أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

علمنا بملاقاة اليد النجسة لهذا الماء وعلمنا بقلّة الماء سابقا وصيرورته كرّا في بعض الأزمنة اللاحقة إجمالا ، ولكن يحتمل كون الكريّة قبل الملاقاة والعكس وكونهما متقارنين ، فاستصحاب القلّة المعلومة إلى حال حدوث الملاقاة يفيد كون الملاقاة الوجدانيّة لهذا الماء بمنزلة الملاقاة للقليل ، واستصحاب عدم الملاقاة المعلومة إلى حال حدوث الكريّة يفيد كون الملاقاة الوجدانية لهذا الماء بمنزلة الملاقاة للكرّ ، وأثر الأوّل التنجّس والثاني عدمه ، فيتعارضان.

وأمّا صورة الجهل بأحدهما والعلم بالآخر فالاستصحاب في المعلوم التاريخ غير جار ؛ لعدم الشكّ في الأجزاء الخارجيّة ؛ إذ ما قبل ذلك التاريخ نقطع بعدمه ، وبعده بوجوده ، فيبقي استصحاب العدم في الطرف المجهول إلى حال الحدوث المعلوم للآخر جاريا بلا معارض.

قال شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة : ما ذكره قدس‌سره في المجهول تاريخ أحدهما متين ، وأمّا حديث المعارضة في مجهولي التاريخ فمخدوش بعدم جريان الاستصحاب رأسا ، لا أنّه جار ويسقط بالمعارضة ، وذلك لأنّ كلّا من الموردين شبهة مصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ.

بيان ذلك أنّا لو فرضنا العلم في أوّل الزوال بوجود كليهما ، ولكن احتملنا حدوث كلّ واحد فيه وفي ما قبله ، فاستصحاب عدم كلّ إلى زمان حدوث الآخر بعد احتمال كون زمان حدوث الآخر هو أوّل الزوال الذي فرض العلم فيه بانتقاض ذلك العدم بالوجود يكون من الشبهة المصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ ؛ لاحتمال كونه نقضا لليقين باليقين.

توضيح المقام أنّ المقصود تارة إثبات أو نفي حقيقة الوجود لكلّ من الحادثين في الأزمنة المشكوكة ، واخرى مع قيد زائد على أصل الوجود ، كالوجود المتّصف بصفة المقارنة للحادث الآخر أو التقدّم أو التأخّر.

لا إشكال في كون الثاني مسبوقا بالعدم بنحو مفاد كان التامّة ، سواء في معلوم التاريخ أم مجهوله ، وليس له حالة سابقة بنحو مفاد كان الناقصة ، من غير فرق بينهما

٥٦١

أيضا ، فالكلام كلّه في ما إذا اريد إيراد النفي والإثبات على أصل وجود كلّ من الحادثين ، بدون إضافة قيد إليه أصلا.

وحينئذ يفترق الحال في ما كان أحد الحادثين معلوم التاريخ والآخر مجهوله ، وفي ما كان كلاهما مجهوله ، ففي الأوّل لا استصحاب في المعلوم التاريخ ، إذ الفرض أنّ حدوث الملاقاة مثلا في أوّل طلوع الخميس معلوم ، فلا شكّ في عدم الملاقاة قبله ، ولا شكّ في انتقاض عدمها بالوجود بعده.

وهذا بخلاف الحال في المجهول التاريخ ، فإنّ أصل انتقاض عدم الكريّة مثلا بالوجود وإن كان معلوما ، لكن زمانه مردّد بين ما قبل طلوع الخميس ونفسه وما بعده ، فلا يجرى استصحاب عدمه في الجزء الأخير المعلوم فيه انتقاض العدم إمّا فيه أو في سابقه ، ولكن لا مانع من استصحاب عدمه في ما قبله ، الذي منه زمان الطلوع الذي حدث فيه الملاقاة.

هذا هو الحال في مجهول تاريخ أحدهما ، فيكون عدم الكريّة محرزا بالأصل والملاقاة التي هي جزء آخر للموضوع محرزة بالوجدان ، فيكون الماء قد لاقي النجس بالوجدان ، وهو ليس بكرّ في حال حدوث الملاقاة بالأصل.

وأمّا المجهول تاريخ كليهما فالمقصود فيهما أيضا استصحاب أصل الوجود إثباتا أو نفيا ، لا الوجود المضاف بأحد الاعتبارين ، فإشكال عدم الحالة السابقة على تقدير وعدم الفرق بينهما وبين المجهول أحد التاريخين وإن كان مدفوعا ، ولكن هنا شبهة اخرى وهي أنّ قيد زمان الحادث الآخر في قولنا : نشكّ في وجود أحد الحادثين وانتقاض عدمه في زمان الحادث الآخر ليس جزوا من المستصحب حتّى يكون هو الوجود الخاص بأحد الاعتبارين ، بل المستصحب نفس العدم الأزلي في كلّ منهما بلا أخذ شيء فيه.

وحينئذ لا محالة يصير قيد زمان الآخر إشارة صرفة إلى الأجزاء الخارجيّة من الصبح والعصر والظهر وغير ذلك ، فلا بدّ أن يكون الشكّ متحقّقا في نفس الزمان الخارجي المشار إليه بهذا العنوان.

٥٦٢

ونحن إذا راجعنا الخارج رأينا من جملة قطعات الزمان الخارجي الذي يحتمل كون عنوان زمان الآخر منطبقا عليه وإشارة إليه زمانا نقطع باجتماع كلا الحادثين فيه ، ونحتمل كونه ظرفا لحدوث كليهما ، ونحتمل حدوث كليهما أو أحدهما في ما قبله ، والمفروض أنّه لا شكّ لنا في هذا الجزء الخارجي ، وقد كان المعتبر وجود الشكّ في انتقاض العدم الأزلي في أيّ زمان خارجي فرض تطبيق ذلك العنوان عليه.

ألا ترى أنّه لو اريد استصحاب الفرد الواقعي في ما إذا تردّد فرد الكلّي بين البقّ المقطوع الزوال والفيل المقطوع البقاء ، بحيث جعل عنوان الفرد الواقعي عبرة وحكاية عن نفس الجزئي الواقعي لا يصحّ الاستصحاب ؛ إذا المعتبر حينئذ تحقّق الشكّ في البقاء في كلّ شخص خارجى محتمل انطباق هذا العنوان عليه ، وليس في شيء من الخارجيين شك في البقاء.

وهنا أيضا لنا قطعتان خارجيّتان من الزمان ، إحداهما طلوع الخميس ، وهي ظرف الشكّ في انتقاض كلّ من العدمين بالوجود ، والاخرى زواله ، وهى ظرف القطع بالوجود وانتقاض العدم ، فإذا لوحظ عنوان زمان حدوث الآخر واشير به إلى نفس حقيقة الزمان الخارجى من الطلوع والزوال ، واريد استصحاب نفس العدم الغير المقيّد بشيء إلى هذا الزمان فلا بدّ من تحقّق الشكّ في أيّ زمان خارجى فرض مصداقا لهذا العنوان ، والمفروض تحقّق القطع في الزوال ، مع كونه محتمل المصداقيّة لهذا العنوان.

فإن قلت : زمان حدوث الآخر وإن كان إشارة ، لكنّه مع ذلك مفترق عن الصورة التفصيليّة المشار إليها ، فإنّها بين المشكوك انتقاض العدم فيها والمعلوم ، ولكن هذه الصورة الإجماليّة الحاكية حيث إنّها ذات تقديرين ، بأحدهما يكون مقطوعه ؛ لأنّها إن انطبقت على قطعه الزوال كانت ظرفا للقطع ، وإن انطبقت على الطلوع كانت ظرفا للشكّ ، كان المتحصّل من اجتماع التقديرين هو الشكّ.

قلت : نعم الحاصل فعلا من اجتماعهما هو الشكّ ، لكن لا في الانتقاض وعدمه ، بل في الشكّ والقطع ، يعني أنّه لا يدري هل هو شاكّ في هذا الزمان ، أو هو قاطع ، و

٥٦٣

لا يضرّ شكّ الإنسان في حالته الوجدانيّة إذا كان الملحوظ وجه المطلوب ، لا هو بصورته التفصيلية ، والممتنع هو الثاني.

ألا ترى أنّك لو علمت بأنّ زيدا عادل ، وشككت في عدالة عمرو ، فعنوان أحدهما بما هو هذا العنوان وإنّ كان لا محالة مشكوك العدالة ، ولكنّ العنوان المشير إلى الفردين مثل «كلّ منهما» أو «أيّ منهما» ليس مشكوكا ، بل محتمل الانطباق على المشكوك والمعلوم ، ومن هنا نقول في استصحاب الحيوان المردّد بين الفرد القصير والطويل : إنّه إنّما يجري لو جعل الحيوان موضوعا ، وأمّا لو جعل عبرة ومعرّفا للفردين فلا مجرى للاستصحاب فيه ؛ لعدم الشكّ في البقاء في شيء من الفردين.

فإن قلت : لا نجعل زمان حدوث الآخر جزء المستصحب ، بل هو نفس العدم ، ولكن لا نجعله عبرة وإشارة أيضا ، بل ملحوظا على وجه الموضوعيّة والاستقلال ، وقد اعترفت بحصول الشكّ فيه على هذا التقدير.

قلت : إذا اعترفت بكون المستصحب نفس العدم فلا يجدي حصول الشكّ فيه بملاحظة اقترانه بأمر خارجي كطيران الغراب ونحوه ، بل لا بدّ من لحوق الشكّ في قطعة الزمان المتأخّر الذي يراد استصحابه إليه بنفس المستصحب ، والمفروض أنّ نفس العدم بلا لحاظ شيء معه أصلا إذا اريد جرّه إلى زمان الحدوث الواقعي الخارجي للآخر ، يكون أمره متردّدا بين الجرّ إلى زمان الشكّ في انتقاضه ، وبين الجرّ إلى زمان القطع بانتقاضه ، وإن كان انتقاضه بملاحظة انضمام بعض العناوين الخارجة مشكوكا فيه ، وهذا واضح لا سترة عليه.

فإن قلت : كما أنّه في مورد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين مثلا يكون عنوان الأحد معرّفا ، ومع ذلك هو معروض العلم ، وكلّ من الإنائين مشكوك ولا يلزم اجتماع الضدّين بواسطة عدم سراية العلم من الصورة الإجماليّة إلى التفصيليّة وهما صورتان منحازتان ، كذلك نقول بعينه في المقام أنّ قطعة الزوال بهذه الصورة التفصيلية معروض القطع ، ولا ينافي كون العنوان المجعول عبرة إلى إحدى القطعتين منها ومن قطعة الطلوع معروضا للشكّ ؛ لاختلاف الصورتين.

٥٦٤

قلت : ما ذكرته في مورد العلم الإجمالي أيضا في محلّ المنع ، وكيف يكون العنوان عبرة واللازم منه اجتماع الضدّين ، بل متعلّق العلم هناك عنوان الأحد بنحو الاستقلال والموضوعيّة وعدم سراية النجاسة إلى كلا الفردين منه ؛ لأجل أنّ النجاسة المعلومة ليست متعلّقة بعنوان الأحد ابتداء ، بل في ضمن الخاصّ ، فالمعلوم لنا بالحقيقة ليس إلّا الأحد النجس ، وقولنا : الأحد النجس ، يكون الموضوع فيه ذا تضيّق ملازم مع عنوان النجس ، وليس مطلقا مرسلا.

والشاهد الآخر على هذا أنّه لو فرض نجاسة كلا الإنائين واقعا فلا مفرّ لك عن القول بعدم الميز الواقعي للمعلوم إجمالا ، وأنّه أمر متساوي النسبة إلى الطرفين ، ولا ميز له واقعا ، والفرق بينه وبين صورة نجاسة أحدهما ، فيه ما لا يخفي من عدم اختلاف متعلّق العلم حسب الاختلاف في الواقع ونفس الأمر.

وملخّص الكلام في مجهولي التاريخ أنّا إذا قطعنا تفصيلا بأصل وجود كلا الحادثين في أوّل الزوال مع التردّد في كونه زمان الحدوث أو قبله ، فاستصحاب العدم الأزلي لكلّ منهما إلى الآن المتّصل بالزوال قبله لا إشكال في تحقّق أركانه ، لفرض كونه ظرف الشكّ في البقاء، ولكنّ الموضوع بمجرّد هذا لا يتمّ بواسطة عدم إحراز جزئه الآخر وهو حدوث الآخر في هذا الآن.

كما لا إشكال في أنّ استصحاب العدم إلى نفس الزوال الذي فرض القطع التفصيلي فيه بالانتقاض لا مجرى له ، لعدم الشكّ.

فيبقي استصحاب العدم إلى الزمان الواقعي لحدوث الآخر ، وهو مردّد بين آن قبل الزوال الذي قلنا بتحقّق المجرى للاستصحاب ، ونفس الزوال الذي قلنا بعدم تحقّق المجري له، وهذا معنى كونه شبهة مصداقيّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره حاول في الكفاية عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ببيان آخر ، وهو عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

٥٦٥

قال شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة : ليس مقامنا محلّا لهذا الكلام ؛ إذ المفروض أنّ أزمنة الشك في بقاء العدم الأزلي متّصلة بزمان اليقين به ، وإنّما محلّة ما إذا كان الحادثان اللذان تكلّمنا في استصحاب عدمهما الأزلي بحيث وجود كلّ منهما كان ناقضا للآخر ، مثل الطهارة والحدث في ما اريد استصحاب وجودهما ، حيث إنّه لو علم المكلّف بتعاقب حالتي الطهارة والحدث عليه في ساعتين ولم يعلم بأنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر ، فهو لا محالة في الساعة الثالثة شاكّ في بقاء كلّ من الحالتين مع علمه بأصل حدوثهما في إحدى الساعتين ، فتارة يقال بجريان الاستصحاب في الطرفين والتساقط بالمعارضة.

ولكنّ الحقّ عدم الجريان ، والمانع هنا من طرف الأوّل ، كما كان في استصحاب العدميين من طرف الآخر.

بيانه أنّ من المعتبر في الاستصحاب أن يكون زمان الشكّ عند جرّه بطريق القهقرى متّصلا بزمان تكون فيه الحالة السابقة المتيقّنة ، وفي المقام لا يحرز ذلك ؛ إذ لا يحرز اتّصال أزمنة الشكّ في الطهارة مثلا بزمان الطهارة المتيقّنة ، لاحتمال اتّصالها بزمان الحدث المتيقّن ، فهذا الاستصحاب شبهة مصداقيّة من طرف الأوّل لكبرى الاتّصال ، كما كان في المقام المتقدّم شبهة مصداقيّة من طرف الآخر لكبرى نقض اليقين بالشكّ.

وأمّا البرهان على اعتبار الاتّصال وجهان :

أحدهما : أنّ مفاد الاستصحاب جرّ المستصحب ، يعني أن نضيف إلى العمر المتيقّن للمستصحب عمرا آخر ونجعل عمره مطوّلا ، وفي ما نحن فيه لا نضيف عمرا إلى عمره ، بل على فرض الجريان يطبّق مطوّل العمر الذي فرغ عنه على المستصحب.

مثلا نفرض أنّ أيّا من الطهارة والحدث كان متقدّما كان مدّة بقائه ساعة ، وأيّا منهما كان متأخّرا ، فهو إلى الآن الذي هو زمان الاستصحاب باق ، ونفرض أنّ

٥٦٦

الساعات المتوسّطة بين الساعة الاولى وزمان الاستصحاب ستّ ساعات ، فحينئذ لسنا بشاكّين في أنّ عمر كلّ منهما على فرض التأخّر ستّ ساعات لا أزيد منها.

إنّما الكلام في أنّ المتأخّر هو الطهارة حتى يكون هو واجد هذه الست الساعات ، أو الحدث حتى يكون هو كذلك ، فالاستصحاب يفيد على فرض الجريان تعيين هذه المدّة المطوّلة المحدودة التي لا تزيد ولا تنقص في الطهارة أو في الحدث ، وقد فرضنا أنّ شأن الاستصحاب إعطاء البقاء للمستصحب ، لا تعيين البقاء المفروغ عنه في المستصحب.

والحاصل أنّ عدم النقض الاستصحابي متعلّق باليقين بملاحظة استمرارها الجائي من قبل استمرار متعلّقه ، وإلّا كان قاعدة الشك الساري ، وحينئذ فمفاد الاستصحاب تحصيل عدم النقض فى مقام الدوران بين أصل حصول هذا العدم ونقيضه ، فلسانه جعل العدم في هذا التقدير مضافا إلى اليقين ، ولازم ذلك أطوليّة عمر اليقين وانجرار استمراره.

وأمّا لو كان هذا العدم حاصلا ، يعنى نعلم بأنّ في البين عدم نقض محقّقا ، ونشك في إضافته إلى اليقين أو إلى أمر آخر ، فليس تحصيل هذه الإضافة من وظيفة الاستصحاب ، ففي المثال السابق وإن كان لنا يقين بالحدوث وشكّ في البقاء بالنسبة إلى كلّ من الطهارة والحدث في الساعة الأخيرة ، ولكنّ الشرط المذكور وهو كون التعبّد في أصل حصول عدم النقض في قبال نقيضه مفقود ، وإنّما يكون موجودا لو كنّا نحتمل كون مدّة كلّ من الأمرين سبع ساعات ، وليس هذا بمحتمل.

فالذي نعلم أنّ لنا موجودين ، أحدهما في ساعة واحدة ، والآخر في ستّ ساعات ، ولا يحتمل في البين موجودا في سبع ساعات ، والذي نشكّ هو أنّ الموجود الأطول هل هو الطهارة أو الحدث ، وحيث إنّ الاستصحاب حكم ظاهري فهو لا محالة معمول في مورد الشكّ ، وهنا بعد التحليل صار المشكوك لنا

٥٦٧

تعيين الغير المنقوض ، وأنّه هذا أو ذاك ، لا أنّ المشكوك هو أنّ هذا منقوض أو لا ، ومجرى الاستصحاب هو الشكّ الثاني دون الأوّل ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المعتبر في الاستصحاب ليس إلّا يقينا وشكّا موجودين بالفرض ، وعند ذلك يجري حكم «تعبّد بالبقاء» وليس فيه أن يكون منشأ الشكّ في البقاء ما ذا ، فقد يتحقّق الشك في بقاء الشيء بواسطة عدم العلم بأنّ المنطبق عليه أيّ من الموجودين الذين أحدهما قصير والآخر طويل.

فالمتحصّل بالأخرة حينئذ هو الشكّ في أنّ هذا الشيء باق أو لا ، وهذا المقدار كاف ، ولو لا ذلك لما كان مجرى للاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة ، فإنّ لنا موجودين ، أحدهما منتقض قطعا ، والآخر غير منتقض كذلك ، فهذا الطرف المعيّن مثلا نشكّ في كونه هو المنتقض أو غير المنتقض ، وحينئذ يبقي ما ذكرتم من لزوم أطوليّة عمر المستصحب بالاستصحاب ، وهو موجود في أطراف العلم وغير موجود في المقام.

ويمكن جوابه أيضا بأنّه إن كان المقصود أنّ الشارع بالاستصحاب يجعل العمر الواقعي للمستصحب أزيد وأطول ، فهذا المعنى مقطوع العدم في جميع المقامات ؛ إذ الاستصحاب تعبّد ظاهري مع بقاء المستصحب على ما هو عليه من العمر الواقعي بحدّه الواقعي.

وإن كان المقصود أنّه مع دوران أمره واقعا بين الحدّين الأقلّ والأكثر يتعبّدنا الشارع في الظاهر بالبناء على الأكثر ، فهو في المقام موجود ؛ إذ من المعلوم أنّ قول الشارع : ابن على بقاء الطهارة في المقام ، لا مانع منه في الظاهر أصلا ، سواء كان عمره الواقعي ساعة واحدة أو ستّ ساعات ، وليس مفاده : ابن على أنّه سبع ساعات ، حتّى يقال : إنّه مقطوع الخلاف ؛ فإنّ لسانه عدم نقض اليقين بالشكّ في البقاء من دون نظر له بأنّ الواقع ما ذا.

٥٦٨

نعم لو علمنا أنّ مبدأ وجود الطهارة أوّل السبع ساعات كان اللازم من هذا الحكم الظاهري مع هذا العلم كونه سبع ساعات ، وبالجملة ، لا نظر للاستصحاب في تعيين المبدا أو تعيين كمّ الوجود ، وإنّما ينظر إلى تعيين المنتهى.

ولكنّه دام أيّام إفاداته الشريفة أجاب بأنّا ولو قلنا بالاستصحاب من باب الأخبار ، ولكنّ الموضوع المحكوم عليه في الأخبار متّحد مع ما يقوله القائل بأنّ ما ثبت يدوم ، وكما أنّ مجرى هذه القاعدة على فرض ثبوتها ما إذا كان الشكّ في الطول والدوام للشيء الثابت ، ويزيد بسببها على مقدار ثبوته المتيقّن زمان آخر مشكوك فيه الثبوت ، كذلك الحال في الاستصحاب المأخوذ من الأخبار ، فيكون من المعتبر فيه زيادة زمان على أزمنة الثبوت المتيقّن للمستصحب ، فلا مجرى له في ما لا مجال لزيادة شيء بواسطة الاستصحاب.

وإن شئت الدليل على أنّ المقام من هذا القبيل فافرض أنّا علمنا بأنّ مدّة ثبوت كلّ من الحدث والطهارة كانت ستّ ساعات وشككنا في المتقدّم والمتأخّر ، فهل نشكّ في أنّه بالاستصحاب لا يزداد مدّة الطهارة أو الحدث على الستّ ساعات ، وعلى هذا فقس سائر الأمثلة ، هذا.

والوجه الثانى على اعتبار الاتّصال في الاستصحاب أنّا ولو قلنا بأنّا لا ندور في الاستصحاب مدار الشكّ في البقاء والارتفاع ، ولهذا قلنا بجريانه في ما ليس له البقاء والارتفاع كالتدريجيّات ، ولكنّه من المعتبر فيه بحسب الانصراف تحقّق زمان كان المكلّف شاكّا في الوجود والعدم بملاحظة ذلك الزمان ، بحيث احتمل كونه ظرفا للوجود أو للعدم ، وليس الحال في زمان الشكّ في المقام على هذا المنوال ؛ لأنّ أحد طرفي الاحتمال هو الوجود فيه ، والآخر هو العدم ، لكن لا فيه ، بل من السابق على هذا الزمان ، وهذا هو الحال في تمام آنات زمان شكّنا.

فإن قلت : قوله عليه‌السلام : «بل انقضه بيقين آخر» معناه حصر نقض اليقين

٥٦٩

باليقين ، ولو نقضنا يقيننا في المقام بالطهارة لكنّا نقضناه لا باليقين.

قلت : المدّعى أنّ هذا المورد حسب الانصراف خارج عن طرفي المستثنى منه والمستثنى، فلا تشمله قضيّة انقض ولا لا تنقض.

هذا هو الكلام في اعتبار الاتّصال في الاستصحاب ، وقد عرفت تفرّع عدم جريان الاستصحاب في الوجودين الذين أحدهما ناقض الآخر عند العلم بتحقّقهما وعدم العلم بالسبق واللحوق.

ويظهر من المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّه يتفرّع عليه أيضا عدم جريان الاستصحاب في العدمين الأزليين للحادثين المجهولي التاريخ الذي استندنا في منع جريانه بكونه شبهة مصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ.

قال في كفايته بعد ذكر عدم المورد للاستصحاب في ما كان المستصحب وما له الأثر هو العدم المضاف ، ما لفظه : وكذا «يعنى لا مورد للاستصحاب» في ما كان «أي الأثر» مترتّبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا وإن كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان شكّه وهو زمان حدوث الآخر بزمان يقينه ، لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه به.

وبالجملة ، كان بعد ذلك الآن الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما زمانان ، أحدهما زمان حدوثه والآخر زمان حدوث الآخر ، وثبوته الذي يكون ظرفا للشكّ في أنّه فيه أو قبله ، وحيث شكّ في أنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر لم يحرز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ومعه مجال للاستصحاب ، حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشكّ من نقض اليقين بالشكّ.

لا يقال : لا شبهة في اتّصال مجموع الزمانين بذاك الآن ، وهو بتمامه زمان الشكّ في حدوثه ، لاحتمال تأخّره عن الآخر ، مثلا إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة ، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة اخرى

٥٧٠

بعدها وحدوث الآخر في ساعة ثالثة كان زمان الشكّ في حدوث كلّ منهما تمام الساعتين ، لا خصوص أحدهما كما لا يخفى.

فإنّه يقال : نعم ولكنّه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان والمفروض أنّه بلحاظ إضافته إلى الآخر ، وأنّه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أنّ زمان شكّه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه ، لا الساعتين ، انتهى كلامهقدس‌سره.

أقول : إجراء القاعدة المذكورة على الاستصحاب في العدميين في مجهولي التاريخ مبنيّ على القول بكون العلم الإجمالي ناقضا ؛ إذ حينئذ نقول : نعلم بانتقاض العدم الأزلي للكرّيّة، غاية الأمر تردّد زمانه بين الساعة الاولى بعد الزوال مثلا ، والساعة الثانية.

فتارة نجعل مجموع الزمانين ملحوظا وظرفا للشك ، فنقول : كنّا قاطعين بعدم انتقاض العدم الأزلي إلى الزوال ، ونشكّ في انتقاضه في هذا الزمان ونشير إلى الزمان الخارجي الذي مبدؤه الساعة الاولى ، ومنتهاه الساعة الثانية ، باستثناء مقدار من آخرها يحصل فيه العلم بالانتقاض ، إمّا فيه وإمّا في ما قبله ، فحينئذ لا شبهة في اتّصال زمان الشكّ بزمان العدم المتيقّن ، لكن موضوع الاثر لا يحرز بذلك ؛ إذ لا يحرز انطباق زمان حدوث الملاقاة على شيء من أجزاء هذا الزمان ، وقد كان الموضوع للأثر هو عدم الكريّة في هذا الزمان بالفرض ، لا العدم المطلق ، فإنّه الفرض الأوّل ، أعني ما إذا اريد استصحاب عدم الحادث بالقياس إلى نفس أجزاء الزمان ، لا بالقياس الى حادث آخر.

واخرى لا نلاحظ إلّا زمان حدوث الملاقاة ، أعني نشير بهذا العنوان إلى زمانه الواقعي الخارجي المردّد عندنا بين الساعة الاولى والثانية ، فنقول : في ذلك الزمان الواقعي للملاقاة اجتمع لنا يقين بعدم الكريّة في السابق وشك في انتقاضه في ذلك الزمان بالوجود.

٥٧١

فحينئذ حيث إنّ هذا الزمان الذي ظرف الشكّ مردّد بين الساعة الاولى والثانية ، وانتقاض عدم الكريّة الذي قلنا : إنّه معلوم لنا أيضا مردّد بين الساعتين ، فيكون إحدى الاحتمالات كون ذلك الانتقاض ثابتا في الساعة الاولى ، وكون ذلك الزمان منطبقا على الساعة الثانية ، فيكون في هذا التقدير زمان شكّنا إذا جرّ بطريق القهقرى لا يتّصل بزمان العدم المتيقّن الذي هو ما قبل الزوال ، بل يتّصل بزمان نقضه الذي علم إجمالا وتردّد زمانه بين الساعتين.

فيكون الحال في هذا التقدير هو الحال في استصحابى الوجوديين لو اتّصل في استصحاب الطهارة مثلا زمان الشكّ فيها بزمان الحدث المتيقّن ، غاية الأمر الاشتباه هناك مع زمان الحالة السابقة المتيقّنة وهو الطهارة مع تعيّن زمان الشكّ وعدم اشتباهه ، وهنا الأمر بالعكس ، فيكون الاشتباه مع زمان الشكّ مع تعيّن زمان الحالة السابقة المتيقّنة وهو العدم الأزلي وعدم اشتباهه ، فتكون نتيجة الاشتباه في كلا المقامين عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان الحالة السابقة المتيقّنة.

ومن هنا يعلم عدم جريان هذا الكلام في استصحاب الطهارة في الإنائين المعلوم وقوع نجاسة في أحدهما لا بعينه ، فإنّه ليس انتقاض الطهارة في شخص كلّ منهما معلوما بالتفصيل ، وكان زمانه مردّدا ، بل مشكوك تفصيلى ، بخلاف المقام ، حيث إنّ الانتقاض معلوم تفصيلي إضافته بشخص كلّ من العدميين ، والتردّد إنّما هو في الزمان ، فلهذا يكون استصحاب الطهارة في كلّ من الإنائين في حدّ ذاته بلا مانع.

كما أنّه لا مانع منه في مجهول التاريخ من الحادثين إذا كان الآخر معلوم التاريخ ، فإنّه لاحتمال تأخّره عن معلوم التاريخ يكون تمام ما بين الزوال وزمان حدوث المعلوم التاريخ ونفس هذا الزمان ظرفا لشكّه ، وهذا المجموع متّصل بالزوال الذي هو آخر أزمنة اليقين ، ولو كان تاريخ المعلوم هو الزمان المتّصل بالزوال فالأمر أوضح.

٥٧٢

في ما يتعلّق باستصحاب حكم الخاص. (١)

اعلم أنّه لو دلّ الدليل الدال على الحكم في الزمان السابق عليه في اللاحق إثباتا أو نفيا ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب ، لأنّ مورده عدم وجود الدليل الاجتهادي.

إنّما الكلام في أنّه لو كان لنا عامّ يدلّ على ثبوت الحكم لأفراده ، ثمّ خرج منه فرد في زمان ففي ما بعد ذلك الزمان هل نرجع إلى استصحاب حكم المخصّص ، أو إلى عموم العام؟ مثلا لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ علمنا بالإجماع عدم وجوب إكرام زيد في يوم ، ففي ما بعد ذلك اليوم هل نرجع إلى استصحاب عدم وجوب الإكرام أو إلى عموم أكرم العلماء؟.

لا بدّ أوّلا من تعيين موضوع البحث ، فنقول وبالله المستعان وعليه التكلان : إن لاحظ المتكلّم قطعات الأزمنة أفرادا ، كما لو قال : أكرم العلماء في كلّ زمان ، فلا شبهة في أنّه إذا خرج فرد في زمان يحكم بدخوله في حكم العامّ في ما بعد ذلك الزمان ، سواء جعل تلك القطعات بحسب عناية الدليل قيدا للفعل المأمور به أم ظرفا للنسبة الحكميّة ، فإنّه على الفرض الأوّل يصير الإكرام في كلّ زمان فردا مستقلّا للعام غيره في زمان آخر ، وعلى الثانى يصير القضيّة متعدّدة بتعدّد الأزمنة.

ولا إشكال في أنّ خروج زيد يوم الجمعة لا يوجب سقوط العام عن الحجيّة في ما بعده على التقديرين ، فإنّه على الأوّل إكرام زيد يوم الجمعة فرد من الإكرام ، وإكرامه في يوم السبت فرد آخر ، فإذا خرج فرد من العام نتمسّك في الباقي بعمومه ، وعلى الثاني القضيّة في حكم القضايا المتعدّدة ، فكأنّه صدرت من المتكلّم قضيّة في يوم الجمعة وخرج منها زيد ، وأيضا صدرت منه تلك القضيّة في يوم السبت ولم نعلم بخروجه من تلك القضيّة الثانية.

__________________

(١) راجع ص ٣٦١

٥٧٣

والحاصل أنّ المقام مقام الأخذ بالعموم دون الاستصحاب ، بل قال شيخنا المرتضىقدس‌سره : إنّه في هذا المورد لم يجز التمسّك بالاستصحاب وإن لم نتمسّك بعموم العام أيضا.

لكن في ما أفاده قدس‌سره نظر نبّه عليه سيّد المشايخ الميرزا الشيرازي قدس‌سره ، وهو أنّ المانع من الأخذ بالاستصحاب مع قطع النظر عن العموم ليس إلّا عدم اتحاد الموضوع ، والموضوع في الاستصحاب بعد عدم أخذه من العقل ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ إمّا مأخوذ من الدليل ، وإمّا من العرف.

فإن اعتبرنا الأوّل فالمعيار هو الموضوع المأخوذ في دليل الحكم المستصحب ، وربّما يكون الزمان قيدا بحسب الدليل الدالّ على العموم وظرفا للحكم بحسب الدليل الدالّ على المخصّص ، وإن اعتبرنا الثاني فالأمر اوضح ، فإنّه قد يكون الزمان قيدا في دليل المخصّص أيضا ، لكنّ العرف يراه ظرفا للحكم ، مع ما عرفت من عدم ملازمة ملاحظة الأزمنة أفرادا مع كونها قيدا للمأمور به ، لما مضى من وجه آخر أيضا ، هذا على تقدير ملاحظة الأزمنة أفرادا.

وأمّا على تقدير عدم ملاحظة ذلك فالظاهر أنّ الحكم في القضيّة المفروضة يتعلّق بكلّ فرد ، ويستمرّ ذلك دائما ، حيث إنّه لم يحدّده بحدّ خاص ، ولم يقيّده بزمان خاص بالفرض ، ولا يخفي أنّ الاستمرار المستفاد هنا من مقدّمات الإطلاق حاله حال الاستمرار المستفاد من دليل الاستصحاب ، فيقتضي إطاعات عديدة بتعدّد الأزمنة ، ويكون له عصيانات كذلك.

والحاصل أنّه فرق بين استمرار نفس الحكم وبين استمرار المأمور به ، فالأوّل يفرض له إطاعات وعصيانات ، والثاني لا يفرض له إلّا إطاعة واحدة وعصيان واحد ، والمقام من قبيل الأوّل.

وكيف كان فربّما يدّعى في هذه الصورة أنّه إذا خرج الفرد من تحت العام في زمان لم يكن العام دليلا على دخوله في الزمان الآتي ؛ لأنّ دلالة العام على استمرار الحكم المتعلّق بالفرد فرع دلالته على نفس الفرد ، فإذا خرج الفرد من تحته يوم الجمعة

٥٧٤

فأنّى لنا بعموم يشمل ذلك الفرد يوم السبت حتّى يشمله الحكم ، ويحكم باستمرار ذلك الحكم أيضا من أوّل يوم السبت؟.

والحاصل أنّه على الفرض الأوّل كان الفرد الخارج يوم الجمعة فردا ، والفرد الذي يتمسّك بالعموم له في السبت فردا آخر ، أو كان لنا في يوم الجمعة قضيّة عامّة خرج منها فرد ، وفي يوم السبت أيضا قضيّة عامّة مثلها نشكّ في خروج الفرد منها ، ولا إشكال في كلا الاعتبارين في التمسّك بالعموم في المشكوك ؛ لأنّ عدم دخول الفرد المفروض تحت العام يستلزم تخصيصا آخر زائدا على التخصيص المعلوم ، وهذا واضح ، بخلاف الفرض الثاني ، فإنّ الفرد المفروض خروجه يوم الجمعة لو كان خارجا دائما لم يلزم إلّا مخالفة ظاهر واحد ، وهو ظهور وجوب إكرامه دائما.

فإن قلت : كيف نتمسّك بالإطلاقات بعد العلم بالتقييد ونقتصر في عدم التمسّك بها على المقدار الذي علم بخروجه ، والحال أنّ مفادها واحد ، وبعد العلم بالتقييد يعلم أنّه ليس بمراد.

مثلا لو فرضنا ورود الدليل على وجوب عتق الرقبة ، وعلمنا بالدليل المنفصل أنّ الرقبة الكافرة عتقها غير واجب ، فيلزم أن لا يكون الموضوع في الدليل الأوّل هو المفهوم من اللفظ المذكور فيه ، وبعد ما لم يكن هذا المعنى مرادا منه لا يتفاوت في كونه خلاف الظاهر بين أن يكون المراد منه الرقبة المؤمنة ، أو مع كونها عادلة ، وليست مخالفة الظاهر على تقدير إرادة المفهوم الثاني من اللفظ أكثر حتّى يحمل اللفظ بواسطة لزوم حفظ مراتب الظهور بقدر الإمكان على الأوّل ؛ إذ ليس في البين إلّا تقييد واحد كثرت دائرته أم قلّت ، والمفروض أنّا نرى أنّ ديدن العلماء قدّس أسرارهم على التمسّك بالإطلاق في المثال المذكور والحكم ببقاء الرقبة المؤمنة ، سواء كانت عادلة أم فاسقة تحت الإطلاق.

قلت : الفرق بين المطلق وما نحن فيه أنّ المطلق يشمل ما تحته من الجزئيّات في عرض واحد ، والحكم إنّما تعلّق به بلحاظ الخارج ، فظهور القضيّة استقرّ في الحكم على كلّ ما يدخل تحت المطلق بدلا ، أو على سبيل الاستغراق على

٥٧٥

اختلاف المقامات ، فإذا خرج بالتقييد المنفصل شيء الباقي بنفس ذلك الظهور الذي استقرّ فيه أوّلا.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الزمان في حدّ ذاته أمر واحد مستمرّ ليس جامعا لأفراد كثيرة متباينة ، إلّا أن يقطع بالملاحظة وجعل كلّ من قطعاته ملحوظا في القضيّة كما في قولنا : أكرم العلماء في كلّ زمان ، وأمّا إذا لم يلاحظ على هذا النحو كما في قولنا : أكرم العلماء ، ومقتضى الإطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم الجمعة مثلا فليس لهذا العام المفروض دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت ؛ إذ لو كان داخلا لم يكن هذا الحكم استمرارا للحكم السابق كما هو واضح ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الدعوى.

ولكنّه مع ذلك قد استشكل فيه شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة أوّلا : أنّا نتصوّر المعنى الواحد الذي لا ينثلم وحدته بالاستثناء من وسطه ، وذلك كما في العموم المجموعي مثل قولك : أكرم زيدا في مجموع السنة إلّا يوم كذا في وسطها ، وكما في عنوان الاستمرار لصحّة قولك : أكرم زيدا مستمرّا إلّا يوم كذا ، فوجود الحكم في ما بعد يوم كذا لا شبهة في كونه حفظا للعموم المجموعي في الأوّل ، ولمعنى الاستمرار في الثاني ، وعدمه مخالفة ظاهر آخر فيهما.

نعم يتصوّر أيضا معنى واحدا ينثلم وحدته بالاستثناء كما في عنوان البقاء ، فليس الوجود بعد تخلّل العدم بقاء للوجود السابق ، ولهذا لا نتمسّك بالاستصحاب لو خرج منه فرد في زمان في ما بعد ذلك الزمان ، ولكن أنّى لنا بإثبات أنّ المعنى الواحد الذي هو مفاد المقدّمات عنوان البقاء ، فمن الممكن أن يكون عنوان الاستمرار الذي قد عرفت أنّ حاله حال العموم المجموعي.

وثانيا : سلّمنا أنّ مفاد المقدّمات معنى البقاء الذي يفيده الاستصحاب ، لكنّ الملاك الجاري في الأخذ بالإطلاق في سائر المطلقات بعد ورود التقييد بالنسبة إلى ما عدا مورده بعينه جار في المقام ، وما ذكرت من عرضيّة الأفراد في غير المقام

٥٧٦

بخلاف المقام غير فارق.

بيان ذلك أنّكم قلتم في وجه التمسّك هناك : إنّا نجمع بين دليل المقيّد وظهور المطلق بحمل المطلق على الإرادة الإنشائيّة المنشأة بغرض التوطئة وضرب القانون ، وهي محفوظة كما كانت من غير تصرّف فيها ، غاية الأمر التصرّف في أصل عقلائي آخر وهو الأصل الحاكم بتطبيقها على الجدّ ، ففي كلّ مورد ظهر خلاف هذا الأصل نرفع اليد عنه ويبقي في غيره على حاله.

وبالجملة ، دليل المقيّد يحكي عن ثبوت الإرادة الجديّة على خلاف المطلق في مورده ، لا عن كون المطلق مستعملا في غير الإطلاق ، وحينئذ فظهور المطلق في استعماله في الإطلاق يبقي بلا مزاحم ، فيحمل على الإرادة الإنشائيّة المنطبقة مع الجدّ تارة والمنفكّة عنه اخرى.

وبعبارة اخرى : كون المتكلّم في مقام البيان من حيث الإرادة الإنشائيّة التوطئيّة لا ينثلم بظهور المقيّد ، والذي تفيده المقدّمات ليس إلّا ظهور المطلق في هذه الإرادة ، وتطبيقها على الجدّ خارج من وظيفة المقدّمات ، ويكون بمقتضى الأصل العقلائي الآخر.

وحينئذ فنقول : عين هذا المعنى جار في المقام ، فإنّ ظهور المقيّد في بعض الأزمان لا ينثلم بسببه ظهور المطلق في بقاء الإرادة الإنشائيّة ، فإنّها كما عرفت باقية بحالها غير مرتفعة في زمان من الأزمنة ، وإنّما التصرّف في أصالة الجدّ.

وبالجملة ، حال معنى البقاء الذي يفيده المقدّمات هنا حال العموم البدلي أو الاستغراقي الذي يفيده في الأفراد العرضيّة ، فكما أنّ مصبّ الأخيرين هو الإرادة الإنشائيّة ، فكذلك الأوّل بلا فرق.

وحاصل الكلام أنّه كلّما كان الحال في الاستثناء المتّصل هو الأخذ بالثاني ، فالحال في المنفصل أيضا كذلك ، والإشكال الوارد في الثاني مدفوع ، مثلا لو قال : كل هذا الرغيف إلّا هذا الجزء ، فاللازم أخذ البقيّة ، وكذلك لو ورد منفصلا عدم جواز أكل ذلك الجزء ، فإنّه يؤخذ بدليل : كل هذا الرغيف ، بالنسبة إلى البقيّة.

٥٧٧

والإشكال بأنّه بعد عدم إرادة المعنى الشامل لهذا الجزء ، الأمر دائر بين امور ، والتجوّز في كلّ منها من حيث الانس اللفظي على نسق واحد ، مثلا إرادة ما سوى هذا الجزء وما سوى الجزءين والثلاثة إلى أن يبقى مقدار لا يصحّ فيه التجوّز كلّها في القرب والبعد على حدّ سواء ، فتعيين الأوّل من بينها بلا مرجّح ، مدفوع بأنّ الاستثناء ليس عن الإرادة الاستعماليّة ، بل اللفظ قد اعطى معناه ، وإنّما الاستثناء يتعلّق بمقام الجدّ ، فيكون المتّبع في ما بقي أصالة التطابق بين الاستعمال والجدّ.

وهذا الإشكال عين الإشكال الذي أوردوه على العام الاستغراقي المخصّص بالمنفصل على القول بحجيّته في الباقي وعلى المطلقات المقيّدة بالدليل المنفصل على القول بالحجيّة في الباقي ، فإنّ تقريب إشكالهما أنّه بعد ورود المخصّص والمقيّد نعلم بعدم إرادة المتكلّم ما هو معنى الكلّ من الاستيعاب ، وما هو معنى الإطلاق من وقوع الطبيعة بنفسها بلا ضمّ شيء إليها تحت الحكم ، وبعد معلوميّة ذلك يبقى الأمر دائرا بين المراتب ، وليس المرتبة الثالثة للعموم والإطلاق أقرب من حيث الانس ، وإنّما هو أقرب من حيث السعة والكمّ ، والمعيار الأوّل.

وجواب هذا الإشكال الذي أوردوه ففي ذينك البابين عين ما ذكرنا من أنّ التّخصيص والتقييد ليسا إخراجا عن المراد الاستعمالي ، بل اللفظ مستعمل في معناه والإخراج إنّما هو عن المراد اللبيّ الجدّي ، فالمتّبع في ما عدى مورد التخصيص والتقييد هو الأصل العقلائي على تطابق الارادتين.

وعلى هذا فنقول : عين هذا المعنى إشكالا وجوابا وارد في مقامنا ، فإشكاله ليس إشكالا آخر ، وجوابه أيضا ذلك الجواب ، فإنّ إشكال المقام هو أنّ الاستمرار أمر وحداني ، فما دام الفرد باقيا تحت العامّ يكون الاستمرار محفوظا ، وإذا خرج في زمان فقد انقطع الاستمرار ، وشمول العامّ لما بعده فرع دلالته على هذا الجزء من الزمان بعنوانه ومستقلّا ، وأمّا إذا كانت الدلالة بتوسّط عنوان الاستمرار فبعد تخلّل العدم في البين لا يبقي الأمر الواحد المستمرّ ، بل الموجود شيئان متماثلان مفصولان ، وهذا معنى كلام شيخنا المرتضى قدس‌سره من أنّه لا يلزم من ثبوت

٥٧٨

حكم الخاص في ما بعد الزمان المتيقن الخروج زيادة تخصيص في العام حتّى يقتصر فيه على المتيقّن بل الفرد خارج واحد ، دام زمان خروجه أو انقطع ، فليس الأمر دائرا بين قلّة التخصيص وكثرته حتى يتمسّك بالعموم في ما عدا المتيقّن.

والحاصل أنّ الاستمرار إذا انقطع فلا دليل على العود إليه ، كما في جميع الأحكام المستمرّة إذا طرأ عليها الانقطاع.

وحاصل الجواب أنّه بعد أنّ التخصيصات المنفصلة ليست إخراجا عن المراد الاستعمالي ، فالاستمرار في المقام بوحدته باق ، من غير انثلام فيه أصلا بحسب الاستعمال ، ولم يطرأ عليه الانقطاع بحسبه ، وبعد ذلك يبقي الأمر منحصرا في الأصل العقلائي على التطابق ، ومن المعلوم لزوم الاقتصار في مخالفته على المقدار المعلوم.

نعم لو كان التخصيص يوجب انثلاما وانصداما في المراد الاستعمالي لكان تمام ما ذكروه واردا ؛ إذ الأمر الوحداني لم يبق بعد تخلّل العدم في البين ، ولكن لو بنينا على هذا ليسري الإشكال في العموم الاستغراقي أو الإطلاق الحالي أيضا ، فإنّه يقال : إنّ المعنى الوحداني البسيط غير مراد من اللفظ ، والتجوّز بالنسبة إلى غيره من مراتب التخصيص والتقييد على نسق واحد.

وبالجملة ، لا نعقل فرقا أصلا بين مفاد الكلّ ومفاد لفظ «دائما» ونحوه ، فكلّ منهما أمر وحدانيّ لا ينحفظ مع خروج بعض ما يشمله ، فكيف لا يرتفع هذه الوحدة في الأوّل بسبب التخصيص ، ويرتفع في الثاني ، وقد عرفت الحال في مثال الرغيف؟.

وكذا الحال في دليل الاستصحاب الذي مفاده الإبقاء وعدم نقض ما كان ؛ فإنّه قد ينقطع البقاء فيه بواسطة تبدّل الشكّ باليقين بخلاف الحالة السابقة ، ولا كلام فيه ، فإنّه من تبدّل الموضوع ، وقد ينقطع هذا الحكم الظاهري من الوسط مع بقاء الشكّ بالنسبة إلى الواقع وإن كان هذا مجرّد فرض لا واقع له ، فحينئذ يجرى فيه ما ذكرنا من أنّه بعد انقضاء الزمان المتيقّن من الدليل المخرج نرجع إلى عموم إبقاء ما كان.

وعلى هذا لا يبقي فرق بين منقطع الوسط والابتداء والآخر في جواز التمسّك في الكلّ كما هو واضح بعد ملاحظة ما ذكرنا من أنّه بحسب الاستعمال قد اعطي كلّ

٥٧٩

من العموم الفردي والإطلاق الزماني معناه ، وإنّما التصرّف بحسب الجدّ ، فيقتصر في مخالفته على مقدار العلم ويرجع في ما زاد إلى أصالة الجدّ.

ونقل شيخنا الاستاد دام ظلّه عن سيّده الاستاد طاب ثراه أنّه استدلّ على عدم جواز التمسّك بالعموم في جميع الصور الثلاث المذكورة بأنّ الاستمرار الذي يفيده الإطلاق إنّما هو تبع لما هو مفاد اللفظ بحسب الوضع ، فإذا كان المفاد الوضعي منحصرا في تعليق الحكم على كلّ فرد فالإطلاق من حيث الزمان في كلّ فرد منوط بدخول هذا الفرد تحت العموم ، فلو خرج في زمان ولم ينعقد فيه مفاد القضيّة ، فليس لنا مقدّمات حكمة قاضية بالاستمرار ، لانتفاء موضوعها ، والعمل بالعموم يكفيه دخول الفرد زمانا ما ولو كان في آخر وجوده.

نعم لو كان هنا في مدلول القضيّة وما هو ملحوظ المتكلّم ملاحظة الزمان سواء بنحو العموم الأفرادي أم المجموعي كان للأخذ بالعموم الزماني بعد انقضاء الزمان المتيقّن مجال ، ولكنّه خلاف الفرض وأنّه من باب الإطلاق وعدم لحاظ الزمان أصلا ، وحينئذ فعقد المقدّمات منوط بالعموم الفردي ، وهذا ما استفاده هذا الحقير من نقله دام ظلّه في مجلس الدرس.

ولكن للحقير إشكال في هذا وهو أنّ العموم الفردي إذا كان يكفيه زمان ما ولو في آخر أزمنة الوجود ، والإطلاق الزماني أيضا تابع للعموم الفردي فيلزم جواز الرجوع إلى استصحاب عدم الحكم من أوّل وجود الفرد والحال أنّ هذا خارج عن قضيّة كلّ من العموم والإطلاق ، وليس في البين حسب الفرض ظهور آخر كان قضيّته ذلك ، ولهذا صرّحوا بأنّ الأمر في صورة خروج الفرد من أوّل الأمر دائر بين رفع اليد عن أحد الظهورين من العموم والإطلاق ، وعلى هذا لا منافاة فيه لشيء منهما.

هذا مضافا إلى عدم تماميّة أصل الكلام على فرض السلامة عن هذه الخدشة ، لورود الإشكال السابق عليه ، وقد اعترف بذلك الاستاد دام علاه ؛ إذ بعد محفوظيّة مرتبة الاستعمال عن ورود التصرّف عليه لا مجال للكلام المذكور ، كما هو واضح من البيان المتقدّم.

٥٨٠