أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

بالامتثال هو السلامة من تبعة العقوبة ، فإذا فرض كون الطلب بحيث وجوده وعدمه سيّان في عدم استحقاق عقوبة من ناحيته أصلا ، كان العلم والجهل به عند العقل على السواء ، فلا يلزم العالم بالوجوب الغيري بإطاعته كما يحكم به بالنسبة إلى العالم بالوجوب النفسي.

وإذن فالسبب للتنجيز العقلي في المقام إنّما هو العلم الإجمالي بالوجوب النفسي إمّا في الأقلّ أو في الأكثر بخصوصيّة كونه نفسيّا ، ومن المعلوم أنّه لا يكفي في انحلال هذا العلم العلم التفصيلي بالوجوب الأعمّ في أحد الطرفين ، بل اللازم تفصيليّة الوجوب النفسي في أحدهما وهو مفقود هنا باعتراف الخصم.

فإن قلت : سلّمنا قولك أنّ الإجمال بالنسبة إلى خصوص النفسي باق ، ولكنّا لا نسلّم دخالة هذه الخصوصيّة في الأثر العقلي وهو التنجيز ، فإنّا نمنع عدم صيرورة العلم بالوجوب الغيري مورثا لاستحقاق العقوبة بإطلاقه ، وإنّما المسلّم عدم استحقاق التارك للمقدّمة عقابا على نفس تركها ، وأمّا على ترك ذيها فلا ، بمعنى أنّه يصحّ أن يصير حجّة بين المولى والعبد في مقام المؤاخذة على مخالفة ذي المقدّمة ، فيصحّ أن يقول المولى لمن ترك الواجب مع علمه بوجوب مقدّمته : لم عصيتنى وتركت هذا الواجب؟ أما بيّنت لك وجوب مقدّمته.

والحاصل أنّ الوجوب المقدّمي مشترك مع النفسي في استحقاق العقوبة بمخالفته ، غاية الأمر أنّ العقاب في الثاني على مخالفة نفسه وفي الأوّل على مخالفة غيره ، وهذا لا يوجب فرقا في حكم العقل ، فإنّ ملاكه الأمن من العقوبة سواء كانت على نفس المعلوم أو على غيره بسببه ، وحينئذ فنقول : التكليف بالأقلّ معلوم ومخالفته موجبة للعقوبة إمّا على ترك نفسه أو على الترك المسبّب من تركه ، ولا علم بتكليف آخر وراء هذا المعلوم.

قلت : لقد اعترفت بمدّعانا من حيث لا تشعر ، فإنّك أقررت بأن الوجوب النفسي على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعا كان حجّة المولى عليه تماما وهو علم العبد بوجوب مقدّمته وهو الأقلّ ، فقد اعترفت بأنّ الواجب النفسي سواء كان الأقلّ في

١٦١

الواقع أم الأكثر كان العلم بوجوب الأقلّ حجّة عليه ، وما المراد بالاشتغال إلّا كون الوجوب المحتمل في أحد الأطراف بحيث كان العقاب على مخالفته على تقدير وجوده واقعا مع حجّة وبيان.

وحينئذ فنفس احتمال العقوبة يكون كافيا في الرادعيّة والمحرّكيّة والقائل بالبراءة يحتاج إلى إثبات أنّ نفس التكليف ولو كان محتملا ، لكنّ العقاب مقطوع العدم ، وحينئذ فما معنى قولك بعد ذلك : إنّ الوجوب على تقدير تحقّقه في الأكثر غير منجّز ويكون حكم العقل فيه هو البراءة ، وهل هذا إلّا الخلف والتناقض في المقال حيث تعترف عند الحكم بأنّ الوجوب في الأقلّ على تقدير المقدميّة لازم الإطاعة ومنجّز بأنّ وجوب الأكثر على هذا الفرض لازم الإطاعة ومنجّز ، فإنّ تنجيز المقدّمة فرع تنجز ذيها ثمّ تقول بعد ذلك : إنّ وجوب الأكثر مشكوك بدوى غير لازم الإطاعة عقلا ، وهذا تناقض صريح ورفع اليد عن الفرض المبتنى عليه الكلام.

وأيضا يلزم من وجود الانحلال عدمه ؛ إذ هو مستلزم لعدم تنجّز التكليف على تقدير تحقّقه في الأكثر وهو موجب لعدم الانحلال كما هو واضح.

فإن قلت : ما المانع من التفكيك في تنجّز الأكثر وإن كان بحسب الطلب والإرادة لم يتعلّق طلب بجزء في حال فقد الجزء الآخر ، لفرض وحدة الطلب ، ولكن حفظ هذا الأكثر المطلوب بالطلب الواحد ليس على عهدة العبد إلّا من جهة سدّ باب عدمه من ناحية الجزء المعلوم دون الجزء المشكوك.

قلت : أنت إذا سلّمت أنّ التكليف بالأكثر على تقدير ثبوته داخل تحت حكم العقل بالإطاعة كيف يمكن أن يكون الإتيان بشيء يكون كضمّ الحجر وأجنبيّا صرفا عن المطلوب والمأمور به رافعا للعقوبة وتركه مورثا لها على مخالفة ذلك التكليف ، وهل هذا إلّا من المضحكات؟

فالنافع بحال القائل بالبراءة إثبات أنّ التكليف النفسي لو كان متعلّقا بالأكثر لا تنجيز له أصلا وأنّه يكفي في الانحلال كون الطلب المعلوم في الأقلّ ذا أثر على

١٦٢

تقدير كونه نفسيّا ، ولا يلزم كونه كذلك على كلّ تقدير.

فإن قلت : ليس المراد بمنشئيّة الوجوب المقدّمي في المقام للعقوبة على ترك ذي المقدّمة كونه منشئا لذلك على الإطلاق حتى ينافي مع القول بالبراءة ، بل نقول : إنّ المركّب هنا أعني الأكثر لا شكّ أنّ تركه مسبّب عن ترك أحد أجزائه ، ولا ريب أنّه على تقدير وجوبه يكون له نوعان من الأجزاء ، معلوم الجزئيّة ومشكوكها ، والمعلوم هو الأقلّ ، والمشكوك هو الزائد ، فيكون لهذا المركب لا جرم نوعان من الترك ، الأوّل ما هو مسبّب عن ترك الجزء المعلوم ، وأخر ما هو مسبّب عن ترك الجزء المشكوك.

وحينئذ فالمقصود من منشئيّة وجوب الأقلّ الغيري للعقوبة هو كون ترك الأكثر المسبّب عن ترك الأقلّ مورثا للعقاب ، دون أن يكون تركه المسبّب عن ترك الزائد المشكوك أيضا كذلك ، بل نقول : إنّه غير موجب للعقاب ، لكون العقاب عليه بلا بيان ، بخلاف الأوّل ؛ فإنّه مع البيان ، وهذا مرادنا من منشئيّة الوجوب المقدّمي في الأقلّ للعقاب والبراءة عن وجوب الزائد.

قلت : فعلى هذا يكون استحقاق العقاب منحصرا في خصوص ما إذا استند الترك إلى ترك خصوص الجزء المعلوم ، وأمّا لو استند إلى ترك المجموع منه ومن الجزء المشكوك لا إلى خصوص ترك أحدهما فلا ، لأنّ العقاب على هذا الترك أيضا يكون بلا بيان ، فيلزم أن يكون الوجوب المقدّمي في الأقلّ على تقدير ثبوته غير موجب للاستحقاق في هذا الفرض وإن أوجبه في فرض تركه مع الإتيان بالمشكوك ، وهذا المقدار يكفي في مدّعانا من عدم صلاحيّة تفصيليّة مطلق الوجوب في أحد الطرفين لانحلال العلم ، فإنّ ترك جميع الأجزاء بأسرها لا يترتّب عليه استحقاق عقاب من ناحية الوجوب المقدّمي أصلا ، لا على مخالفته ولا على مخالفة ذي المقدّمة ، فثبت أنّ خصوصيّة النفسيّة دخيلة في الأثر العقلي وهو استحقاق العقاب ، والإجمال بالنسبة إليه باق.

هذا غاية توجيه مرام الاشتغالي ، ولكنّ الحق مع ذلك هو البراءة ، وتقريبه

١٦٣

بوجهين ، أحدهما جار في الجزء وغير جار في القيد ، وأخر جار في كليهما.

أمّا الأوّل فهو إنّا سلّمنا جميع ما ذكرتم في تقريب الاشتغال ، ولكن نقول : قد غفلتم عن شيء وهو أنّكم ملتزمون بأنّ قيام الطرق في أحد أطراف العلم الإجمالي موجب لانحلاله والحال أنّ الوجوب الطريقي لا يوجب استحقاق العقاب على مخالفته إلّا على تقدير واحد وهو صورة مطابقته مع الواقع ، وأمّا في صورة عدم المطابقة فيكون بلا أثر من حيث الاستحقاق ، ولا يتمّ ذلك إلّا على أصل هو أنّ معلوميّة وجوب مولوى لازم الإطاعة في أحد الأطراف كاف في الانحلال وإن لم يوجب الاستحقاق على جميع التقادير ، بل في تقدير واحد ، وهذا المعنى متحقّق في المقام قطعا ، وإن قلنا بخلوّ الوجوب المقدّمي عن الأثر رأسا.

لأنّا نقول : إنّا نعلم تحقّق الوجوب المولوي اللازم الإطاعة في الأقلّ ، وهذا الوجوب لو كان منطبقا في الواقع على الوجوب النفسي كان مخالفته موجبة للعقوبة ، وإن كان منطبقا على المقدّمي فليس على مخالفته عقوبة ولو كان من اللازم لانحلال العلم الإجمالي تفصيليّة وجوب في أحد الأطراف كان سببا للعقوبة على كلّ تقدير فتلتزموا في صورة قيام الطريق على أحد الأطراف ـ كما لو قام خبر واحد بوجوب الجمعة بعد العلم الإجمالي بوجوبها أو الظهر ـ بأنّ العلم الإجمالي باق بحاله أيضا.

هذا أحد الوجهين ، ومبناه كما ترى على الانحلال بواسطة معلوميّة الوجوب الأعمّ من النفسي والغيري في الأقلّ ، وهو غير تام في الشكّ في القيد ، والفرق أنّ الأمر لو تعلّق بمركّب فكلّ جزء من أجزاء هذا المركّب متّصف بالوجوب الغيري ، لأنّه مقدّمة لوجود الكلّ كما هو واضح ، ففي الشكّ في الجزء يصحّ دعوى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ إما نفسيّا وإمّا غيريّا ، وهذا بخلاف القيد ، فإنّه لو تعلّق الأمر بالمقيّد بقيد فالمطلق بالنسبة إلى هذا القيد لا يكون مقدّمة لوجود المقيّد ، بل هو أمر مباين للمقيّد.

ألا ترى أنّه لو أمر بعتق الرقبة المؤمنة فعتق مطلق الرقبة أعمّ من المؤمنة والكافرة أجنبيّ عن المأمور به ، بل لو أعتق الكافرة كان مبائنا مع المطلوب ، وهذا

١٦٤

واضح ، وإذن فلا يصحّ عند تردّد الأمر بين وجوب المطلق أو المقيّد القول بأنّ وجوب المطلق أعمّ من النفسي والغيري يكون على أيّ حال معلوما.

الوجه الثاني : أنّه لا إشكال في أنّه متى تعلّق الأمر في ذهن الآمر بموضوع مركّب من أشياء فملاحظة كلّ من هذه الأشياء في هذا اللحاظ على وجه الاستقلال وبنحو التغاير والتعدّد والانفصال غير ممكن ؛ لأنّ الطلب من قبيل العرض ، ولا يمكن عروض عرض واحد وانبساطه على موضوعات متغايرة ، فكما أنّ عرض الوجود لا يمكن أن يعرض ويقوم مع وحدته بموضوعات متعدّدة بالذات ، فكذلك عرض الوجوب أيضا لا يعقل أن يتّصف به مع وحدته بموضوعات متغايرة بالوجود ، فالمتعدّد ما لم يصر واحدا في الوجود لا يمكن أن يصير معروضا لوجوب واحد ، وهذا واضح.

ففي هذا اللحاظ لا بدّ من رفع النظر عن كلّ جزء بحدّه ، وملاحظته على نحو الاندكاك في باقى الأجزاء ، فيصير المجموع بهذه الملاحظة شيئا واحدا بسيطا قابلا للإشارة إليه بإشارة واحدة ، فلا يثبت في هذا اللحاظ الجزئيّة للجزء والكليّة للكلّ ، بل الجزء في هذا اللحاظ عين الكلّ ومتّحد معه وليس شيئا مغايرا معه ؛ إذ لوحظ المجموع شيئا واحدا ، فاعتبار الجزئيّة والكليّة يحتاج إلى لحاظ ثانوي إمّا من هذا اللاحظ أو غيره حتى يلاحظ ما وجد في اللحاظ الأوّل ويحلّله إلى أشياء عديدة ، فينتزع لكلّ من هذه الأشياء التحليلية الموجودة في ذهنه الجزئيّة ، وينتزع لما وجد في ذهن اللاحظ الأوّل الكليّة ، وهذا معنى كون الجزئيّة والكليّة من المعقولات الثانويّة ، وفي هذا اللحاظ الثانوي التحليلي يكون كلّ جزء ملحوظا بحياله وبما هو شيء في حدّ ذاته مغاير لباقي الأجزاء وللكلّ ، ويعرضه الغيريّة مع الكلّ والمقدّميّة له في هذا اللحاظ.

فتحصّل من هذا أنّ للجزء في الذهن نوعين من اللحاظ والوجود.

الأوّل : لحاظه على نحو الاندكاك في الكلّ والاتّحاد معه ويسمّى باللحاظ اللابشرطي، أي لوحظ على ما هو عليه من دون تصرّف فيه بإعطاء الحدّ إيّاه عند

١٦٥

التحليل ، فإنّه إخراج له عن صورته الكائنة فيه.

الثاني : لحاظه على نحو الاستقلال ويسمّى باللحاظ البشرطلائي ، أي لوحظ على نحو التصرّف فيه وإخراجه عن صورته الأوّلية وملاحظته استقلالا وبحدّه ، كما أنّ هذا أيضا هو مراد أهل المعقول من هذين اللفظين عند بيانهم الفرق بين الجنس والفصل ، والهيولى والصورة بجعل الأوّلين لا بشرط والثانيين بشرط لا ، وليس المراد من لفظ لا بشرط ما هو المتداول من إرادة عدم ملاحظة انضمام شيء وجودى أو عدمى إليه ، ولا عدم انضمام أحدهما ، ومن لفظ بشرط لا ملاحظة عدم انضمام شيء آخر اليه لا وجودي ولا عدمي.

والحاصل أنّه إذا حصل للجزء نحوان من الوجود الذهني فلا محالة يكون بين هذين النوعين مقسم يكون هو المعروض لكلّ من الوجودين ويكون هو المحفوظ مع كلّ من القسمين ومتحقّقا في ضمن كلّ منهما حقيقة ، وقد تقرّر في محلّه أنّ وجود المقسم عين وجود أقسامه ، وإلّا خرج عن كونه مقسما لو كان له وجود آخر بحيال قسميه ، ويكون قسما ثالثا بحيالهما ، فيكون ما يعرض على كلّ من القسمين عارضا بالحقيقة على المقسم أيضا ، ويصحّ إضافة هذا العرض إليه بالإضافة الحقيقيّة.

مثلا ضرب الزيد ضرب الإنسان حقيقة ، فكذلك هنا أيضا هذا العرض العارض في الذهن على أحد قسمي الجزء وهو الوجود الاندكاكي في الكلّ يصحّ نسبته وإضافته على وجه الحقيقة إلى المقسم الموجود في ضمنه المتّحد معه وجودا وهو ذات الجزء بلحاظ تجريده عن كلا الوجودين وكلتا الخصوصيّتين.

وعلى هذا فنقول أمّا في الأقلّ والأكثر بأنّ وجوب ذوات هذه الأجزاء التي هي التكبير والحمد والركوع والسجود إلى آخر الأجزاء المعلومة من الصلاة مثلا معلوم بالوجوب النفسي تفصيلا ، وذلك لأنّ الواجب لو كان مركّبا من هذه فقط كانت هذه الذوات متّحدة معه ومتّصفة بالوجوب النفسي لمكان الاتّحاد ، وإن كان هو المركّب من هذه ومن الجزء المشكوك الذي هو السورة مثلا كانت أيضا

١٦٦

متّحدة معه ومندكّة فيه وملحوظة معه شيئا واحدا ، فكانت أيضا متّصفة بالوجوب النفسي لمكان الاتّحاد.

نعم هذه الأجزاء المعلومة بوجودها الاستقلالي المحدود بالحدّ الخاص وهو الأقلّ مغايرة مع الكلّ الذي هو عبارة عن الأكثر على تقدير وجوبه ، فلا يتّصف بالوجوب النفسي ، بل بالمقدّمي ، وأمّا ذواتها الملحوظة مجردة عن لحاظي الاستقلال والاندكاك ، فيصحّ نسبة الوجوب النفسي حقيقة إليها على تقدير تعلّق الوجوب بالأكثر واقعا ، وعلى هذا فيكون الوجوب النفسي في الأقلّ أعني الذوات المجرّدة من القيدين معلوما بالتفصيل ، ويكون الجزء الزائد مشكوك الوجوب.

وأمّا في المطلق والمقيّد فنقول : إنّ الوجوب على تقدير تعلّقه بالمقيّد وإن كان غير متعلّق بالمطلق أصلا وغير مربوط به رأسا ، إلّا أنّ المقسم بين هذين القسمين وهو المهملة عن لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد بوجود شيء أو عدمه لمكان اتحاد وجوده مع قسميه في الذهن يسري عرض كلّ منهما إليه حقيقة ، فأيّ من المطلق والمقيّد كان متعلّقا للوجوب كان المهملة في ضمنه متعلّقا له قطعا ، فصحّ أن يقال : إنّ ذات العتق صار مطلوبا نفسيّا قطعا ، لأنّ المطلوب النفسي لو كان هو العتق اللابشرط المجتمع مع ألف شرط كان ذات العتق المجرّد عن الخصوصيّتين متحقّقة في ضمنه ومتّصفة بعرضه حقيقة.

وكذلك لو كان المطلوب هو القسم الآخر وهو العتق بشرط شيء هو وجود الإيمان في الرقبة كان هذا المقسم أيضا متّحدا معه ، فاتّصف بعرضه ويبقى الشكّ بعد ذلك في وجوب القيد.

فإن قلت : ما ذكرت من الماهيّة المهملة شيء صنعته ، وإلّا فلا عين ولا أثر له قطعا في متعلّق تكليف الشرع ، بمعنى أنّا نعلم أنّ الطالب إمّا يعلّق طلبه على عنوان المطلق أو على المقيّد ، وإمّا على عنوان المهملة ، فمن المقطوع أنّه لم يجعله المولى مركبا لطلبه ولم يلحظه في نفسه عنوانا لمطلوبه.

١٦٧

والحاصل أنّ ما وقع مركب الطلب في ذهن الآمر غير معلوم بعينه ومردّد بين عنوانين هما المطلق والمقيّد والمهملة ، وإن كانت متحقّقة في المطلوب على كلّ تقدير ، لكنّه معلوم عدم تعلّق الطلب بعنوانه.

قلت : إن أردت عدم صحّة نسبة الطلب على وجه الحقيقة إلى المهملة فممنوع ؛ لوضوح صدق ذلك حقيقة كما مرّ ، وإن أردت أنّه مع ذلك لا يكون الأمر المتوجّه إليه المعلوم على أيّ تقدير موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة ، لأنّه موقوف على معرفة عنوان المأمور به تفصيلا ، فهذا ما استظهر من صاحب الحدائق من التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين ما إذا كان المشتبهان فردين لعنوان واحد ، كما لو اشتبه النجس بين إناءين ، وبين ما لو كانا فردين لعنوانين ، كما لو علم أنّ أحد الإنائين إمّا خمر أو الآخر مغصوب ، فيجب الاجتناب في الأوّل دون الثاني.

والحقّ عدم الفرق في حكم العقل بوجود إطاعة المولى وحرمة مخالفة الخطاب المعلوم بين الصورتين ، والحاصل أنّ المكلّف وإن لم يعلم بتوجّه خطاب «لا تشرب الخمر» ولا بتوجّه خصوص «لا تغصب» ولكنّه يعلم بتوجّه أحدهما ، والعلم بهذا العنوان المنتزع يكفي في حكم العقل ، وكذلك هنا وإن لم يعلم بتوجّه خصوص «أعتق رقبة» على وجه الإطلاق ولا خصوص «أعتق الرقبة المؤمنة» ولكنّه يعلم بتوجّه وجوب أصل الإعتاق ، وبعد فرض صحّة نسبة الوجوب إلى هذا العنوان المنتزع وصدقها حقيقة لا وجه لعدم جريان حكم العقل فيه.

فإن قلت : سلّمنا ذلك ، ولكن نقول : توجّه الطلب نحو المهملة يكون على نحوين متفاوتين بحسب الواقع وبحسب الامتثال ، أحدهما : أن يقع متعلّقا له على وجه كان هو وحده دخيلا في المطلوب ولم يكن معه شيء آخر ، والثاني : أن يقع متعلّقا على نحو الاندكاك في المقيّد ، بحيث كان المطلوب هو المقيّد ، وكان صحّة إضافة الطلب إلى المهملة موقوفة على لحاظها بنحو الاندكاك دون الاستقلال ، وامتثال القسم الأوّل يحصل بإتيان أي فرد كان عنوان المهملة منطبقا عليه ، وامتثال الثاني إنّما يحصل بإتيان خصوص الفرد الذي ينطبق عليه المقيّد ؛ لوضوح

١٦٨

أنّ غيره من الأفراد مباين للمطلوب ، فلا يحصل الامتثال بها ، وحيث إنّ الأمر في المقام دائر بين تعلّق الطلب بالمهملة على أحد من هذين النحوين ولم يعلم شيء منهما معيّنا ، فيتوقّف العلم بحصول الامتثال على الإتيان بمصداق المقيّد ؛ لأنّه الذي يكون امتثالا على أىّ حال.

قلت : لا شكّ أنّ تحرّك المأمور وانبعاثه نحو إتيان المراد إنّما يكون بتحريك الامر وبعثه، فلا محالة يتقدّر بقدرة ، والمفروض أنّ المقدار الذي تحرّك إليه الأمر إنّما هو خصوص المهملة لا غير ، لأنّه لم يعلم على أزيد منها ، فلا محالة يكون تحرّك المأمور الذي هو معلول ذاك التحريك أيضا مقصورا على هذا القدر ، ولو كان تحرّكه إلى المهملة وإلى أمر آخر وهو القيد لزم أن يكون التحرّك بالأمر أزيد من تحريكه ، إذا المفروض أنّه إلى سمت المهملة ليس إلّا ، وهذا غير معقول.

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكرت من لزوم كون التحرّك بالأمر على قدر تحريكه لزم في العلم الإجمالي بين المتباينين جواز الاكتفاء في مقام الامتثال بإتيان أحدهما ، ولا يجب الاحتياط بإتيان كليهما ؛ إذ الأمر هناك أيضا لم يعلم إلّا بأحد الأمرين ، فيكون كما لو وجّه الخطاب من أوّل الأمر إلى هذا العنوان ، فكما كان امتثاله بإتيان أحد الأمرين فكذا هنا ؛ إذ الأمر بالزائد على ذلك مشكوك.

قلت : وجه عدم الاكتفاء هناك بالفرد الواحد أنّ المعلوم تعلّق الأمر به ليس هو مفهوم الأحد ليس إلّا ، وإلّا كان الأمر كما ذكرت ، بل المعلوم تعلّقه بذلك المفهوم مع شيء زائد وهو إحدى الخصوصيتين.

وبعبارة اخرى : المعلوم تعلّق الأمر بمصداق هذا العنوان لا بنفسه ، ومن الواضح أنّه حينئذ لا بدّ من إتيان كلا الفردين مقدّمة لتحصيل الخصوصيّة المطلوبة ، وليس الأمر في باب المطلق والمقيّد بهذا المنوال ، بمعنى أنّه ليس الأمر بالزائد على الطبيعة المهملة بمعلوم ؛ فإنّه على تقدير وقوع المطلق تحت الطلب فليس المطلوب إلّا الطبيعة المهملة ، لا أنّه هي مع شيء آخر ، فإنّ وصف الإطلاق ليس إلّا عبارة عن عدم القيد وعدم دخالة شيء آخر في المطلوب ، وهذا المعنى ليس

١٦٩

شيئا كان من مقوّمات نفس المطلوب كما هو واضح ، فعلى هذا التقدير المطلوب هو الطبيعة المهملة وحدها ، فإذا دار الأمر بينه وبين التعلّق بالمقيّد كان الأمر دائرا بين تعلّق الطلب بالمهملة فقط أو بها مع شيء آخر ، فيكون الطلب للمهملة معلوما ولغيرها مشكوكا.

بقي الكلام في الإشكال الذي وجّهه شيخنا المرتضى على البراءة وأجاب هو قدس‌سره عنه بجواب غير مرضيّ ، وحاصل الإشكال أنّه لا شبهة في أنّ خطابات الشرع على ما هو التحقيق بين العدليّة مبنيّة على مصالح في المأمور بها ، وأنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة ، وإذن فاللازم على العبد في مقام الامتثال تحصيل تلك المصلحة التي نشأ الأمر من قبلها ، ووجه لزوم ذلك أنّه يجب عليه عقلا إسقاط أمر المولى عن نفسه ، وإذا كان منشأ أمره تلك المصلحة فما دام تلك المصلحة باقية غير حاصلة كان الأمر باقيا.

وبعبارة اخرى : كما أنّ المصلحة كانت علّة محدثة للأمر تكون مبقية له أيضا قطعا ؛ إذ العلّة المحدثة مبقية ، فيتوقّف إسقاط الأمر الواجب على العبد على إتيان تلك المصلحة التي هي علّة له ، وعلى هذا فيجب الإتيان بالأجزاء المشكوكة والقيود المحتملة لأجل إحراز تلك المصلحة وإن كان الأمر غير معلوم إلّا بالنسبة إلى المجرّد عنها ، فوجوب تحصيلها يكون للجهة المذكورة لا لتعلّق الأمر بنفسها.

وحاصل ما أجاب به شيخنا وجهان ، الأوّل : إنّا نفرض كوننا أشعريّين ونتكلّم على هذا الفرض وهم غير قائلين بابتناء الخطاب على المصالح.

والثاني : أنّ تحصيل تلك المصلحة أمر لا يتمكّن منه على وجه الجزم على كلّ حال ولو اتي بالأجزاء والشرائط ، وذلك أنّ من المحتمل دخل النيّة على وجه الجزم في مقرّبيّة العبادة وكانت المصلحة العبادية متوقّفة عليه وغير حاصلة بدونه ، ومن المعلوم أنّ ذلك الجزم غير متمشّ مع إتيان الأكثر ؛ لعدم تميّز الواجبات عن غيرها.

فعلم أنّ مع إتيانه أيضا لا يحصل العلم بحصول المصلحة ، وبعد العجز عن ذلك

١٧٠

فلا يبقى على العبد إلّا التخلّص من تبعة الأمر ، وقد عرفت أنّه في الأقلّ معلوم وفي الزائد مشكوك.

وانت خبير بما في كلا الجوابين.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الإشكال غير مبتن على القول بالمصلحة الذي هو مختصّ بالعدليّة ، بل يعمّ على جميع الأقوال ، وذلك لأنّ الأمر لا محالة يكون ناشئا عن علّة وغرض ، ضرورة أنّ العاقل لا يأمر بدون ملاحظة غرض أصلا ، غاية الأمر وقع النزاع في تعيين ذاك الغرض في الباري تعالى ، فالعدليّة يقولون بأنّه مطابق للصلاح والحكمة ، والأشعرى يقول : بل هو غرض على وفق ميله تعالى ومشيّته ، ولا يقول بأنّ أوامره خالية عن الغرض رأسا ، فإنّه قائل بحكم العقل ، غاية الأمر ينكر التحسين والتقبيح.

والحاصل : معلّلية أوامر الله بل كلّ عاقل بأغراض في الجملة ممّا لا كلام فيه ولا خلاف ، فيجرى الكلام المتقدّم حرفا بحرف في الغرض من وجوب تحصيله ، لأنّه علّة للأمر ، والعلم بإسقاط الأمر واجب ، فيجب ما هو مقدّمته من العلم بتحصيل الغرض.

وأمّا الثاني فلأنّ عدم التّمكن من الجزم في النيّة بالدرجة العليا لا يوجب التنزّل من الدرجة الدنيا مع إمكانها وهو الإتيان بتمام ما احتمل دخله في المطلوب ، فإنّه يحصل معه الجزم بمرتبة نازلة لا يحصل ذلك مع الاقتصار على الاقلّ.

والتحقيق في الجواب عن أصل الإشكال يبتني على تقديم مقدّمة وهي أنّ هنا شيئين يصلحان لموضوعيّة حكم العقل ، أحدهما الأمر والآخر الغرض ، فهنا بحسب مقام الثبوت احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الأمر موضوعا ، ولو انفكّ عن الغرض دون العكس فالعقل يلزم أبدا نحو إطاعة الأمر ولا ينظر إلى مطابقته مع الغرض وعدمها ، ولا حكم له أيضا مع الغرض المجرّد عن الأمر.

الثاني : أن يكون الأمر بالعكس ، فيكون الغرض موضوعا ولو انفكّ عن

١٧١

الأمر ، وحكم العقل في مورد الأمر إنّما هو من جهة كشفه عن الغرض.

الثالث : أن يكون كلّ واحد من الأمر والغرض موضوعا مستقلّا لحكمه ، وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ من مراجعة العقل عند موارد انفكاك كلّ منهما عن الآخر.

فنقول : الحقّ أنّ الغرض بما هو ولو كان منفكّا عن الأمر ليس موضوعا لحكم العقل، ويحصل وضوح ذلك بمراجعة الوجدان في ما لو علم العبد بمحبوب للمولى وأنّ الشيء الفلاني يكون مطلوبه ومحبوبه ، وعلم أيضا أنّه ليس للمولى مع كونه ملتفتا إلى محبوبيّة ذاك الشيء حالة الطلب عن العبد والإرادة منه إمّا لكونه لا يحبّ تحميل المنّة من الغير أو لغير ذلك ، فهل ترى من نفسك أنّه مأخوذ بحكم عقله بإتيان هذا الشيء ويستحقّ العقاب بتركه؟

ولا فرق في ذلك بين الغرض الذي يرجع إلى جهة مولويّة المولى كما لو رأى ابنه ساقطا في البئر ، أو الغرض الراجع إلى جهة كونه من العقلاء ، فإنّه لو علم العبد من حال المولى في مثال سقوط ابنه في البئر أنّه قلبا وباطنا غير مريد منه إخراجه ، لأنّ تحمّل المنّة مشقّة عليه مثلا ، فمجرّد كون ذات الإخراج في غاية المحبوبيّة له هل يصلح عند العقل لأن يقع موضوعا للحجيّة عند مقام الاحتجاج؟

فعلم أنّ الغرض بما هو غير مصحّح للعقاب نعم الغرض المجرّد قد يكون كذلك في ما إذا كان المانع عن إظهار الطلب والإرادة حاصلا للمولى مع تحقّق أصلهما في نفسه ، كما لو كان عند سقوط ابنه غير ملتفت واحرز من حاله أنّه لو كان ملتفتا لأمر بالإخراج ، ففي مثل تلك الموارد يصحّ المؤاخذة ، وفي الحقيقة ليس موضوعه نفس الغرض ، بل ذاك الطلب القلبي الذي يكشف عنه الغرض ، فالقول بوجوب الإطاعة حينئذ ليس قولا بموضوعيّة الغرض ، فافهم.

ومثال ما إذا كان ذات العمل موردا للتعشّق الأكيد والشوق الشديد وكان المانع في نفس الإرادة دون إظهارها في الشرعيّات هو السواك على ما يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أن أشقّ على أمّتي» الخ ، فهل ترى أحدا يحكم بوجوب السواك نظرا إلى أنّ المستفاد من هذا القول وجود الغرض اللزومي فيه.

١٧٢

ويشهد لما ذكرنا أيضا ما اشتهر من أنّ الخطابات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة ، فإنّه لو كان الغرض وحده موضوعا لحكم العقل لكان لقائل أن يقول : لا حاجة بعد العلم بوجود المصلحة وإدراكها بطريق العقل إلى الأمر الشرعي ، بل يكفي في إلزام العقل بإتيانها كون المولى حكيما ومحبّا لكلّ مصلحة ويكون كلّ صلاح غرضا له ومحبوبا ، والمفروض أنّ الغرض موضوع تام للحجيّة وصحّة المؤاخذة والعقوبة ، فكان ذلك باعثا لارتداع النفوس ، فلم يتمّ الدليل المذكور الذي أقاموه على وجود الأمر الشرعي عند المصلحة العقليّة بوجوب اللطف على الله تعالى ؛ إذ لا لطف على هذا في الأمر ، بل وجوده وعدمه سيّان ، لحصول الارتداع بدونه.

لا يقال : إنّه لا يلزم ممّا ذكرت من عدم كون الغرض بما هو موضوعا كون الأمر بما هو كذلك ، بل نقول : إنّ الأمر أيضا بمجرّده غير موضوع ، فنقول : لو أمر مولى وعلم أنّ غرضه منحصر في اصدار الأمر وأنّه شيء محبوب له في حدّ ذاته من دون غرض له في ذات العمل أصلا لا بعنوانه الأوّلى ولا بعنوانه الثانوي الذي هو إطاعة الأمر فإنّه يمكن أن يحدث الغرض في العمل بنفس الأمر ، كما لو أمر بحضور جماعة ، فإنّ التهاون في الامتثال يكون هتكا له ، فيصير الترك مبغوضا له من جهة هذا العنوان الثانوي ، فنحن نفرض خلوّ العمل عن كلّ صلاح وتركه عن كلّ فساد حتّى مع ملاحظة الطواري والعناوين الثانوية له ، فهل ترى من وجدانك حينئذ الحكم بلزوم الموافقة والإتيان بالعمل بمجرّد الأمر الخالي عن الغرض ، ولهذا يقال في الأوامر الطرقية عند مخالفتها مع الواقع أنّها ليست موجبة للعقاب على مخالفتها ، فعلم أنّ الأمر بما هو ليس موضوعا كالغرض.

لأنّا نقول : هنا مطلبان لا بدّ من ملاحظتهما وعدم الخلط بينهما :

الأوّل : مصححيّته شيء للعقاب في حكم العقل ونظره.

والثاني : داعويّته للعقاب.

فالذي نحن ندّعيه في الأمر وننفيه عن الغرض هو الأوّل ، ولا يلزم منه استتباعه العقاب مطلقا ، بل هو حجّة ويصحّ الاحتجاج به ، ومعنى ذلك أنّه لو اتّفق

١٧٣

الداعي إلى الاحتجاج صحّ الاحتجاج ، ففي الأوامر الطرقية المخالفة للواقع وكذا كلّ مورد فرض فيه الأمر الجدّي والطلب الحقيقي بدون غرض في العمل رأسا نلتزم بأنّ الأمر في حدّ ذاته حجّة ، بمعنى أنّه يقال في مقام الاحتجاج : لم خالفت أمرى وعملت على خلاف ما أمرتك به؟ فما به يحتجّ المولى إنّما هو الأمر لا غير ، ولكن لو لم يفت من المولى بمخالفة أمره ولو بالعنوان الثانوي غرض أصلا كان العقاب لغوا وبلا داع إليه أصلا ، وعدم صحّة العقوبة لأجل عدم فوت غرض وكونه لغوا وراء عدم صحّته لأجل عدم الحجّة وعدم المصحّح.

والحاصل أنّ نفس الأمر مصحّح والغرض داع ، فلو كان أمر وعلم خلّوه عن الغرض رأسا فليس عدم حكم العقل بلزوم الامتثال لأجل عدم وجود المصحّح ، بل لأجل عدم وجود المقتضي ، ولهذا لو كان الأمر مقرونا باحتمال المطابقة مع الغرض لزم الامتثال كما في الأوامر الطرقية ، إذ العقل يحكم بوجوب تحصيل الاطمئنان بالأمن من العقاب المتوقّف على الامتثال.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما هو المصحّح في حكم العقل للعقاب في محلّ وجود مقتضيه هو الأمر ، وما هو الموضوع في حكمه للزوم الامتثال هو الأمر المقرون باحتمال المطابقة للغرض.

إذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم أنّ المولى إذا أراد تحصيل غرضه من العبد فلا بدّ له من نصب الأمر الذي هو موضوع الحجيّة على ذلك ، لما عرفت من أنّ نفس الغرض لا يكون محرّكا وحجّة ، فلا بدّ أن يتوسّل لتحصيله بما هو كذلك وهو الأمر ، وحينئذ إمّا أن تعلّق أمره وتوجّهه نحو نفس الغرض ، وإمّا أنّ تعلّقه نحو عنوان آخر يعتقد مطابقته مع الغرض ، مثال الأوّل ما إذا كان غرضه إسهال الصفراء فقال لعبده : اسهل الصفراء ، ومثال الثاني أن يقول في المثال : اشرب السكنجبين معتقدا أنّ شربه نافع للإسهال.

ففي القسم الأوّل اللازم على العبد تحصيل العلم بحصول الغرض بإتيان كلّ شيء يحتمل دخله فيه ، وأمّا في الثاني فلا يجب عليه سوى ما أوقعه الآمر مركبا

١٧٤

لأمره ، فلو فرض خطاء اعتقاد الآمر وأنّ شرب السكنجبين غير دافع للصفراء فليس في ذلك على العبد حرج ؛ إذ تفويت الغرض ليس مستندا إلّا إلى نفس المولى ، ولا يرتبط بالعبد.

والحاصل أنّ الغرض بما هو ، غير موضوع للزوم التحصيل ، والآمر يريد أن ينال بغرضه بتوسّط الأمر الذي هو موضوع الإطاعة والحجيّة بين المولى والعبد ، فإن فرض القصور في أمره لم يكن تقصير من ناحية العبد.

وبعبارة اخرى أنّه يجب على العبد أن لا يفوّت الغرض من طريق مخالفة الأمر في ما كان وافيا ، وأمّا لو كان قاصرا فلم يحصل تفويت من ناحية مخالفة الأمر ، بل من ناحية قصور نفس الأمر وهو أمر يرجع إلى المولى دون العبد.

فنقول في ما نحن فيه : لم ينصب الشارع أمرا وخطابا واصلا إلينا إلّا في موضوع الأقلّ ونعلم أنّه أراد بذلك حصول فائدة وغرض ، فليس علينا البحث والفحص عن ذلك الغرض أزيد ممّا تحرّكنا هذا الأمر الواصل إلينا سمته وهو الأقلّ ، ولا نبالي مع موافقته أنّه هل يحصل ذاك الغرض الداعي إلى هذا الأمر بإتيان الأقلّ أولا ، فإن كان مع ذلك قصور فهو من غير ناحيتنا.

والحاصل أنّه إذا فرض أنّ المولى يحصّل الغرض من طريق الأمر ، ولا يكون له طريق آخر غيره ، ويكون هذا الطريق أيضا غير محرّك إلّا سمت الأقلّ فلا يبقي حينئذ حجّة للمولى لو فات غرضه ، أمّا انحصار الطريق في الأمر فقد مرّ وجهه ، وأمّا عدم محرّكيّة أمره إلى غير سمت الأقلّ فهو أنّ الأمر إنّما هو علّة محصّلة لمتعلقه ومحرّكة للعبد نحوه ، فحاله في التحريك ليس بأعلى من العلل العقليّة ، حيث إنّ العلّة العقليّة تكوّن المعلول في الخارج ، والأمر أيضا يقتضي تكوّن المأمور به من جوارح المأمور ، والمأمور به في المقام هو المهملة بين المطلق والمقيّد أو ذات الأقلّ ، ولا يعقل في العلّة العقليّة للمهملة أو ذات الأقلّ أن تكوّن القيد أو الجزء الزائد ، فكذلك الحال في الأمر.

فإذا قال المولى : اقرأ فقرأ ، فقال : اركع فركع ، فقال : اسجد فسجد ، فقال : تشهّد

١٧٥

فتشهّد ، فقال : سلّم فسلّم ، فليس لهذا الأمر الذي سمعه اقتضاء أزيد من ذلك ، فلو كان المولى في الأثناء قائلا : اقرأ السورة ولم يسمعه العبد فليس لما سمعه من أمره اقتضاء بالنسبة إلى إتيانها وإن كان هو متعلّقا بمتعلّقه لا على وجه الاستقلال ، بل على نحو الاندكاك ، ولكن مع ذلك تأثيره وفعّاليّته ليس بأزيد من إتيان نفس المهملة أو الأقلّ كما في العلّة العقليّة، وحينئذ فيتعيّن كون فوت الغرض من غير ناحية العبد ، فتأمّل في أطراف هذا المقام بالتأمّل التامّ.

ثمّ هذا كلّه تمام الكلام في التوصّليات ويجري بتمامه في التعبّديات أيضا ، إلّا أنّه يبقى مع ذلك فيها اشكال وهو أنّه ربّما يقال : إنّ من المقرّر في باب العبادات لزوم إتيانها على وجه القرب وتوقّف سقوط أمرها على ذلك ، فيجب في هذا الباب تعبّدا الإتيان بكلّ ما يحتمل دخله في حصول القرب وكون تركه مفضيا إلى عدم حصوله ، فالإتيان بالأكثر وإن كان غير لازم في غير العبادات ، ولكنّه واجب لمكان هذا التعبّد في العبادات.

وحاصل الجواب عن هذا الإشكال أن يقال : ما المراد بالقرب المعتبر في العبادة ، فإن أردتم كون العمل بحيث صار موجبا لتقرّب العبد وصيرورته ذا منزلة لدى المولى وذا حقّ عليه بسبب عمله ، فهذا أمر لا يتّفق لأحد من عامّة الخلق ممّن عدا أهل بيت الوحي وخلّص شيعتهم ، وإن أردتم معنى سهل المئونة يحصل بإتيان العمل بقصد الفرار عن عقوبة مخالفة الأمر الأم أو النيل إلى مثوبة موافقته ، وبعبارة اخرى أن يكون الميزان عدم مساواة فاعل العمل مع تاركه في نظر العقل وكون الأوّل أقرب بمقام عبوديّة المولى من التارك بالمرّة ، فهذا أمر حاصل في المقام بموافقة الأمر بالأقلّ بالداعي المذكور أعني قصد الفرار عن تبعة عقوبته ، فإنّ هذا الفاعل يرجّح في نظر الشرع والعقل على من ترك المأمور به بالمرّة ، وهذا واضح.

هذا كلّه هو الكلام في البراءة العقليّة ، وأمّا الكلام بحسب النقل فاعلم أنّه لا إشكال في البراءة نقلا بعد فرض القول بها عقلا ، ووجهه أنّه يصير الأقلّ معلوم الوجوب والزائد مشكوكه ، فيدخل الثاني تحت حديثي الرفع والحجب دون الأوّل.

١٧٦

وإنّما الكلام على فرض القول بالاحتياط عقلا ، فإنّه يقال : إنّ من يقول بأنّ منشأ الأثر هو الوجوب النفسي دون المقدّمي والترديد بالنسبة إلى الأوّل باق بحاله ، لا بدّ وأن يقول بأنّ المرفوع والموضوع أيضا هو الوجوب النفسي ، لأنّه شيء يكون في رفعه ووضعه منّة. وحينئذ فيكون الحديث في كلّ من الأقلّ والأكثر جاريا ، فيسقط بالتعارض ، وبالجملة، الكلام على هذا القول هو الكلام في المتباينين.

ويمكن تصحيح البراءة النقليّة على هذا أيضا بأن يقال : إنّ المرفوع والموضوع هو جزئيّة الجزء المشكوك أو شرطيّة الشرط المشكوك ، ولا يلزم المحذور ، ولا يشكل بأنّهما غير قابلين للجعل فلا يشملهما الحديث ، لما مرّ سابقا من أنّ حديث الرفع وكذلك حديث إبقاء ما كان في الاستصحاب غير مختص بما هو مجعول بلا واسطة ، بل يجريان في كلّ شيء تناله يد الشرع نفيا وإثباتا بأيّ نحو ولو بالواسطة ، وهما من هذا القبيل ، فإنّ جعلهما بجعل منشأ الانتزاع.

ولا يشكل أيضا بأنّ تقييد الجزئيّة والشرطيّة بحال العلم بهما مستلزم للدور أو ما هو أشدّ محذوريّة منه ، فإنّه ليس المراد تقييد واقعهما بذلك ، بل تنجّزهما ، فهما بحسب الواقع علم بهما أم لم يعلم ثابتان ، ولكنّهما مرفوعان بحسب الظاهر في حقّ من جهل بهما.

إلّا أنّ هنا إشكالا وهو أن يرفع هذا الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه وهو الأمر بأحد عشر أجزاء مثلا ، أعني الأمر المتعلّق بالمحدود بهذا الحدّ ، وإذا رفع الطلب عن هذا الحدّ والمفروض وحدة المطلوب وعدم تعرّض الدليل لمطلوبيّة ما نقص عن هذا الحدّ فمن أين يثبت مطلوبيّة سائر الأجزاء بعد ارتفاعها عن حدّ الأكثر.

وبعبارة اخرى : العلم الإجمالي باق ولم ينحلّ على الفرض ، وشيء من دليلى الواقع والرفع لا يتعرّض لحكم وضع ما بقي من الأجزاء على فرض سقوط واحد ، فما الموجب لتعيّن الوجوب النفسي في الأقلّ بعد رفع جزئيّة الجزء ، المشكوك بحديث الرفع ، وكذلك الكلام في الشرط.

١٧٧

ويمكن الجواب بأنّه يستفاد ذلك من ضمّ هذا الحديث إلى علمنا الحاصل من الأدلّة المتكفّلة لبيان الأجزاء ، فنقول نعلم بدليل كذا أنّ تكبيرة الإحرام جزء للصلاة ، وأنّ الحمد كذلك ، وأنّ الركوع كذلك وهكذا إلى آخر الأجزاء المعلومة ، والجزء الذي نشكّ فيه وهو السورة مرفوع بمقتضى الحديث ، فالعلم بسائر الأجزاء واضع لها ، والشكّ في الجزء الخاصّ رافع لها.

إلّا أن يقال (١) إنّ هذا العلم إنّما ينفع على القول بالانحلال ، فيقال : نعلم بتعلّق الوجوب بالمهملة ، فقضيّة العقل الخروج عن عهدته ، ولكنّ المفروض عدم تسليم ذلك وعدم الانحلال ، وبالجملة ، إن جعلت نفس الأدلّة في جنب الحديث فهذا يتوقّف على كونهما في عرض واحد ، والحال أنّه أخذ في موضوع الثاني الشكّ في الحكم المدلول عليه بالأوّل ، فهما في مرتبتين ، فكيف يمكن جعلهما في مرتبة واحدة ، وإن أردت ضمّ العلم إلى الحديث فلا نسلّمه بعد ارتفاع الجزء المشكوك بالحديث ، إذ ارتفاعه يمكن بنحوين :

الأوّل : ارتفاعه فقط مع بقاء بقيّة الأجزاء ، الثاني : ارتفاع المركّب أصلا ورأسا ، ولا علم لنا بخصوص أحدهما ، وحديث الرفع أيضا لا يتعرّض لوضع ما بقي وإلّا لزم في ما إذا كان الأصل في النافي أحد طرفي العلم الإجمالي بالتكليف في المتباينين جاريا دون الطرف الآخر أن يكون الأصل المذكور مثبتا للتكليف في الطرف الآخر ، وقد قرّر في محلّه أنّ الاصول غير قابلة لإثبات اللوازم ، وحديث الرفع أيضا من الاصول.

إلّا أن ندفع ذلك أيضا بأنّا استفدنا هذا النحو من الاستدلال من مولانا الصادق صلوات الله عليه في حديث عبد الأعلى حيث سأله عن حكم وضوء من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة؟ فقال : هذا وشبهه يعرف من كتاب الله (ما

__________________

(١) هذا ليس من الاستاد ، بل من بعض فضلاء حضّار مجلس البحث أورده على الاستاد ، فأجاب دام ظلّه بما ذكر. منه قدس‌سره الشريف.

١٧٨

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ثمّ قال : «امسح عليه» : حيث يظهر منه أنّهعليه‌السلام منعه عن مثل هذا السؤال معلّلا بأنّه يعرف من كتاب الله ، فلا يحتاج إلى السؤال ، يعني قوله تعالى : (ما جَعَلَ) الخ يدلّ على لزوم المسح على المرارة فالحديث آب عن الحمل على التعبّد والاقتصار على مورده.

وحينئذ نقول : الآية لا تعرّض فيها إلّا لعدم جعل ما كان حرجيّا ، وهل فيها تعرّض لجعل غيره؟ فإذا صار مباشرة الماسح للممسوح حرجا ، فعدم جعلها يلائم مع عدم جعل الوضوء رأسا وبعدم جعل المسح كذلك ، وبعدم جعل خصوص المباشرة مع جعل البقيّة فالإمام استشهد بالآية للثالث.

فنقول : ما الفرق بين هذه الآية ورواية الرفع والحجب ، فإذا شكّ في جزئيّة جزء فهو بمقتضى رفع ما لا يعلمون يصير مرفوعا ، ولكن مرفوعيّته لا يضرّ بباقي الأجزاء ، فيصير الواجب ما سوى هذا الجزء وبالجملة ، إنّا استفدنا في خصوص الأقلّ والأكثر دون المتباينين من الإمام عليه‌السلام أنّ الحديث كما أنّه متعرّض للرفع متعرّض للوضع أيضا ، وللخصم إبداء الفرق بين هذا الحديث وآية رفع الحرج التي تمسّك بها الإمام عليه‌السلام ، هذا تمام الكلام في الترديد بين الأقلّ والأكثر.

بقي التنبيه على امور

الأوّل : إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير كما لو علمنا بوجوب إكرام زيد ، لكن لم نعلم أنّه الطرف التخييري والطرف الآخر إكرام عمرو أو أنّه الواجب معيّنا ولم يكن هناك إطلاق لفظي إمّا بأن يكون الدليل لبيّا أو كان لفظيّا ولكن لم يجتمع شرائط الأخذ بالإطلاق في اللفظ فهل الأصل في هذه الشبهة أيضا ما ذكر في الشبهة بين الأقلّ والأكثر من البراءة أو غيره.

ربّما يقال بأن الكلام في هذه هو الكلام في تلك ، وذلك لرجوعها إلى الشبهة المذكورة ، وذلك لأنّ من المقرّر في المعقول أنّ الواحد لا يتأثّر إلّا من الواحد ،

١٧٩

ففي الواجبات التخييرية حيث يشترك امور متباينة في تحصيل غرض واحد ولهذا يطلب واحد منها على التخيير ، وإلّا فلو حصل من كلّ غرض مطلوب ذاتا لطلب جميعها ، وإمّا ترتّب فائدة على كلّ غير ما يترتّب على الآخر ، غاية الأمر مع إدراك واحدة من تلك الفوائد ارتفع الحاجة عن البقيّة ، فالظاهر أنّه غير معقول ؛ اذ لا يعقل دوران الحاجة بين أغراض متباينة ذاتا مع عدم جامع بين تلك المتباينات ، وفي الحقيقة يكون الغرض هذا الجامع المتحصّل بتلك المتباينات.

والحاصل : فلا بدّ من وجود جامع بين خصال الواجب التخييري حتّى يكون الفائدة الواحدة مستندة إلى هذا الجامع تحفّظا عن مخالفة القاعدة المذكورة ، ولا ينافي ذلك عدم إدراكنا للجامع وعدم تصوّرنا حقيقته ؛ إذ لا ينافي ذلك وجوده واقعا ، وحينئذ ففي كلّ موضع دار الأمر بين التخيير والتعيين فقد دار الأمر بين وجوب الجامع بين الشيئين مع عدم لحاظ خصوصيّة واحد منهما ، وبين وجوب واحد مخصوص منهما ، فيكون من باب دوران الأمر بين المطلق والمقيّد ، فالأصل فيه البراءة عند القائل بالبراءة هناك ، والاحتياط عند المحتاط هناك.

والحقّ خلاف ذلك ، وإنّا وإن قلنا في البحث السابق بالبراءة لا بدّ أن نقول هنا بالاحتياط وإن سلّمنا البيان المذكور أعني رجوع المقام إلى المقام الأوّل تسلّما للقاعدة المعقوليّة.

ووجه ذلك أنّ هنا توجّه الطلب نحو الخاص معلوم ولا يرتفع عقلا الاشتغال به بإتيان الخاص الآخر المحتمل البدليّة ، وتوجّهه نحو الجامع مشكوك ، وأمّا هناك فتوجّهه نحو الجامع معلوم ونحو الخاص مشكوك كما لو سمعنا قوله : أعتق رقبة وشككنا أنّه عقّبه بقوله : «مؤمنة» أولا ، فحينئذ الذي قام الحجّة عليه ويلزم بإتيانه العبد هو الجامع ، والخصوصيّة لا ملزم لها ، وهذا بخلاف ما لو سمعنا قوله : أعتق رقبة مؤمنة وشككنا في تعقّبه بقوله : «أو كافرة» أو لا ، فإنّ الاشتغال بما قام عليه الحجّة وهو الخاص غير مرتفع إلّا بإتيانه ، فعلم أنّ الأصل في الباب هو الاشتغال وإن سلّم رجوعه إلى الباب المتقدّم.

١٨٠