أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

عدم الاعتناء بهذا الشكّ وعدم الحكم له صار مقدّما على أدلّة الشكوك.

وإن كان لا نظر له إليها بمثل أعني ونحوه ، وكذلك قوله عليه‌السلام : لا شكّ لمن كان له شكّ مع اليقين وإن كان معناه جعل الحكم المماثل مثلا ، إلّا أنّه لمّا كان بلسان عدم الاعتناء بهذا الشكّ وعدم ترتيب الأثر عليه ، صار هذا اللسان موجبا لتقدّمه على أدلّة الشكوك ، حيث إنّها بأصالة الإطلاق مقتضيه لإسراء حكمها إلى هذا المورد ، وهذا بلسانه اللفظي يقوم بإزاء أصالة الإطلاق المذكورة كما تقدّم بيانه.

والحاصل : إن كان الإشكال من جهة عدم المعقوليّة للزوم اجتماع اللحاظين الذي أورد نظيره المحقّق الخراساني في أدلّة الأمارات ، فجوابه بالطوليّة بينهما ، والممتنع هو الجمع العرضي ، وإن كان عدم الاستظهار من الدليل فالمحكّم فيه العرف.

ويكفيه شاهدا بأنّه يستفاد من عبارة «لا تنقض اليقين بالشكّ» قضيّتان ، اوليهما مدلول مطابقي ، وهو الالتزام باليقين وعدم نقضه ، والاخرى مدلول التزامي وهو عدم الاعتناء بالشكّ وعدم ترتيب الأثر عليه مع وجود اليقين ، وبعد إثبات هاتين المقدّمتين يدخل تحت الضابط المتقدّم للحكومة ، كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» بلا فرق.

ثمّ هذا على تقدير أخذ الشكّ في كلا الطرفين بمعنى صفة التردّد النفساني ، وإن جعلناه فيهما بمعنى التحيّر وانقطاع اليد عن الحكم الشرعي مع قطع النظر عن حكم نفس القاعدة فيها ونفس الاستصحاب فيه ، فحينئذ وإن كان الأخذ بكلّ منهما يوجب رفع موضوع الآخر ، ولكنّ الوجه في تقديم الاستصحاب أيضا هو اللسان المذكور ، فإنّه بلسان أنّه إذا اجتمع التحيّر مع وجدان الطريق فلا بدّ من الأخذ بالثاني وطرح الأوّل ، فالورود على هذا مبنيّ على الحكومة ، كما ذكرنا نظيره في توجيه كلام لشيخنا المرتضى قدس‌سره في تقديم الأمارات على الاصول.

ثمّ إنّه بقي في المقام مطلب وهو أنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره ذكر في الحاشية في وجه تقديم الاستصحاب ما حاصله يرجع إلى ما اختاره في تقديم الأمارات على الاصول من تقريب الورود ، وأنّه لا يبقي الشكّ الموضوع في سائر الاصول ، لأنّه

٧٢١

شكّ من جميع الوجوه ، وعنوان نقض اليقين وجه من الوجوه ، وقد علمت الحرمة بهذا الوجه وإن لم تعلمها بوجه العنوان الأوّلي ، وهذا يكفي في ارتفاع موضوع قاعدة الحلّ ، لأنّه شكّ في الحرمة بجميع عناوين الشيء أوّليا كان أم ثانويّا.

وفيه أنّه إن أراد بالوجه الحيثيّة التقييديّة ، ثمّ تقريب الورود ، حيث إنّه لم يؤخذ في هذا الطرف عنوان غير عنوان الشكّ فحكم الشيء مجهول بجميع العناوين ، وأمّا المأخوذة في الطرف الآخر عنوان من العناوين ، ولكن فيه أنّ الوجه المذكور ليس حيثيّة تقييديّة ، بل تعليلية.

ألا ترى أنّه لو سألك أحد إذا أردت الذهاب إلى المسجد لأن تصلّي الجمعة لحكم الاستصحاب : لم تذهب إلى المسجد؟ فقلت في جوابه : أذهب لأن لا أنقض اليقين بالشكّ ، كان مستهجنا باردا؟ وهذا دليل على أنّ المجعول حكم ظاهريّ في موضوع الشكّ في العنوان الأوّلي ، غاية الأمر بعليّة هذا العنوان ، فنقول في جواب السائل : أذهب لأن أصلّي الجمعة التي أوجبها الشارع بعلّة عدم لزوم نقض اليقين بالشكّ ، فالحاصل عنوان العمل المحكوم بالحكم الاستصحابي ليس إلّا العنوان الأوّلي.

وحينئذ نقول : نحن قد وجّهنا كلامه طاب ثراه في تقريب ورود الأمارات على الاصول بأنّ مراده من الجهة هو التعليلية ، ولكنّ الشكّ المأخوذ في الاصول عبارة عن الشكّ المطلق من جميع الوجوه ، أعني من حيث الاحكام الظاهريّة والواقعيّة وأمّا في الأمارة فحيث إنّ أخذه بحكم العقل مع إطلاق اللفظ ، فيكفيه مهملة الشكّ وشكّ ما ، وهو الشكّ في الواقع ، وهذا المعنى لا يرتفع بالأخذ بالاصول ، وأمّا الشكّ المطلق فهو يرتفع بالأخذ بالأمارة.

وهذا التوجيه غير متأتّ هنا كما لا يخفى ، فإنّ الشكّ معتبر في الدليل اللفظي في كلا الطرفين ، ولا بدّ بناء على المبنى المذكور من جعله بمعنى الشكّ المطلق في كليهما ، وعنوان الموضوع أيضا في كلا الطرفين ليس إلّا عنوان الأوّلي ، والفرق ممحّض في أنّ العلّة للحكم معلومة في أحد الطرفين ، وغير معلومة في الآخر ، ومجرّد هذا لا يجدي شيئا أصلا ، فينحصر المخلص بما ذكرنا من تقريب الحكومة ، والله العالم.

٧٢٢

١ ـ مربوط به ص ٣٠

التعليقة ١ ـ اعلم أنّ هنا إشكالا وهو أنّ المراد بالتثليثين أعني المذكور في كلام الإمام والمذكور في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو العمل الخارجي دون الفتوى والقول ، وقوله في تثليث الإمام : «يردّ حكمه إلى الله» محمول بقرينة قوله : فيتّبع ويجتنب ، وتثليث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاحتياط العملي ، فيراد من ردّ الحكم إلى الله بطريق الكناية الاحتياط في العمل ، وحينئذ فما وجه تطبيق ذلك على أخذ المجمع عليه وترك الشاذ معلّلا بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه الذي هو مقام الأخذ حجّة والنسبة إلى الشرع.

والحاصل أنّ هنا موضوعين ، أخذ المجمع عليه بعنوان الحجيّة ونسبة مضمونه إلى الشرع ، وأخذ النادر كذلك ، والأوّل داخل في بيّن الرشد ، والثاني في بيّن الغيّ ، لأنّه تشريع محرّم ، وظاهر الرواية تطبيق بيّن الرشد على الأوّل ، والمشكل ، والشبهة على الثاني.

فإن كان من جهة اشتباه المضمون في حدّ ذاته فقد عرفت أنّ التثليثين متعرّضان لمقام العمل ، ومقصود الإمام عليه‌السلام تحريم النسبة وإسناد المضمون.

وإن كان من حيث أنّ نفس الأخذ والنسبة عمل من الأعمال فقد عرفت أنّه ليس ممّا اشتبه حكمه ، بل هو من بيّن الغيّ.

ويمكن الدفع بمنع الاختصاص بالعمل ، بل المقصود أنّ في الشبهة لا بدّ من الانتهاء إلى الشرع سواء في القول أم العمل ، غاية الأمر أنّ أنحاء الانتهاء والوصول إلى حكم الشرع مختلفة ، فتارة بتحصيل حكم الواقعة بعنوانها الأوّلي ، واخرى بتحصيل حكمها بعنوان كونها مشتبهة ، وثالثة باختيار الطرف الذي يخلو عن

٧٢٣

المحذور على كلّ حال كاختيار جانب الترك في الشبهة التحريميّة عملا ، واختيار المجمع عليه إذا دار الأمر بينه وبين النادر أخذا ، فإنّه يعلم أنّه غير واقع في مخالفة الشرع عملا في الأوّل وقولا في الثاني.

وعلى هذا فالرواية دالة على المنع عن اختيار طريقه اخرى غير الانتهاء إلى الحكم الشرعي ، فكلّ شبهة ورد فيها بعنوان كونها شبهة حكم من الشارع بالبراءة مثل الموضوعية والوجوبيّة فهو ، وإلّا كما في الشبهة الحكميّة التحريميّة فاللازم عدم الانتهاء إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولزوم الانتهاء إلى حكم الشرع باختيار طريقة الاحتياط ، وعلى هذا يصلح مستندا للأخباري ، فينحصر الجواب في أظهريّة أخبار البراءة.

ويمكن الدفع أيضا بمنع كون المقصود بأخذ المجمع عليه الأخذ بعنوان الحجيّة ، والبناء على أنّ مضمونه حكم الله تعالى ، بل المقصود العمل الخارجي بمضمونه ، وذلك لشهادة صدر الرواية ، فإنّ مفروض السؤال رجلان تنازعا في دين أو ميراث هل يحلّ لهما الترافع إلى السلطان أو إلى القضاة؟ وأجاب الإمام عليه‌السلام بمنع ذلك وأنّ التحاكم إليهم بحكم التحاكم إلى الطاغوت ، وما يأخذه بحكمهم سحت وإن كان حقّه ثابتا ، فقال السائل : فكيف يصنعان؟ فأجاب بالرجوع إلى العارف بالحلال والحرام من الشيعة فقال : إن اختار كلّ منهما رجلا فاختلف الرجلان في الحكم لأجل اختلافهما في الحديث؟ فأجاب بتعيين الأعدل والأفقه والأصدق في الحديث والأورع ، ففرض السائل تساويهما في الصفات المفروضة ، فأجاب بتعيين ما كان من الحديثين مجمعا عليه إلى آخر ما ذكره.

فمن جملة موارد التنازع في الميراث التنازع في سلاح الأب بين الولد الأكبر وسائر الأولاد ، فدلّ أحد الحديثين على أنّه من الحبوة ، فيختصّ بالولد الأكبر ، و

٧٢٤

الآخر أنّه من جزء التركة ، فيقسّم بين الأولاد ، فما زاد عن سهم الولد الأكبر مردّد بين الاختصاص بالأكبر والاختصاص بالأصغر ، وهذه شبهة لا سبيل للعقل إلى حلّها ، لدوران الأمر بين المحذورين ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه يعمل على طبق مضمون الخبر المجمع عليه ، لأنّه لا ريب فيه ، يعني أنّه طريق ظاهري متّبع لدى العقلاء وإن كان بحسب الواقع ومرحلة الثبوت يحتمل كون حكم الله على طبق مضمون الخبر الشاذ ، ولهذا سمّي الأوّل «لا ريب فيه» يعني ظاهريا وإثباتا ، والثاني بقرينة المقابلة ممّا فيه الريب ، يعني باطنا وثبوتا ، ومن المعلوم أنّ مثل تلك الشبهة التي لا سبيل للعقل فيها ينحصر مرجعها إلى الشرع ، وهذا معنى قوله في تثليث الإمام من أنّ المشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، فإنّ معنى المشكل ما لا سبيل إليه وانقطع الطريق إلى علاجه.

وينطبق على هذا أيضا قوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» فإنّ المراد الشبهات بين الحلال البيّن والحرام البيّن ، فينحصر في الشبهة المحصورة وهي الشبهة التي تكون خطريّة.

فالحاصل من مجموع التعليل والتثليثين هو أنّ كلّ شبهة فيها احتمال الخطر بواسطة تحيّر العقل في حكمها وعدم السبيل إلى علاجها لا بدّ من الرجوع إلى طريق ظاهري شرعي إن كان ، وإلّا الاحتياط ، وعلى هذا فالرواية غير مرتبطة بمرام الأخباري والاعتصام في كلّ الأمور بالله الملك الباري.

* * *

٧٢٥

مربوط به ص ٢٢٠

التعليقة ٢ ـ الحكم بالبراءة في هذه الصورة مقتضى النظر البدوي ، ولكن دقيق النظر يقتضي الاحتياط ، وبيانه كما أفاده شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة أنّ المقام من قبيل الشكّ في القدرة ، حيث نقطع بمطلوب مطلق للمولى ونشكّ في التكليف الفعلي من جهة الشكّ في القدرة ، والعقل لا يرخّص في مثله ترك الاقدام.

لا يقال : كيف نقطع في المقام بمطلوب مطلق للمولى والاحتمالات بين ثلاث : كون المطلوب المطلق هو التامّ ولازمه عدم التكليف الفعلي ، وكونه الناقص ولازمه التكليف الفعلي به ، وعدم المطلوب للشارع بالمرّة لا في التّام ولا في الناقص.

لأنّا نقول : الاحتمال الأخير مبنيّ على تقييد مادّة الأمر بالقدرة على الجزء المعجوز عنه ، فتكون القدرة شرطا شرعيّا ، وهذا خلاف إطلاق مادّة الأمر وأنّ المطلوب هو ما وقع تحت الهيئة ، والقدرة إنّما هي شرط عقليّ ، فالأمر منحصر في الاحتمالين الأوّلين.

وحينئذ فنقول : متى أحرزنا من المولى مطلوبا على الإطلاق أعني رأيناه صار بصدد تحصيل شيء منّا بتوسيط الأمر وأنّه لا قيد لطلبه بحسب ما يرجع إلى غرضه وإن كان ليس له طلب بملاحظة ما عدا ذلك من الامور المعتبرة عقلا في المأمور لقابليّته ، لتوجّه الخطاب ، فإنّ الأوامر ليست ناظرة إلى هذه الطواري ، ويعبّر عن هذا المعنى بإطلاق المادّة ، فحكم العقل هو الاشتغال لو فرض الشكّ من هذه الجهات.

ولا فرق بين اتّفاق ذلك في موضوع مفصّل كما لو شكّ في القدرة على إنقاذ الغريق، وبين اتّفاقه في موضوع مردّد بين أمرين ولو متباينين ، وذلك مثل ما

٧٢٦

قوّيناه على خلاف شيخنا المرتضى قدس‌سره من الاحتياط في ما إذا خرج أحد طرفي العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء وكان الآخر داخلا فيه.

ومقامنا من هذا القبيل ؛ إذ لا يخلو الأمر بحسب موطن الثبوت عن أمرين ، إمّا يكون للجزئيّة إطلاق وإمّا لا ، فعلى الأوّل يحكم بمقتضى إطلاق المادّة وكون القدرة على ذلك الجزء شرطا عقليّا لا شرعيّا بكون المطلوب هو التام ، وعلى الثاني نحكم بمقتضاه أيضا بكونه هو الناقص ، ولا ثالث لهذين ، فنعلم إجمالا بوجود الطلب المطلق ، يعني ما لا قيد له أصلا ، أوله قيد ولكنّه حاصل إمّا متعلّقا بالتامّ أو بالناقص ، ولكنّا نشكّ في فعليّة الخطاب من جهة احتمال تعلّقه بالتامّ ، ومقتضى ذلك العلم هو الاحتياط بالموافقة الاحتماليّة.

لا يقال : إنّا ندور في متابعة الغرض مدار الأمر ، فالمقدار الذي وقع تحت التحميل بالأمر هو اللازم ، وغيره غير لازم وإن بقي احتمال بقاء الغرض ، كما مرّ ذلك مفصّلا في بيان الانحلال في الأقلّ والأكثر ، وهنا أيضا نقول : حيث إنّ المفروض أنّه لا إطلاق في شيء من أمري الناقص والتامّ ، فلو كان هنا غرض في الناقص لكان عليه جعل الأمر بالناقص مطلقا ، والمفروض عدمه ، فالقصور من قبل الآمر ، ولا ربط بالمكلّف.

قلت : مضافا إلى عدم الفرق بين هذا وبين المثال المسلّم من الشكّ في القدرة إلّا في كون الشكّ هناك موضوعيّا ليس رفعه وظيفة الشارع ، وهنا حكميّا رفعه من وظيفته ، وقد قرّر في محلّه أنّ مجرّد ذلك لا يجدي فرقا في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، أنّ المفروض في المقام أيضا هو العلم بأحد الأمرين ، إمّا بالتامّ وإمّا بالناقص ، فالأمر بالناقص طرف للعلم الإجمالي وإن كان ليس له طريق إثبات تفصيلى. وبالجملة ، صار بصدد تحصيل غرضه بالأمر ، وإتيان الناقص يكون باقتضاء ما علم من أمره ، لا أنّه خارج عن ذلك حتّى يجري فيه الكلام المتقدّم.

٧٢٧

ثمّ هذا الذي ذكرنا في تقريب الاشتغال يجرى في الصورتين الاخريين من العجز الطاري في الواقعة الواحدة وفي الوقائع المتعدّدة ، كما هذا هو الكلام في الأصل العقلي.

وأمّا النقلي وهو قاعدة الاستصحاب والميسور في صورتي طروّ العجز بناء على كون قاعدة الميسور قاعدة تعبّدية ـ كما يظهر من تمسّك العلماء بها ـ لا عقليّة إرشاديّة ، فيكون محطّها ما إذا كان المقتضي للمطلوبيّة في الميسور مفروغا عنه مطلقا ، فلا يخفى عدم تماميّة أحد تقريبيهما وهو المسامحة في عدم عدّ الغيريّة والنفسيّة معدّدين لشخص الوجوب ، لكون هذا على خلاف الواقع.

فمن كان يطلب شراء الدلو مثلا طلبا غيريّا مترشّحا من طلب استقاء الماء من البئر إذا زال منه هذا الطلب بزوال علّته وحدث فيه طلب نفسي بهذا الموضوع ، يعدّ العرف هاتين الحالتين منه فردين متغايرين من الطلب ، أحدهما حدث بعد زوال الآخر ، والاستصحاب والقاعدة بملاحظة شخص الوجوب غير جاريين ، فلا بدّ من ملاحظتهما بالنسبة إلى الجامع حتّى يكون من قبيل استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، وهو أيضا غير جار في خصوص المقام.

وأمّا التقريب الثاني ـ وهو المسامحة في الموضوع وإجراء القاعدتين بالنسبة إلى الحكم النفسي ـ فقد يورد عليه بأنّ لازم هذا التقريب جواز الاكتفاء بالناقص حتّى في حال التمكّن من التامّ.

وبعبارة أخرى : إن رأى العرف للشرط والجزء المعسورين مدخليّة في الموضوع فلا يعقل أن يرى عين القضيّة السابقة بموضوعها ومحمولها باقية بعد التعذّر ، وإن لم يفهم المدخليّة فاللازم التوسعة في القضيّة من أوّل الأمر قبل طروّ العجز.

والجواب أنّ رؤية المدخليّة لا تنافي مع رؤية الموضوع هو الناقص ، ألا ترى أنّ الماء ما لم يتغيّر لا يتّصف بالنجاسة ، والعرف أيضا ملتفت من الشرع إلى ذلك ، ومع

٧٢٨

ذلك عند زوال وصف التغيّر يرى البقاء والارتفاع بالنسبة إلى النجاسة.

والسرّ أنّ الشرط وإن كان بالدقّة يورث تضييقا في الموضوع ، لكنّ العرف يرى الموضوع هو الذات الجامعة بين الواجد والفاقد ، ويرى الشرط أمرا خارجا عن كلا الطرفين مع الموضوع والمحمول.

وبالجملة ، فكما أنّه في المثال مع ذلك لا يحكم بحدوث النجاسة ما لم يتغيّر ، كذلك هنا أيضا ما دام التمكّن لا يحكم بثبوت الوجوب في الفاقد ، فحال الجزء والشرط الزائدين حال التغيّر ، وحال تعذّرهما بعد التمكّن حال زواله بعد الثبوت ، وحينئذ فمصداق النقض وعدمه متحقّق عرفا وإن لم يتحقّق عقلا ، هذا.

ولكن قد يورد على التقريب المذكور بوجه آخر ، وهو أنّه إذا اتّصف موضوع خارجي بالوجوب ونحوه لأجل صفة غير دخيلة في قوام ذاته بنظر العرف ، ثمّ زالت عنه تلك الصفة ، فالحكم كما ذكرت من صدق البقاء والنقض عرفا ، وذلك كما في مثال الماء المتغيّر ، حيث إنّ النجاسة اتّصفت بها الماء الخارجى لأجل اشتماله على وصف التغيّر.

وأمّا إذا لم يكن موضوع خارجي في البين وعلّق الحكم على عنوان كلّي معتبر فيه وصف كذا ، كما إذا علّق الحكم على كلّي الماء المتغيّر ولم يوجد له مصداق في الخارج ، فلا يصحّ الحكم في الأفراد الغير المتغيّرة من الماء بالنجاسة بمقتضى الاستصحاب ، وذلك لأنّ كلّي الماء المتغيّر مغاير لكلّي الماء الغير المتغيّر عند العرف أيضا ، فالمسامحة العرفيّة ورؤية الموضوع واحدا مختصّ بحال انطباق الكلّي الواجد على موجود خارجي ثمّ زال عند الوصف.

ولهذا تراهم يفتون في باب البيع بأنّه لو باع هذا الفرس العربي مشيرا إلى الفرس الغير العربي فالبيع صحيح ، وقد تخلّف الوصف ، فيثبت الخيار ، ولو باع سلما كلّي

٧٢٩

الفرس العربي فسلّم الغير العربي فهو من تسليم غير المصداق كتسليم الحجر ، لا أنّه سلّم المبيع فاقدا لوصفه.

فنقول : المقام من قبيل الثاني ، لأنّ المتيقّن السابق هو الوجوب النفسي للعنوان العام الذي هو الصلاة التامّة أو المقيّدة ، والمقصود إسراء حكمه إلى عنوان كلّي آخر وهو الصلاة الناقصة ، وهذا حال الاستصحاب.

وأمّا القاعدة ، فإن قلنا : إنّ السقوط وعدمه بالنسبة إلى حكم الميسور والمعسور ، أي لا يسقط حكم الميسور أعني الناقص بواسطة حكم المعسور أعني الكلّ أو المقيّد فالكلام فيه هو الكلام في الاستصحاب حرفا بحرف ؛ فإنّ عدم السقوط كالبقاء بالنسبة إلى الوجوب النفسي كما هو محلّ الكلام يحتاج إلى حالة سابقة مفقودة بالنسبة إلى كلّي الصلاة الفاقدة.

وأمّا إن قلنا بأنّهما ملحوظان بالنسبة إلى نفس الميسور والمعسور أعني نفس الصلاة الفاقدة والواجدة باعتبار أنّ نفس العمل كالدين ، بل هو حقيقة دين الله فيصح فيه اعتبار الثبوت في الذّمة والسقوط عنها ، فلا غبار حينئذ على التقريب المذكور ؛ إذ نقول : كان الحمد وكذا وكذا في الذمّة حال التمكّن من جزء أو شرط كذا ، فهذه الذوات باقية غير ساقطة عن عهدة المكلّف عند عسرهما.

ويمكن أن يقال : إنّه وإن كان لا يمكن استصحاب شخص الوجوب الغيري في موضوع الناقص والمطلق ، لكون النفسي والغيري شخصين من الوجوب ، ولا استصحاب شخص الوجوب النفسي فيهما ، لكونهما مع التامّ والمقيّد شخصين من الموضوع ، ولكن لنا انتزاع الجامع في الطرفين ، فنقول : أصل الوجوب النفسي الجامع بين الضمني والاستقلالي متعلّقا بالمهملة عن حدّي الإطلاق والتقييد والنقص والتمام كان متيقّن الحدوث مشكوك البقاء.

٧٣٠

أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّا نحتمل بقاء هذا الجامع بواسطة حدوث الوجوب النفسي الاستقلالي في موضوع المطلق أو الناقص عند زوال الوجوب النفسي الاستقلالي في موضوع المقيّد أو التامّ بناء على صدق البقاء بالنسبة إلى الكلّي عند حدوث فرد منه بعد زوال فرده الآخر ، كما هو الحق ، على خلاف ما اختاره شيخنا المرتضى قدس‌سره ، كما نرى صدق قولنا : وجود الإنسان باق في الأرض من لدن أدم عليه‌السلام إلى زماننا ، وبالجملة ، عموم قضيّة لا تنقض بالنسبة إلى الجامع من حيث صدق البقاء والنقض لا قصور فيه.

نعم قد يستشكل فيه في خصوص ما إذا كان الجامع حكما من حيث كونه خارجا عن وظيفة الشارع ولا تناله يد الجعل ، بخلاف ما إذا كان موضوعا لحكم ، والفرق أنّ مفاد الاستصحاب في الثاني جعل الأثر ، والمفروض أنّه أثر واحد شخصي ، وأمّا في الأوّل فمفاده جعل نفس الحكم وتكوينه ، والمفروض أنّه الجامع الملغى عنه الخصوصيّتان ، وهو غير قابل للجعل بالاستقلال ، وإنّما القابل له هو الخاصّ.

ولكن يمكن دفعه أيضا بأنّه يكفي قابليّته للجعل بالتبع ، أعني بتبع جعل الخاص ، وهو في المقام جعل الوجوب النفسي في موضوع المطلق أو الناقص ، وهذا المقدار من القابليّة يكفي في شمول لا تنقض ، ألا ترى أنّ من المسلّم استصحاب الصحّة ، مع أنّ الصحّة بنفسها غير قابلة للجعل مستقلّا ؛ لأنّها أمر قهري الانتزاع عن موافقة المأتيّ به للمأمور به ، لكنّها قابلة له تبعا لجعل منشأ الانتزاع ، هذا.

ولكنّه مع ذلك غير خال عن الخدشة ، وبيان الخدشة موقوف على تقديم مقدّمة وهي أنّ معنى لا تنقض ليس «أبقيت السابق» حقيقة ، لوضوح أنّه خطاب إلى المكلّف ، وليس مفاده إعطاء وظيفة التشريع والجعل إيّاه ، فبقي أن يكون المراد هو القول والاعتقاد بوجود السابق أو العمل على طبقة ، وحيث إنّ التصديق الجناني

٧٣١

غير مقصود ، فبقي أن يكون المراد هو عدم النقض العملي ، كما أنّ المراد بقضيّة «صدّق العادل» هو التصديق العملى.

نعم يلزمه غالبا إبقاء السابق حقيقة بنفسه في ما كان هو الحكم ، أو بأثره في ما كان هو الموضوع ، فإنّ اللازم من إبقاء وجوب صلاة الجمعة عملا هو وجوبها ، واللازم من إبقاء حياة الزيد المترتّب عليها وجوب الإنفاق على عياله من ماله عملا وجوب الإنفاق.

ومن هنا يندفع الإشكال بأنّه كيف يمكن إرادة إبقاء السابق بنفسه في بعض الموارد وبأثره في بعض آخر من عبارة «لا تنقض اليقين بالشكّ» مع أنّه مستلزم لاجتماع اللحاظين في لحاظ واحد.

وحاصل وجه الاندفاع أنّ المدلول المطابقي للقضيّة ليس هو إبقاء ما كان تشريعا وجعلا الذي هو فعل الشارع ، وإنّما هو لازم المدلول المطابقي بحسب الغالب ، والمدلول المطابقي هو إبقاء ما كان عملا ، وهو أمر واحد في جميع الموارد ، ولكن لازمه مختلف حسب اختلافها.

وإنّما قيّدنا بالغالب على خلاف ما يظهر من كلمات شيخنا المرتضى ومن تأخّر عنه قدّس أسرارهم من كون أحد الأمرين لازما للاستصحاب دائما ، بل داخلا في معناه ، للاحتراز عن استصحاب عدم الوجوب أو الحرمة الأزليين ، مثل استصحاب عدم جعل الشارع الحرمة في موضوع شرب التتن أزلا.

فعلى قولهم رضوان الله عليهم من كون المعنى إبقاء الشارع جعله السابق فهو منحصر في موارد وجود الجعل سابقا ، فلا يجري في مثل المثال المتحقّق فيه عدم الجعل ، وهو وإن كان اختياريّا بملاحظة تمكّن الشارع من قلبه بالوجود ، ولكن ليس مجعولا ، لأنّ العدم غير قابل للجعل ، والحاصل أنّ المتحقّق سابقا عدم القضيّة

٧٣٢

رأسا ، لا القضيّة التشريعيّة التي محمولها العدم.

وعلى ما قلنا من كون المعنى إبقاء المكلّف عمله السابق ، فهو غير منحصر في تلك الموارد ، نعم غالبا يكون كذلك ، فيجري في المثال أيضا لأنّ المكلّف في الزمان السابق المفروض عدم الجعل فيه رأسا كان عمله ولو باستقلال من عقله هو الإطلاق وعدم الالتزام بأحد من الفعل والترك ، فإبقاء ذلك العدم الأزلي عملا هو الإطلاق المذكور ، ولازمه الترخيص الشرعي ، مع أنّ المفروض عدم تحقّق حكم مجعول في السابق رأسا ، لا رخصة ولا غيرها.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول : إبقاء المهملة الموجودة في ضمن المقيّد سابقا بإيجاد فردها الآخر أعني المطلق وإن كان إبقاء لها ، ولكن لا يصدق على العمل على طبق الوجوب المطلق أنّه إبقاء عملى لوجوب المهملة المعلوم في السابق ، وذلك لأنّ عمل المهملة المعلوم قيدها ليس الإتيان بها في ضمن فاقد القيد ، بل هو أجنبيّ عنها ، وإنّما هو الإتيان بها في ضمن المقيّد لا غير ، والمفروض في اللاحق عدم إمكان هذا العمل ، والعمل بإتيان المهملة في ضمن الفاقد ليس إبقاء العمل السابق ، ولا يخفي أنّ هذا الإشكال خاصّ باستصحاب الجامع بين الوجوب النفسي الضمني والنفسي الاستقلالي في المهملة ، كما هو محلّ الكلام ، وأمّا استصحاب الجامع بين الوجوب الغيري الاستقلالي والنفسي كذلك في الناقص فهو سليم عن هذا الإشكال ؛ لأنّ عمله لم يكن إلّا إتيان الناقص.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا من أوّل البحث إلى هنا أنّ الأصل العقلي هو الاشتغال ، وكذا الشرعي ، لا من جهة الاستصحاب ، بل من جهة قاعدة الميسور إن تمّ فيها التقريب المتقدّم ، أعني كون المراد عدم سقوط نفس الميسور لا حكمه ، وإلّا فالأصل الشرعي على البراءة من جهة استصحاب عدم وجود الناقص ، هذا.

٧٣٣

مربوط به ص ٤٧٤ جلد أول

التعليقة ٣ ـ محصّل ما اختاره المحقّق الخراساني بعد ما اختار في الحاشية الجمع بالشأنيّة والفعليّة فرأى أنّ ذلك يوجب عدم تنجيز الأمارات للواقعيات ، فإنّ الوصول من مرتبة الشأنية إلى الفعليّة على هذا لا بدّ وأن يكون بجعل الشارع ، ففي العلم قد استرحنا بواسطة قوله : «الناس في سعة ما لم يعلموا» الذي مفهومه أنّهم ليسوا في سعة متى علموا ، فيستفاد منه أنّ العلم يوصل إلى مرتبة الفعليّة ، فالعلم موضوعي في هذا الأثر ، ولهذا صرّح بأنّ قول الأخباريّة على هذا يمكن تصحيحه بأن يجعل الشارع لبعض العلوم اختصاصا ، ولكن هذا المعنى غير متمشّ في الأمارة لقصور دليل الحجيّة عن شمول هذا الأثر فيكون الشكّ متعلّقا بالشأني مع عدم الوصول إلى الفعليّة ، ومن المعلوم أنّ العلم والشكّ المتعلّقين بالحكم الشأني لا أثر لهما أصلا.

فلهذا عدل عن هذا الطريق في الكفاية وفصّل بين الأمارات والاصول ، فاختار في الاولى أنّ الواقع فعلي من جميع الجهات ، وجعل الأمارة إنّما هو جعل حجيّتها لا جعل الحكم ، واختار في الثانية حيث لا حجيّة مجعولة في البين أنّ الواقع فعليّ بجميع الحيثيات سوى حيثيّة جهل المكلّف وشكّه ومقتضى الترخيص الذي تحقّق فيه.

وبعبارة اخرى : الحكم في ذاته بالغ مرتبة الفعليّة ، والجهل مانع ، لا أن يكون المقتضي في ذاته قاصرا ، فإذا ارتفع تحيّر المكلّف في وظيفته في مقام العمل وعلم بواسطة الحكم الأصلي أنّه الحليّة يصير الواقع على تقدير كونه الحليّة فعليّا قهرا ، وعلى تقدير كونه غيرها يرتفع المضادّة ، لأجل عدم تماميّة فعليّة الواقع.

وبعبارة ثالثة : للحكم ثلاث مراتب ، الاولى : مجرّد الإنشاء المتحقّق بقصد تحقّق المفهوم عند التلفّظ أو الكتابة أو الإشارة ، وهذا كالجسد بلا روح ، والثانية : أن يترقّى من هذه المرتبة وينفخ فيه روح الفعليّة الثابتة بحسب الاقتضاء والسالمة عن المزاحم من جميع الحيثيات غير حيثية الشكّ والترخيص ، فلا فعليّة له من هذه

٧٣٤

الجهة فقط ، ولا نقص فيه من هذه الجهة اقتضاء أيضا ، بل هذه الجهة أعني ورود الترخيص والإذن في موضوع الشكّ جهة غالبة ويوجب مغلوبيّة الحكم المذكور ، فالحكم المذكور يصير مقتضيا تامّا للبعث والزجر مغلوبا للجهة العارضة الغالبة أعني الحكم الأصلي بالخلاف.

ومثل هذا لا يحتاج في تنجيز العلم المتعلّق به إلى تتميم من الشارع كما كان كذلك في المرتبة الاولى ، فالعلم في المرتبة الاولى موضوع على وجه الطريقيّة وكان له أثران ، أحدهما شرعي وهو إعطاء الفعليّة ، والآخر عقلي وهو التنجيز.

ولهذا استشكل المحقّق لمذكور في قيام الطرق والاصول مقامه على حسب مذاقه قدس‌سره ، وأمّا في هذه المرتبة فهو طريقي محض لا أثر له إلّا التنجيز ، فإنّ إعطاء الفعليّة قد تمّ فيه نفسه ، والمزاحم الذي يغلبه وهو الحكم الأصلي المخالف معدوم بالفرض ، فلا يؤثّر العلم فيه أثرا شرعيّا ، بل يتمحّض تأثيره في العقلي وهو التنجيز. ولهذا لا إشكال في قيام الإمارات والاصول مقام هذا العلم ، هذا.

فتحقّق من هذا أنّ الموضوع للأصل أيضا متحقّق ، فإنّه الشكّ في حكم لو تعلّق به بدون إمداد جعل آخر شرعي إليه العلم لأثّر التنجيز وهو موجود في المقام ، بخلاف الحال بناء على مختار الحاشية.

والمرتبة الثالثة هي الفعليّة التامة من تمام الجهات الملازمة للبعث والزجر في النفس النبويّة أو الولويّة صلوات الله عليهما ، فالذي يتولّد منه المحذور احتمال وجود هذه المرتبة في مورد الأصل المرخّص ، فإنّه احتمال التناقض ، وأمّا الفعليّة المترقّبة عن محض الإنشاء المنحصر مانعة في الترخيص الناشئ عن المقتضي والملاك الموجود في الشكّ فاحتمال وجودها في مورد الأصل المرخّص لا محذور فيه ، فإنّه إن كان الموجود في الواقع هو الترخيص فليس من اجتماع المثلين لكون الحليّة الأصليّة متّحدة وعينا مع ذلك الترخيص ، لكونها ناظرة إلى الواقع ومن سنخ الحكم الطريقي ، وإن كان الموجود هو الإيجاب أو التحريم فلا تناقض ، لعدم البعث والزجر ومجرّد الفعليّة المنفكّة عنهما بواسطة المغلوبيّة لا تضادّ الإذن والترخيص.

٧٣٥

مربوط به ص ٥٨٣ جلد اوّل

التعليقة ٤ ـ وحاصل الجواب أنّ حجيّة الخبر على وجه الطريقيّة ليست معناها الأخذ بمفاد قوله مطابقة أو التزاما حتّى لا يتعدّى عن هذا الميزان ، كما لا يجوز لنا في قولهعليه‌السلام : «لا تنقض» الخروج من دائرة نقض اليقين بالشكّ ، بل يجب الجمود عليه ، وجه ذلك أنّا نأخذ بما هو ملازم للمخبر به علما ، لا لازم ولا ملزوم ولا ملازم له عادة أو عقلا بملاحظة أثره الشرعي ، وليس هذا أخذا بمدلول قوله ، وكذلك ليست معناها التعبّد بالمدلول ثمّ بعده جعل الملازمة بمعنى أن يرد التنزيل أوّلا على حياة زيد ـ مثلا ـ المخبر به ثمّ على بياض لحيته ، أو على الملازمة بينهما ثمّ على صلاة ركعتين ، فإنّه مضافا إلى عدم قابليّة الوسائط للجعل لا عين ولا أثر لتنزيل اللوازم والملزومات والملازمات في الدليل.

والحاصل : لسنا دائرين مدار عنوان الاخبار والاندراج تحت عنوان المخبر بهيّة ، وإلّا لم يشمل ما ليس في الكلام إشعار به ولا في ذهن قائله احتمال له ، إذ كيف يصحّ حينئذ إطلاق أنّه قاله ، أو أخبر به ، أو دلّ عليه لفظه ، أو أمثال ذلك؟ ولا أن تكون هنا تنزيلات في كلّ واسطة واسطة طوليّات مترتّب كلّ لا حق على سابقه ، إذ ليس في البين اسم لهذه التنزيلات المتعلّقة باللوازم وغيرها ، بل من الواضح أنّ هنا تنزيل واحد متعلّق بلا واسطة بما هو الحكم والأثر الشرعي حتى يلزم على التقدير الأوّل أنّه بواسطة «صدّق» في خبر الشيخ يحرز المقول لقول المفيد ثمّ ب «صدّق» في هذا المقول التعبّدي يحرز مقول الصدوق وب «صدّق» فيه مقول الصفّار وب «صدّق» فيه صلاة ركعتين.

وعلى التقدير الثاني أنّه يجري حكم «صدّق» أوّلا في قول الشيخ ثم في ملازمته

٧٣٦

مع قول المفيد ثمّ فيه ثمّ في ملازمته مع قول الصدوق ، ثمّ في ملازمته مع قول الصفّار ثمّ في صلاة ركعتين حتى يقال على التقديرين أنّ الأثر المنتهى إليه بالأخرة لمّا يكون هو وجوب التصديق فيلزم أن يكون التنزيل بلحاظ نفسه.

بل الحقّ في استكشاف حقيقة معنى الطريقيّة أن يتّبع الطرق العقلائية ، ونحن إذا راجعناهم نراهم أن كل انكشاف يحصل في أنفسهم ويكون مستنده وجهته حسن الظنّ بعدم كذب العادل ، وبعد احتمال الكذب في حقّه فهم يرتّبون أثر الصدق عليه.

فلو أخبر ثقة أنّه أخبر ثقة فلاني وهكذا إلى عشر ثقات أنّ العاشر قال كذا فانكشاف هذا المعنى قد حصل من جهة ذلك الخبر الوجداني الأوّل بضميمة إحرازهم موثوقيّة الوسائط ، وبعد ذلك فعين ذلك الدرجة من حسن الظن وبعد الكذب الذي يحصل عند الإخبار بلا واسطة يحصل بعينها وبلا تفاوت من هذا القول ، إذ لو لم يكن المقول الأخرى يلزم الأمر المستعبد وهو كذب أحد الثقات المذكورة في السلسلة.

وبالجملة ، معنى الطريقيّة عندهم الأخذ بكلّ انكشاف كان منشؤه ومبناه حس الظن بالعادل وبعد احتمال الكذب في حقّه ، وهذه الانكشافات وإن كانت في الوجود مترتّبة ، لكن في ملاك الأخذ كلّها في عرض واحد.

فيصير هذا المعنى العرفي العقلائي شاهدا على حمل ما ورد في الشرع من الأدلة اللفظيّة في باب الطريقيّة على هذا المعنى ، يعني كلّ انكشاف حصل ونشأ من الاعتماد بقول العادل ـ ولو كان مطرح قوله شيئا آخر أجنبيّا بالمرّة عن المنكشف بحيث يلزم على تقدير عدم هذا المنكشف كذب العادل في ذلك الإخبار بذلك الشيء الأجنبي ـ فالشارع حكم من الابتداء بلزوم الأخذ بهذا الانكشاف ، فالتنزيل أوّلا يتعلّق به بدون تعلّق له بما قبله ولو كان ألف واسطة.

٧٣٧

فافهم حتّى لا تشتبه في المراد ولا تورد أنّ السيرة العقلائيّة ليست إلّا على العمل ، فلعلّه كان لأجل المناط أو القضيّة الطبيعيّة لو كان لفظ في البين ، والكلام هنا مع قطع النظر عنهما ، فإنّ المقصود هنا استفادة الفرق من هذه السيرة بين «لا تنقض» وبين «صدّق العادل» وأنّ مفاد الأوّل هو الدوران مدار هذا العنوان ، وأمّا الثاني فمفاده بشهادة هذه القضيّة الارتكازية هو الأخذ بكلّ انكشاف كذلك من دون موضوعيّة لعنوان المخبر بهيّة أو المفاديّة أو المدلوليّة وأمثال ذلك ، ولا لعنوان ملازم المخبريّة أو لازمه أو ملزومه ، بل العنوان الموضوع في هذا الباب هو الانكشاف المذكور.

فيلزم على هذا في موارد اللوازم العقليّة والعاديّة والملزومات والملازمات كذلك تعلّق التنزيل أوّلا وابتداء بذلك الانكشاف الأخير ، لأنّه القابل للتعبّد من بين الانكشافات من دون حاجة إلى إجرائه في ما قبله.

وبعد ذلك نقول في المقام : إذا قال الشيخ : قال المفيد : قال الصدوق : قال الصفّار: قال العسكري عليه‌السلام : صلاة الجمعة واجبة فلا نحتاج بعد إحراز أمرين أحدهما : وجود صدق في ذات كلّ من خبر المفيد والصدوق والصفّار ولو بنحو القضيّة التعليقيّة يعني: لو أخبروا فصدّقهم ، والآخر : إحراز عدالة هؤلاء ، وفي الحقيقة بعد إحراز الأوّل ، إذ الثاني موضوع للاوّل إلّا إلى تعبّد واحد بتصديق واحد ، إذ بعد ذلك نقول : خبر الشيخ محرز وجدانا وهو كاشف نوعا عن خبر المفيد ، وهكذا المكشوف النوعى كاشف نوعا عن خبر الصدوق إلى أن ينتهي إلى وجوب الجمعة.

فيحصل لنا انكشاف ناقص لوجوب صلاة الجمعة ، لأنّ الكاشف عن الكاشف كاشف ، والكشف الناقص كما في كلّ مقام يصير بواسطة «صدّق» تامّا ـ يعني

٧٣٨

كشف خبر الشيخ عن وجوب الصلاة ـ فيصدق على هذا الانكشاف لصلاة الجمعة أنّه انكشاف حاصل من قول العادل ، ومنشؤه حسن الظنّ بالعادل وبعد احتمال الكذب في حقّه بحيث لو لم يكن المنكشف يلزم إمّا كذب الشيخ أو المفيد أو الصدوق أو الصفار.

نعم لو كان واحد من السلسلة خارجا عن تحت «صدّق» لا يتمّ ما ذكرنا بأن كان فاسقا أو مشكوك الحال ، فلا يرد النقض بما إذا كان في الوسائط أولويّة ظنيّة أو غيرها من الظنون الغير المعتبرة ، فإنّا نقول : نحتاج إلى وجود دليل الاعتبار في كلّ واسطة ولو على نحو التعليق ، ولا نحتاج إلى إحراز موضوعه قطعا ، إذ يلزم حينئذ عند عدم ترتيب الأثر إمّا كذب الشيخ ، ولو صدق هو كذب المفيد ، ولو صدق هو كذب الصدوق ، ولو صدق هو كذب الصفّار وكلّ منهم ورد الأمر بتصديقهم وعدم تكذيبهم بلا تقييد بوصول شخص خبرهم إلينا تفصيلا ، إذ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة لا للمعاني الواصلة المحرزة عند المكلّف تفصيلا.

وبالجملة ، لا نحتاج في إجراء دليل التعبّد في هذا الانكشاف إلى إدراجه تحت عنوان مقول العادل حتّى يحتاج إلى التعبّدات المترتّبة ، ولا نحتاج أيضا إلى تصحيح الملازمات الكائنة قبل هذا المنكشف لنحتاج أيضا إلى التعبّدات المترتّبة ، بل يجري أوّلا دليل التعبّد في نفس هذا الانكشاف لاتصافه بما هو المعيار وهو كون الانكشاف حاصلا من قول العادل وأنّه لولاه لزم كذب العادل ولو في إخباره بشيء آخر.

* * *

٧٣٩

مربوط به ص ١٨ جلد أول

التعليقة ٥ ـ لا يخفى عدم تماميّة الإشكال على الدعوى الأولى ، في مثل «بعت» الإخباري و «بعت» الإنشائي ، وذلك أنّ معنى البيع لا إشكال أنّه سهم المادّة ولا ربط له بما وضع له الهيئة وإنّما الموضوع له للهيئة هو النسبة بين المسند والمسند إليه باعتبار نفس الامريّة والخارجيّة لا باعتبار اللحاظ والتصوّر الذهني ، فإنّ النسبة لا موطن لها ولا نفس الأمر لها سوى في النفس ، ولكن كما يتصوّر سائر المفاهيم مثل مفهوم الضرب وغيره كذلك يتصوّر هذا المفهوم أيضا وهو الموضوع له لمادّة الطلب ، وأمّا الموضوع له للهيئة فهو حقيقة الطلب والصفة الخارجيّة القائمة بالنفس.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عقد القلب والبناء القلبي الذي هو النسبة الحاصلة في الذهن بين الموضوع والمحمول يكون لوجودها في النفس نحوان وكيفيتان ، الأوّل أن يحصل على نحو الحكاية عن وقوع أمر في الخارج ، والثاني أن يحصل على نحو لا حكاية له عن شيء وكان له اقتضاء وجود الشيء.

مثلا القضيّة المعقولة التي نتصوّرها عند التكلّم بقضيّة «أنت حرّ» لا إشكال أنّه مشتمل على عقد قلب فيما بين «أنت» و «حرّ» فتارة توجد هذه العقدة في نفسك على وجه يحكى عن وقوع الحريّة في الخارج ، واخرى توجدها على نحو ليس لها حكاية عن وقوع ذلك وإنّما له اقتضاء أن يقع ويوجد الحريّة بنفس هذا العقد والبناء.

وحينئذ نقول : يتحقّق كمال المشابهة والاتّحاد بين هذا المقام أعني الإخباريّة والإنشائيّة وبين الاسميّة والحرفيّة في معاني الأسماء والحروف ، فلا إشكال هنا زائدا

٧٤٠