أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

بقى الكلام فى العجز الطاري فى الوقائع المتعدّدة ، فنقول : لا إشكال فى عدم جريان الاشتغال العقلي هنا كما كان جاريا فى العجز الطاري فى الواقعة الشخصيّة ، وذلك لأنّ الشكّ هنا فى أصل ثبوت التكليف فى نفس الواقعة لا فى سقوطه فى جزئها اللاحق بعد تنجّزه وثبوته فى جزئها السابق ، وأمّا التنجز والثبوت فى الوقائع السابقة فلا يصلح موضوعا لحكم العقل فى هذه الواقعة المفروض كونها واقعة برأسها أجنبيّة عن تلك الوقائع.

كما أنّه لا محلّ للتّمسك : بقاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» لثبوت التكليف فى الباقي بتقريب أنّ الأجزاء والشرائط المقدورة محكومة بحكم القاعدة ببقاء حكمها الثابت لها فى الوقائع المتقدّمة وعدم سقوطه فى هذه الواقعة بواسطة معسوريّة الجزء أو الشرط المعجوز عنها.

ووجه عدم المحلّ أمّا أوّلا فلأنّ الظاهر من هذه القاعدة وأمثالها كونها واردة فى مقام الإرشاد والموعظة ، ومحلّ النظر فيها ما إذا كان فى البين امور متعدّدة راجحة بحيث كان كلّ منها موضوعا على حدة للرجحان ، سواء كان الرجحان وجوبيّا أم استحبابيا ولم يتمكّن المكلّف من إتيان مجموعها ، ولكن تمكّن من البعض ، كما أنّ ذلك أيضا هو الحال فى استعمالاتها العرفيّة ، فنراهم يستعملونها فى حقّ من كان دأبه الإحسان إلى غيره بمقدار عشرة توامين مثلا لا أنقص من هذا المقدار ، فعجز عن هذا المقدار فى زمان مع التّمكن من بعضه ، وكذلك يستعملونها فى الواجبات ، فنراهم يستعملونها فى حقّ من كان عليه دين بمقدار عشرة توامين فلم يتمكّن من أداء تمامه مع التمكّن من أداء بعضه.

وبالجملة ، فاستعمال الشارع لها ليس مغايرا لهذه الاستعمالات وليس الغرض منها فى كلام الشارع تشريع الحكم وإنشائه فى أجزاء المركّب المأمور به عند فقد التمكّن من بعض أجزائه وشرائطه مع بقائه بالنسبة إلى الباقي ، ووجه ذلك أنّه

٢٢١

نحتاج فى صدق عدم سقوط شيء فى حال ثبوت هذا الشيء بعينه فى الحال السابق.

وإن شئت قلت : نحتاج إلى اتّحاد الشيء الثابت فى الحال السابق مع الثابت فى اللاحق ، فهو نظير البقاء فى باب الاستصحاب حيث يعتبر فيه اتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة. فيعتبر فى مورد جريان القاعدة أن يكون حكم الميسور فى حالتي القدرة على المعسور والعجز عنه واحدا ، كما هو الحال فى الامور الراجحة المستقلّة التي صار بعضها ميسورا وبعضها معسورا ، وهذا مفقود فى الميسور من أجزاء المركّب ، فإنّه لو كان لها فى هذا الحال حكم فليس إلّا الوجوب النفسي ، وقد كان الثابت لها فى حال القدرة على الكلّ هو الوجوب الغيري.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاستدلال بالقاعدة فى المقام يبتني على أحد من ثلاثة وجوه ، إمّا بأن يقال : إنّ المراد عدم سقوط شخص الوجوب مع الإغماض عن الغيريّة والنفسيّة ؛ لأنّ هاتين الجهتين ليستا من الأسباب المعدّدة للوجوب بنظر العرف ، وإمّا بأن يقال : إنّ المراد عدم سقوط الجامع بين الوجوبين ، وإمّا بأن يقال : إنّ المراد عدم سقوط الوجوب النفسي ، لكن بدعوى أنّ هذا الموضوع أعني الأجزاء الميسورة عين الموضوع السابق أعني مجموع الأجزاء ، غاية الأمر أنّه يشترط على هذا أن يكون الجزء الميسور مشتملا على معظم أجزاء الكلّ ، ولا يكون الجزء المعجوز عنه من الأجزاء الرئيسة.

وأمّا وجه الحاجة إلى إحدى تلك المسامحات فهو توقّف صدق عدم السقوط عليها كما تبيّن وجهه من السابق ، فتكون القاعدة مساوقة للاستصحاب بناء على جميع هذه الوجوه ، بحيث لو كان القاعدة ساقطة كان الاستصحاب جاريا ، فإنّه إمّا يستصحب شخص الوجوب مع الإغماض عن الغيريّة والنفسيّة ، وإمّا يستصحب الجامع بين الوجوبين ، وهذا من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، حيث إنّ الشكّ فيه ناش من الشكّ فى حدوث فرد من الكلّي مقارنا لزوال فرده الآخر ، و

٢٢٢

إمّا يستصحب الوجوب النفسي بدعوى الاتّحاد العرفي فى الموضوع ، وهو نظير استصحاب الكرّية فى الماء الذي نقص عن الكمّ الذي كان عليه فى حال اليقين بالكريّة.

فنقول : أمّا الوجه الأوّل فمخدوش بأنّ العرف يفرّقون بين الإرادة الغيريّة والإرادة النفسيّة ، ووضوح الفرق بينهما بمثابة لا يصحّ أن ينسب الجهل به إلى أهل العرف ، وأمّا الوجه الثاني فهو وإن كان سليما عن الخدشة فى أصل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، فإنّ التحقيق صحّته وعدم توقّف بقاء الكلّي على بقاء فرده وصدقه مع تبدّل الفرد.

ولكن يرد عليه أنّ جعل الجامع جائز إذا كان له أثر ، وأمّا إذا كان حكما بلا أثر فلا معنى لجعله بوصف جامعيّته بمعنى عدم انجعال شيء من خصوصياته ، فكما لا يمكن أن يتحقّق النوع فى الخارج بوصف نوعيته فكذلك لا يمكن أن يتحقّق الإرادة فى النفس بوصف جامعيّتها بين الغيريّة والنفسيّة ، وهذا من البداهة بمكان.

بقي الوجه الثالث ، والتحقيق سلامته عن الخدشة وعليه يلزم اختلاف الحكم حسب اختلاف الموارد فى صدق الاتّحاد العرفي ، وهو غير منوط بمجرّد المعظميّة فى الكمّ ، فإنّه ربّما يكون انتفاء الجزء اليسير معدما للموضوع بنظر العرف لكثرة دخله والاهتمام بشأنه ، هذا حال الاستصحاب.

وأمّا القاعدة فبعد حملها على العموم الأجزائي بإحدى المسامحات الثلاث يصير حالها كحال الخبرين الآخرين ، أحدهما النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» والاخرى العلوي عليه‌السلام «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» تقريب الاستدلال بالأوّل أنّ الظاهر كون «من» تبعيضيّة و «ما» موصولة ، فيكون المعنى : إذا أمرتكم بشيء ذي تعدّد ولم تقدروا على بعضه فأتوا بعضه الذي استطعتم ، وقيد التعدّد وعدم القدرة لا يحتاج إلى تقديرهما ، لأنّهما مستفادان من قوله : «منه» ومن قوله : «ما استطعتم» ، وأمّا كون «من» تبيينيّة أو

٢٢٣

زائدة أو بمعنى الباء و «ما» مصدريّة زمانيّة على الكلّ لتكون الرواية مساوقة لأدلّة الحرج ويكون المعنى أنّ الأوامر الشرعيّة باقية ما دام الاستطاعة على متعلّقاتها ، فهو خلاف الظاهر، بل الأوّل وهو كون «من» تبيينيّة غير محتمل ، لعدم مسبوقيّته بمجمل كما فى خاتم من فضّة.

وتقريب الاستدلال بالثاني أنّه يتعيّن كون الكلّ الأوّل مجموعيّا ، والثاني استغراقيّا ؛ إذ لا يستقيم المعنى على كونهما استغراقيّين أو مجموعيين ، أو كون الأوّل استغراقيا ، والثاني مجموعيّا كما هو واضح ، ولكن لا يخفى أنّه يحتاج مع ذلك إلى ظهور الروايتين فى العموم الأجزائي والحكم التشريعي ، دون ما تقدّم ذكره من العموم الأفرادي والإرشاد العقلي ، فبعد هذا الظهور يصير حال الروايتين كحال رواية الميسور بعد إحدى المسامحات الثلاث.

وحينئذ فنقول : يرد على الكلّ أنّ الحمل على العموم الأجزائي مستلزم للتخصيص المستبشع وكون الخارج عن الروايات أكثر من الداخل فيها ، وذلك لكثرة الواجبات المركّبة التي لا يجب بعض أجزائها عند عدم التمكّن من بعضها الآخر كالصوم والحجّ والغسل والوضوء وغير ذلك ، وكلّما ورد فى كلام الحكيم عامّ أو مطلق كان حمله على عمومه أو إطلاقه مستلزما لمثل هذا التخصيص ، فلا بدّ من الالتزام فيه بأحد أمرين صونا لكلامه عن البشاعة ، أحدهما أن يقال : إنّه يكشف ذلك عن وجود قيد متّصل بالكلام مقالي أو حالي كان الخارج معه قليلا أو معدوما ، وصار هذا القيد مفقودا علينا بواسطة عدم نقل الرواة ، والثاني أن يقال : إنّ المراد معنى آخر غير ما هو ظاهر الكلام ، وعلى كلّ حال فيسقط الكلام عن قابليّة التمسّك بعمومه أو إطلاقه ما لم يتأيّد بعمل العلماء رضوان الله عليهم ، فإنّه يستكشف بعملهم كون المقام من موارد ثبوت ذاك القيد المفقود علينا.

وحينئذ فنقول : أمر هذه الروايات دائر بين أمرين ، الأوّل : الحمل على العموم

٢٢٤

الأجزائي والالتزام بوجود القيد متّصلا ولم ينقله الرواة ، والثاني : حملها على العموم الأفرادي.

ولا يتوهّم كون الروايات على تقدير إرادة هذا المعنى توضيحا للواضح وتبيينا للمتبيّن ، وذلك لأنّ من جبليّات نفوس الناس أنّهم إذا عجزوا عن مرتبة عالية من الإحسان أو الضيافة أو غيرها من الأفعال الخيريّة رغبوا عن الإقدام على المرتبة النازلة ، فأيّ غضاضة فى أن يكون الشارع ردعهم عن هذا المطلب الجبليّ ، وأيضا فليس هذا بأوضح من وجوب إطاعة الله وإطاعة رسوله ووجوب تجنّب النفس عن الضرر ، بل الثالث من جبليّات النفوس بل جميع طبقات الحيوان مجبولة على رفع الضرر من أنفسها ، (١) بل واختيار أخفّ الضررين عند الدوران ، ومع ذلك قد ملأ الكتاب والسنّة من الأمر بإطاعة الله ورسوله والتجنّب عن غضب الله وعذابه وناره وجهنّمه وغير ذلك ، فأمر هذه الروايات ليس بأعظم من تلك الأوامر.

ثمّ على تقدير بعد إرادة هذا المعنى من الروايات فحملها على العموم الأجزائي والالتزام بعدم نقل الرواة للقيد المتّصل أيضا بعيد ، فإنّ من دأب الرواة نقل القرائن المتّصلة بالكلام التي يتغيّر المعنى بسببها حتّى الحاليّة منها ، فعدم نقلهم للقرينة المتّصلة فى المقام بعيد عن حالهم فى الغاية ، بحيث لو دار الأمر بين هذا البعيد وبين الحمل على ذلك المعنى البعيد فالثاني أخفّ بعدا قطعا ، هذا.

ولا يتوهّم (٢) جريان إشكال التخصيص المستبشع فى الاستصحاب على الوجه الثالث، فإنّ الاستصحاب حيث إنّه من الاصول وموضوعها الشكّ فلا جرم يكون مواضع ثبوت الإجماع على خلافه خارجة عنه من باب التخصّص.

__________________

(١) كما فى الحمار ونحوه حيث يسرع فى المشي برؤية آلة الضرب ، وكما فى الهرّة ونحوها حيث تفرّ برؤية ذلك. منه عفي عنه.

(٢) توضيح : ليس هذا من الاستاد دام ظلّه ، بل هو من نفسي الحقيرة ، منه عفي عنه.

٢٢٥

الأمر الخامس

إذا دار الأمر بين اعتبار وجود شيء بالجزئيّة أو الشرطيّة وبين اعتبار عدمه بالمانعيّة أو القاطعيّة كان من باب الدوران بين المتباينين وليس من باب الدوران بين المحذورين ، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرّتين مع هذا الشيء مرّة وبدونه اخرى ، نعم لو قام الإجماع على مضريّة التكرار فى العبادة كان من باب الدوران بين المحذورين ومقاما للتخيير ، وحيث جرى ذكر المانع والقاطع ناسب بسط الكلام فى بيان الفرق بينهما مفهوما وبيان الأصل المعمول عند الشبهة فى كلّ منهما حكميّة أم موضوعيّة.

فنقول : أمّا الفرق بينهما مفهوما فهو أنّه تارة يعتبر عدم واحد مستمر من أوّل العمل إلى آخره فى عرض أجزائه وشرائطه ، ويكون هذا العدم واحدا من أجزائه أو شرائطه ، وذلك كعدم التكلّم فى الصلاة ، وحينئذ فانتفاء هذا العدم لا يورث اختلالا فى الأجزاء او الشرائط السابقة بمعنى أنّها باقية على صحّتها التأهليّة ، وإنّما يمنع عن تحقّق أصل العمل لانتفاء جزئه أو شرطه العدمي.

واخرى يعتبر هذا العدم فى العمل على وجه يكون مرتبطا بتمام أجزائه وشرائطه وذلك بأن يكون قيدا ساريا فى تمام الأجزاء والشرائط بأن يعتبر فى كلّ جزء وشرط أن لا يتحقّق الشيء الفلاني مقارنا له ولا لاحقا ، وذلك كعدم الحدث فى الصلاة ، وحينئذ فانتفاء هذا العدم يورث اختلال نظام الأجزاء والشرائط المتقدّمة ويمحو عنها صورة الجزئيّة والشرطيّة ، فوجود الشيء فى الصورة الاولى يكون مانعا لأصل العمل ، وفى الثانية قاطعا له ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّه قد قطع استمرار العدم الذي كان به قوام الأجزاء والشرائط السابقة.

٢٢٦

وأما بيان الاصل عند الشك فاعلم أنه اذا شك (١) في مانعية شيء وعدمها أو قاطعيّته وعدمها فالأصل فيه واضح ، لأنّ الشك فيه راجع إلى الشكّ في تقيّد المأمور به بهذا العدم وعدم تقيّده ، فيكون من جزئيات الشبهة بين الأقلّ والأكثر ، ويكون مبنيّا على الخلاف في تلك المسألة ، وقد مرّ أنّ التحقيق فيها البراءة.

كما أنّه لا خفاء في الأصل في الشبهة الموضوعيّة أعني الشكّ بعد الفراغ عن مانعيّة الشيء أو قاطعيّته فى حدوثه في أثناء العمل وعدم حدوثه ، فإن الأصل فيه عدم التحقّق ، غاية الأمر أنّ أصالة عدم المانع يحرز بسببها بعض الأجزاء والشرائط مع إحراز الباقي بالوجدان ، وأصالة عدم القاطع يحرز بسببها قيد الأجزاء والشرائط مع إحراز ذواتها بالوجدان ، ولا يرد أنّ الثاني أصل مثبت بلحاظ أنّ الأصل المثبت للقيد لا يثبت إضافة الذات إلى القيد وتقيّدها به ، وذلك لأنّ الواسطة خفيّة.

كما أنّه لا كلام في عدم جريان أصل الصحّة عند الشكّ في وجود المانع في الأثناء ، فإن الأجزاء المتقدّمة باقية على الصحة التأهليّة قطعا ، والأجزاء اللاحقة لم يؤت بها بعد ، وكذلك الكلّ ، وعدم المانع في الحال مشكوك ، فلا محلّ لأصالة الصحة في شيء.

إنّما الكلام والإشكال فيما إذا قلنا بعدم جريان أصالة العدم وجريان أصل الصحّة وكان الشكّ في وجود القاطع في الأثناء ، فانّه ربما يقال بجريان هذا الاصل في الأجزاء المتقدّمة بتقريب أنّ هذه الأجزاء كانت في السابق بحيث لو انضمّ اليها الأجزاء اللاحقة كانت صحيحة ، فالأصل بقاء هذا المعنى فيها.

__________________

(١) والمراد بالشبهة الحكميّة ما كان وظيفة رفعها من شأن الشارع ، سواء كانت الشبهة في طرف الحكم ، كما في الشكّ في أصل مانعيّة التكلّم ، أم في طرف الموضوع من حيث المفهوم بعد الفراغ عن أصل الحكم ، كما في الشكّ في أنّ التكلّم المانع هل هو الأعمّ من المشتمل على حرف واحد ، أو المشتمل على حرفين ، أو هو خاصّ بالثاني. منه عفي عنه.

٢٢٧

وبعبارة اخرى : كان لتلك الأجزاء في السابق إمكان الجزئيّة فالأصل بقاء هذا الإمكان فيها في اللاحق ، وذلك لأنّ القاطع ولو فرض كونه في السابق في علم الله تعالى بحيث يوجد في اللاحق ، والمفروض مضريّته حينئذ حتّى بالنسبة إلى الأجزاء السابقة أيضا ، ولكنّ الأجزاء السابقة قبل تحقّق القاطع لا يخرج بمجرد هذا العلم عن وصف إمكان الجزئيّة.

نعم بعد تحقّق القاطع في الخارج يصير عدم الجزئية ضروريا ، وذلك ضرورة أنّ الممكن لا يزول عنه وصف الإمكان بمجرّد تعلّق علم الباري تعالى بتحقّقه أو عدم تحقّقه في اللاحق ؛ ولهذا نقول بأنّ المعصية الصادرة عن العبد في اللاحق في علم الله تعالى لا يخرج بمجرّد هذا العلم عن كونه اختياريا ومقدورا للعبد ، نعم بعد التحقّق الخارجي يصير ضروريا.

لا يقال : إنّ إمكان الجزئية الذي جعلته مجرى للاستصحاب ليس حكما شرعيا ولا موضوعا للحكم الشرعي ، كما هو واضح ، فكيف يكون هذا الاستصحاب جاريا.

لأنّا نقول : لا يعتبر في شمول «لا تنقض» إلّا كون المقام مما تناله يد الجعل ويكون إثباته ورفعه من وظيفة الشرع ، سواء كان حكما شرعيا أم موضوعا أم لم يكن شيئا منهما ولكن كان منشؤه بيد الشرع ، فيمكن شمول «لا تنقض» حينئذ أيضا باعتبار المنشأ ، فلا وجه لعدم عمومه ، وذلك مثل استصحاب الصّحة ، فإنّ الصحّة أمر عقلي ينتزعه العقل من الفعل التام الأجزاء والشرائط المعتبرة في المأمور به ، وإن شئت قلت : من موافقة الفعل الخارجي للمأمور به أو لغرض الآمر ، ومع ذلك يشملها عموم «لا تنقض» باعتبار أنّ منشأها وهو الأمر بيد الشارع.

فنقول : إمكان الجزئيّة في هذا المقام من هذا القبيل ، وذلك لأنّه كما يمكن للشارع أن يرفع قيديّة عدم القاطع للأجزاء واقعا حتى تكون الأجزاء ممكنة الجزئيّة واقعا عند وجود القاطع ، كذلك يمكنه أن يرفع القيديّة في حال الشك في وجود القاطع حتى يكون بقاء إمكان الجزئيّة في حال الشكّ في وجود القاطع محفوظا ، هذا.

٢٢٨

ولكنّ التحقيق عدم الجدوى مع ذلك في هذا الاستصحاب ، وذلك لأنّ غاية ما يلزم من هذا البيان ويفيده الاستصحاب المذكور إثبات الصحّة في الأجزاء السابقة ، وأمّا الأجزاء اللاحقة فهي بعد مشكوكة الصّحة والفساد ، وذلك لوضوح أنّ وجود القاطع على تقدير ثبوته واقعا كما يكون مضرّا بالأجزاء السابقة كذلك يكون مضرا باللاحقة ، ففي الأجزاء السابقة حيث كان لإمكان جزئيتها حالة سابقة ، أمكن إثبات التعبّد بعدم القاطعيّة بالاستصحاب ، وأما الأجزاء اللاحقة فلا يمكن فيها ذلك لعدم الحالة السابقة ، لأنّها من أوّل الوجود يشكّ في إمكان جزئيّتها وعدمه.

نعم لازم رفع القاطعيّة واقعا في حال الشكّ وثبوت إمكان الجزئيّة في الأجزاء السابقة ثبوته في الأجزاء اللاحقة أيضا عقلا ، ولكنّ البناء على عدم أخذ اللوازم العقليّة في الاصول، فمن الممكن ثبوت التعبّد بعدم القاطعيّة من حيث إمكان الجزئيّة في الأجزاء السابقة وعدم ثبوته من حيث الإمكان في الأجزاء اللاحقة.

وإذن فاستصحاب الأهليّة والإمكان بالمعنى المذكور لا يجدي في إثبات صحّة المركب، وعلى هذا فيشترك الشكّ في وجود المانع وفي وجود القاطع في عدم الانتفاع بأصل الصحّة فيهما ، نعم لا إشكال في أصالة العدم في كليهما.

الأمر السادس في شرط اجراء البراءة

فنقول : أمّا شرط البراءة العقليّة عند الشكّ في التكليف فهو الفحص عن أدلّته وعدم الظفر بها. وجه الشرطية أنّ ما يجب على المولى إنّما هو نصب الحجّة وإقامة البيان على التكليف للعبد على نحو أمكن الوصول إليه بالأسباب العادية ، وليس عليه أزيد من ذلك بحكم العقل ، فلو كانت الحجّة قائمة واقعا وأمكن الوصول إليها بالأسباب العادية كان وجودها الواقعي بمنزلة وجودها العلمي.

٢٢٩

فلو تهاون المكلّف في الفحص ووقع في خلاف الواقع استحقّ العقوبة ، لتماميّة الحجّة عليه ، ولا إشكال في ذلك أي استحقاق العبد للعقوبة عقلا على مخالفة الواقع مع كون الحجّة عليه بحيث أمكن الوصول إليها بالأسباب العاديّة.

إنّما الكلام والإشكال فيما إذا كان التكليف بحسب الواقع موجودا ولم يكن الحجّة عليه بهذا النحو ، بحيث لو فحص المكلّف عن أدلّته انجرّ أمره بالأخرة إلى البراءة ، ولكنّه لم يتفحّص وبنى من أوّل الأمر على البراءة فوقع في خلاف الواقع ، فهل يستحقّ العقوبة حينئذ أو لا؟.

ذهب شيخنا المرتضى قدس‌سره إلى الأوّل ، نظرا إلى أنّه صار مرتكبا للحرام مثلا بلا عذر وذلك لأنّ العقل يلزم بأحد الأمرين ، إمّا الفحص عن التكليف والاستراحة ، وإما الاحتياط مع عدمه ، وهذا الشخص خالف كلا الأمرين ، فليس له عذر مسموع ، نعم هو في الواقع بحيث لو فحص عن الدليل لم يظفر به ، ومجرد ذلك لا يصير عذرا ما لم يصدر عنه الفحص.

والحق عدم تماميّة ما ذكره قدس‌سره ، ويظهر وجهه بملاحظة أنّ استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع الثابت هل هو دائر مدار الفحص وعدمه ، فيثبت مع الثاني ولا يثبت مع الأول ، أو أنّه دائر مدار ثبوت البيان واقعا على نحو ما ذكرناه وعدم ثبوته كذلك؟ فيستحقّ مع الأوّل من غير فرق بين الفحص وعدمه ، ولا يستحقّ مع الثاني من غير فوق بينهما أيضا ، فعلى التقدير الأوّل يكون وجه حكم العقل بلزوم الاحتياط مع عدم الفحص هو الحذر عن العقوبة المترتّبة على مخالفة الواقع مع ترك الفحص ، وعلى الثاني يكون وجه حكمه بلزوم الاحتياط تردّد أمر المكلّف بين ثبوت البيان المذكور في حقّه حتّى يكون المنجّز في حقّه تامّا فيستحق العقوبة ، وبين عدم ثبوت هذا البيان حتّى لا يكون المنجّز تامّا فلا يستحقّ العقوبة ، فيلزم الاحتياط دفعا لهذا الضرر المحتمل.

وحينئذ فحكم العقل بوجوب الاحتياط هنا يكون نظير حكمه بوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالى ، فإنّ حكمه بوجوب الاحتياط في كلّ من

٢٣٠

الأطراف أيضا لأجل احتمال أن تكون الحجّة الواقعيّة موجودة فيه ، فكما أنّه لو ترك الاحتياط في أحد الأطراف وصادف عدم وجود الحجّة فيه لم يستحقّ العقوبة ، فكذلك عند الشك في التكليف مع تردّد الأمر بين ثبوت البيان المذكور وعدمه أيضا لو ترك الاحتياط وصادف عدم البيان واقعا لم يستحقّ العقوبة أيضا.

وحينئذ فنقول : الظاهر أنّ حكم العقل بلزوم الاحتياط في موارد الشكّ في التكليف قبل الفحص إنّما هو لأجل احتمال أن يكون البيان المذكور ثابتا ، فيكون العقاب عقابا مع البيان ، ومعنى ذلك تسليم العقل أنّه لو لم يكن البيان المذكور ثابتا لم يكن العقاب موجودا ، لا أنّ للعقل حكما تنجيزيا بثبوت العقاب على كلّ تقدير مع ثبوت التكليف واقعا.

وعلى هذا فكما يكون ثبوت التكليف واقعا من أجزاء الحجّة والمنجّز للتكليف ، كذلك يكون ثبوت البيان المذكور أيضا متمّما للحجّة والمنجّز ، فكما لا يستحقّ العقوبة بترك الفحص مع عدم ثبوت التكليف واقعا ، فكذلك لا يستحقّ العقوبة بتركه مع عدم ثبوت البيان المذكور ولو مع ثبوت التكليف واقعا ، من غير فرق بين صورة الفحص وعدمه ، فإنّ عقاب المكلّف التارك للفحص حينئذ عند المولى العالم بعدم ثبوت البيان المذكور واقعا يكون عقابا بلا بيان وإن كان المكلّف جاهلا بأنّ عقابه عقاب مع البيان أو بدونه ، فإنّ جهله لا يجوّز عقاب المولى مع علمه بكونه عقابا بلا بيان.

وعلى كلّ حال فلا إشكال على الوجهين في أنّه ليس للعقل حكم بالبراءة جدّا قبل الفحص ، هذا هو الحال في الشبهة الحكميّة.

وكذا الكلام في الشبهة الموضوعيّة ، فالبراءة العقليّة فيها ايضا منوطة بالفحص ؛ فإنّ موضوع حكم العقل بلزوم الفحص وعدم جواز العمل على طبق البراءة قبله إنما هو الجهل بحكم الله ، والشبهة الموضوعية أيضا جهل بحكم الله ، غاية الأمر أنّه على تقدير ثبوته يكون مضافا إلى الموضوع الشخصي ، ولا فرق في مناط حكم العقل بين أن يكون حكم الله مضافا إلى الموضوع الشخصي أو الكلّي ، و

٢٣١

الاستحقاق وعدمه أيضا يكون الكلام فيهما ما مضى من التفصيل بين ما إذا كانت الحجّة موجودة وأمكن الوصول إليها بالطريق المتعارف ، وبين غير هذه الصورة ، إلّا أنّ الذي سهّل الخطب في هذه الشبهة وجود الدليل القطعي من إطلاق الأدلّة اللفظيّة على ثبوت البراءة الشرعيّة فيها قبل الفحص وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لا يعلمون» وأمثاله ، فإنّه بإطلاقه شامل للموضوع الشخصي المشكوك كونه من أفراد العنوان المحرّم أو المحلّل أو النجس أو الطاهر مع إمكان تبيّن الحال فيه بالفحص ، هذا هو الكلام في شرط البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقليّة فقد يقال بعدم اشتراطها بالفحص (١) تمسكا بإطلاق نحو

__________________

(١) والتحقيق في المقام أن يقال : لا فرق بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، لا في البراءة العقليّة ، ولا في النقليّة ، فالبراءة العقليّة التي هي عبارة عن الترخيص المستند إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يتوقّف في كلتا الشبهتين على الفحص عن الواقع بمقدار المتعارف ؛ إذ مع عدمه ووجود الواقع ووجود الأمارة المتعارفة عليه ليس العقاب بلا بيان ، وهذا واضح.

وأمّا البراءة النقليّة فلا بدّ أوّلا من التكلّم في أنّه هل لأدلّته اللفظيّة من مثل حديث الرفع إطلاق شامل للشبهة بكلتا قسميها قبل الفحص ، فنحتاج في الشبهة الحكميّة التي لا نقول فيها بعدم الفحص إلى التماس الدليل من الإجماع وغيره على وجوب الفحص؟ أو أنّها قاصرة في كلتا القسمين من شمول الشكّ الغير المفحوص عن جهات رفعه ، وذلك للبناء على أنّ لفظ ما لا يعلم ، والشكّ وأمثالهما وإن كانا يصدقان لغة بمحض عدم العلم مطلقا ، ولكنّهما لا يصدقان عرفا إلّا فيما كان للشكّ استقرار ، وأمّا من كان بجنبه من لو سأله يخبره بالواقع مثلا ، والحاصل يكون العلم بالواقع سهل التناول له فلا يصدق في حقّه أنّه لا يعلم.

ألا ترى أنّ من لا يعلم أنّ زيدا مطالب منه وذو دين عليه ، ولكنّه لو نظر في دفتره لاتّضح عليه الحال لا يصدق عليه أنّه جاهل بالحال؟.

وعلى هذا بنى سيّد الأساتيد الميرزا الشيرازي طاب رمسه في الشكوك الصلاتيّة حيث أفتى بتعلّق الأحكام على حالة استقرار الشكّ الحاصل بعد التروّي ، لا على مجرّد حصوله ، وعلى هذا فنحتاج في الشبهة الموضوعيّة التي نقول فيها بالبراءة قبل الفحص إلى التماس الدليل من الإجماع ، فيقتصر على مقداره وهو الشبهات التحريميّة، وباب الطهارة والنجاسة.

٢٣٢

__________________

وأمّا الوجوبيّة فلا ، كما لو شكّ في بلوغ مقدار مسيره حدّ المسافة الشرعيّة ، فلا يجوز له الرجوع إلى استصحاب التمام مع إمكان الفحص وتحصيل العلم بسهولة وعلى حسب المتعارف ، وكذا لو شكّ في تعلّق الأخماس أو الزكوات أو ديون الناس بماله مع إمكان تحصيل العلم بالمراجعة والحساب ، أو في كونه مستطيعا كذلك فلا يجوز له الرجوع إلى أصل البراءة.

الإنصاف عدم شمول الأدلّة لمثل الجاهل المتمكّن عن إزالة الجهل بسهولة ، لا نقول : إنّ مادّة العلم أو الشكّ عرفا غيرهما لغة ، فليس هذا الشخص بعالم وهو شاكّ بكلا الاصطلاحين ، لكن حالهما حال الإنسان ذي الرأسين في كونه إنسانا لغة وعرفا ومع ذلك الحكم المعلّق على الإنسان لا يشمله ، وهنا أيضا نقول في قولهعليه‌السلام : كلّ شيء حلال حتى تعلم ، مثلا ، هذا الشخص لا يصدق عليه أنّه عالم فلا يجري عليه حكم الغاية ، فيصدق عليه لا محالة «لا عالم» لعدم ارتفاع النقيضين ، ولكن مع ذلك الحكم المعلّق في المغيّا على اللاعالم لا يشمله أو مشكوك الشمول له.

وحينئذ يكفي في عدم الرخصة له حكم العقل بالاشتغال قبل الفحص ولا يلزم دخوله في عنوان العالم ، فإنّ الحكم في العالم إرشادي عقلي ، والتعبّدي مختصّ بحكم اللاعالم ، وقد فرضنا انصرافه عن هذا المصداق العرفي اللغوي من اللاعالم ، فالقضيّة منحلّة إلى قضيّتين ، الاولى : العالم ليس له بحلال ، والثانية : انّ غير العالم له حلال ، فالاولى إرشادية وليس لها انصراف ، فلا يدعى أنّ هذا الشخص عالم ، والثانية شرعيّة وهذا الشخص أيضا غير عالم ، لكن الحكم لا يشمله ، كما أنّ الإنسان ذي الرأسين إنسان لا بقر ولا غيره ، ومع ذلك حكم الإنسان لا يشمله ، فإذا خرج هذا الشخص عن الغاية والمغيّا ، شمله حكم العقل ، هذا.

وأمّا الكلام في العامل بالبراءة قبل الفحص من حيث التبعة والعقوبة فنقول : لو اتفقت مخالفته للتكليف الثابت عليه واقعا الذي لو فحص لظفر به ، فلا يخلو إمّا أن يكون التكليف مطلقا لا مشروطا ولا معلّقا على عنوان خاص ، بل على عنوان المكلّف ، فحينئذ لا شبهة في استحقاقه العقوبة ، وإمّا أن يكون مشروطا بشرط أو وقت فحينئذ استشكل في استحقاقه فيما إذا ترك التعلّم قبل حصول الشرط ودخول الوقت ولم يتمكّن منه بعدهما بناء على ما تقرّر عندهم من أنّ الوجوب المشروط عدم عند عدم الشرط ، فلا وجوب لمقدّمته أيضا التي هي التعلّم ، فلا تصحّ العقوبة على ترك التعلّم عند التمكّن ؛ لعدم الوجوب ، ولا على المخالفة الحاصلة بعد حصول الشرط ودخول الوقت ؛ للعجز وعدم الوجوب أيضا.

٢٣٣

__________________

ومن هنا التجأ بعضهم هنا وفي الغسل قبل الفجر للصوم إلى القول بالوجوب المعلّق ، ومقتضاه تحصيل المقدّمات الأخر غير المعلّق عليها إذا علم حصولها ، وبعض آخر إلى القول بالوجوب النفسي للتعلّم للغير ، لا الوجوب الغيري ، والأوّل ممكن قبل وجوب الغير ، والثاني غير ممكن ، والفرق أنّ الثاني معلول للإرادة الخارجيّة المتعلّقة بالغير ، فإذا فرضت معدومة فلا محالة ينعدم ما هو بتبعها ومترشّح منها ، والأوّل معلول لحاظ الإرادة المتعلّقة بالغير ، فحال الإرادة الملحوظة حال المصلحة الملحوظة الداعية إلى الطلب والإرادة مع عدم تحقّقها في الخارج ، فإنّ المؤثّر في النفس هو لحاظ وجودها في المستقبل ، وهنا أيضا كذلك.

وإمّا أن يكون متعلّقا بعنوان خاص كعنوان البالغ أو المستطيع أو نحو ذلك ، وهذا أيضا يجري فيه الإشكال المتقدّم وإن كانوا لم يتعرّضوا لهذا في كلماتهم.

والتحقيق في دفع الإشكال في كلا المقامين ، أمّا المقام الأوّل أعني : الواجبات المشروطة بالوقت أو بأمر آخر فبأنّا نرى بالوجدان أنّ الإرادة المتعلّقة بالمقيّد أو المركّب الذي بعضه خارج عن حيّز الطلب وغير مطلوب حصوله من جوارح العبد يكون هو مأخوذا بالنسبة إلى غير هذا البعض من سائر مقدّماتها الوجوديّة لو علم بحصول هذا البعض ، وأنّه لو لم يبادر بإتيان تلك المقدّمات لامتنع إتيان ذيها عند حصول ذلك الأمر ، ولا فرق في ذلك بين إرادة الآمر وإرادة الفاعل ، وقد مرّ تحقيق هذا وتشريحه زيادة على هذا في مبحث مقدّمة الواجب ، وعلى هذا فيجري مثل ذلك في المقام بالنسبة إلى ترك التعلّم الذي فرضناه من المقدّمات الوجوديّة قبل حصول شرط الواجب الذي نعلم بحصوله فيما بعد ، وأنّه لو لم يتعلّمه الآن تعذّر عليه بعد حصوله.

وأمّا في المقام الثاني أعني التكاليف المعلّقة على العناوين فنقول : يمكن ادّعاء أنّ الظاهر من تلك القضايا التي يصنّف فيها الإنسان ويخرج صنف عن تحت التكليف والمؤاخذة بالمرّة والآخر تحتها ، لا كما في القضيّة المشروطة من جعل جميع ذوات الناس تحت التكليف في الخطاب عند حصول الأمر الفلاني ، هو كون القدرة الخاصّة أعني الحاصلة حال حصول العنوان لها مدخليّة في المصلحة والغرض كنفس العنوان المعلّق عليه الحكم ، فكما لا فوت للغرض مع عدم العنوان ، فكذلك مع عدم القدرة حال حصول العنوان ، فتكون القدرة شرطا شرعيا ، وعلى هذا فمع العلم بحصول العنوان في المستقبل وأنّه لو لم يتعلّم الأحكام المتعلّقة بالواجب لما تمكّن منه حين حصوله لو ترك التعلّم ، فتعذّر عليه العمل لا يستحقّ العقوبة.

٢٣٤

قوله : «رفع ما لا يعلمون» ، فإنه كما يكون بإطلاقه شاملا للموضوع المشتبه مع إمكان الفحص ، فكذلك يكون شاملا للحكم المشتبه مع إمكانه أيضا بلا فرق ، لوضوح صدق عنوان «ما لا يعلم» على المسائل المجهولة التي يتمكّن المكلّف من رفع الجهل فيها بالفحص ، والعقل أيضا لا يستقلّ بقبح الترخيص الشرعي قبل الفحص ولهذا يكون ثابتا في الشبهة الموضوعية بلا كلام وإنّما يحكم بقبح العمل على طبق البراءة قبل الفحص مع عدم الترخيص الشرعي ، فإذا ثبت الترخيص الشرعي بالإطلاق المذكور ارتفع حكم العقل بارتفاع الموضوع.

__________________

وأمّا الكلام في العامل بالبراءة التارك للفحص من حيث الأحكام فلا إشكال في عدم إجزاء عمله لو خالف الواقع ووجوب الإعادة عليه في الوقت والقضاء في خارجه ، كما هو الحال في كلّ جاهل ، سواء المعذور وغيره قبل الفحص وبعده.

نعم قد دلّت النصوص والإجماع على إجزاء عمل الجاهل المخالف للواقع في مقامين ، الأوّل في الجهر والإخفات ، والثاني في القصر موضع التمام وبالعكس من حيث القضاء والإعادة ، وأنّه معاقب مع ذلك على مخالفة الواقع لو كان مقصّرا.

فيستشكل عليه من جهتين من حيث القضاء ، الاولى : أنّه إذا كانت الصلاة غير مأتيّ بها على وجهها فما معنى الصحّة والتماميّة؟ والثانية : إذا كان الوقت باقيا فالواجب الحكم بالإعادة ليرفع عنه العقوبة ، لا رفع الإعادة وإثبات العقوبة.

واجيب عن كلتا الجهتين بأنّه من الممكن أن يكون هنا مطلوبين متضادّين غير ممكن الاجتماع في الوجود، وكان أحدهما أهمّ والآخر مهمّ ، وقد امر بهما معا على نحو الترتّب.

واستشكل عليه بمنع الترتّب ، وأنت خبير بأنّ القول بالترتّب حتّى يتوجّه عليه المنع على القول به إنّما يصحّ في مثل القصر والتمام اللذان كلّ منهما مقيّد بقيد ينافي قيد الآخر ، وأمّا في مثل الجهر والإخفات اللذان أحدهما مقيّد والآخر مطلق حيث إنّ المطلوب الأدنى هو الصلاة لا بقيد الجهر لا مقيّدا بالإخفات فالقول بوجود الأمرين وأنّه ممتثل بامتثالين عند إتيان المقيّد وممتثل وعاص عند إتيان صرف الوجود بلا قيده لأنّ المفروض أنّ صرف الوجود غير قابل للتكرار لا يمنعه القائل بالترتّب أيضا ، ولا يتوقّف صحّته على صحّة الترتّب كما هو واضح ، فلا وجه لهذا الابتناء والمنع في كلا المقامين ، كما وقع في الرسائل والكفاية. منه قدس‌سره الشريف.

٢٣٥

وقد يجاب

أوّلا : بانّ هذا الإطلاق مقيّد في الشبهة الحكميّة بما بعد الفحص ، للإجماع القائم على وجوب الفحص فيها.

وثانيا : بأنّ هذا الإطلاق مقيّد في هذه الشبهة بما بعد الفحص بسبب العلم الإجمالى بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة ؛ فإنّ من لوازم التصديق بنبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعلم برسالته عن الله تعالى هو العلم بثبوت تكاليف من واجبات ومحرّمات يكون المكلّف مأخوذا بها ، والوقائع المحتملة للتكليف بتمامها أطراف لهذا العلم ، فيجب فيها بمقتضى العلم الإجمالي الفحص والطلب.

ويرد على الأوّل أنّ الإجماع في مثل المسألة ممّا يتمشّى فيه الأدلّة الأخر من العقل والنقل لا يصلح للاعتماد ، ويرد على الثاني أنّ العلم الإجمالي تارة يدّعى بوجود الواجبات والمحرّمات في نفس الأمر ، واخرى يدّعى بوجودها فيما بأيدينا من الكتب ، فإن كان المراد هو الأوّل ، ففيه أنّه مع عدم تحصيل مقدار من المسائل يساوي مقدار المعلوم بالإجمال يكون العلم باقيا ، فلا يكون الفحص رافعا لأثره من وجوب الاحتياط في المسائل المشكوكة ، فلا تكون البراءة جارية فيها بعد الفحص أيضا ، ومع تحصيل هذا المقدار من المسائل يكون العلم منحلّا ، ومعه لا مقتضى لوجوب الفحص في المسائل المشكوكة ، فتكون البراءة جارية فيها قبل الفحص أيضا.

وإن كان المراد هو الثاني ففيه أنّه وإن كان مفيدا للمدّعى قبل تحصيل مقدار المعلوم بالاجمال من المسائل بلحاظ أنّ المسألة المشكوكة على هذا تكون من أطراف العلم قبل الفحص ، وتكون شبهة بدوية بعده وذلك لاحتمال كونها ممّا في الكتب قبل الفحص ووضوح عدم كونها كذلك بعده ، إلّا أنّه لا يفيد المدّعى بعد تحصيل المقدار المذكور ؛ لانحلال العلم حينئذ كما ذكرنا في الوجه الأوّل ، فمقتضى العلم الإجمالي على هذا أخصّ من المدّعى ، كما أنّه على الوجه الأول كان مباينا له هذا.

٢٣٦

والوجه أن يقال بتقييد الإطلاق المذكور بواسطة الأدلّة الدالّة على وجوب التفقّه في الدين والتعلّم للعلوم الحقّة ، فنحكم بمقتضى هذه الأدلّة في الشبهات الحكميّة بوجوب التعلّم والفحص ، ويقيّد إطلاق أدلّة الرخصة في الشكوك بما بعد الفحص.

لا يقال : إنّ مثل آية النفر الدالّة على وجوب التفقّه في الدين شامل للاصول والفروع ، فإنّ الدين ليس إلّا عبارة عن العقائد والعمليّات ، فتكون النسبة بين هذا وبين إطلاق أدلّة الرخصة عموما من وجه ، لشمول الثانى للموضوعات بخلاف الأوّل ، وشمول الأوّل للعقائد بخلاف الثاني ، ويكون مورد الاجتماع هو الأحكام الفرعيّة التي هي محلّ الكلام.

لأنّا نقول : وإن كان الحال في بعض من تلك الأدلّة كما ذكرت ، إلّا أنّ بعضا آخر منها يخصّ بالأحكام الفرعيّة وهو كاف في المطلوب ، وذلك مثل ما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من أنّه يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟

فإن قال : نعم ، قيل : فهلّا عملت؟ وإن قال : لا ، قيل له : هلّا تعلّمت حتّى تعمل؟.

ومثل قوله عليه‌السلام في من غسل مجدورا أصابته جنابة فكزّ فمات : قتلوه قتلهم الله ألّا سألوا؟ ألّا يمّموه.

ثمّ إنّ سنخ الحكم في هذه الأخبار بعد تقييد الإطلاق المذكور يكون كسنخ حكم العقل لو لا هذا الإطلاق ، فكما كان حكم العقل لو لا هذا الإطلاق وجوب الفحص لا لنفسه ، بحيث يعاقب على تركه من حيث هو ، بل هو لأجل حفظ الواقع بحيث يعاقب على تركه من حيث إفضائه إلى ترك الواقع ، كذلك يكون حكم الشرع في تلك الأخبار بوجوب التعلّم أيضا لأجل حفظ الواقع لا لمطلوبيّة في نفسه ، فيكون مضمونها إرشادا إلى عين ما استقلّ به العقل لو لا وجود الإطلاق ، والحاصل أنّ وجوب التعلّم في هذا المقام يكون مثل وجوب الاحتياط الذي حكم به الشرع في بعض المقامات في كونه وجوبا طريقيّا يكون الغرض منه حفظ الواقع.

٢٣٧

إلّا أنّ بعضهم التجأ إلى جعل هذا الوجوب نفسيّا ، حيث أشكل عليهم الأمر في الواجبات المشروطة بالوقت الخاص التي يلزم من ترك تعلّم المسائل قبل وقتها فوتها في الوقت، فإنّه لو قيل حينئذ بوجوب التعلّم قبل الوقت مقدّمة ، يرد عليه أنّه كيف يعقل وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها ، فلو كان وجوب التعلّم مقدّميّا يلزم أن لا يكون العبد عاصيا بترك هذه الواجبات إذا كان مستندا إلى ترك التعلّم ، فالتزموا تخلّصا عن هذا الإشكال بأنّ التعلّم واجب نفسي وأنّ العبد عاص في الفرض المذكور بتركه ومعاقب عليه ، لا على ترك الواجب المشروط.

وحيث أشكل عليهم حينئذ بأنّ الوجوب النفسي لتحصيل العلم في الفرعيّات أيضا مقطوع العدم ، لوضوح أنّ العلم فيها إنّما يكون مطلوبا لأجل العمل لا لموضوعيّة في ذاته ، كما هو الحال في العقائد ، مثل العلم بوحدة الباري عزّ اسمه ، أجابوا عن ذلك بأنّ الشيء قد يصير واجبا لنفسه وتكون الحكمة في ايجابه لنفسه ملاحظة واجب آخر ، وهذا نظير ما ذكرناه في مبحث مقدّمة الواجب من تثليث أقسام الواجب وهي : المقدّمي ، والنفسي للنفس ، والنفسي للغير.

ولا يخفى أنّ مبنى الإشكال الأوّل هو مسلميّة عدم تحقّق الوجوب في الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط ، وقد حقّقنا بطلان ذلك في بحث مقدّمة الواجب وأنّه لا فرق أصلا بين الواجبات المطلقة وبين الواجبات المشروطة التي يعلم بحصول شرطها في ما بعد ، فكما أنّ الوجوب المطلق يقتضي إيجاد المقدّمات في محلّها ، كذلك الوجوب المشروط الذي يعلم بحصول شرطه في المستقبل أيضا يقتضي من المكلف إيجاد المقدمات في محلّها.

وعلى هذا فنحن سالمون عن دغدغة الإشكال ، فإنّ الدليل الدالّ على وجوب الصلاة في الوقت مثلا هو بعينه يدلّ على وجوب تعلّم أحكامها قبل الوقت ، وكما يحصل مخالفة هذا الأمر بترك الصلاة في الوقت مع التعلّم قبله ، كذلك يحصل بترك التعلّم قبل الوقت.

ولكن يشكل الحال على مبنانا في الصبيّ الذى يعلم بحدوث البلوغ بعد

٢٣٨

ساعتين وكان أوّل بلوغه مصادفا لوقت الواجب المشروط وكان ترك التعلّم فيها تين الساعتين مؤدّيا إلى ترك هذا الواجب في اول بلوغه ، فإنّ إيجاب التعلّم هنا مستلزم للإيجاب على الصبي وقد رفع عنه القلم ، فهل يقال حينئذ بارتفاع هذا التكليف المشروط في أوّل البلوغ عنه بسبب وقوع مقدّمته في زمان عدم البلوغ؟ أو يقال بأنّ الصبي وإن كان غير مكلّف شرعا ، ولكنّه عاقل ذو تميز ويعلم بأنّ الصلاة مثلا تصير واجبة عليه بعد ساعتين ، وأنّ ترك الواجب مفض إلى العقاب وأنّ ترك التعلّم مفض إلى ترك الصلاة ، فيستقلّ العقل بإيجاب التعلّم عليه ، ومع ذلك فلو تركه فصارت الصلاة منتركة لأجله يصدق أنّ انتراك الصلاة مستند إلى اختياره.

ويمكن أن يتمسّك لارتفاع التكليف المذكور في أوّل البلوغ بحديث رفع القلم عن الصبي ، فإنّه كما يدلّ على ارتفاع التكليف الفائت في حال الصباوة ، يدلّ على ارتفاع التكليف الفائت في حال الكبارة ، مستندا إلى الاختيار في حال الصباوة ، فهو نظير دليل ارتفاع وجوب قضاء الصلاة عن الحائض ، فإنّه يدلّ على ارتفاع قضاء الصلاة الفائتة في حال الطهر إذا كان فوتها مستندا إلى الحيض ، كما إذا كان وقت الطهر ضيّقا عن الصلاة ومقدّماتها ، لاستيعاب الحيض سائر الوقت.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا أنّ المرجع في تقييد الإطلاقات في الشبهات الحكميّة هو الأخبار الخاصّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وحينئذ فلا بأس في التكلّم في أنّ وجوب تحصيل العلم يكون من أيّ قسم من أقسام الوجوب وإن لم أر من تعرّض له.

فنقول : من جملة أقسام الوجوب ، الوجوب المقدّمي ، وهو على ضربين ؛ لأنّ المقدّمة إمّا مقدّمة وجود ، وإمّا مقدّمة علم ، ولا إشكال في أنّ تحصيل العلم لحكم العمل من الوجوب والحرمة والإباحة لا يتوقّف عليه وجود العمل فعلا كان أم تركا ، فترك شرب التتن مثلا وفعله يحصلان من المكلّف من غير توقّف على علمه بحكمها ، وهو واضح.

٢٣٩

نعم إذا كان للعمل صورة وكيفية خاصّة ، فالعلم بالصورة والكيفيّة ممّا يتوقّف عليه وجود العمل عادة ، فالصلاة المشتملة على الأركان المخصوصة بالهيئة الخاصّة وإن كان صدورها عن الفاعل اتفاقا مع جهله بهيئتها ممكنا عقلا ، ولكنّه ممتنع عادة ، فيتوقّف إيجاد الصلاة عادة على تعلّم كيفيّتها ، ولكن في هذه الصورة أيضا لا يتوقف وجود العمل على العلم بأصل حكمه من الوجوب والحرمة والإباحة ، ولا إشكال في أنّ تحصيل العلم بحكم العمل لا يتوقّف عليه العلم بوجود العمل ، فترك شرب التتن وفعله كما لا يتوقّف نفسهما على العلم بحكمهما ، كذلك لا يتوقّف العلم بتحقّقهما أيضا على العلم بحكمهما.

نعم مع بقاء العلم الإجمالي الكبير للمكلّف واختلاط الواجبات بالمحرّمات عنده كان علمه بصدور الواجبات وانتراك المحرّمات موقوفا على علمه بالواجبات والمحرّمات وتمييزه بينهما ، ولكن لا يتمشّى ذلك مع انحلال العلم في الشبهات البدويّة في التكليف ، فإذا كان شرب التتن مردّدا بين الحرمة والإباحة يحصل العلم بعدم مخالفة المولى بالاحتياط ، ولا يتوقّف على العلم بحكم شرب التتن واقعا من الحرمة والإباحة.

فتحصّل أنّ تحصيل العلم مقدّمة وجوديّة للعمل في بعض المقامات ، وعلميّة في بعض آخر ، ولا يكون شيئا منهما في ثالث ، فلا يمكن الالتزام بالوجوب المقدّمي لتحصيل العلم في الفرعيّات على سبيل الكليّة.

ومن جملة أقسام الوجوب ، الوجوب الطريقي ، وهو عبارة عن إيجاب شيء بغرض إحراز شيء آخر من المكلّف ، كما لو كان الواجب الواقعي شيئا ، وكان وجوبه مشتبها على المكلّف ، فأمره المولى بعنوان آخر ممكن الانطباق على هذا الشيء ، ومثاله في الشرعيّات حكم الشارع بوجوب متابعة قول العادل ؛ فإنّه لمّا كان للشارع اهتمام بالتكاليف الواقعيّة وكانت في الغالب مشتبهة على المكلّفين أمرهم بمتابعة قول العادل ليحرز منهم امتثال التكاليف بهذه الوسيلة.

فعلم أنّه يعتبر في متعلّق الوجوب الطريقي أن يكون له إمكان الانطباق على

٢٤٠