أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

أيضا في الاستصحاب التعليقي (١)

لا إشكال في جريان استصحاب الحكم التعليقي في حدّ ذاته ، لتحقّق الأركان فيه ، فإنّه حكم وله نحو ثبوت ونفس أمريّة ، فإذا صار متعلّقا لليقين والشكّ مع وحدة الموضوع عرفا ، فلا مانع من عموم دليل الاستصحاب.

وتوهّم أنّه ليس بحكم أصلا قبل وجود المعلّق عليه ـ كما يظهر من كلام بعض الأكابر أعلى الله مقامهم ـ وبعد وجوده يكون مشكوك الحدوث ، قد بيّن دفعه في محلّه من أنّ الوجوب المشروط يكون للمنشإ فيه وجود وثبوت وتحقّق.

نعم قد يستشكل في المثال الذي دار في الألسن لهذا الاستصحاب من قضيّة «إذا غلى العصير يحرم» إذا تبدّل العنبيّة بالزبيبيّة وصار منشئا لشكّنا في زوال الحرمة التعليقية المذكورة عن الزبيب ، بأنّ سنخ الحكم الذي كان في السابق غير محتمل البقاء في الحال اللاحق ؛ لأنّه حرمة عصير العنب في تقدير الغليان ، وهذا يعلم بعدم تحقّقه في موضوع الزبيب المفروض كونه جافّا لا ماء له.

نعم يمكن وضعه في الماء حتّى يتداخل منه أجزاء لطيفة في ذلك الماء ، لكن هذا لا يصحّح إضافة ذلك الماء إليه إلّا بضرب من المسامحة ، والحاصل كانت الحرمة التعليقيّة في العنب متعلّقة بمائه الحقيقي ، وليس للزبيب ماء حقيقي حتّى يتعلّق ببركة الاستصحاب التعليقي الحرمة المذكورة أيضا به ، وإنّما قال من قال بحرمة العصير الزبيبي بواسطة الأخبار الخاصّة ، كما يعلم بمراجعة الفقه.

وكيف كان فهذه مناقشة في المثال لا يضرّ بأصل المطلب وهو تحقّق الأركان في الاستصحاب في الحكم التعليقي في ما إذا كان محتمل البقاء لاحقا مع حفظ الوحدة العرفيّة في الموضوع ، إنّما الإشكال في معارضته مع الاستصحاب الفعلي الموجود في غالب الموارد على خلافه وإن أمكن تفكيكه في بعض الموارد لتحقّق الموافقة بينهما.

__________________

(١) راجع ص ٥٤٢

٦٢١

وتقريب المعارضة أنّ العصير الزبيبي مثلا كان قبل الغليان محكوما بالإباحة التنجيزيّة ، وبعده صارت مشكوكة البقاء ، فنستصحبها ، وقد كان مقتضى استصحاب الحرمة التعليقيّة الحرمة الفعليّة بعد الغليان.

لا يقال : كما كانت الحرمة معلّقة بالغليان كانت الحليّة أيضا مغيّاة به ، وهما مع القطع بثبوتهما كما في حال العنبيّة لم يكن بينهما تضادّ ، بل كانتا مجتمعتين ، فكيف يتحقّق التضادّ من وجودهما الاستصحابي.

لأنّا نقول : ليس مقصودنا استصحاب حكم «يحلّ إذا لم يغل» حتّى تقول : لا معارضة بينه وبين استصحاب «يحرم إذا غلى» بل المقصود استصحاب الحليّة الفعليّة الثابتة قبل الغليان ، وهي من المحتمل أن تكون محدودة بالغليان كما كانت في حال العنبيّة ، وأن تكون باقية بعده وكان ذلك من خواصّ حال الزبيبيّة ، فنستصحب الحليّة المتيقّنة قبل الغليان إلى ما بعده.

والظاهر أنّه ممّا لا إشكال في جريانه ومعارضته مع استصحاب الحكم المعلّق وإن جزم بعض الأساطين بوحدة الشكّين خارجا ، أعني الشكّ في بقاء الحكم المعلّق وفي بقاء الحكم المطلق.

وبالجملة ، قد أجاب شيخنا العلّامة الأنصاري أعلى الله مقامه الشريف عن إشكال المعارضة بتقدّم الاستصحاب التعليقي على التنجيزي للحكومة.

وقد استشكل عليه شيخنا الاستاد العلّامة أدام الله أيّامه في كتاب الدرر ، وحاصل مرامه أنّا نسلّم أنّ الحكم التعليقي سواء كان واقعيّا أم ظاهريا أصليّا ، يكون من اللوازم الثابتة له بحكم العقل الفعليّة عند ثبوت المعلّق عليه ، فإذا شككنا في الثاني كان هذا الشكّ مسبّبا عن الشكّ في منشائه أعني الحكم المعلّق.

وبعبارة اخرى : نسلّم أنّ هنا حكمين ، أحدهما ثابت قبل حصول المعلّق عليه ، والآخر يحدث بحدوثه ، والثاني من توابع الأوّل ولوازمه العقليّة ، فمن يحكم بحرمة

٦٢٢

العصير إذا غلى ، يحرّمه تنجيزا لا محالة بعد حصول الغليان خارجا ، والشكّ في الثاني مسبّب عن الأوّل ، إلّا أنّ مطلق تسبّب أحد الشكّين عن الآخر لا يكون ملاكا للحكومة، بل الملاك لها أن يكون أحد الأصلين دليلا على حكم الشرع في مورد الآخر مع قطع النظر عن حال شكّ نفسه ، حتّى يكون طريقا رافعا للتحيّر عن الواقع فيه ، حتّى يرتفع عنه حكم الأصل بنحو التخصّص ، ولا كذلك العكس ، بمعنى أنّا لو قدّمنا الأصل في المورد الآخر لم يكن رافعا لتحيّرنا عن الواقع وطريقا شرعيّا إلى الواقع بالنسبة إلى مورد الأصل الأوّل ، بل تحيّرنا باق ، فلو ارتفع الأصل عنه كان تخصيصا.

ولا إشكال في عدم جريان هذا الملاك في هذا المقام ؛ فإنّ الحكم الفعلي وإن كان مرتّبا على التعليقي إلّا أنّ الحاكم بترتّبه عليه ليس هو الشرع ، فالحكم المنسوب إلى الشرع حكم واحد وهو الحكم التعليقي في موضوع الشكّ فيه ، وليس هنا حكم آخر من الشارع بأنّه متى تحقّق في موضوع حكم معلّق فهو فعليّ عند حصول المعلّق عليه ، بل هو صرف حكم عقلي في كلّ حكم في موضوعه واقعا كان أم شكّا.

فالحاصل أنّ الشارع حكم على الشاك في بقاء الحرمة المعلّقة بالإبقاء لها ، والعقل أيضا حكم بعد هذا الحكم في موضوعه الذي هو الشكّ بصيرورتها فعليّة ، فالحكم بالفعليّة ناش من العقل وفي موضوع الشكّ ، وقد فرضنا أنّه يلزم في الحكومة وجود الحكم من الشارع وناظرا إلى مرحلة الواقع بالنسبة إلى مورد الشكّ المسبّب.

وإن كان صرف حكم العقل في مرحلة الشكّ والظاهر كافيا لرفع موضوع الأصل عن الجانب الآخر ، لكان الأصل الجاري في جانب الحكم التنجيزى أيضا كافيا لرفع الموضوع بالنسبة إلى الاستصحاب التعليقي ، فإنّ التضادّ ثابت بين الإباحة الفعليّة وعدم علّة ضدّها ، سواء في الواقع أم الظاهر.

٦٢٣

وقد عرفت جريان مثل هذا الإشكال بعينه في حكومة استصحاب الوجوب في جانب مطلق الجلوس على استصحاب العدم في جانب الجلوس المقيّد في الفصل المتقدّم آنفا ، هذا محصّل الإشكال.

ولكنّه دام بقاه قد أجاب عن هذا الإشكال في كلا الموضعين في مجلس درسه الشريف بما حاصله : أمّا ما ذكرتم من حديث الحكومة العقليّة في جانب الحكم الفعلي وترتّبه على التعليقي فمحلّ المنع ، بل التحقيق أنّ الحكم شرعي وترتّبه على التعليقي أيضا شرعي ، بمعنى أنّ نفس المريد بالإرادة التعليقيّة بشيء متى التفت بحصول المعلّق عليه لا محالة يريده بإرادة فعليّة ، وانّما نصيب العقل في هذا المقام هو الإدراك والكشف عمّا يفعله الشارع.

وحينئذ نقول : كما أنّ الشارع رتّب على طهارة الماء واقعا وجعل من آثاره كذلك طهارة الثوب المغسول به مع الشرائط ، فيكون الأصل الذي مفاده طهارة الماء ، طريقا شرعيّا حاكما بطهارة المغسول به واقعا ، لا في موضوع الشكّ فيها ، كذلك الشارع الذي جعل الوجوب في مطلق الجلوس ، أو جعل الحرمة التعليقيّة حكم في موطن الواقع ونفس الأمر بالوجوب فى المقيّد وبالحرمة التنجيزيّة عند حصول المعلّق عليه مترتّبا كلّ منهما على ذينك الحكمين الأوّلين ترتّب الأثر على مؤثّره الشرعي.

فالأصل الذي مفاده إثبات الحرمة التعليقيّة أو وجوب مطلق الجلوس يكون طريقا شرعيّا ومثبتا للحكم الشرعي بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر بالنسبة إلى حكم ما بعد المعلّق عليه وحكم الجلوس المقيّد ، يعني يفيد أنّ حكمها عند الشارع هو الحرمة والوجوب ، وليس هذا الحكم فى موضوع الشكّ في هذين ، بل في موضوع الشكّ في الملازمة وحكم مطلق الجلوس.

وهذا بخلاف الحال في العكس ، بمعنى أنّ الأصل الجاري في نفي الوجوب عن

٦٢٤

المقيّد ، أو في الإباحة التنجيزيّة لا يفيد شرعا انتفاء الوجوب في المطلق ، أو انتفاء الحرمة التعليقيّة واقعا وبحسب نفس الأمر حتّى يكون طريقا رافعا للتحيّر عنهما ، بل العقل حاكم بأنّه متى ثبت الرخصة في المقيّد أو الإباحة التنجيزيّة في مرحلة الظاهر ومقام الشكّ فلا يتمشّي من جاعلهما أن يجعل في مرحلة الظاهر ومقام الشكّ أيضا الحكم بالوجوب في المطلق أو الحرمة المعلّقة ، لتهافت ما بين الحكمين في أيّ عالم كان.

ففي عالم الواقع يلازم جعل الرخصة والإباحة المذكورتين عدم جعل الوجوب والحرمة التعليقيّة المذكورين في ذلك العالم ، وفي عالم الظاهر والشكّ أيضا يلازم عدمه في هذا العالم ، فالأصل المثبت للرخصة والإباحة غاية ما يثبته بتوسّط الملازمة العقليّة الثابتة للأعمّ من الظاهر والواقع إنّما هو انتفاء الجعل الاستصحابي في جانب المعلّق والجلوس المطلق ، وأين هذا عن الكشف لحال الواقع مع قطع النظر عن الشكّ.

وبالجملة ، مفاده أنّ الشاكّ في هذين الحكمين إذا جعل في حقّه دستورا لمقام شكّه استصحاب الإباحة الفعليّة ، فهذا ملازم مع أن لا يجعل في حقّه الدستور الظاهري الآخر ، اعني استصحاب الحرمة المعلّقة ، لمكان المصادرة بين الحكمين بمرتبة استصحابيّتهما ، وهذا كما ترى معناه ارتفاع حكم الاستصحاب عن الحرمة المعلّقة مع حفظ موضوع تحيّرها ، وهو تخصيص.

وأمّا استصحاب الحرمة المعلّقة فهو وإن كان حاكما في موضوع الشكّ في الملازمة ببقاء الحرمة المعلّقة ، إلّا أنّه حاك عن ثبوت الحرمة الفعليّة بعد حصول المعلّق عليه بعنوان أنّه نفس أثر الحرمة التعليقيّة الواقعيّة بدون ملاحظة الشكّ في نفس هذا الحكم في موضوعه ، فيكون رافعا للتحيّر عن مورد الأصل التنجيزى وهو تخصّص ، وعليك بالتأمّل التامّ في المقام.

٦٢٥

فى استصحاب الزمان والزمانى (١)

في جريان الاستصحاب في الزمان والزماني ، وجامعهما الامور التدريجيّة الغير القارّة التي يتجدّد شيئا فشيئا ، التي يقال لها بالفارسيّة : «دارد موجود مى شود» وفي المقيّد بأحدهما.

ومجمل الكلام في المقام أنّ الموضوع للحكم تارة يكون الحركة التوسطيّة التي هي عبارة عن كون الجسم بين المبدا والمنتهى بدون تعيين محلّ له إلّا كونه بين الحدّين ، وهذا المعنى أمر خارجي واقعي له الحدوث وله البقاء والاستمرار.

وحينئذ لا إشكال في تحقّق أركان الاستصحاب سواء في الزمان أو الزماني ، أو المقيّد بأحدهما حتّى على القول باحتياجنا في باب الاستصحاب إلى تعلّق الشكّ بعنوان البقاء ؛ لأنّك عرفت أنّ البينيّة أمر ذو بقاء بالحقيقة والدقّة.

واخرى تكون الحركة القطعيّة وهي المحدودة بالحدود الفرضيّة الخياليّة الوهميّة في ما بين المبدا والمنتهى بدون واقعيّة لتلك الحدود ، وإلّا يلزم كون الغير المتناهي محصورا بين حاصرين ، فإنّ الحدود الفرضيّة غير متناهية بعد بطلان الجزء الغير المتجزّى ، فكلّ جزء ولو بلغ التقسيم إلى ما لا نهاية له قابل للانقسام والتحديد والتجزئة ، فلو كان الحدود واقعيّات وخارجيات لزم ما ذكرنا.

بل هي صرف التخيّل ، وينتزع الحركة القطعيّة من هذه الحدود الموهومة ، فيتخيّل أمر ممتدّ متّصل مركّب من هذه الحدود الفرضيّة ، وهذا المعنى كما ترى ليس له بقاء ، بل أبدا يكون في الحدوث والتجدّد ، ولهذا يقال بالفارسيّة : «دارد هست مى شود» ولكنّه وجود واحد بالوحدة الشخصيّة الحقيقيّة بالدقّة العقليّة ، لما ذكرنا من لزوم محصوريّة غير المتناهي بين الحاصرين لو فرض التعدّد.

نعم بالمسامحة العرفيّة يصحّ إطلاق البقاء ، بأن يلاحظ ذلك الأمر الطولاني الغير

__________________

(١) راجع ص ٥٣٦

٦٢٦

المتحقّق في كلّ آن إلّا جزئه ، ثمّ ينعدم ويتحقّق جزئه الآخر ، كأنّ مجموعه من البداءة إلى النهاية قد تحقّق أوّل جزء منه ، ولهذا يقال : تحقّق الليل بمحض الغروب ، وفي الفارسيّة : «شب شد» ومع ذلك يطلقون النصف ، فيقولون : انتصف الليل.

فالتعبير بالانتصاف بملاحظة الواقع ، والتعبير بالتحقّق مبنيّ على المسامحة التي ذكرنا ، فباعتبار هذه المسامحة يصحّ إطلاق البقاء وإن كان ليس مظروفا للزمان ، بل هو نفسه الزمان ، فإنّه من قبيل : مضى الزمان ، وعلم الله ، فليس في حاقّ البقاء والمضيّ عناية الزمان ، ولهذا صحّ إطلاقهما بلا عناية على نفس الزمان وعلى المجرّدات في المثالين.

وكيف كان ففي هذا القسم لا يتحقّق أركان الاستصحاب إن اعتبرنا في الاستصحاب تعلّق الشك بعنوان البقاء كما اعتبروه في تعريفه إلّا على المسامحة المذكورة ، وإن لم نعتبره كما هو الحقّ فالوحدة الشخصيّة هنا متحقّقة بالدقّة العقليّة بلا حاجة إلى المسامحة أصلا ، ولكنّ تحقّق اليقين والشكّ بهذا الأمر المحدود محتاج إلى المسامحة ، وإلّا فلا يفرض اليقين به إلّا بعد تحقّق جزئه الأخير ، ومعه نقطع بارتفاعه ولا نشكّ في بقائه.

والوجهان كما ترى مشتركان في الجريان بين الزمان والزماني أعني الامور التدريجيّة غير الزمان مثل التكلّم والمشي والحركة ونبع الماء وسيلان دم الحيض ونحوها ، والمقيّد بأحد الأمرين كما لو رتّب أثر على قيام زيد في النهار فشككنا في النهار أو في قيامه.

فإنّ الوجهين جاريان في التكلّم وأمثاله كما في الزمان ، غاية الأمر نقول في الزمان : إنّ التوسّط عبارة عن كون الشمس بين المشرق والمغرب فوق الأرض في النهار ، وكونها بينهما تحتها في الليل ، والقطعية عبارة عن حركتها المحدودة بحدود المسافة ، وفي التكلّم مثلا نقول : التوسّط عبارة عن كون الكلام والأصوات والحروف بين المبدا والمنتهى ، والقطع عبارة عن الأصوات المحدودة المتّصلة المعدودة شيئا واحدا ، وهكذا قياس البواقي.

٦٢٧

وعلى هذا فلو ترتّب على وجود النهار وجوب التصدّق بدرهم بنذر ونحوه أو على وجود تكلّم زيد متّصلا إلى ساعة مثلا ، أو على قيامه في النهار ، فشكّ في الاول في انقضاء النهار ودخول الليل وعدمه ، وفي الثاني في انقضاء التكلّم قبل الساعة ، وفي الثالث في وجود النهار مع القطع بقيامه على تقدير الوجود أو في قيامه مع القطع بالوجود ، فلا إشكال في الاستصحاب في الجميع بناء على جميع المباني في الاستصحاب ، بدون حاجة إلى المسامحة العرفيّة لو اخذ النهار والتكلّم على معنى الحركة التوسطيّة موضوعا للأثر.

كما أنّه لو أخذ على المعنى الآخر فالاحتياج ثابت على جميع المباني ، كما يتّضح وجهه من البيان السابق.

نعم هنا استصحاب آخر في المقيّد بالزمان وهو الاستصحاب الحكمي بعد القطع بتحقّق انقضاء زمانه وعدم الشكّ الموضوعي في البين ، وهذا الاستصحاب لا وجه لتوهّم جريانه بعد فرض أخذ الزمان قيدا للواجب ، كما هو المفروض ، لا ظرفا للوجوب ، فإنّ وجوب المقيّد مقطوع وليس بمشكوك حتّى يستصحب ، فضلا عن أن ينتفع به لإثبات الوجوب في المقيّد بالزمان المتأخّر ، كما لو كان الجلوس إلى النهار واجبا وشككنا في وجوبه في الليل ، فإنّ استصحاب وجوب المقيّد بالنهار غير جار أوّلا ، وغير نافع بحال وجوبه في الليل ثانيا.

نعم يمكن أن ينتزع مهملة وجوب مضافة إلى مهملة جلوس ، فيقال : هذه المهملة المتعلّقة بتلك المهملة كانت مقطوعة في النهار ونشكّ فيها في الليل ، فيكون مستصحبة ، ومن استشكل فيه ، ولكنّه من استصحاب القسم الثالث من الكلّي كشيخنا المرتضى قدس‌سره لا بدّ أن يستشكل فيه ، نعم لا غبار عليه على المختار من جريانه.

وربّما يتخيّل أنّ الحركة القطعيّة أمر خيالي كالشعلة الجوّالة لا واقعية لها ، وليس كما يتخيّل ، فإنّ الشعلة الجوّالة يخفى عن الحسّ انفصال الأجزاء ، فلهذا يتخيّل الدائرة المتّصلة ، وأمّا المقام فليس رأس الأمر المستطيل الممتدّ من مبدإ الحركة إلى منتهاها وآخره مجتمعين في الحسّ المشترك حتّى يتشكّل مثل تلك الدائرة شيء متّصل في الخيال.

٦٢٨

فالحقّ الذي نتصوّره أنّ هنا أمرين واقعيين ، أحدهما موجود خارجي وهو كون الجسم بين المبدا والمنتهى الذي هو الحركة التّوسطيّة ، والآخر أمر واقعي يتحصّل من عدمين ، عدم الحركة الثابت قبل المبدا ، وعدمها الثابت بعد المنتهى ، مثل شروع الطائر في الطيران من محلّ ونزوله في محلّ ، والفرق بينه وبين الخطّ أنّ الخطّ قد حواه بجميع أجزائه زمان واحد ، ولكنّه منبسط الأجزاء على أجزاء الزمان ، فلو اجتمع شتاته أيضا لصار خطّا واقعيّا ، لا خياليّا ، والمقصود حساب الواقع ، ولسنا بصدد بيان مراد اصطلاح أهل المعقول.

وعلى كلّ حال ففي الحركة القطعيّة لا يمكن حصول القطع والشكّ بواسطة انبساط أجزائه على أجزاء الزمان ، فهو أمر آنيّ الحصول ، وليس كالخطّ موجودا بوجود استقراري حتى يتعلّق به اليقين والشكّ باعتبار زمانين ، سواء قلنا : إنّ المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء ، أم قلنا : يكفي الشكّ في عين ما قطع به ، كما أنّه يمكن إجراء الاستصحاب بناء على المسامحة المتقدّمة على كلا المذاقين ، هذا.

ولكنّ العمدة في المقام التي صارت معضلة وعويصة غامضة فيه فهم مرام شيخنا الأعظم الأجلّ المرتضى أعلى الله مقامه في هذا الموضوع من رسائله ، فإنّه قدس‌سره أوّلا قسّم المستصحب في هذا الموضع إلى ثلاثة أقسام : الزمان والزماني والمقيّد بالزمان وقال : لمّا كان المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء وهو وجود ما كان موجودا في الزمان الأوّل في اللاحق ، وهو غير معقول في الأقسام الثلاثة ، فلا مجرى له فيها ، نعم يظهر من كلمات جماعة جريانه في الزمان ، ولو فرض إمكان جريانه فيه لكان جاريا في القسمين الآخرين بطريق أولى.

ثمّ صار بصدد تحقيق المقام ، فقال في القسم الأوّل ما محصّله أنّه لا يعقل له البقاء حقيقة وبلا تجوّز وعناية ، نعم مبنيّا على المسامحة والتنزيل بأن ينزّل مثلا وجود الجزء الأوّل من الليل منزلة وجود كلّه ، وينزّل وجود الأجزاء الباقية منزلة بقائه ، صحّ اعتبار اليقين والشكّ وإجراء الاستصحاب في الليل مثلا بهذه الملاحظة عند الشكّ في انقضائه ، ولكنّه لا ينفع لتطبيق عنوان الليل على الجزء المشكوك فيه لو

٦٢٩

كان المطلوب ذلك ، نعم في نفسه لا مانع منه بعد المسامحة المذكورة.

ومثل ذلك قال في القسم الثاني إلى أن انتهى إلى القسم الثالث فقال فيه : ينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه ، هذا محصّل موضع الإشكال من كلامه قدس‌سره.

أمّا بيان الإشكال فهو أنّ المراد من القسم الثالث الذي هو المقيّد بالزمان الذي جعله في أوّل الكلام موردا للاستصحاب بطريق أولى لو فرض جريانه في الزمان ، وفي ذيل الكلام جعله ممّا ينبغي القطع بعدم الجريان فيه غير معلوم ، فإنّ الأنحاء المتصوّرة في مراده قدس‌سره لا يتمّ في شيء منها هذان المطلبان ، أعني الأولويّة والجزم بالعدم.

فإنّه إمّا يقال بأنّ مراده الموضوع المقيّد إذا شكّ في انقضاء زمانه الذي هو قيده ، مثل ما لو تعلّق الوجوب بالجلوس المقيّد بالنهار ، فشكّ في انقضاء النهار ، وهذا عين القسم الأوّل وليس مغايرا له أصلا ، فضلا عن أن يكون جريان الاستصحاب فيه بطريق أولى ، ولا أن يكون العدم فيه مقطوعا.

وإمّا يقال : إنّ مراده الحكم ومطلق الأمر المجعول الشرعي المقيّد بالزمان إذا شكّ في حصول ذلك الأمر المجعول بعد ذلك الزمان بدون شكّ في الخارج في انقضاء ذلك الزمان ، وهذا يتصوّر له صور.

الاولى : أن يفرض مثلا أنّ خطاب الصوم توجّه إلى المكلّف في يوم الجمعة بنحو يكون يوم الجمعة ظرفا للخطاب ، لا عنوانا وقيدا له ، ثمّ شكّ في يوم السبت في وجود الصوم وعدمه ، وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه.

والثانية : أن يفرض يوم الجمعة في المثال عنوانا وقيدا للخطاب ، ولكنّا نحتمل تعدّد المطلوب بأن يكون الصوم المطلق أيضا مطلوبا مع القيد ، ففي السبت يبقي المطلق وإن انتفى المقيّد ، وهذا أيضا يجري فيه استصحاب القسم الثالث من أقسام الكلّي على النحو الذي لا يستشكل فيه شيخنا العلّامة المرتضى قدس‌سره ، وهو أن يكون مع الفرد المقطوع وجود فرد مقارن محتملا.

والثالثة : أن يفرض قيدا وبنحو وحدة المطلوب ، ولكن يحتمل وجود ملاك

٦٣٠

آخر خاص بالمقيّد بيوم السبت ، وهذا لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، أعني استصحاب الوجود ، بل الجاري ، فيه استصحاب عدم الوجوب المتعلّق بصوم السبت ، ولكن كيف يتمّ فيه أولويّة الجريان على تقدير الجريان في نفس الزمان.

الرابعة : أن يعلم بالوجوب مثلا وكونه مقيّدا بالزمان ، ولكن دار الأمر بين كون الزمان الذي قيده هو النهار مثلا ، أو مجموع النهار والليلة ، وهذا أيضا له شبهة في جريان الاستصحاب فيه.

فهذه خمسة أنحاء ، وقد عرفت عدم مباينة الأوّل منها مع نفس الزمان ، والبقيّة لا يتمّ في شيء منها كلا الأمرين الذين أثبتهما الشيخ العلّامة أعلى الله مقامه.

هذا حاصل الإشكال على ما استفدته من بحث شيخي الأجلّ أدام الله علينا وعلى المحصّلين بركات أنفاسه الشريفة.

ويختلج بخاطر هذا القاصر في مقام التفصّي عن هذه العويصة أنّ مراد شيخنا العلّامة أعلى الله مقامه هو الحكم المقيّد بالزمان ، لكن تقييد الحكم إذا كان هو الطلب بل مطلقا لا يمكن إلّا بتقييد متعلّقة على ما اختاره قدس‌سره في بحث الواجب المشروط ، فلو تعلّق في صورة العبارة بالطلب أيضا فهو لا محالة راجع إلى المطلق ، لكن بعد تقييد المطلق لا محالة يصير الطلب مقيّدا بتبعه ، مثلا لو قال : مطلوبي هو الجلوس المقيّد بالنهار ، فلا محالة يصير الطلب مقيّدا بالنهار.

وحينئذ فتقريب القطع بعدم جريان الاستصحاب أعني استصحاب الوجود لو احتمل وجود الملاك في المقيّد الآخر ، وفرض عدم دليل في البين يرتفع به الشكّ واضح ، كما أنّ الفرق بين صورة التقييد وصورة الظرفيّة والمظروفيّة بجواز استصحاب الوجود في الثانية أيضا لا يكاد يخفي.

وأمّا تقريب أنّه كيف يكون حال استصحاب الوجود في صورة التقيّد أولى وأسهل من الاستصحاب في نفس الزمان ، فهو أنّ مراده قدس‌سره أنّه لو فرض محالا تصوّر البقاء في نفس الزمان ، وقلنا بجريان الاستصحاب فيه على حسب الدقّة مع كونه متمحّضا في التدرّج ومأخوذيّة التدرّج في حاقّ ذاته ، ففي الأمر

٦٣١

الذي يكون التدريج فيه عرضيّا وبواسطة الزمان ـ وإلّا ففي ذاته لا تدرّج فيه مع قطع النظر عن الزمان ، كالتكلّم والوجوب المقيّد بالزمان ـ يكون جاريا بطريق أولى.

وينادي بأنّ مراده قدس‌سره ما ذكرنا من استصحاب الحكم المقيّد امور ، الأوّل : ما أشار إلى سبق التكلّم فيه من الاستشكال في استصحاب الأحكام التكليفيّة ، فراجع محلّه في كلامه ، وهو في ذيل بحثه على تفصيل الفاضل التوني قدس‌سره.

والثاني : تفريعه البحث مع المحقّق النراقى قدس‌سره على هذا المقام.

والثالث : ذكره في طيّ الجواب عن إشكال المحقّق المذكور ـ في مواضع ـ ما يدلّ على ذلك ، منها : قوله قدس‌سره : الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه ، بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلّقا للوجوب ، فلا مجال لاستصحاب الوجوب ، للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشكّ في حدوث ما عداه ، ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل «صم يوم الخميس» إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة.

ومنها : قوله قدس‌سره : الموجود في الزمان الأوّل إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ، فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ، فلا مجال لاستصحاب الوجود ؛ إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان الأوّل من مقوّماته.

ومنها : قوله قدس‌سره : وإن اخذ قيدا له «يعني الزمان للشيء» فلا يجري الّا استصحاب العدم ؛ لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق ، والأصل عدم الانتقاض ، كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ولم يثبت غيره ، انتهى.

وقد أشار قدس‌سره إلى عدم جريان الاستصحاب في الحكم المقيّد في خيارات المكاسب عند البحث عن كون خيار الغبن على الفور أو على التراخي ، حيث قسّم اعتبار الزمان على قسمين : كونه مكثّرا لأفراد العام ، وكونه ظرفا لها ، فعلى الأوّل صرّح بالرجوع إلى العامّ، بل لو لم يكن عام لما يرجع إلى استصحاب حكم الخاص ، ووجهه هو ما فصّله في هذا المقام.

٦٣٢

وبالجملة ، لا يكاد يشكّ أحد في كون مراده قدس‌سره من القسم الثالث هو ما ذكرنا ، الذي هو الوجه الرابع من الوجوه المتقدّمة ، دون الوجوه الأربعة الأخر ؛ إذ لا يلائم أحد منها مع ما نقلناه من عبارته ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فراجع.

تنبيه :

وقع بين إمامي الفنّ الاستاد المحقّق النراقي والاستاد المحقّق المرتضى الأنصاري أعلى الله مقامهما تشاجر في هذه المسألة في ما إذا شككنا في امتداد وجوب فعل إلى أمد أو إلى أزيد منه ولم يكن في الدليل إطلاق زماني ، فذهب الأوّل إلى أنّ استصحاب بقاء ذلك الوجوب إلى ما بعد ذلك الأمد معارض باستصحاب عدم وجوب الفعل مقيّدا بالزمان المتأخّر.

مثلا لو وجب علينا الجلوس في ظرف الزمان بحيث لم يلاحظ تقطيعه بقطعات الأزمان ، بل لوحظ شيء مستمرّ باستمرار الزمان ، ولكن شككنا في العشاء مثلا أنّه يمتدّ إلى هذا الحين أولا ، فاستصحاب الامتداد إليه معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس الخاص بخصوصيّة كونه في العشاء.

لا يقال : لا معارضة في البين ؛ لأنّ الأوّل مثبت للوجوب في الجلوس بما هو جلوس مع قطع النظر عن الخصوصيّة الآتية من قبل الزمان ، والثاني ناف له بملاحظة الخصوصيّة الزمانيّة ، ولا منافاة بين الأمرين أصلا.

لأنّا نقول : نعم لو كان الحكم متعلّقا بصرف وجود الجلوس ، ولو كان في سنة بعد الخطاب كان الأمر كما ذكرت من عدم المنافاة ، ولكنّ الأمر ليس على هذا النحو ، بمعنى أنّ زمان الخطاب بعينه هو زمان الفعل ، ففي الحقيقة الطلب يوجّه نحو الفعل المقيّد بكونه في هذا الزمان ، وهذا بديهيّ المنافاة مع الرخصة في ترك المقيّد الذي معناها أنّه مرخّص في تركه رأسا ، وهو مع وجوب الفعل ممّا لا يجتمعان ، وليس معنى الرخصة رفع البأس من حيث الخصوصيّة حتى لا ينافي مع وجوده من حيث الذات ، بل معناها رفعه عنه بشر اشره ، وهو مع الخطاب الفعلي الحالي نحو

٦٣٣

الفعل ممّا لا يجتمعان ، هذه غاية تقريب مرام المحقّق النراقي أعلى الله مقامه الشريف.

وأمّا شيخنا الأجلّ العلّامة الأنصاري عليه رضوان الله الملك الباري ، فذهب إلى عدم المعارضة بتقريب أنّه إذا كان لسان الدليل الدالّ على الحكم في الزمان الأوّل حسب ما فرض اعتبار الزمان ظرفا ، فلا يجري إلّا استصحاب الوجود ، كما أنّه لو فرض أنّ لسانه تقطيعه الحكم بحسب قطعات الزمان كان الجاري استصحاب العدم فقط ، وهذا بظاهره مخدوش بأنّ إجراء الاستصحاب في جانب العدم غير دائر مدار لسان الدليل في طرف الوجود ، فإنّه وإن فرض أنّ لسانه اعتبار ظرفيّة الزمان ، لكن لنا اعتبار الزمان المتأخّر قيدا في الفعل ، ويكون هو موضوعا مستقلّا متعلقا لليقين والشكّ باعتبار سبقه بعدم جعل الحكم فيه من الأزل ، والشكّ في انقطاع سلسلة العدم الأزلي فيه وتبدّله بالوجود أو لا ، فيجري فيه دليل الاستصحاب ويعارض استصحاب الوجود بالتقريب المتقدّم.

كما أنّه على تقدير اعتبار قيديّة الزمان فى لسان الدليل يمكن إجراء استصحاب الوجود على مذاق من يقول بجريان استصحاب المهملة عن الخصوصيّات في ما إذا قطع بزوال خاص وشكّ في حدوث خاص آخر مقارنا لزواله ، فيعارض هذا الاستصحاب أيضا مع استصحاب عدم الخاصّ المتأخّر بالتقريب المتقدم نعم هذا الإشكال غير وارد على مذاقه حيث لم يقل بجريان الاستصحاب في المهملة في الصورة المذكورة ، هذا ما يورد على ظاهر عبارته.

ولكن وجّه مرامه شيخنا الاستاد العلّامة أدام الله علينا أيّامه في مجلس بحثه الشريف بإمكان أن يكون نظر شيخنا أعلى الله مقامه إلى أنّ الاستصحابين وإن كانا في حدّ ذاتهما جاريين في صورة اعتبار الزمان في لسان الدليل ظرفا ، والجلوس شيئا واحدا يمرّ عليه الزمان ، إلّا أنّ استصحاب امتداد حكم الوجوب إلى زمان الشكّ يرفع بلسانه الشكّ عن وجوب الجلوسات الخاصّة بخصوصيّات الأزمان التي منها هذا الجلوس الخاصّ العشائي مثلا.

وذلك لأنّه لو فرض بحسب موطن الثبوت أنّ حكم الوجوب كان متعلّقا بالجلوس المطلق الممتدّ من حيث الزمان ، فلا محالة يسري منه الوجوب إلى

٦٣٤

الجلوسات الخاصّة بتبع ذلك الجلوس العامّ الذي هو القدر المشترك بينها ، والمفروض انحصار شكّنا في وجوب الجلوس الخاصّ في سراية الوجوب إليه من ناحية المطلق أو لا ، ولا يحتمل أن يكون واجبا بوجوب مستقلّ آخر ، ولو فرض كونه محتملا كان منفيّا بحكم الاستصحاب بلا معارض ، فالشكّ ممحّض فى وجوبه من جهة السراية المذكورة والعدم.

وحينئذ فالاستصحاب المثبت لامتداد الوجوب في موضوع الجلوس المطلق رافع للشكّ بلسانه بالنسبة إلى وجوب الجلوس المقيّد ، فإنّ السراية المذكورة ثابتة للحكم الأعمّ من الظاهري والواقعي ، ولا عكس.

فاستصحاب عدم الوجوب للمقيّد لا ينفي الامتداد في المطلق بلسانه الاولى ، بل بالملازمة ، وهي وإن كانت ثابتة أيضا للأعمّ من الظاهري والواقعي ـ حيث إنّ عدم الوجوب للمقيّد لا يجامع مع امتداد الوجوب للمطلق لا في الظاهر ولا في الواقع ـ إلّا أنّه لا فرق بين الانتقال من حكم إلى حكم آخر بواسطة الملازمة ، وبين إثبات الملزوم الذي لازمه شيء ، وخصوصا كان ذلك اللازم أيضا حكما شرعيّا كما في المقام ، حيث إنّ حكمه بأنّ الجلوس واجب حالا ، يئول إلى أنّ الجلوس الحالي واجب.

وأمّا الحكم بأنّ الجلوس الحالي غير واجب فليس لسانه أنّ الامتداد في حكم مطلق الجلوس غير ثابت ، بل هو ممّا يحكم به العقل بعد ملاحظة عدم إمكان الجمع بين الأمرين، لا نقول : إنّ حكم الوجوب في المطلق عين الوجوب في المقيّد ، كيف ويمكن في حقّ غير الشارع أن لا يخطر الثاني بباله حين إنشاء الأوّل ، بل نقول : إنّ الحكم الأوّل متضمّن للثاني بنحو الإجمال ، فالأصل الذي مفاده الحكم الأوّل يكون رافعا للتحيّر عن مرحلة واقع تلك الأحكام الجزئيّة ، لا عن موضوع شكّها ، كما يأتي مزيد توضيحه في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.

وإن شئت التعبير بالفارسيّة قلت : «حكم أوّل سايه مى اندازد بر أحكام جزئيّة وسايه اش آنها را فرا مى گيرد» وهذا بخلاف العكس ؛ فإنّه لا يرتفع تحيّرنا في الواقع بواسطة أصالة عدم وجوب المقيّد بالنسبة إلى حكم امتداد المطلق.

٦٣٥

نعم الذي يثبت أنّ الجاعل الذي جعل الاستصحاب الأوّل في مرحلة الظاهر والشكّ، لا يجعل الاستصحاب الثاني أيضا في هذه المرحلة ، ويجيء إن شاء الله تعالى مزيد توضيح في الاستصحاب التعليقي.

ثمّ هذا كلّه هو الكلام في صورة ظرفيّة الزمان للحكم ، كما استظهر شيخنا الاستاد دام بقاه كونها مورد كلام المحقّق النراقي.

وأمّا الصورة الاخرى فعلى ما تقدّم في محلّه من جريان الاستصحاب في المهملة عن القيود لتحقّق اليقين والشكّ بالشيء الواحد حقيقة كان اللازم جريانه في المقام ، ومعارضته مع استصحاب العدم في المقيّد المتأخّر.

نعم الذي يزيده مقامنا على سائر المقامات أنّه يحتاج إلى انتزاع المهملة عن شيئين ، أحدهما عن الموضوع وهو الجلوسات المقيّدة ، فينتزع منها أصل الجلوس ، والثاني عن الحكم وهو الأحكام الجزئيّة فينتزع منها أصل الوجوب المتعلّق بأصل الجلوس ، وهذا هو الذي قلنا بأنّه متيقّن في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

وكيف كان فقد يقال : إنّ استصحاب جامع الموضوع حيث إنّه جعل الأثر لا مانع منه ، وأمّا استصحاب جامع الحكم فحيث إنّه جعل نفس ذلك الجامع فلا يعقل ، لكنّه مع إمكان دفعه ـ بأنّه غير قابل للجعل المستقلّ ، وأمّا الجعل بتبع جعل الجزئي فقابل ، فهو نظير استصحاب الجزئيّة ـ فيه أنّه مبنيّ على الالتزام بلزوم رجوع الاستصحاب إلى أحد الجعلين ، إمّا جعل مماثل أثر الموضوع المستصحب ، وإمّا جعل مماثل الحكم المستصحب.

ولكنّا قلنا في محلّه : أنّا لا نفهم من قوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين الخ إلّا أنّ كلّ مورد كان عمل مربوط بالشرع والآن نشكّ في بقائه ، فالشرع يحكم بإبقاء ذلك العمل وعدم نقضه بواسطة الشكّ ؛ فإن تحقّق بواسطة ذلك جعل مماثل فهو ، وإلّا فلا مانع من إجرائه بعد تحقّق موضوعه ، وفي مقامنا أيضا نشكّ في بقاء العمل الذي كان لمهملة الوجوب في مهملة الجلوس ، فيحكم بعدم جواز نقضه ، وهذا معناه إيجاب جزئي في مهملة الجلوس ، ولا بأس به بعد مساعدة الدليل.

٦٣٦

في حال الاستصحاب مع سائر القواعد

وفي تعارض الاستصحابين (١)

ونذكر ذلك في طيّ مقالات.

الاولى : فى حالها مع أصالة الصحّة في فعل النفس التي يعبّر عنها بقاعدة الفراغ ، وفي فعل الغير ، ومع قاعدة التجاوز.

فنقول : أمّا بناء على الطريقيّة في القاعدتين فالحال واضح ، وأمّا على الأصليّة فلتقديم القاعدتين على الاستصحاب طريقان ، الأوّل لزوم اللغويّة ، ولا بدّ أوّلا من ملاحظة النسبة بين مفادي القاعدتين مع مفاد الاستصحاب وأنّها التعارض أو الحكومة؟ الظاهر حكومة القاعدتين على الاستصحاب تارة ، وحكومته عليهما اخرى ، ولا ثالث.

وتفصيل الموارد أنّ كلّ ما اعتبر من وجودي أو عدميّ في المركّب في الموضوع المفروغ عنه فشكّ في ثبوته وعدمه نظير الموالات في الصلاة والعربيّة في العقد ، فلا مجرى للاستصحاب لا في طرف الوجود ولا العدم ، لعدم الحالة السابقة ، نعم يمكن جريانه في الصلاة المقيّدة أو العقد المقيّد ، ولكن شكّهما مسبّب عن الشكّ في التقييد ، والقاعدتان رافعتان للشكّ فيه ، فتكونان حاكمتين على الاستصحاب.

وكلّ ما اعتبر من وجودي أو عدمى في المركّب بلا عناية الفراغ عن الموضوع ، فالاستصحاب جار وهو حاكم على القاعدتين ، وذلك مثل طهارة الفاعل في الصلاة ، وبلوغ العاقد في العقد ، فإنّه إذا استصحب طهارة المصلّي أو عدمها ، أو عدم بلوغ العاقد كان الشكّ في التقييد مرتفعا.

بيان ذلك أنّ الطهارة من حيث نفسها ومع قطع النظر عن ارتباطها إلى مركّب لا يتصوّر فيها الشكّ بعد المحلّ ولا بعد الفراغ ؛ إذ ذلك مع فرع وجود المحلّ والعمل

__________________

(١) راجع ص ٤١٩

٦٣٧

الذي اعتبر أصل الطهارة فيه ، ومن المعلوم أنّ الطهارة في أيّ وقت صحيحة ومع أيّ عمل حاصلة ، ولا اختصاص لها كصوم رمضان بوقت دون وقت ، ولا كالركوع بعمل دون عمل، وإذن فالشك فيها من حيث إنّها شيء بحياله وحال من حالات المكلّف لا يكون مصداقا إلّا لموضوع الاستصحاب إذا كانت مسبوقة بحالة سابقة ، وأمّا القاعدتان فصيرورتها مصداقا لموضوعهما متوقّفة على لحاظ تقيّد عمل بالطهارة.

وإن شئت قلت : الطهارة المتقيّد بها الصلاة شك فيها بعد المحلّ أو بعد الفراغ ، ومن المعلوم أنّ الشكّ في عنوان التقيّد أو في الطهارة المتقيّد بها الصلاة مسبّب عن الشكّ في نفس الطهارة ، فإذا جرى الاستصحاب فيها ارتفع موضوع القاعدتين.

فإن قلت : إذا صدق الشكّ في الطهارة الخاصّة بعد المحلّ أو بعد الفراغ فقد صدق بالنسبة إلى أصل الطهارة ، لوجود المقسم في القسم.

قلت : هذا على سبيل المسامحة والوصف بحال متعلّق الموصوف ؛ فإنّ قولنا : الطهارة المتقيّد بها الصلاة مضى محلّها أو فرغ عن عملها بمعنى أنّ تقيّدها مضى محله أو فرغ عن عمله ، وذلك لأنّ المحلّ والفراغ إنّما يتحقّقان بالنسبة إلى ما هو جزء العمل وهو التقيّد ؛ فإنّه الداخل ، وأمّا القيد فخارج ، غاية الأمر أن التقيّد جزء عقلي تحليلي ، لا خارجي.

ثمّ إنّ هذا الكلام بعينه جار في البلوغ المعتبر فى العقد وإن كان في كلام شيخنا المرتضى قدس‌سره أنّ مفاد أصالة الصحّة في فعل الغير مقدّمة على الاستصحابات الموضوعيّة ، ببيان أنّ الاستصحاب إنّما يفيد كون هذا العقد صادرا عن غير البالغ ، وهو لا يفيد في نفي الأثر إلّا بعد القطع بعدم فرد آخر صادر من البالغ ، والقاعدة تفيد العقد الصادر من البالغ، وهو وإن ذكر ذلك في أصالة الصحّة في فعل الغير ، ولكنّك خبير بجريانه في قاعدة الفراغ أيضا ، فعند الشكّ في تحقّق الركوع مقتضى الاستصحاب أنّ هذه الصلاة غير واجدة الركوع ، والإعادة أثر عدم وجود الصلاة مع الركوع ، وأمّا القاعدة فتفيد تحقّق الصلاة مع الركوع.

وفيه أنّه كما أنّ من مقتضى القاعدة كون هذا العقد صادرا من البالغ ، وكون هذه

٦٣٨

الصلاة مع الركوع وأثرهما صحّة هذا الشخص ، كذلك مقتضى الاستصحاب كون هذا العقد صادرا من غير البالغ وكون هذه الصلاة بلا ركوع ، وأثرهما فساد هذا الشخص ، فيحصل التنافي بين المضمونين.

وإذن فحاصل المقام أنّ الاستصحاب حاكم في الطائفة الثانية من الموارد على القواعد الثلاث ، وهو غير جار ، أو جار ومحكوم لتلك في الطائفة الاولى ، فاللغويّة إنّما يلزم إذا كان ندرة الطائفة الاولى بحدّ يوجب الاقتصار عليها في إجراء القواعد الثلاث صيرورتها كاللغو ، والإنصاف حصول ذلك.

والطريق الثاني شهادة نفس أخبار القاعدتين ، حيث اجريت فيها قاعدة التجاوز في موارد يجري فيها لولاها الاستصحاب ، وكذا قاعدة الفراغ فراجع.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في الطريق الأوّل غير جار في الأجزاء ؛ لأنّها معتبرة في المركّب بنحو العرضيّة ، يعني كلّ واحد في عرض الآخر ، وليس حالها كالشرط حتّى يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا ، فإذا شكّ في وجود الحمد فمقتضى الاستصحاب عدمه ، ومقتضى قاعدة التجاوز والفراغ وجوده ، فيتعارضان من دون حكومة بينهما أصلا ، هذا.

ولكنّ الحقير يقول : يمكن نظير ما ذكر هناك هنا أيضا ، بأن يقال : الذي هو مجرى القاعدتين هو الجزء بالنظر الاندكاكى في الكلّ الذي باعتباره يحمل عليه عينيّة الكلّ ، وكونه ذا المقدّمة ومجرى الاستصحاب هو بلحاظه الاستقلالي الذي بهذا الاعتبار يتّصف بالغيريّة مع الكلّ والمقدّميّة له ، ولا شكّ أنّ الشكّ فيه بالاعتبار الأوّل مسبّب عن الشكّ فيه بالاعتبار الثاني ؛ إذا الشكّ في ذي المقدّمة مسبّب عن الشكّ في مقدّمته ، هذا.

لا يقال : ما ذكرتم من الحكومة من كلّ من الجانبين أعني من جانب القاعدتين ، بل القواعد على الاستصحاب ومن جانب الاستصحاب عليها مبنيّة على الترتّب الشرعي ، وليس ، والمتحقّق هو العقلي ؛ فإنّ إثبات المقيّد بإثبات التقيّد عقليّ ، وكذلك اثبات التقيّد بإثبات القيد.

٦٣٩

لأنّا نقول : كلّا ، بل هو في كلا الموردين شرعي ، أمّا الأوّل فلأنّ إثبات المقيّد نفس مفاد قاعدة الفراغ والصحّة ، فإنّ مفاده أنّ المركّب من ناحية الخلل المشكوك غير مختلّ ، فالحكم بثبوت المقيّد من نفس حكم الشرع ، وكذلك في قاعدة التجاوز يكون ترتيب عدم اختلال المقيّد على الحكم بثبوت قيده من الشارع كما هو واضح.

وأمّا الثاني فلأنّ من آثار كون الإنسان طاهرا تعبديّا من الحدث كون الصلاة الصادرة منه بمنزلة الصلاة الصادرة من الطاهر الواقعي.

نعم يبقي الكلام في ما ذكره الحقير من إلحاق الأجزاء بالشروط ، فإنّ ترتيب وجود ذي المقدّمة على مقدّمته عقليّ ، وإن شئت قلت : ترتّب الكلّ على الجزء عقليّ.

في حال الاستصحاب مع القرعة (١)

فنقول : في رواية الخاصّة : «كلّ مجهول ففيه القرعة ، قلت له : إنّ القرعة يخطئ ويصيب ، قال : كلّ ما حكم الله به فليس بمخطئ».

وفي رواية العامّة على ما حكي «القرعة لكلّ أمر مشكل» وفي اخرى «لكلّ أمر مشتبه».

أمّا الاولى فلا إشكال في تقديم دليل الاستصحاب ، بل كلّ أصل شرعي عليها ؛ لأخصيّة دليله عن دليلها ، وأمّا في غير مورد الاصول الشرعيّة ، سواء كان حكم عقليّ مثل موارد البراءة والاشتغال والتخيير أو لم يكن ـ وإن كان في هذا إشكال ؛ إذ لا مورد إلّا وللعقل فيه تعيين الوظيفة عند انقطاعه عن الشرع ، وعلى كلّ حال فحيث نعلم إجمالا بورود التخصيص على عموم القرعة في تلك الموارد أيضا وليست موارده بيدنا تفصيلا ـ فلا بدّ في العمل به من ملاحظة جبره بعمل الأصحاب.

إن قلت : إن كان سنده صحيحا وكان دلالته تامّة فنحن لا نقلّد في الدلالة ، وإن كان السند صحيحا ولم تكن الدلالة تماما فلا يكفي عمل الأصحاب.

__________________

(١) راجع ص ٧٠٥

٦٤٠