوع ؛ إذ من الواضح أنّ القائل بوضع الألفاظ للصور الذهنيّة لا يقول به ، فإنّ المناط عنده في ذلك ملاحظة الصورة الذهنيّة.

وكذا الحال لو اريد تغيّره بالنسبة الى من يعتقد بقاء الأوّل ؛ لوضوح فساده ضرورة صحّة إطلاق اللفظ الأوّل عليه بالنسبة اليه فيصحّ استناده الى ذلك نظير ما مرّ من الاحتجاج.

الخامس : المعارضة بأنّها لو كانت موضوعة بإزاء الصور الذهنيّة لم يجز إرادة الامور الخارجيّة منها إلّا على سبيل المجاز ، ومن الواضع بملاحظة الاستعمالات خلافه.

ويدفعه ما عرفت من أنّه ليس مراد القائل بوضعها للامور الذهنيّة كونها موضوعة للصور بنفسها بل من حيث كونها مرآة لملاحظة الخارج ، وحينئذ فإرادة الامور الخارجيّة بتوسّط تلك الصور الذهنيّة ممّا لا مانع منه أصلا ولا تقضي بتجوّز في اللفظ ، كيف! ولا بدّ من التوسّط المذكور على القولين وإن كان هناك فرق بين الوجهين حسب ما عرفت.

أو أنّ المراد وضعها للمفاهيم من حيث كونها مدركات للعقل ، وحينئذ لا تجوّز في إطلاقها على الامور الخارجيّة أيضا ؛ ضرورة صدق تلك المفاهيم عليها ، غاية الأمر أن يعتبر في استعمال اللفظ فيها كونها مدركات للعقل.

السادس : المعارضة أيضا بأنّها لو كانت موضوعة بإزاء الصور الذهنيّة لوجب الانتقال اليها عند الإطلاق وتبادرها في الفهم ، مع أنّه لا ينتقل الذهن عند سماع الألفاظ إلّا الى الامور الخارجيّة من غير التفات الى الصور الذهنيّة.

وفيه : ما عرفت من فساد حمل كلام القائل بوضعها للامور الذهنيّة على إرادة نفس الصور والإدراكات بنفسها ، فعدم الالتفات الى نفس الصور الذهنيّة غير مانع عن صحّة القول المذكور حسب ما عرفت تفصيل القول فيه.

٣٤٩

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ القائل بوضع الألفاظ للامور الخارجيّة إنّما يقول بوضعها لها على حسب نفس الأمر ، ضرورة مطابقة الخارج لنفس الأمر ، لكن من الظاهر أنّه لا بدّ في استعمال الألفاظ في تلك المعاني وإطلاقها بحسب الموارد من طريق الى معرفتها حتّى يستعمل الألفاظ فيها ويصحّ إطلاقها على مصاديقها.

وحينئذ فنقول : إنّ إطلاق الألفاظ المذكورة على الشبح المرئي من البعيد إمّا أن يكون على سبيل الحمل ـ كأن يقول : هذا شجر ، أو حجر ونحو ذلك ـ أو باستعمالها في خصوص ذلك ـ بأن يقول : هذا الشجر كذا ، أو هذا الحجر كذا ـ وهكذا.

أمّا على الأوّل فمن البيّن أنّه ليس المستعمل فيه لتلك الألفاظ إلّا معانيها الخارجيّة ، غاية الأمر أنّه مع عدم المطابقة يلزم كذب ذلك الحكم وعدم مطابقته للواقع من غير لزوم غلط في الاستعمال ، وحصول الكذب حينئذ ممّا لا مجال لإنكاره بناء على المشهور في تفسير الصدق والكذب ، ومنه يظهر وجه آخر لضعف الإيراد الأوّل ، إذ بناء على ما ذكر لا كذب في تلك الإخبار ، لكونه حجرا في اعتقاده وكذا شجرا أو إنسانا فذلك إنّما يوافق مذهب النظام دون ما هو المشهور.

وأمّا على الثاني فليس استعمال تلك الألفاظ إلّا في معانيها الحقيقيّة ؛ إذ لم يرد بالشجر والحجر والإنسان إلّا معانيها الخارجيّة وإنّما أطلقها على الشيء المفروض من جهة اعتقاد مطابقته لها وكونه فردا لذلك المعنى وحصول تلك الطبيعة في ضمنه ، فالمستعمل فيه اللفظ هو معناه الكلّي الخارجي ـ أعني الطبيعة اللابشرط ـ وإطلاقه على ذلك الفرد من جهة اعتقاد انطباقها معه واتّحادها به ، فبعد انكشاف الخلاف وظهور عدم المطابقة لا يلزم كون ذلك الاستعمال غلطا ؛ لوضوح استعماله فيما وضع له ، غاية الأمر ظهور كون استعماله في ذلك المعنى في غير محلّه ، لعدم انطباق ما اطلق عليه لتلك الطبيعة الّتي استعمل اللفظ فيها ، وليس ذلك من قبيل استعمال الشجر في الحجر مثلا حتّى يرد ذلك فلا دلالة في الدوران

٣٥٠

المذكور على وضع الألفاظ للحقائق الذهنيّة أصلا.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه فغاية ما يلزم من الدليل المذكور على فرض صحّته عدم وضعها للامور الخارجيّة ، وبمجرّد ذلك لا يتعيّن القول بوضعها للامور الذهنيّة ؛ لاحتمال كونها موضوعة بإزاء المفاهيم من حيث هي مع قطع النظر عن وجودها في الذهن أو في الخارج.

ثالثها : أنّها لو كانت موضوعة بإزاء الامور الخارجيّة لزم امتناع الكذب في الإخبار ؛ إذ ليس ما وضع له اللفظ حينئذ إلّا الأمر الموجود في الخارج ، فإذا كان اللفظ مستعملا في معناه كان ذلك موجودا في الخارج ؛ إذ ليس مدلول اللفظ إلّا عين ما في الخارج ، ومن ذلك يعلم امتناع صدق الخبر أيضا ، فإنّ الصدق والكذب مطابقة مدلول الخبر لما هو الواقع وعدمها ، فإذا فرض كون الكلام موضوعا بإزاء الامور الخارجيّة كان مدلوله عين ما هو الواقع ولا معنى لمطابقة الشيء لنفسه وعدمها.

واجيب عنه تارة بأنّ الدلالة الوضعيّة ليست كالدلالة العقليّة حتّى لا يمكن تخلّفها عن المدلول ، بل إنّما توجب إحضار مدلوله بالبال سواء طابق الواقع أو خالفه ، فيلحظ المطابقة وعدمها بالنسبة الى المعنى الحاضر في الذهن بواسطة الدلالة المذكورة.

واخرى بأنّ المراد من وضعها للامور الخارجيّة هو وضعها للموجودات الخارجيّة بزعم المتكلّم واعتقاده ، لا الامور الخارجيّة المطابقة لنفس الأمر ، فحينئذ يكون مع مطابقته للواقع صدقا ومع عدمه كذبا.

وثالثة بالمعارضة بأنّه لو كان الكلام موضوعا للنسبة الذهنيّة لكان مدلول الكلام هو تلك النسبة ، فيكون الواقع بالنسبة اليه هو ذلك ، وحينئذ فيكون صدقه وكذبه بملاحظة تحقّق تلك النسبة في الذهن وعدمه لا بملاحظة حصول النسبة الخارجيّة وعدمه ، فيكون المناط في الصدق والكذب باعتبار المطابقة للاعتقاد وعدمها ، هو إنّما يوافق مذهب النظام دون المشهور.

٣٥١

ورابعة بأنّه أخصّ من المدّعى فإنّه إنّما يفيد عدم الوضع للامور الخارجيّة بالنسبة الى المركّبات الخبريّة دون غيرها.

ويرد على الأوّل أنّ الأمر الحاصل في الذهن إنّما يؤخذ مرآة لما هو مدلول اللفظ والمحكوم عليه بالمطابقة وعدمها إنّما هو مدلوله ، والمفروض أنّ مدلوله هو عين ما في الخارج فلا يمكن فرض المطابقة وعدمها بالنسبة اليه ، وحينئذ فمع انتفاء مدلوله في الخارج يكون اللفظ خاليا عن المعنى لوضعه لخصوص الموجود في الخارج والمفروض انتفائه ، هذا إذا كان الملحوظ استعماله فيما وضع له ، وأمّا إذا فرض استعماله في غير ما وضع له ـ أعني المفهوم المعدوم ـ فيكون إمّا غلطا أو مجازا ، ولا يندرج أيضا في الكذب إلّا أن يلاحظ كذبه بالنظر الى ظاهر اللفظ ، وفيه ما لا يخفى.

ومع الغضّ عن ذلك نجعل التالي للشرطيّة المذكورة عدم إمكان الكذب مع استعمال اللفظ في حقيقته ، وهو أيضا واضح البطلان ، والملازمة ظاهرة ممّا ذكر.

وعلى الثاني ما عرفت من وهن الكلام المذكور ؛ إذ لا ربط للاعتقاد بموضوعات الألفاظ خصوصا على هذا القول ، وأخذ العلم في معاني الألفاظ مذهب سخيف قام الدليل القاطع على فساده ، مضافا الى عدم جريانه في صورة تعمّد الكذب ، لانتفاء مطابقته لاعتقاده أيضا.

وعلى الثالث أنّ ما ذكر مبني على أن يكون المقصود وضع الألفاظ للصور الذهنية بأنفسها أو ما يقرب من ذلك ، وقد عرفت وضوح فساده ، وأنّه ممّا لم يذهب اليه أحد ، وأمّا إذا اريد وضعها للصور الذهنيّة من حيث كونها مرآة لملاحظة الخارج أو للمفاهيم المقيّدة بكونها معلومة حسب ما مرّ فلا ورود لذلك أصلا.

مضافا الى أنّه لو بني الأمر في القول المذكور على ما ذكر فاللازم حينئذ عدم اتّصاف الخبر بالصدق والكذب على القول المذكور أيضا ، فيكون اللازم مشترك الورود بين القولين ، نظرا الى كون الواقع بناء عليه هو الأمر الذهني والمفروض أنّه عين الموضوع له فلا تغاير بين المدلول والواقع حتّى يعتبر المطابقة وعدمها ،

٣٥٢

فلا وجه لالتزام اعتبار الصدق والكذب على مذهب النظام دون المشهور.

وعلى الرابع بأنّه إذا ثبت ذلك في المركّبات الخبريّة يثبت في غيرها فإنّه إذا اعتبرت النسبة ذهنيّة فلا بدّ من اعتبار الموضوع والمحمول كذلك ، فيعمّ الحكم لسائر الألفاظ حتّى الإنشاءات نظرا الى وضع مبادئها لذلك فيتبعها أوضاع المشتقّات.

والتحقيق في الجواب : أن يقال : إنّ الدليل المذكور على فرض صحّته إنّما يفيد عدم وضع الألفاظ للامور الخارجيّة المأخوذة مع الوجود شطرا أو شرطا ، وأمّا لو قيل بوضعها للماهيّات بملاحظة وجودها في الخارج أو على النحو الّذي اخترناه فلا دلالة فيه على بطلانه أصلا ؛ إذ لا يستلزم دلالة اللفظ عليها ، كذلك وجودها في الخارج إذ دلالة اللفظ على شيء باعتبار وجوده لا يستلزم وجوده ، فإن طابق مدلوله ما هو الواقع كان صدقا وإلّا كان كذبا واللفظ مستعمل في معناه الحقيقي على الوجهين.

ومع الغضّ عن ذلك فمن البيّن أنّ أقصى ما يفيده ذلك عدم وضعها للامور الخارجيّة ولا يثبت به الوضع للامور الذهنيّة ، لإمكان وضعها للماهيّات.

رابعها : أنّ في الألفاظ ما وضع للمعدومات الممتنعة أو الممكنة وما وضع للامور الذهنيّة كالكلّية والجنسيّة والفصليّة ونحوها ، ومع ذلك كيف يعقل القول بوضعها للامور الخارجيّة؟ وفيه ـ مع عدم دلالة ذلك على وضعها للامور الذهنيّة لاحتمال كون الوضع للماهيّة من حيث هي وعدم ثبوت الكلّية بذلك ، إذ أقصى ما يفيده ثبوت وضع الألفاظ المذكورة للامور الذهنيّة ـ أنّه إنّما يتمّ ذلك لو اريد وضعها للامور الموجودة في الخارج على أحد الوجهين السابقين ، وأمّا لو اريد وضعها للامور الخارجيّة على ما ذكرناه فلا ، وكذا لو اريد وضعها للمفاهيم بالنسبة الى وجودها في الخارج ولو امتنع وجودها كذلك.

نعم ، يتمّ حينئذ بالنسبة الى المعدوم واللاشيء ، وكذا المفاهيم الذهنيّة ممّا لا يقبل الوجود في الخارج ، وقد مرّت الإشارة اليه.

٣٥٣

حجّة القول بوضعها للماهيّات ـ مع قطع النظر عن وجودها في الذهن أو الخارج ـ أنّها المنساقة من تلك الألفاظ ، ولذا لا تدلّ الألفاظ الموضوعة لمعانيها على وجود تلك المعاني ويصحّ الحكم على معانيها بالوجود والعدم.

وفيه : أنّه إن اريد بالماهية المفهوم من حيث كونه عنوانا لمصداقه بحسب الواقع فهو راجع الى ما قلناه ، وإن اريد بها الماهيّة من حيث هي بحيث يعمّ الصورة الحاصلة منها في الذهن أو الموجود في الخارج فالتبادر المدّعى ممنوع ، بل من البيّن خلافه ؛ إذ لا يتبادر من الألفاظ إلّا المفاهيم على النحو الّذي قرّرناه.

والوجه في القول الرابع ما ذكر في القول بوضعها للماهيّات إلّا أنّ ذلك الوجه إنّما يجري بالنسبة الى الكلّيات ، وأمّا الامور الشخصيّة فلا يصحّ القول بوضعها للماهيّة ؛ ضرورة عدم كون أسامي الأشخاص كزيد وعمرو موضوعة بإزاء نفس ماهيّة الإنسان من حيث هي ، وليس هناك مع قطع النظر عن الوجودين ماهيّة غير ماهيّة الانسان ليتحصّل بانضمامها ماهيّة الشخص ، بل ليس في هويّة الشخص إلّا الماهيّة الكلّية بعد انتزاع العقل إيّاها عن الوجود ، فهي إنّما تكون شخصا بانضمام الوجود اليها من غير حاجة الى انضمام أمر آخر من العوارض الخارجيّة ، أو أمر نسبته الى الماهيّة نسبة الفصل الى الجنس ، فهي إذا انضمّ اليها الوجود الخارجي كانت شخصيّا خارجيّا وإذا انضمّ اليها الوجود الذهني كانت شخصيّا ذهنيّا ، فالوجود هو الأمر الّذي نسبته الى الماهيّة النوعيّة نسبة الفصل الى الجنس لتحصّل الشخص من جهته ، فصيرورتها شخصا إنّما هي باعتبار انضمام أحد الوجودين اليها ومن البيّن أيضا استحالة حصول كلّ من الوجودين في ظرف الآخر ، فيستحيل أيضا حصول كلّ من الشخصين كذلك ، فالشخص الخارجي لا يكون إلّا في الخارج كما أنّ الذهني لا يكون إلّا في الذهن.

فإذا تقرّر ذلك تبيّن أنّه ليس الموضوع له في الجزئيّات الخارجيّة سوى الماهيّة المنضمّة الى الوجود الخارجي ، وفي الجزئيّات الذهنيّة سوى المنضمّة الى الوجود الذهني ، وقد عرفت أنّ الألفاظ الموضوعة للكلّيات إنّما وضعت

٣٥٤

للماهيّات من حيث هي الشاملة للوجود منها في الذهن أو الخارج فصحّ ما ذكر من التفصيل.

قال بعض أفاضل المحقّقين : إنّ هذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه إن اريد بوضع الألفاظ للجزئيّات الموجودة في الذهن أو الخارج وضعها للذوات المعيّنة الّتي لو كانت موجودة لكانت موجودة في الذهن أو الخارج ، على أن يكون الوجود الخارجي أو الذهني وضعا تقديريّا للموضوع له ، فإنّه لو اعتبر الوجود جزء من الموضوع له أو وصفا محقّقا له ـ كما يوهمه ظاهر القول بأنّها موضوعة للموجودات الذهنيّة أو الخارجيّة ـ كان فاسدا ؛ فإنّا نقطع بأنّ المفهوم من زيد مثلا ليس إلّا الذات المشخّصة من دون التفات الى كونها موجودة في الخارج أو معدومة فيه ، ولذا صحّ الحكم عليه بالوجود والعدم الخارجيين وجاز التردّد في كونه موجودا في الخارج أو لا ، قال رحمه‌الله : والظاهر أنّ مراد القائل هو ذلك المعنى وإن كانت عبارته موهمة لخلافه.

قلت : إن صحّ ما ذكر في الاحتجاج على وضع الجزئيّات للامور الخارجيّة أو الذهنيّة من عدم تعيّن الماهيّة مفهوما إلّا بعد ضمّ الوجود ـ بأن لا يكون هناك وراء عين الوجود الخارجي أو الذهني أمر يوجب تعيّن ذلك المفهوم ـ فحينئذ كيف يمكن أن يتعيّن لها ذات من دون انضمام الوجود الخارجي أو الذهني إليها ، وأيضا بعد فرض عدم تعيّن الماهيّة بملاحظة الخارج إلّا بانضمام عين الوجود الخارجي اليها مع ما هو واضح من عدم إمكان حصول عين الوجود الخارجي في الذهن لا يمكن القول بحصول مفهوم الجزئي في الذهن ، نظرا الى عدم إمكان حصول ما يعيّنه فيه ، فحينئذ كيف يصحّ القول بوضع الألفاظ بإزائها؟ ضرورة كون المقصود من وضعها إحضار معانيها بالبال عند استعمال ألفاظها والمفروض امتناع حصولها كذلك.

وإن قيل بإمكان تعيّن الماهيّة بحيث تكون مفهوما يمتنع صدقه على كثيرين مع قطع النظر عن تحقّق الوجود له في الخارج وعدمه ـ كما هو قضيّة ما ذكر

٣٥٥

وهو الحقّ في ذلك ـ بطل ما ذكر من الاحتجاج وجاز وضع اللفظ بإزاء ذلك المفهوم على حسب سائر المفاهيم من غير فرق أصلا.

والحاصل أنّه إذا كان للجزئي مفهوم حاصل عند العقل كما أنّ للكلّي مفهوما كذلك ـ على ما هو قضيّة تقسيم المفهوم الى الكلّي والجزئي ـ لم يكن هناك فرق بين الأمرين ، وكانا على حدّ سواء وكون ذلك المفهوم في الجزئي الخارجي مرآة لملاحظة الخارج جار بالنسبة الى الكلّي أيضا ، فإنّه أيضا عنوان للأمر الخارجي حسب ما مرّ بيانه ، فالتفصيل المذكور غير متّجه في المقام.

هذا واعلم أنّ بعض الأفاضل جعل النزاع في المسألة مبنيّا على النزاع في مسألة المعلوم بالذات ، فمن قال بكون المعلوم بالذات هو الصورة الذهنيّة ، وذو الصورة يكون معلوما بالتبع من جهة انطباقه معه يجعل الألفاظ أسامي للصور الذهنيّة ، ومن قال بأنّ المعلوم بالذات إنّما هو ذو الصورة ، نظرا الى أنّه الملتفت اليه والصورة مرآة لملاحظته ولذا لا يحصل الالتفات اليها عند ملاحظة ذي الصورة ـ كما هو الشأن في الامور الّتي يجعل مرآة لملاحظة غيرها فإنّ من شأن المرآة أن لا يلحظ بالذات عند جعلها مرآة ـ فالألفاظ عنده أسامي للامور الخارجيّة.

فعلى هذا ربما يزاد قول آخر في المقام ، وهو كونها أسامي للامور الخارجيّة في الموجودات الخارجيّة وللامور الذهنيّة فيما عدا ذلك ؛ لذهاب بعض الأفاضل الى التفصيل المذكور في تلك المسألة ، فبناء على ما ذكر من المبنى يتفرّع عليه القول بالتفصيل في هذه المسألة أيضا.

وعن بعض الأفاضل جعل النزاع في تلك المسألة لفظيّا بإرجاع الإطلاقين الى التفصيل المذكور ، وعليه فيكون النزاع في هذه المسألة أيضا لفظيّا بناء على صحّة المبنى المذكور.

لكنّك خبير بوهن ذلك ؛ إذ لا ربط لهذه المسألة بالمسألة المذكورة ، وأيّ مانع من أن يكون المعلوم بالذات هو الصورة ويكون ما وضعت له الألفاظ هي ذوات تلك الصور؟ نظرا الى أنّ المحتاج اليه في التعبير إنّما هي تلك الامور دون صورها

٣٥٦

الحاصلة عند العقل ، والوضع إنّما يتّبع مورد الحاجة وما يحتاج الناس الى التعبير عنه غالبا في الأحكام المتداولة بينهم ، فيكون الموضوع له على هذا هو ذوات تلك الصور دون الصور بأنفسها ، سواء كان المعلوم بالذات هو الصور أو ذواتها.

وكأنّ ملحوظ القائل بوضعها للصور الذهنيّة كون تفهيم تلك الامور الخارجيّة بواسطة إحضار معانيها وجعلها مرآة لملاحظتها ، فجعلوا الموضوع له هو تلك الصور من تلك الجهة حسب ما مرّ سواء كانت معلومة بالذات أو بالتبع.

وأنا الى الآن لم يتبيّن لي الوجه في حكم الفاضل المذكور بابتناء هذه المسألة على تلك المسألة ؛ وكأنّه توهّم ذلك من جهة كون المعلوم بالذات أعرف في النظر وأبين عند العقل ، فينبغي أن يكون الوضع بإزائه.

وأنت خبير بعدم وضوح الدعوى المذكورة أوّلا وعدم تفرّع الحكم المذكور عليه ثانيا ؛ إذ مجرّد الأعرفيّة عند العقل غير قاض بوضع اللفظ بإزائه ، لدوران الوضع غالبا مدار الحاجة وتعلّق القصد به في المخاطبة ، فجعل النزاع في المسألة مبنيّا على ذلك غير متّجه ، كيف!ولو كان كذلك لزم الاختلاف في وضع اللفظ إذا كان الموضوع له موجودا حال الوضع ثم انعدم ، ومن الواضح خلافه ، وكذا الحكم بكون النزاع لفظيّا من تلك الجهة غير ظاهر ، بل جعل النزاع في تلك المسألة لفظيّا بإرجاع الإطلاقين الى التفصيل المذكور في كمال البعد.

وما يتخيّل في وجهه من وضوح فساد كون المعلوم بالذات في المعدومات الخارجيّة هو الامور الخارجيّة فينبغي حمل كلام القائل بكون المعلوم بالذات هو الامور الخارجيّة على الحكم بذلك بالنسبة الى الامور الخارجيّة ، وكذا يبعد القول بكون المعلوم بالذات في الامور الخارجيّة هو الصور الذهنيّة ؛ لوضوح كون المعلوم هناك هو الأمر الخارجي ، فينبغي حمل كلامهم على غير ذلك ، فيكون مرجع القولين الى التفصيل المذكور غير متّجه ؛ لابتنائه على أن يكون المراد بالامور الخارجيّة في كلامهم هو الموجودات الخارجيّة وليس كذلك ، بل المراد

٣٥٧

نفس الامور الحاصلة بصورها سواء كانت من الموجودات الخارجيّة أو لا ، وعلى استبعاد كون الصورة معلومة بالذات في الموجودات الخارجيّة وليس في محلّه.

فمحصّل البحث المذكور أنّ المعلوم بالذات بالعلم الحصولي هل هو نفس الصورة أو المعلوم المدرك بحصولها؟ فبالنظر الى كون الصورة هي المنكشفة بالذات عند العقل وانكشاف ذي الصورة إنّما يكون بتوسّطها يتّجه الأوّل ، وبملاحظة كون العلم مرآة لملاحظة المعلوم وآلة لانكشافه فلا تكون تلك الصورة الحاصلة ملحوظة بذاتها ولا معلومة بالذات يتّجه الثاني ، فلكلّ من القولين وجه ظاهر ، فحمل الإطلاقين المذكورين على ذلك التفصيل في كمال البعد ، بل بيّن الوهن.

مضافا الى ما في التفصيل من الحزازة الظاهرة والمخالفة للوجدان السليم ؛ إذ لا نجد فرقا بين المعلومات الموجودة وغير الموجودة في كيفيّة العلم بها ، كيف! ومن البيّن عدم الفرق في الإدراك الحاصل بين بقاء المعلوم على حاله أو زواله إذا اعتقد بقاءه على حاله.

وما يقال من حصول الفرق بين القسمين ـ فإنّا نجد من أنفسنا في القسم الأوّل الالتفات الى أمر خارج عنّا ، وفي الثاني نجد أنّا قد التفتنا الى ما في أنفسنا وراجعنا اليه ـ كما ترى ؛ لوضوح كون المنكشف في المقامين هو نفس الصورة بذاتها وإن لم تكن ملتفتا إليها كذلك ، لكونها مرآة لملاحظة المعلوم والمعلوم إنّما ينكشف بتوسّط تلك الصور في المقامين.

وقد عرفت أنّ المراد بالامور الخارجيّة هو نفس المعلومات سواء كانت موجودة في الخارج أو لا.

مضافا الى أنّ ملاحظة الخارج بالمعنى المتوهّم ليست مقصورة على الموجودات الخارجيّة، بل هي حاصلة في المعدومات أيضا إذا لوحظ كونها موجودة على سبيل التقدير ، فالملحوظ هناك خارج عن أنفسنا بالوجه المذكور أيضا.

٣٥٨

وما قد يتخيّل في المقام في توجيه ذلك من أنّ المعلوم في الامور الخارجيّة هو نفس الأمر الخارجي من غير حصول صورة منه في النفس ، فيكون تلك الامور هي المعلومة بالذات بخلاف الامور الغير الموجودة فبيّن الوهن ؛ إذ قضيّة ذلك انحصار المعلوم في الامور الخارجيّة بالأمر الخارجي من غير أن يكون هناك معلوم آخر بالتبع ، وهو خلاف ما يقتضيه كلامهم من تعدّد المعلومين ووقوع الخلاف فيما هو معلوم منهما بالذات وما هو معلوم بالتبع ، فإنّ ذلك صريح في كون النزاع فيما يكون العلم فيه بحصول الصورة كما ذكرنا فلا تغفل.

هذا وقد يجعل النزاع في المسألة لفظيّا من جهة اخرى ، وذلك بحمل كلام القائل بوضعها للامور الذهنيّة على إرادة الماهيّة من حيث هي بناء على إطلاقهم اسم الصورة عليها في بعض المقامات ، وحمل كلام القائل بوضعها للامور الخارجيّة على ذلك أيضا ، نظرا الى كونها في مقابلة الصور نفسها فهي امور خارجة عن تلك الصور من حيث كونها إدراكات ، وإرجاع القول بالتفصيل اليه أيضا بناء على أنّ القول بوضع الجزئيّات الخارجيّة أو الذهنيّة للامور الخارجيّة والذهنيّة إنّما يعني بها المفاهيم الجزئيّة الّتي لو وجدت كانت في الخارج أو الذهن ، وحمل القول بوضعها للماهيّات على إرادة المفاهيم على الوجه المذكور قريب جدا ، فيرجع الحال في الجميع الى القول بوضع الألفاظ للمفاهيم كلّية كانت أو جزئيّة.

ولا يذهب عليك أنّ حمل كلماتهم على ذلك مجرّد احتمال ، فإن كان المقصود من ذلك احتمال جعل النزاع لفظيّا فلا بأس به وإلّا فلا شاهد عليه ، مضافا الى أنّ حمل القول بوضعها للصور الذهنيّة على إرادة المفاهيم من حيث هي في كمال البعد ، وإطلاق الصورة على الماهيّة وإن ورد في كلامهم لكن الظاهر إطلاقها على الماهيّة المعلومة ، نظرا الى اتّحادها مع الصورة ، وأمّا إطلاقها على الماهيّة من حيث هي فبعيد عن ظواهر الإطلاقات.

والتقريب في ذلك بأنّ الماهيّات الّتي توضع لها الألفاظ لمّا كانت معلومات

٣٥٩

حين الوضع كان الوضع بإزاء المعلومات وإن لم يكن بملاحظة كونها معلومات فقد اطلق الصور بملاحظة ذلك على الماهيّات المعلومة لا يخلو عن بعد ؛ إذ مع عدم ملاحظة كونها معلومات يكون المراد بالصور هو نفس الماهيّات أيضا وإن كانت معلومة حين ملاحظتها ، وقد عرفت بعده عن ظاهر الإطلاق.

واعلم أنّه لو بني على كون النزاع في المقام معنويّا فلا ثمرة يترتّب عليه ظاهرا وإنّما هي مسألة علميّة لا يتفرّع عليها شيء من الأحكام الفرعيّة ؛ إذ لا شكّ على الأقوال في كون المقصود بالألفاظ الامور الواقعية ، سواء كانت هي مقصودة من تلك الألفاظ أو لا لتكون موضوعة بإزائها مستعملة فيها أو كانت مقصودة بواسطة صورها الذهنيّة ، وسواء قلنا بكون تلك المفاهيم ممّا وضع الألفاظ بإزائها مطلقة أو مقيّدة بحضورها عند العقل ، كما هو أحد الوجوه المتقدّمة.

نعم ، قد يتوهّم على الوجه الأخير توقّف أداء المكلّف به واقعا على العلم بكون ما يأتي به هو المكلّف به ، كما إذا قال : «آتني بشاة» فإنّه لا بدّ في صدق إتيانه بالمأمور به معرفته بمعنى الشاة ثمّ إتيانه بفرد يعلم اندراجه فيه.

ويدفعه أوّلا : أنّ حضور المعنى غير العلم بوضع اللفظ بإزائه فإذا أتى بالشاة عالما بكونه شاة فقد أتى بما وضع اللفظ بإزائه وإن لم يعلم بالوضع له ، وكذا لو أتى بالمصداق معتقدا خلافه أو شاكّا في كونه مصداقا مع علمه بما كلّف به لصدق إتيانه بتلك الطبيعة المعلومة وإن لم يكن اندراج ذلك المصداق فيها معلوما له حين الإتيان.

نعم ، لو كان غافلا عن الطبيعة التي كلّف بإتيانها غالطا في المصداق أيضا احتمل حينئذ عدم تحقّق الامتثال على الوجه المذكور.

وثانيا : أنّ الحضور المأخوذ في المكلّف به بناء على الوجه المذكور هو الحضور عند المستعمل دون المكلّف ، فإذا أتى بالطبيعة الحاضرة عند تحقّق الإتيان سواء كان المكلّف عالما بالحال أو لا. نعم لا يتمّ ذلك على إطلاقه في العبادات ، وهو كلام آخر لا ربط له بهذه المسألة.

٣٦٠