أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

أمّا الثاني فإن احتمل وجود التكليف في الآخر فالظاهر عدم المانع من الاستصحاب أيضا ، ففائدته تنجيز ذلك التكليف المحتمل في كلّ طرف على تقدير ثبوته.

وأمّا إن علم بثبوته في الآخر ، كما علم بنفيه في أحدهما ، فإن ترتّب على الاستصحابين أثر آخر غير تنجيز الواقع المعلوم مثل نجاسة الملاقي في الإنائين المشتبهين المعلوم نجاسة أحدهما وطهارة الآخر فلا مانع أيضا ، وإن انحصر الفائدة في تنجيز المعلوم بالإجمال فالظاهر عدم الجريان ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة ليست بنفسيّة مجعولة لمصلحة في متعلّقاتها ، وإنّما روعي حال الواقعيّات في جعلها ، والمفروض في المقام العلم بعدم التكليف في أحد الطرفين ، والعلم بثبوته في الآخر ، فالتكليف الموجود معلوم ، وقد مرّ في محلّة أنّ التكليف بعد ما علم لا محلّ لأمر مولويّ آخر بنفس متعلّقه ؛ لأنّ شأن الأمر المولوي هو الصالحيّة لإيجاد الداعي في المكلّف ، والأمر الثاني غير صالح لذلك ، بل إمّا لغو وإمّا جزء المؤثّر.

فإن قلت : مؤثّرية العلم في التحريك إنّما هو بحكم العقل ، وهو معلّق على عدم بيان من الشرع ، فإذا ورد حكم الشرع ارتفع موضوع حكم العقل ، كما هو الحال في البراءة الشرعيّة ، حيث إنّها واردة على العقليّة ، ولا يوجب استقلال العقل في موردها بالبراءة لغويّتها وسقوطها عن المولويّة ، فكذلك المقام بلا فرق.

قلت : الظاهر الفرق بين المقامين ، فإنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب هو عدم البيان مطلقا ، لا على الوجود ولا على العدم ، والبراءة الشرعيّة بيان العدم ، وأمّا المقام فبابه باب التكليف ، ولا بدّ فيه من صلاحيّة العلّة التّامة المفقودة بالفرض.

وبعبارة اخرى : يمكن القناعة في باب البراءة بالتأكيد بأن يكون الغرض من بيان العدم مع كفاية اللابيانيّة هو التأكيد ، ولكن لا يمكن في باب الأمر والنهي المولويين ، فتدبّر ، والحمد لله ربّ العالمين.

٦٦١

في قاعدة اليقين (١)

لا إشكال أنّه يعتبر في الاستصحاب ثبوت اليقين بالمستصحب بالنظر إلى زمان السابق ، وتمحّض الشكّ فيه بالنظر إلى الزمان اللاحق ، فلو سرى الشكّ إلى الزمان السابق فليس هو استصحابا ، نعم يمكن ورود التعبّد فيه أيضا بعدم الاعتناء بالشكّ ، ويسمّى حينئذ في لسانهم بقاعدة اليقين وقاعدة الشكّ الساري.

وربّما يتوهّم إمكان إرادة الجامع بين الاستصحاب والقاعدة من قولهم صلوات الله عليهم : لا تنقض اليقين بالشكّ ، ومن كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، وتقريب ذلك يكون بأحد وجهين.

الأوّل : أنّ المتكلّم بالكلام المزبور لا يخلو حاله من ثلاثة وجوه لا رابع لها ؛ لأنّه إذا قال مثلا : لا تنقض اليقين بعدالة زيد بالشكّ فيها ، فإمّا يريد من قوله : بعدالة زيد ، عدالته المقيّدة بالزمان السابق ، كعدالة زيد المقيّدة بيوم الجمعة ، فحينئذ لا محالة يرجع الضمير في قوله : بالشكّ فيه ، أو أصابه شكّ فيه إلى ذلك المقيّد ، لا إلى غيره ، لوضوح اختلاف المتعلّق حينئذ مع وضوح استفادة اتّحاده من القضيّة المذكورة ، وحينئذ يتعيّن الكلام في القاعدة.

وإمّا يريد عدالة زيد باعتبار الزمان السابق بحيث يجعل الزمان ظرفا لا قيدا ، ويريد من الشكّ فيها الشكّ باعتبار الزمان اللاحق كذلك ، لوضوح عدم اختلاف النظر واللحاظ في الكلام الواحد ، فإذا لاحظ الزمان ظرفا في جانب اليقين فيكون هكذا الحال في طرف الشكّ ، نعم يمكن اعتبار الزمان الأوّل أيضا ظرفا في جانب المشكوك حتّى ينطبق أيضا على القاعدة ، لكن لا يمكن الجمع بين لحاظ ظرفيّة الأوّل ولحاظ ظرفيّة الثاني ، وقد عرفت أنّ قوام القاعدة بالأوّل ، وقوام الاستصحاب بالثاني.

__________________

(١) راجع ص ٣٨١

٦٦٢

وإمّا يريد نفس عدالة زيد مجرّدة عن ملاحظة الزمان رأسا ، لا بنحو الظرفيّة ، ولا بوجه القيديّة ، فاليقين بأصل وجود عدالة زيد لا بدّ أن لا ينقض بالشكّ في أصل وجود تلك العدالة.

والكلام على هذا قابل للانطباق على القاعدة والاستصحاب كليهما ، وجه ذلك أنّا نفرض شخصين أحدهما قاطع بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا وشاكّ فيها في يوم السبت ، والآخر كان قاطعا بعدالته يوم الجمعة ، ثمّ تبدّل يقينه بالشكّ في نفس عدالته يوم الجمعة ، فهما معا في عرض واحد في شمول عموم «لا تنقض» لهما.

فمقتضاه في حقّ الأوّل أن لا يرفع اليد عن يقين عدالة يوم الجمعة بالشكّ في يوم السبت ، ومعناه البناء على العدالة يوم السبت ، ومقتضاه في حقّ الثاني أن لا يرفع اليد عن يقين عدالة يوم الجمعة بالشكّ في يوم الجمعة ، ومعناه البناء على ترتيب آثار العدالة يوم الجمعة لو كان له آثار في المستقبل ، وبالجملة ، فاليقين بأصل الشيء إذا قوبل بالشكّ في أصل الشيء يجب الأخذ باليقين وطرح الشكّ ، وهذا حاصل تقريب الوجه الأوّل.

وقد أجاب عنه شيخنا الاستاد العلّامة أدام الله علينا أيّامه بما حاصله يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ الطبيعة المهملة للشيء التي يكون لها أنحاء من الوجود ويعرضها الحياة بعدد ما لها من الأفراد لا يمكن أن يطرأها العدم والحال أنّ أحد أنحاء وجوده ثابت ، للزوم اجتماع النقيضين ، مثلا طبيعة الإنسان لا يعرضها العدم إلّا اذا انعدم تمام ما له من الأفراد ، فلو انعدم العمرو وكان الزيد موجودا فلا يصدق عدم الطبيعة ؛ إذ المفروض صدق وجودها بواسطة وجود الزيد ، وبعد صدق الوجود يستحيل بداهة صدق العدم.

فإن قلت : ما ثبت لأحد المتحدين ثبت للآخر بالضرورة ، ولا ينقض هذا بجزئية الزيد وكليّة النوع ؛ لأنّ الجزئية والكليّة من عوارض المفهوم ، وهما متغايران مفهوما وإن اتّحدا خارجا ، فالعارض على أحدهما في الخارج الذي هو موطن اتّحادهما لا محالة يثبت للآخر ، وإلّا كان خلفا في الاتّحاد ، مثلا لو قام الزيد

٦٦٣

صدق أنّه قام الإنسان ، ولو قعد العمرو في ذلك الحال صدق أنّه قعد الإنسان ، ثمّ لمّا يصدق أنّ زيدا ما قعد بحكم أنّ ضدّ الشيء يلازم نقيضه ، يصدق أيضا : ما قعد الإنسان، ولكنّ الحصّة المتّحدة مع الزيد غير الحصّة المتّحدة مع العمرو ، ولهذا لا يلزم اجتماع النقيضين ولا الضدين في الشيء الواحد.

والحاصل : كما أنّ عوارض الوجود ونقائضها مضافة إلى الطبيعي بواسطة اتّصاف الأفراد المختلفة بها ، كذلك الوجود والعدم أيضا مضافان إليها بواسطة إضافتهما إلى الفردين له ، ويرفع غائلة اجتماع الضدّين والنقيضين تعدّد الحصص المتّحدة من الطبيعي مع الأفراد وكونها كالآباء مع الأولاد ، لا الأب الواحد مع الأولاد المتعدّدين.

قلت : الحقّ الفرق بين الضدّين والنقيضين في الطبيعي بصدق الأوّلين معا في زمان واحد فيه بواسطة اتّصاف فردين منه بهما ، وعدم صدق الثانيين ، أمّا الأوّل فلأنّ محلّ عروض الضدّين هو الوجود ، لا نفس الطبيعة المهملة ، فالقيام والقعود مثلا إنّما يعرضان مهملة الإنسان بتبع عروض الوجود عليها ، فإنّ العارض على العارض عارض ، فإذا فرض تعدّد أنحاء الوجود للمهملة وأمكن تلبّس كلّ وجود منها بضدّ غير ما تلبّس الآخر به صحّ إضافة الضدّين إلى المهملة في زمان واحد.

وأمّا الثاني فلأنّه إذا تعدّد أنحاء الوجود العارضة على الطبيعي ، فنحو من وجوده وجوده مع زيد ، ونحو منه وجوده مع عمرو ، وهكذا إلى آخر الأفراد ، وهكذا الحال في الأعراض العارضة عليه بتبع عروض الوجود مثل القيام والقعود ، فلا محالة لا يصدق الانعدام مضافا إلى الطبيعي أو إلى أحد الأعراض المتأخّرة عن الوجود مضافا إلى الطبيعي إلّا بعد سلب جميع تلك الأنحاء الوجوديّة عنه ؛ إذ مع ثبوت واحد من تلك الأنحاء لا مجال لصدق الانعدام مع ضرورة النقاضة بينه وبين الوجود.

وعلى هذا فلا ضير في اجتماع الضدّين في الطبيعي في زمان واحد ، إذ قد عرفت

٦٦٤

أنّهما لا يعرضان عليه بلا واسطة حتّى يمتنع حين اتّصافه بالقعود مثلا اتّصافه بالقيام ، بل هما عارضان أوّلا على الوجود ، والعارض الأوّلي على الطبيعة منحصر في الوجود والعدم ، وإذا تعدّد الوجودات العارضة على الطبيعة المهملة بوحدتها وكان واحد من تلك الوجودات قائما والآخر قاعدا ، فلا مانع من عروضهما الثانوي على الطبيعة في زمان واحد ، فالممتنع اجتماعهما في الوجود الواحد من وجوداته في زمان واحد ، لا في مطلق وجوده الصحيح إضافته إليه ، فإنّه لا محذور في اجتماع الضّدين فيه بحسب هذا الوجود لاتّساعه وسعته للضدّين بدون حدوث مضادّة ومزاحمة بينهما ، وهذا واضح.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : كما أنّ الانعدام لا يعرض الطبيعي إلّا إذا ارتفع جميع أنحاء وجوده ، ولا يصدق الانعدام مع بقاء واحد منها في دار الوجود ، كذلك لا يتلبّس الطبيعي بمشكوكيّة الوجود والعدم إلّا مع تلبّس جميع أنحاء وجوده بالشكّ ، ولا يصدق الشكّ فيه مع كون أحد أنحاء وجوده مقطوعا.

وحينئذ ففي الفرض الثالث من الفروض الثلاثة المتقدّمة التي فرضتم فيه الشكّ في أصل وجود عدالة زيد في العالم بالأعمّ من يوم الجمعة ويوم السبت لا بدّ في تحقّق هذا الشكّ من الشكّ في عدالته الخاصّة في كلّ من اليومين ؛ إذ مع القطع بأحد الخاصّين كيف يمكن تعلّق الشكّ بالعام الجامع بينهما؟ والحال أنّك عرفت أنّ الشكّ في المقسم لا يطرأ إلّا بطروّ الشكّ في جميع الأقسام ، وعلى هذا فالكلام يكون كالفرض الأوّل ممحّضا في الشكّ الساري ، لا جامعا بينه وبين الاستصحاب كما ادّعاه المدّعي.

الوجه الثاني : نظير ما ذكره صاحب الفصول في قاعدة «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» من إمكان استفادة الاستصحاب وقاعدة الطهارة منها صدرا وذيلا ، وقد وافقه المحقّق الخراساني مصرّا عليه ، فقال هنا بنظير ذلك ، وحاصل تقريبه أن يقال : إنّا نعتبر المتيقّن مقيّدا بالزمان ، ولكن نقول : الشكّ فيه تارة مقرون بالقطع في ما بعده ، واخرى بالشكّ.

٦٦٥

مثلا إذا قطعنا بعدالة زيد المقيّدة بيوم الجمعة ، ثمّ شككنا في هذا المقيّد ، فتارة نقطع بعدالته أو فسقه في ما بعد يوم الجمعة ، واخرى نشكّ فيهما بعده أيضا ، فقاعدة لا تنقض اليقين بالشكّ بإطلاقه يعمّ كلا الشّكين ، فمفاده عدم رفع اليد عن عدالته يوم الجمعة بواسطة الشكّ ، بل البقاء عليها والمعاملة معه معاملة العدالة ما دام الشكّ ، ويؤيّده قولهعليه‌السلام : بل تنقضه بيقين مثله ، فما دام لم يحصل اليقين الآخر بالفسق يبقي على اليقين الأوّل.

قال شيخنا الاستاد دام ظلّه : قد أجبنا في ما تقدّم عن نظير هذا التوهّم في قاعدة «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» ويجري مثله في المقام ، وحاصله أنّ القضيّة غير مشتملة إلّا على نسبة تامّة واحدة ، وهي لا محالة إمّا الحكم بأصل الثبوت في الموضوع الغير المفروغ عن ثبوت المحمول له ، وإمّا الحكم بالاستمرار والبقاء في الموضوع الذي فرغ عن أصل الثبوت فيه ، وهذان حكمان يحتاجان إلى موضوعين ومحمولين ، والنسبة التامّة في أحدهما غير النسبة التامّة في الآخر ، ولا يمكن أن يجتمعا في قضيّة واحدة.

وقوله : «كلّ شيء طاهر حتى تعلم ...» في قوّة قولك : كلّ شيء مشكوك طاهر ، ودوام الحكم بدوام موضوعه وهو الشكّ لا يسمّى استصحابا ؛ إذ يعتبر فيه الدوام المسبوق بالحدوث المفروغ ، لا مطلق الدوام.

ففي المقام أيضا إذا فرضتم أن المتيقّن هو العدالة المقيّدة بيوم الجمعة ، والدليل دالّ على عدم نقض هذا اليقين بالشكّ ما دام الشكّ باقيا ، وعدم رفع اليد عنه إلّا بيقين آخر ، فهذا معناه أنّ أحكام هذه العدالة المقيّدة بيوم الجمعة لا بدّ من ترتيبه في المستقبل ولو إلى آخر العمر ، وأين هذا من ترتيب آثار العدالة يوم السبت والأحد وما بعدهما ؛ إذ متعلّق اليقين والشكّ لا بدّ من وحدتهما ، فإذا فرضتم أخذ الزمان في متعلّق اليقين قيدا فلا بدّ من أخذه في متعلّق الشكّ أيضا كذلك ، وإلّا خرجا عن الاتّحاد.

ولو فرض تجريد المتيقّن عن قيد الزمان رأسا حتّى بنحو الظرفيّة ـ كما مرّ في

٦٦٦

الوجه الثالث ـ فعدم نقض يقينه حينئذ بالشكّ في أصل الشيء وإن كان يعمّ الشكوك المتأخّرة ، فيلزم البناء على آثار العدالة مثلا في يوم السبت والأحد وما بعده في المثال المتقدّم ، إلّا أنّه حينئذ تصير قاعدة نظير قاعدة الطهارة ، وليست بقاعدة الاستصحاب ولا قاعدة اليقين ، وذلك لعدم المفروغيّة عن أصل الثبوت فيه المعتبر في الاستصحاب وكونه متعرّضا للشكوك المتأخّرة المفقودة في قاعدة اليقين.

وقد تحقّق ممّا ذكرنا أنّ المعتبر في قاعدة اليقين أخذ الزمان قيدا في المتيقّن والمشكوك ، فمتعلّقهما شيء واحد من جميع الخصوصيّات حتى الزمان ، ولا اختلاف بينهما حتى في الزمان والاختلاف الزماني إنّما هو لوصفي اليقين والشكّ ، وإلّا فالمتعلّق واحد لا اختلاف فيه ، والمعتبر في الاستصحاب تجريد المتعلّق عن الزمان بنحو القيديّة وملاحظة الوحدة بين ما كان منه في الزمان السابق وما كان في اللاحق ، ولكن ملاحظة الزمان أيضا لا بدّ منه لكي يكون اليقين متعلّقا بالحدوث والزمان السابق ، والشكّ بالبقاء والزمان اللاحق ، والجمع بين هذين أعني الاتّحاد بين المتعلّقين ومفروغيّة أصل الثبوت إنّما هو بلحاظ الزمان السابق واللاحق ظرفين للموصوفين لا للوصفين.

وأنت خبير بأنّ ملاحظة الزمان قيدا في الشيء وظرفا له ـ فينثلم وحدته في الأوّل ولا ينثلم في الثاني ـ لحاظان متغايران غير مجتمعين في لحاظ واحد ، وهذا مع ملاحظة الزمان بنحو ما في المتعلّق.

ومع تجريده عنه رأسا بنحو من الوجهين أيضا قد عرفت عدم صيرورة القضيّة جامعة بين المعنيين ، وقد عرفت حال الغاية أيضا آنفا.

وقد أشار شيخنا المرتضى قدس‌سره إلى الوجه الثاني لوجهي الجمع الذي هو نظير ما توهّم في قوله : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» وردّه بأنّه مستلزم للاستعمال في معنيين ، ومقصوده قدس‌سره ما ذكرنا ، لا ربّما يتوهّم في بادي النظر من أنّ محطّ كلامه إرادة بقاء الحكم ببقاء الشكّ ، كيف وقد أوضح هو نفسه في طيّ

٦٦٧

الكلام على قوله عليه‌السلام ، كلّ شيء طاهر الخ أنّ هذا المعنى غير منطبق على الاستصحاب المصطلح وأنّ دوام الحكم ما دام الموضوع الذي هو الشك في مقامنا ليس استصحابا ، بل هو الحكم بالاستمرار المقرون بالفراغ عن الثبوت ، وهذا لا يجتمع في كلام واحد مع التكفّل فيه للحكم بأصل الثبوت ، وغرضه قدس‌سره في هذا الكلام الذي أفاده في هذا المقام أيضا هذا المعنى ، أعني دفع توهّم الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بهذا النحو ، فلا تغفل.

ثمّ لمّا فرغ قدس‌سره عن بيان عدم الإمكان بشيء من النحوين في كلامه ، أورد بناء على المماشاة وتسليم إمكان الجمع بأنّ اللازم حينئذ وقوع المعارضة بين القاعدة والاستصحاب ، فإنّ من تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ فيها ، فلهذا الشكّ فردان معارضان من اليقين، أحدهما اليقين بعدم العدالة المطلقة قبل يوم الجمعة ، والآخر اليقين بعدالته المقيّدة في يوم الجمعة ، ومقتضى عدم نقض اليقين الثاني هو البناء على وجود العدالة يوم الجمعة ، ومقتضى عدم نقض الأوّل هو البناء على عدمها ، فيسقط الكلام بسبب ذلك عن قابليّة التمسّك.

واعترض عليه المحقّق الخراسانى قدس‌سره في حاشيته بما حاصله أنّ التعارض وإن كان حاصلا ، إلّا أنّ بين القاعدة والاستصحاب السببيّة والمسببيّة ، وليس المراد هو السببيّة والمسببيّة الواقعيتين بين فردين من الشكّ ، كما في الأصل السببي والمسبّبي ، لفرض وحدة الشكّ هنا ، ولكنّه حيث إنّ له طرفان : احتمال الوجود واحتمال العدم ، فلكلّ من طرفيه يقين مناقض ، لا أنّ هنا شكّان مستقلّان.

فالمقصود بالسببيّة والمسببيّة نظير ما نقول في دليل حجيّة الأمارة في مورد جريان الأصل حيث إنّ الشكّ هناك أيضا واحد ، ولكن لو قدّم دليل الأمارة يوجب ارتفاع الشكّ وهو الموضوع لدليل الأصل ، ولكن لو قدّم الأصل فحيث إنّه حكم في موضوع الشكّ ودليل الأمارة ليس حكما في موضوع الشكّ ، فيكون موضوعه محفوظا.

نعم لا يمكن الجمع بينه وبين الأصل المخالف لمؤدّاه في المشموليّة لدليلها ، فلا بدّ

٦٦٨

من تخصيص دليل الأمارة على فرض تقديم الأصل ، ولكن لا يلزم ذلك في دليل الأصل على تقدير تقديم الأمارة ، بل اللازم فيه هو التخصّص ، فمراده قدس‌سره في المقام إثبات مثل هذه السببيّة بين القاعدة والاستصحاب.

والذي ذكره الاستاد ودام ظلّه لتوجيه هذا المعنى بينهما أن يقال : إنّ اليقين بعدم العدالة المطلقة قبل يوم الجمعة قد انتقض حقيقة بواسطة حصول اليقين بالعدالة المقيّدة يوم الجمعة ، بخلاف العكس ، فلم يحدث انتقاض لهذا اليقين الثاني باليقين الأوّل ، لفرض تأخّره عنه.

وحينئذ فمتى تبدّل هذا اليقين الثاني بالشكّ الساري ، فالموضوع للاستصحاب وإن كان يتحقّق ، إلّا أنّ القاعدة تنزل الشكّ المزبور منزلة اليقين بالعدالة المقيّدة الذي كان بوجوده مانعا ورافعا لليقين بمطلق العدالة ، فكأنّه يقول : الآن أيضا أنت على يقينك الناقض.

وهذا بخلاف الحال لو أجرينا الاستصحاب ، فليس له هذا اللسان ؛ إذ لم يحدث خارجا لليقين بعدم العدالة صفة الناقضيّة ليقين الوجود حتى ينزل الاستصحاب الشكّ الطاري بمنزلته في هذه الجهة ، فالقاعدة يثبت وجود الناقض التنزيلي للاستصحاب ، ولكنّ الاستصحاب لا يفيد وجود الناقض كذلك للقاعدة ، نعم لا يمكن مع جريانه جريان القاعدة ، فلا بدّ من رفع اليد عن حكمه مع بقاء موضوعه ، هذا غاية تقريب مرامه.

ولكن استشكل عليه شيخنا الاستاد دام ظلّه بأنّ صفة الناقضيّة إنّما هي ثابتة لنفس اليقين ، سواء كان صفة أم طريقا ، لا للمتيقّن ، ويكون أثرا عقليّا أيضا ، لا بترتيب من الشارع ، ولو فرض ورود الحكم به من الشارع كان محمولا على الإرشاد ، وقد عرفت في ما تقدّم في مبحثه أنّ النقض وعدمه ملحوظان بالنسبة إلى آثار المتيقّن ، وبعبارة اخرى إلى الآثار المترتّبة على اليقين من حيث كونه طريقا ، فلا ينظر إلى ما يرتّب على نفسه ، سواء حملنا العبارة على الاستصحاب أم على القاعدة ، فعلى كلّ منهما يكون المفاد عدم النقض لآثار العدالة المتيقّنة.

٦٦٩

وعلى هذا لا يبقي ترجيح لأحدهما على الآخر ، بل هما في عرض واحد ، فأحدهما يثبت وجوب ترتيب آثار وجود العدالة ، والآخر وجوب ترتيب آثار عدمها ، وبين هذين المضمونين تهافت وتناقض بدون سبق لأحدهما على الآخر.

ثمّ إنّ الظاهر من كلام شيخنا العلّامة قدس‌سره أنّ وجود هذا التعارض دائميّ.

واستشكل عليه شيخنا الاستاد دام ظلّه بأنّه إنّما يتمّ لو اريد من اليقين بالعدم الثابت قبل يوم الجمعة اليقين بعدم هذا المقيّد ، فإنّه حينئذ دائميّ ؛ إذ ما من مقيّد بزمان إلّا وهو مسبوق بعدمه قبل ذلك الزمان.

وأمّا لو اريد به اليقين بعدم العدالة المطلقة كما هو الظاهر ، بل الصريح من كلامه ، ففيه أنّه لا يلزم أن يكون هذه المعارضة دائميّة ؛ إذ ربّما لا يكون هنا حالة سابقة من أوّل وجود الزيد ، نعم حينئذ يجري أصالة عدم العدالة بنحو مفاد ليس التامّة ، لكن إنّما يفيد هذا لو كان مورد الأثر هو بهذا المعنى ، وأمّا إذا كان الأثر لثبوت العدالة لزيد ونفيها عنه فلا يكفي هذا الاستصحاب في إثباته ، فلا معارضة حينئذ ؛ لعدم الجرى للاستصحاب ، فتدبّر.

ثمّ بعد ما عرفت من عدم إمكان إرادة القاعدتين من هذه الأخبار فنقول : لا بدّ من حملها على الاستصحاب بملاحظة تطبيق العبارة عليه في بعض الأخبار بقرينة المورد ، حيث إنّ مورد بعضها الشكّ في الطهارة الحدثيّة ، والآخر الشكّ في الطهارة الخبثية بقاء مع العلم بالحدوث ، فيكون سائر الأخبار التي وردت العبارة فيها بلا سبق سؤال وتطبيق على مورد محمولا على هذا المعنى حتّى لا يلزم اختلاف السياق والمضمون في العبارة الواحدة المتكرّرة في الموارد العديدة. وعلى هذا لا يبقي على قاعدة اليقين دليل.

نعم ربّما يتمسّك بقاعدة التجاوز عن المحلّ ، ولكنّها غير قاعدة اليقين ، لعدم اعتبار اليقين السابق فيها ، بل من المحتمل الغفلة في المحلّ عن المشكوك ، نعم يعمّ موارد الشكّ الساري أيضا بناء على تعميم تلك القاعدة لجميع الأبواب ، فاللازم التكلّم في تلك القاعدة، وملاحظة مقدار مدلولها.

٦٧٠

في قاعدة التجاوز (١)

ولا بدّ أوّلا من التيمّن بذكر الأخبار الواردة في تلك القاعدة فنقول :

منها : صحيحة زرارة «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال عليه‌السلام : يمضي ، قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قالعليه‌السلام : يمضي ، قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرء؟ قال عليه‌السلام : يمضي ، قلت : شكّ في القراءة وقد ركع؟ قال عليه‌السلام : يمضي ، قلت شكّ في الركوع وقد سجد؟ قالعليه‌السلام يمضي على صلاته ، ثمّ قال عليه‌السلام : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء» (خ ل) فشكّك ليس بشيء.

وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه».

وفي الموثّق عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه».

وفي الموثّق عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما‌السلام قال : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو».

والتكلّم في مدلول هذه الأخبار يكون في مقامات.

اعلم أنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّه متى شكّ في وجود الشيء وقد كان مضى محلّه، كما لو شكّ في قراءة «غير المغضوب» والحال أنّه في قراءة «ولا الضالين» أو في كيفيّة قائمة بالشيء بعد إتيان ذلك الشيء الذي اعتبر فيه الكيفيّة ،

__________________

(١) راجع ص ٣٨٤

٦٧١

كما لو شكّ في الجهر بالقراءة بعد إتمام القراءة ، فإنّ محلّ الكيفيّة هو الشيء المكيّف ، أو في نفس العمل المأمور به بعد مضيّ محلّه ووقته مثل الشكّ في أصل الصلاة بعد الوقت ، فكلّ ذلك بملاك واحد محكوم بعدم الاعتناء ، وهو كون الشكّ بعد مضيّ محلّ المشكوك.

والعبارة وإن كانت قابلة للتطبيق على معنى آخر وهو الشكّ في جزء المركّب المأمور به أو شرطه بعد الفراغ منه ، بل قد يستطهر هذا المعنى بملاحظة أنّه لا يحتاج إلى تقدير المحلّ للمجاوزة والمضيّ ؛ لأنّ المتجاوز عنه على هذا هو المركّب ، وقد شككنا فيه ، أعني في جزئه أو قيده ، ولكن حيث قد طبّقت العبارة في صحيحة زرارة ورواية إسماعيل بن جابر على الشكّ في وجود الشيء بعد مضيّ محلّه كان هذا ـ بقرينة استبعاد إرادة معنيين من عبارة واحدة واردة في موارد ـ دليلا على إرادته في الخبرين الأخيرين أيضا.

فالمعيار في الكلّ شيء واحد وهو الشكّ في الشيء ، سواء كان جزءا ، أم شرطا ، أم وصفا كيفيّة ، أم عملا مأمورا به بعد مضيّ محلّه ، غاية الأمر في بعض المقامات لا يتحقّق المضيّ إلّا بالدخول في الغير كما في الأجزاء ، وقد يتحقّق بلا حاجة إلى الدخول في الغير كما مثّلنا من مثال الشكّ في الكيفيّة بعد الفراغ عن الذات ولو لم يدخل في الغير.

ولكن يرد على هذا الذي استظهرناه أنّه لا يتمّ في موثّقة ابن أبي يعفور بملاحظة الإجماع والأخبار الواردة بالاعتناء في باب الوضوء بالشكّ في أجزائه ما دام في أثنائه ولو دخل في الجزء الآخر ، ونحن وإن أرجعنا الضمير في غيره إلى الوضوء بقرينة هذا الإجماع والأخبار ، ولكنّ الذيل يفيدنا أنّ الصدر أحد مصاديق هذه القاعدة ، فيحصل المحذور وهو مخالفة الإجماع من جهة الذيل ؛ إذ بعمومه شامل لما إذا شك في أحد أجزاء الوضوء بعد الدخول في غيره مع كونه في أثناء الوضوء ، ولا يقبل التخصيص بهذا الفرد ، لأنّه من قبيل تخصيص المورد بخلاف سائر الأخبار.

وإن شئت قلت : قيد الدخول في غير الوضوء في مصداقيّة الشكّ في أحد أجزاء

٦٧٢

الوضوء لكبرى الشكّ في الشيء بعد تجاوز محلّه قيد مستهجن ، فهو نظير قولك : أكرم العالم الذي هو أفقه البلد ؛ لأنّه يجب إكرام العلماء.

ومن هنا ذهب المحقّق الخراساني طاب ثراه إلى أنّ المستفاد من هذه الأخبار قاعدتان، إحداهما مضروبة للشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ ، وهي مستفادة من الصحيحة ورواية إسماعيل بن جابر ، والثانية مضروبة للشكّ في المركّب والمقيّد بعد الفراغ منه في جزئه وقيده ، وهي المستفادة من الموثّقين ، فلا يلزم المحذور المذكور أعني تخصيص المورد.

وهو قدس‌سره ارتكب هذا مع كونه مخالفا لظاهر الأخبار من وحدة المضمون ، لأجل التخلّص عن الإشكال المذكور والتمحّل الذي ارتكبه شيخنا المرتضى قدس‌سره في مقام دفعه من أنّ المطلوب بالأفعال الوضوئيّة حيث إنّه شيء واحد ، فنزّلت هذه الأفعال منزلة الشيء الواحد البسيط ، فيكون الشكّ فيه بعد المحلّ لا محالة بعد الفراغ عن مجموعه ، وأمّا في أثنائه فالشكّ شكّ قبل مضيّ المحلّ.

وأنت خبير بأنّه قدس‌سره أيضا محتاج بعد ما ارتكبه من خلاف الظاهر إلى هذا التمحّل أيضا ؛ لأنّا نقول : من أحد مصاديق الكليّة المذكورة في الذيل أعني قوله : إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه ، هو الشكّ في غسل المرفق بعد الفراغ عن غسل اليد في الوضوء ، فإنّ غسل اليد شيء مركّب وقد وقع مأمورا به في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فيكون داخلا تحت الكبرى المذكورة ، فيلزم تخصيصها بما عدى هذا الفرد بحكم الإجماع.

نعم هذا سالم عن الاستهجان السابق ؛ لأنّ الفرد الخارج على هذا ليس من قبيل المورد ، لكن نحتاج في خروجه إمّا إلى دعوى مثل التمحّل المذكور حتّى لا يجعل كلّ جزء من الوضوء شيئا مستقلّا ، أو دعوى أنّ كلمة «الشيء» عبارة عن المركّبات المأمور بها ، والمركّب لا يشمل مثل غسل اليد ، ومثل الفاتحة في الصلاة ؛ لأنّها جزء للمركّب لا نفس المركّب ، وعلى هذا فيكون ما ارتكبه من خلاف الظاهر بلا وجه.

٦٧٣

بل احتمل شيخنا الاستاد دام ظلّه أن يكون المراد بقوله عليه‌السلام في الرواية المصرّحة بلفظ الفراغ عن الصلاة وأنّه لا اعتناء بالشكّ في شيء منها بعد الفراغ أيضا هو ذكر أحد مصاديق قاعدة التجاوز ، والنكتة لذكر قيد الفراغ أنّ الشكّ في الأثناء له حالتان ، قبل التجاوز وبعده ، فالمقصود أنّ الشكّ بعد الفراغ محكوم بالمضيّ بنحو الكليّة وبلا تفصيل.

ثم انّه قدس‌سره جعل الروايتين الأوليين خاصّتين بباب الصلاة وما يحسب منها من الأذان والإقامة ، والأخيرتين عامّتين لجميع أبواب العبادات ، بل المعاملات ، وجعل الوجه في تخصيص الاولى أنّ العموم فيه إنّما هو بمعونة مقدّمات الحكمة ومن جملتها عدم القدر المتيقّن في مقام الخطاب وهو موجود بواسطة سبق السؤال عن غير واحد من الأفعال الصلاتية وما يحسب منها ، فلا يكون له عموم بالنسبة إلى سائر الأبواب.

وفي تخصيص الثانية مع اشتمالها على كلمة «كلّ» في قوله : كلّ شيء شكّ فيه الخ أنّ عموم الكلّ إنّما هو بتبع سعة المدخول وضيقه ، والمعيار في تعيين حاله من هذه الجهة هو المقدّمات ، وهو أيضا كسابقه محفوف بالسؤال عن الأجزاء الصلاتية ، فيكون القدر المتيقّن منه ذلك الباب ، ولا ينفع بعده عموم كلمة الكلّ ، فهاتين الروايتين غير شاملتين لباب الوضوء ، وأمّا الأخيران فليس فيهما ما يوجب التخصيص بباب دون باب ، أمّا الأخيرة فواضح ، وأمّا الاولى فلا يوجب كون السؤال فيها عن الوضوء تخصيص الكليّة به ، إذ يستلزم تخصيصها بفرد واحد ، وهذا واضح.

وقد استشكل شيخنا الاستاد دام ظلّه على ما ذكره قدس‌سره مضافا إلى ما مرّ من مخالفته لظاهر الأخبار من وحدة المضمون مع عدم نفعه في رفع الإشكال السابق بأنّ : ما ذكره في وجه اختصاص الاولى مبنيّ على مختاره قدس‌سره في باب المطلقات من أنّ من جملة شرائطها عدم وجود القدر المتيقّن في مقام الخطاب ، ونحن قد استشكلنا على هذا الكلام في الباب المذكور ، فلا نطيل بالإعادة ، فلو

٦٧٤

فرض أنّ سبق الأسئلة المذكورة أورث انصرافا في الكلام المذكور فهو ، وإلّا فصرف كونها قدرا متيقّنا لا يفيد بالاختصاص.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في وجه اختصاص الثانية مع كونه مشتملة على كلمة «كلّ» ففيه أنّا ولو سلّمنا مختاره في باب المطلق من شرطيّة عدم القدر المتيقّن في مقام الخطاب ، فلا بدّ أن نقول بعدم شرطيّته في ما إذا وقع اللفظ الدالّ على الطبيعة تلو كلمة «كلّ» وشبهها ، فإنّ العموم المستفاد من هذه الكلمة إذا انضمّ مع مفاد لفظة «الشيء» أو الرجل مثلا وهو الطبيعة المهملة يصير المحصّل استيعاب تمام أفراد هذه الطبيعة المهملة ، ويكون هذا بيانا لفظيّا رافعا لاحتمال دخالة قيد آخر ولو كان متيقّنا في مقام الخطاب ؛ إذ المفروض أنّ لفظة «رجل» ليس معرّفا لشخص خاص ، كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ، لأنّ هذا خلاف الظاهر ، بل استعملت في نفس معناها وهو المهملة الجامعة بين المطلق والمقيّد ، وهو غير كون المعنى مردّدا بين المطلق والمقيّد.

والحاصل : تارة تكون كلمة «رجل» مجملا من حيث المعنى إمّا لأجل كونه معرّفا لشخص خاص وهو مردّد بين الخصوصيّات ، وإمّا لأجل كون معناه مردّدا بين المطلق والمقيّد ، وحينئذ لا محالة لا يفيد عموم الكلّ شيئا ، وكذا لو أورث قرينة المقام انصرافا في معناه إلى قيد خاص ، فإنّه أيضا في حكم الذكر اللفظي.

وأمّا إذا فرضنا عدم شيء من هذه الوجوه فإنّ المهملة معنى معيّن لا ترديد فيه أصلا ، نعم الترديد حاصل في وجودها في الذهن ، حيث انّها لا ينفكّ عن أحد الأمرين ، إمّا المتحقّق في ضمن المطلق ، وإمّا في ضمن المقيّد ، وأين هذا عن كون اللفظ مردّدا بين المعنيين ومجملا.

وكذلك كونه معرّفا عن المتخصّص بخصوصيّة أيضا خلاف الظاهر ، ولا انصراف في لفظه أيضا ، وإنّما المتحقّق صرف أنّ المتيقن بحسب الخطاب خصوص صنف خاص من الرجل كالبغدادي مثلا.

فحينئذ وإن قلنا : إنّه لو لا كلمة «كلّ» لتوقّفنا عن الحكم بالعموم ، لأنّ برهان

٦٧٥

نقض الغرض غير تامّ مع كون القيد قدرا متيقّنا ، إذ لا يلزم نقض غرض على تقدير إرادته المقيّد ، فإنّ القيد قدر متيقّن بالفرض ، ولكن لا يمكننا هذا الكلام في ما إذا لم نتّكل في الحكم بالعموم إلى ذلك البرهان ، بل كان اتّكالنا إلى كلمة «كلّ» فإنّ مفادها اللفظي مع مفاد لفظة «الرجل» يكفي في دفع احتمال القيد المذكور.

والحاصل أنّ موضع «كلّ» وموضع المقدّمات كليهما هو المهملة ، فكما يفيد الثانية وصف العموم والسراية في المهملة ، فكذلك الأوّل ، لا أنّ موضع الكلّ هو المهملة بعد جريان المقدّمات عليها ، واتّصافها ببركتها بوصف الإطلاق ، ولعلّ عرفيّة المسألة أغنتها عن زيادة شرح وبيان ، فراجعهم ، فالعرف ببابك والعرب جنابك ، فتراهم لا يتوقّفون عن الحكم بالعموم بعد وجود كلمة «كلّ» وأمثاله في الكلام ، وإذن فالأقوى هو العموم وعدم العبرة بخصوصيّة المورد.

وحاصل ما اخترنا أنّ القضايا الواردة في أخبار المقام باختلاف تعبيرها من الشكّ في الشيء بعد الخروج عنه والشكّ فيه بعد مجاوزته والشكّ فيه بعد مضيّه كلّها آئلة إلى المضمون الواحد ، ومفيدة لمعنى فارد ، نظير العبارات المختلفة الصورة المتّحدة المعنى في باب الاستصحاب من قولهم عليهم‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ ، ولا يدفع اليقين بالشكّ ، واليقين لا ينقضه الشكّ ، فكما قلنا بوحدة المضمون فيها فكذا في المقام.

وذلك المعنى الواحد في ذاك المقام كان مردّدا بين الاستصحاب والقاعدة والجامع ، لكن استحالة الجامع وورود التنصيص على تطبيقها على مورد الاستصحاب صار منشأ لحملها عليه ، وهو في هذا المقام أيضا مردّد بين الشكّ في الوجود وبين الشكّ في الصحّة للشيء المفروغ الوجود والجامع بين الشّكين.

وكما قلنا في ذلك المقام أنّ الشكّ في الحدوث كما هو موضوع القاعدة ، والشكّ في البقاء مع مفروغيّة الحدوث كما هو موضوع الاستصحاب يستحيل اجتماعهما في اللحاظ ؛ إذ يلزم اجتماع الفراغ واللافراغ ، كذلك هنا أيضا يجري مثل هذا الكلام ، حيث إنّ الشكّ في الوجود الذي هو موضوع قاعدة التجاوز يكون لا محالة مع عدم

٦٧٦

الفراغ ، والشكّ في الصحّة الذي هو موضوع قاعدة الفراغ يكون مع الفراغ عن وجود الشيء، والجمع بينهما غير ممكن.

وحينئذ يدور الأمر بين خصوص إحدى القاعدتين ، ولكن تطبيقهما على الشكّ في الوجود منصوص في روايتين من الأخبار المتقدّمة ، فيكون هذا دليلا على حمل البقيّة على قاعدة التجاوز كما قلنا في أخبار الاستصحاب حرفا بحرف ، هذا ما ربّما يقال في هذا المقام.

ولكنّ الحقّ إمكان إرادة الجامع في مقامنا وإن قلنا باستحالته في المقام المتقدّم ؛ لأنّ وجه الاستحالة في هذا المقام أمران ، أحدهما : ما تقدّم من عدم إمكان ارادة الشكّ في الشيء مع الفراغ ومع عدمه من قولنا : كلّ شيء شكّ فيه ، والآخر أنّه لا بدّ في الشكّ في الوجود من تقدير المحلّ في قولنا : وقد جاوزت منه ، أو خرجت منه ، أو مضى ، بأن يكون المراد مجاوزة محلّ الشيء المشكوك ، وأمّا في الشكّ في الصحّة فلا حاجة إلى التقدير ؛ لأنّ الخروج والمجاوزة يكون عن نفس الشيء المشكوك في صحّته.

أما الوجه الأوّل فمدفوع بأنّ الشكّ إذا اضيف إلى الشيء الغير الملحوظة معه وجود ولا عدم ولا شيء من الأعراض ، فلا معنى له ، فلا بدّ من ملاحظة شيء خارج عن ذاته حتّى يصحّ إضافة الشكّ إليه وتعلّقه به.

وذلك الشيء تارة يكون الوجود والعدم ، واخرى يكون الصحّة والفساد ، وبعبارة اخرى الكيفيّة القائمة بالوجود والوصف العارض عليه ، وثالثة يلاحظ مطلق التعلّق والتماس للشكّ بذات الشيء ، سواء كان من جهة الوجود ، أو من جهة كيفيته ، فنحن لا نتصوّر حين قولنا في شيء إلّا ذات الشيء بلا أخذ الوجود معه ، ونلاحظ تعلّق ما للشكّ به ، فيكون جامعا بين القسمين.

ولا غرو في استعمال لفظة «في» في جامع التعلّقين ، كما استعملت في موثّقة ابن بكير الواردة في باب لباس المصلّي من قوله : فالصلاة في وبره وشعره وروثه وبوله الخ ، في جامع التعلّق بوجه الظرفيّة المتحقّقة في اللباس وبوجه المصاحبة المتحقّقة في المحمول.

٦٧٧

لا يقال : مثل هذا يرد في أخبار الاستصحاب ؛ لأنّ الملحوظ هناك أيضا ذات العدالة المعرّاة عن الوجود والعدم ، ويراد من الشكّ المتعلّق بهذه الذات هو جامع التعلّق الحاصل بالشكّ في الحدوث والشكّ في البقاء.

لأنّا نقول : ما ذكرنا سابقا إنّما كان مبنيّا على أخذها باعتبار الوجود ـ كما هو الظاهر ـ بمعنى أن يكون المراد الشكّ في وجود العدالة ، لا الشكّ المماسّ بماهيّة العدالة مساسا ما ، وإلّا فمع هذا المعنى والغضّ عن الظاهر المذكور الحقّ في ذاك الباب أيضا إمكان الجمع بين الاستصحاب والقاعدة.

وأمّا الوجه الثاني فمدفوع أيضا بإمكان تقدير المحلّ في كلا الشكّين ، مثلا إذا دخل المصلّي في السورة وشكّ في أصل وجود الحمد ، أو شكّ في صحّته بعد فراغ وجوده ، فكلاهما شكّ مماسّ بالحمد بعد مضيّ محلّه الشرعي ، فإنّ محلّه شرعا قبل السورة.

نعم لو شكّ في صحّته وجهره بعد فراغه قبل السورة لا يكون على هذا محكوما بالصّحة بقاعدة الفراغ ، كما أنّه لو شكّ في الركعات بعد فراغ الصلاة ، فلا بدّ من الفرق بين بقاء الوقت وعدمه ، فيحكم بالصّحة مع العدم وبالإعادة مع البقاء بمقتضى هذه الأخبار.

هذا بحسب مقام الإمكان ، وأمّا بحسب الظهور فيمكن دعواه في الجامع بقرينة قولهعليه‌السلام : هو حين العمل أذكر ؛ فإنّه يعلم منه أنّ المناط في الحكم بالمضيّ في الكبريات المذكورة هو الأذكريّة حال العمل ، ومن المعلوم تحقّقه في مورد كلتا القاعدتين ولكن الإنصاف أنّ إرادة الجامع خلاف الظاهر ، بل ظاهرها هو الشكّ في الوجود ، خصوصا مع تطبيقها في روايتين على الشكّ في وجود الأجزاء الصلاتية.

بل نقول في موثّقة ابن أبي يعفور الواردة في الوضوء أيضا يكون من ذلك القبيل ، وأمّا الاستيحاش السابق في التقييد بقوله : ودخلت في غيره فيمكن رفعه بدون الحاجة إلى تمحّل شيخنا المرتضى قدس‌سره ، بأن يقال : إنّ التقييد تارة لأجل

٦٧٨

أنّ الشيء ناقص في المصداقيّة للكبرى المذكورة في الذيل بدون هذا القيد ، وهذا هو المستوحش ، واخرى لا لأجل ذلك ، بل لأجل أنّه ورد التخصيص في الصحيحة الاخرى بالنسبة إلى الشكوك الواقعة في أثناء الوضوء ، وبعد هذا التخصيص المنفصل يكون الحكم في الأفراد الباقية معلّلا بتلك الكبرى ، فكان الإمام عليه‌السلام حاله حال المفتي المستدلّ في فتواه بكلام المعصومين صلوات الله عليهم.

فكما أنّه لو بلغه العام والخاصّ المذكوران منفصلين فأراد بيان الفتوى في الشكوك الحادثة بعد الوضوء مع الاستدلال ، لكان يقول : الشكّ الذي في بعض أجزاء الوضوء إذا حدث بعده يكون غير معتنى به بقولهم عليهم‌السلام : إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه ، فكذلك حال الإمام عليه‌السلام.

وبالجملة ، الإمام عليه‌السلام قد يكون لسان الله في بيان الكبرى عن الله ، وقد يكون مفتيا ، فيتمسّك بالكبرى التي بيّنها عن الله في مقام آخر ، فيكون مقامنا نظير ما إذا قالعليه‌السلام : الزوجة يرث من غير العقار ، لقوله تعالى : ولهن الربع.

وبالجملة ، مجرّد هذا التقييد لا يخرج الكلام عن الظهور في وحدة السياق ، ألا ترى أنّه لو قال المتكلّم : أكرم علماء هذا البلد لوجوب إكرام العلماء ، وهكذا قال بالنسبة إلى علماء بلدان كثيرة في كلمات منفصلة معلّلا في الجميع بوجوب إكرام العلماء ، وقال في بلد مخصوص : أكرم علماء هذا البلد إن كانوا فقهاء ، لوجوب إكرام العلماء ، وعلمنا أنّ القيد المذكورة في كلامه احترازي لأجل الإخراج ، فهل ترى أنّه يدخل في ذهننا كبرى اخرى وراء ما سبق إليه ذهننا في الكلمات السابقة؟ لا أراك تشكّ في ذلك ، ومقامنا من هذا القبيل.

وحينئذ فالروايات المذكورة غير متعرّضة للشكّ بالصّحة بهذا العنوان ، نعم يمكن أن يقال : إنّه يعلم منها حكم هذا الشكّ باعتبار أنّ منشأ الشكّ في الصحّة هو الشكّ في تحقّق أمر وجودي معتبر في الصلاة مثلا ، جزاء كان أم وصفا أم كيفيّة ، وعلى كلّ حال يكون مصداقا للشيء ، والروايات ناطقة بأنّه متى شككت في الشيء

٦٧٩

وقد جاوزت عن محلّه فلا تعتن بالشكّ ، ولا وجه لدعوى انصراف الشيء إلى غير الكيفيّة والوصف أعني ذا الكيفيّة ، فإنّ الجهر في القراءة مثلا شيء ، ونفس القراءة أيضا شيء ، فكلاهما مشمولان للقاعدة في عرض واحد.

هذا مضافا إلى عموم التعليل المستفاد من قوله عليه‌السلام في بعض أخبار الشكّ في الوضوء بعد الفراغ منه : هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ ؛ إذ لا فرق في عمومه بين الكيفيّة وذي الكيفيّة.

وقد يقال في تقريب إدراج الشكّ في الكيفيّات في عموم الشكّ في الشيء بعد تجاوزه: بأنّ المقيّد بما هو مقيّد بالكيفيّة المشكوكة مشكوك التحقّق فبهذا الاعتبار يصحّ إدراجه في العموم ، مثلا القراءة الجهريّة مشكوك الوجود بواسطة الشكّ في كيفيّتها ، لا نقول ذلك باعتبار الشكّ في تحقّق عنوان الصحيح حتى يقال : الظاهر من الشيء هو بعنوانه الأوّلي دون مثل هذا العنوان الانتزاعي ، بل نقول : إنّ المشكوك منشأ انتزاع هذا العنوان وهو القراءة الجهريّة ، فإنّه داخل في عموم الشيء قطعا وقد شكّ فيها بعد محلّها.

والفرق بين هذا التقريب وما قبله يظهر في ما إذا شكّ في الجهر في الحمد بعد الفراغ عنه قبل الدخول في السورة مثلا ، فإنّه على هذا التقريب لم يمض محلّ المشكوك وهو المقيّد ، وعلى الأوّل مضى ؛ لأنّ المشكوك هو الجهر في الحمد ومحلّه الحمد وقد مضي ، هذا بناء على أنّ الدخول في الغير إنّما اعتبر في الاخبار ، محقّقا لعنوان التجاوز وليس له موضوعيّة ، وإلّا فلا فرق بينهما.

وهذا التقريب وإن لم نستشكل عليه بانصراف الشكّ في الشيء إلى الشكّ الأوّلي ، وهذا أعني الشكّ في المقيّد شكّ ثانوي ، وما يتحقّق الشكّ فيه ابتداء إنّما هو الجهر والكيفيّة، وذلك لأنّه لو صحّ هذا الانصراف لما صحّ شمول الأصل المسبّبي في شيء من الاصول وهو خلاف بنائهم ، يرد عليه أنّه بعد صحّة التقريب الأوّل تكون القاعدة باعتبار الشكّ في نفس الكيفيّة أصلا في الشكّ السببي ، وباعتبار الشكّ في المتكيّف في الشكّ المسبّبي ، فلا يبقى للثاني مجال مع جريان الأوّل ، نعم له مجال مع

٦٨٠