أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر الثاني :

قد عرفت الكلام في الشبهة الحكميّة بين الأقلّ والأكثر ، بقي الكلام في الشبهة الموضوعيّة بينهما التي من جملة فروعها الشبهة الماهوتيّة.

فنقول : قد يكون هذا الشكّ في الجزء ، وقد يكون في الشرط ، وقد يكون في المانع بعد الفراغ من الكبرى في الثلاثة ، بأن علمنا أنّ الشيء الفلاني جزء للصلاة مثلا كالسورة ، ولكن شككنا أنّ السورة الخاصّة سورة القرآن أو لا ، أو سورة تامّة أو لا ، وكذلك في الشرط والمانع.

ثمّ كلّ من هذه الثلاثة بحسب عالم الثبوت يتصوّر على أنحاء ثلاثة ، فتارة يعتبر الشيء جزء لمركّب باعتبار صرف وجوده من دون نظر إلى الأفراد ، كما لو اعتبر أصل وجود السورة في الصلاة واشتمالها على هذا الوجود ، واخرى يعتبر باعتبار الوجود الساري ، فكلّ واحد واحد ممّا ينطبق عليه عنوان السورة قد اعتبر مستقلّا كونه في الصلاة على نحو «تواضع للعالم» و «لا تشرب الخمر» وثالثة يعتبر باعتبار مجموع الوجودات من حيث المجموع ، فلو أتى بالجميع إلّا واحدا لم يأت بالمركّب.

ويتصوّر هذه الأنحاء في الشرط ، فقد يكون الشيء باعتبار صرف الوجود شرطا ، يعنى لا بدّ أن يصير وجود العنوان الفلاني مرتبطا بالصلاة مثلا ، وتصير الصلاة متقيّدة به ، وقد يكون باعتبار الوجود الساري. فكلّ وجود وجود يكون له ارتباط مستقل وتقيّد على حدة ، فيجب ارتباط الصلاة بكلّ منها على الاستغراق ، وقد يكون باعتبار مجموع الوجودات من حيث الاجتماع ، فيتقيّد الصلاة بذاك المجموع.

ويتصوّر هذه في المانع ، فقد يكون صرف وجود الشيء مانعا بمعنى أنّه اعتبر ارتباط المركّب بعدم وجود عنوان كذائي معه ، وقد يكون وجوده الساري ، بمعنى أنّه اعتبر تقيّد الصلاة بعدم كلّ وجود وجود معها وفي ضمنها.

وفي هاتين الصورتين لا بد من ترك جميع الافراد ، والفرق بينهما يظهر في

١٨١

ما لو اضطرّ إلى لبس جزء غير المأكول في الصلاة مثلا ، فعلى الأوّل لا يفرق بين الزيادة والنقيصة ، وعلى الثاني لا بدّ من الاقتصار على ما يندفع به الضرورة وعدم التجاوز ، لفرض تعلّق النهي المنعي بكلّ فرد فرد مستقلّا ، والضرورة إنّما يتقدّر بقدرها ، وقد يكون المجموع من حيث المجموع أي اعتبر ارتباط الصلاة بعدم المجموع ، فيلزم حينئذ ترك الواحد ، هذه أنحاء التصوّرات في الكبرى.

وأمّا مقام الشكّ في الصغرى من كلّ من هذه الأقسام ، فنقول : لو علمنا أنّ السورة مثلا جزء للصلاة بمعنى لزوم تحقّق أصل وجودها فيها ، وشككنا أنّ سورة كذا من سور القرآن أو لا؟ فهذا شكّ في سقوط التكليف بعد العلم بثبوته ، وقاعدته الاشتغال وعدم الاكتفاء بهذا الفرد المشكوك ولزوم الإتيان بالمعلوم ، وهكذا الكلام في الشرط بعينه.

ولو علمنا بأنّ السورة جزء بوجودها الساري وشككنا في أنّ هذا سورة أو لا ، فالأصل فيه البراءة ؛ لأنّ هذا الشكّ له حيثيتان ، حيثيّة كونه موضوعيّا ، ومن هذه الجهة يشترك مع الشبهة الموضوعيّة في التكليف النفسي ، كما لو شكّ بعد ورود : «تواضع للعالم» في أنّ زيدا عالم أو لا ، ولا يشكّ في جريان البراءة فيه ؛ لأنّه شكّ في التكليف ، والعقاب عليه بلا حجّة ؛ إذ لا فرق في انعدام الحجّة وقبح العقاب بين الجهل بالكبرى أعني أصل وجوب تواضع العالم وبين الجهل بالصغرى مع الفراغ عن الكبرى ، كما مع العلم بوجوب التواضع والشكّ في عالميّة هذا الشخص ، ولا مسرح حينئذ لتوهّم أنّ البيان الذي كان وظيفة المولى وهو رفع الجهل من أصل الحكم أعني الكبرى قد تمّ ، والشكّ الذي نشأ من الامور الخارجيّة ليس الشارع فيه مرجعا ، فلا يرتبط به فيكون عقابه عقابا مع تمام البيان من قبله ، فإنّه لا فرق في قبح العقاب بلا بيان بين كون البيان ممّا هو من وظيفة المولى وما ليس كذلك، وفي القسمين ملاك القبح موجود ، ولا اختصاص له بخصوص الأوّل كما هو واضح لمن راجع عقله ووجدانه ، وبالجملة ، في هذه الحيثيّة التي هي حيث كون الشبهة موضوعيّة يقتضي البراءة وليست مقتضية

١٨٢

للاحتياط ، وإلّا لوجب المصير إليه في الشبهة الموضوعيّة المحضة.

والحيثيّة الاخرى حيث كونها شبهة بين الأقلّ والأكثر ، لأنّا لو فرضنا حصر أفراد الطبيعة المأمور بها بالأمر الجزئي في أحد عشر ، عشرة منها معلوم الفردية وواحد مشكوك فقد علمنا أنّ صلاتنا المطلوبة صارت مركّبة من هذا وهذا وهذا مشيرا إلى الأفراد المعلومة ، ولكن نشكّ في أنّها مركّبة من هذا المشكوك أيضا وهو أيضا جزئها أو لا ، وقد فرغنا في الشبهة الممحّضة بين الأقلّ والأكثر من كون الأصل فيها البراءة للانحلال ورجوع الشكّ إلى الشكّ البدوي في التكليف بالأكثر ، فيكون قاعدته البراءة ، ولا يعقل في مورد اجتماع الحيثيّتين اللتين كلّ منهما منفردة مقتضية للبراءة أن يؤثّر وصف اجتماعهما في الاحتياط ، هذا هو الكلام في الجزء ، وبعينه جار في الشرط.

ولو اعتبر العنوان باعتبار مجموع الوجودات من حيث المجموع جزءا أو شرطا فشككنا أنّ الشيء الفلاني من مصاديق ذاك العنوان أو لا؟ فأصله أيضا هو البراءة ، لأنّا نعلم أنّ الأمر الجزئي أو الشرطي تعلّق بمجموع من الأشياء التي ينطبق عليها العنوان الخاص ، ولكن لا نعلم أنّه هذه العشرة أو هي مع الحادي عشر ، فالشكّ راجع إلى تقيّد الصلاة مثلا أو تركّبه من الشيء الحادي عشر ، فيجتمع في هذه الشبهة أيضا الحيثيّتان المتقدمتان وكلاهما مقتض للبراءة فلا يحدث باجتماعهما حكم جديد ، هذا تمام الكلام في الشرط والجزء.

وأمّا المانع فقد يعتبر في الصلاة مثلا ارتباطها بعدم أصل الطبيعة ، وقد يعتبر بعدم كلّ وجود ، وقد يعتبر بعدم مجموع الوجودات. فلا إشكال في القسم الأخير وإن كان مجرّد فرض لا واقع له في الشرعيّات ، كما لو فرض الحكم بمانعيّة جميع أفراد جزء غير المأكول من الأرنب والهرّة وغيرهما بصورة الاجتماع بحيث لم يضرّ وجود واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ، بل ما دام ناقصا عن المجموع بواحد ، فلو شككنا في جلد خاص أنّه جلد الأرنب أو الغنم فلا يجوز الاكتفاء بعدمه في الصلاة مع فرض وجود تمام الباقي فإنّه يشكّ حينئذ في تحقّق عدم المجموع

١٨٣

بعدم هذا الجلد المشكوك وعدمه بعد اشتغال الذمّة بذاك العدم ، فلا يفرغ الذمّة إلّا مع العلم بالبراءة والفراغ ، وهو يتوقّف على ترك لبس واحد من الجلود المعلومة كونها من غير المأكول ، فالأصل هو الاحتياط بلا إشكال ، وهذا القسم كما عرفت غير واقع.

وأمّا القسمان الآخران فهما محلّ التشاجر والكلام في الموانع الشرعيّة أنّها من أيّ منهما ، أحدهما اعتبار الوجود السرياني ، والآخر صرف الوجود ، فقوله : لا يجوز الصلاة في جلد غير المأكول ، هل هو بمعنى أنّ كلّ فرد من جزء غير المأكول وجد في الدنيا فقد تعلّق به الحكم المزبور بالاستقلال ، أو أنّ الحكم مختصّ بصرف وجود هذه الطبيعة المتوقّف عدمه على عدم جميع الأفراد.

والحقّ كون النهي المنعي كالنفسي ظاهرا في الأوّل ، ويظهر الثمرة في حال الاضطرار ببعض من الأفراد ، فعلى الأوّل يتقدّر الجواز على قدر الضرورة ، ولا يجوز التعدّي إلى غيره لأن غيره منهيّ مستقلّ ، وعلى الثاني يباح جميع الأفراد بالاضطرار إلى واحد ، وكيف كان فالمهمّ التكلّم في صورة الشكّ الموضوعي من القسمين.

فنقول : لو شككنا في القسم الأوّل كما لو علمنا أنّ الصلاة مقيّدة بعدم جزء غير المأكول باعتبار وجوده السرياني مطلوبة ، بحيث كلّ فرد من جزء غير المأكول متى وجد يتعلّق به هذا الحكم مستقلّا ، ولكن شككنا في الجلد الخاص أنّه من الأرنب أو الغنم ، فهذا راجع إلى الشكّ في الأقلّ والأكثر من جهة أنّ التقيّد بالعنوان بهذا النحو يرجع إلى تقيّدات بعدد الأفراد ، فالصلاة متقيّدة بعدم جلد الأرنب وعدم جلد الهرّ وهكذا ، وإن كان هذا المشكوك أيضا من غير المأكول فالصلاة متقيّدة بعدمه أيضا.

فالشكّ له حيثيّتان ، من إحداهما يصير نظير الشكّ في أنّ المائع الخاصّ خمر أو لا ؛ إذ كما أنّ أصل حكم لا تشرب الخمر معلوم والشكّ في كون هذا خمرا ، كذلك هنا أيضا «لا تلبس جلد غير المأكول» معلوم والشكّ في كون الجلد

١٨٤

الخاص من غير المأكول ، وقد قلنا في النهي النفسي أنّ الشكّ في الصغرى يوجب البراءة ، ولا فرق بينه وبين الشكّ في الكبرى ، ومن جهة اخرى يصير كالشكّ في تقيّد الصلاة بشيء بالشكّ الحكمي ، فإنّه يعلم تقيّد الصلاة بعد انحلال التقيّد بالعنوان إلى التقييدات المتعدّدة بهذا وذاك وذاك ويشكّ في تقيّدها بهذا المشكوك فيكون نظير الشكّ في المطلق والمقيّد ، وقد قلنا : إنّ حكم العقل فيه البراءة ، فالشكّ هنا اجتمع فيه الموضوعيّة والدوران بين المطلق والمقيّد وكلّ منهما منفردا يقتضي البراءة ، فكذا مع الاجتماع ، وهذا منقول من الميرزا الشيرازي قدس‌سره.

ولو وقع الشكّ في القسم الآخر أعنى ما إذا تعلّق النهي بصرف الوجود ، فقد يقال فيه أيضا بالبراءة مثل الصورة المتقدّمة ، بل نقل الاستاد من سيّده الاستاد ـ طاب مضجعه ـ إصراره عليه حتّى عدّه في النهي النفسي من البديهيّات التي لا يصلح أن يتفوّه بخلافه واحد من أهل العمائم ، وتقريبه أن يقال : إنّ النهي وإن تعلّق بصرف الوجود ، ولكن تعيّن صرف الوجود إنّما يكون بالمصداق ، فلو كان هنا مصداق واحد كان لصرف الوجود تعيّن واحد ، فيصير هو متعلّقا للنهي ، وإن كان له مصاديق كان له تعيّنات ، فيقع تلك المصاديق تحت النهي لأنّها تعيّنات صرف الوجود وهو عينها ومتّحد معها ، فالنهي المتعلّق به متعلّق بها ، فينحلّ أيضا إلى تقيّدات عديدة.

مثلا قوله «لا تشرب الخمر» لو فرض اعتباره بمعنى أن يكون المقصود طلب أن لا يصدر من المكلّف شرب هذه الحقيقة ، فهذه الحقيقة متعيّنة في هذا المائع وفي هذا ، إلى آخر مصاديقه ، فكلّ منها يصير مبغوضا ببغض واحد ومنهيّا بنهي واحد ، فهنا يرجع إلى الأقلّ والأكثر من جهتين ، الاولى من جهة تقيّد الصلاة بعدم الفرد المشكوك ، والثانية من جهة تعلّق نفس النهي بما عداه أو بالمركّب منه.

وبعبارة اخرى : إنّا نسلّم أنّ الأمر أو النهي إذا تعلّق بمفهوم مبيّن وشكّ في محصّل هذا المفهوم في الخارج أنّه أمر كذا أو مع ضمّ كيفيّة خاصّة فالأصل فيه

١٨٥

الاحتياط ؛ لأنّه مقتضى العلم بالاشتغال ، إلّا أنّه مخصوص بصورة كون المفهوم الذي وقع تحت الحكم مسبّبا عن المحصّل بحيث لم يرتبط حكمه بمحصّله مثل الطهارة ، فإنّها حالة نفسانيّة ومحصّلها الغسلتان والمسحتان ، فلو شكّ أنّ الغسل من الأعلى إلى الأسفل أيضا له دخل في حصول طهارة النفس لزم مراعاته لعدم العلم بحصول الطهارة المأمور بها بدونه ، وهذا بخلاف المقام ، حيث إنّ المحلّ والمركب للحكم أوّلا وإن كان أيضا مفهوما مبيّنا ، ولكن يصير بعد التطبيق ، المحلّ والمركب له نفس المصاديق ، فالشكّ في المصداقيّة يكون شكّا في نفس محلّ الحكم لا في محصّله بعد تبيّن نفسه ، فالأصل فيه البراءة لعين ما تقدّم في الصورة السابقة ، غاية الأمر أنّ الرجوع إلى الأقلّ والأكثر كما عرفت يكون هنا من جهتين.

وهذا أيضا يظهر من آية الله الخراساني طاب ثراه (١) حيث إنّه في مبحث الصحيح والأعمّ بعد ما اختار الوضع للصحيح وعدم الجامع بينه وبين الفاسد وثبوته بين الأفراد الصحيحة استشكل على وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة بأنّ المشهور مع ذهابهم إلى الوضع للصحيح اختاروا البراءة في بحث الأقلّ والأكثر مع أنّ مقتضى ذلك أن يكون الأصل هو الاحتياط لأنّ المأمور به وهو الأمر البسيط الوحداني الصادق على الأفراد الذي من أثره النهي عن الفحشاء يجب تحصيله ، ومع عدم الشرط المشكوك أو الجزء المشكوك يشكّ في حصوله ، ثمّ أجاب بأنّه يمكن القول بالبراءة مع اختيار هذا الجامع بالفرق بين باب الأسباب والمسبّبات والامور التوليديّة مثل الطهارة ، حيث إنّها عنوان يتولّد من الغسلتين والمسحتين ، فالشكّ فيها يكون مرجعه الاحتياط للجزم بالفراغ ، وبين ما إذا لم يكن المأمور به والمحصّل من هذا الباب وكان من باب المنطبق والمنطبق عليه ، فحينئذ يكون الشكّ في نفس محلّ الأمر ، فيكون الأصل فيه البراءة على ما قرّر في الأقلّ والأكثر.

__________________

(١) لكن صرّح بخلافه ولزوم الاحتياط في الجلد الثاني من الكفاية في التنبيه الثالث من تنبيهات أصالة البراءة ، منه قدس‌سره الشريف.

١٨٦

هذا ما ذكراه هذان العلمان الاستادان قدس‌سرهما ، ونقل الاستاد دام ظلّه مساعدة استاده الميرزا محمّد تقي الشيرازي دام ظلّه وعمره أيضا لذلك ، فذهب دام ظلّه إلى أنّ النهي ليس بمؤثّر في المصاديق المشكوكة مطلقا إلّا مع العلم الإجمالي.

وهم دفع

أمّا الوهم حيث إنّ ما نقلناه عن السيّد قدس‌سره من اختيار البراءة في النهي المتعلّق بصرف الوجود عند الشبهة الموضوعيّة مستدلّا بكون الأفراد تحصّلات وتشخّصات وتعيّنات للطبيعة ، فيسري النهي عن الطبيعة إليها واضح المنافاة لما نقله الاستاد عنه قدس‌سره في مبحث اجتماع الأمر والنهي من اختيار جواز اجتماعهما مستدلّا بأنّ صرف الوجود لطبيعة الصلاة مثلا قد صارت متعلّقة للأمر وهي مباينة للأفراد ، وكذلك الوجود الساري لطبيعة الغصب صار محلّا للنهي ، فلا يرتبط أيضا بالوجودات الخاصّة للأفراد.

فقد يتوهم دفعا لهذه المنافاة الواضحة بين كلامي السيّد أنّ هنا فرقا بين الأفعال الواقعة تحت التكاليف بلا واسطة وبين الموضوعات الواقعة تحتها بواسطة الأفعال مثل الخمر ، من جهة أنّ الوجود المعتبر في الأفعال يكون بمعنى الصورة الذهنية الحاكية عن الخارج ، فيلاحظ كأنّ الخارج ظرف نفس تلك الأفعال ، وأمّا اتّصافها بالوجود في الخارج بحيث كان الخارج ظرفا لوجودها فإنّما يطلب بالأمر تحصيله أو بالنهي الردع عنه ، والجملة ، هذا داخل في المحمول أعني التكليف لا في الموضوع وإلّا يلزم طلب الحاصل أو الردع عن الحاصل.

وأمّا الوجود المعتبر في الموضوعات المتعلّقة لتلك الأفعال مثل الخمر واللباس والسورة والطهارة وغير ذلك فالمراد به المعنى الثاني ، فالخمر المفروغ عن وجودها في الخارج بحيث كان الخارج ظرف وجودها لانفسها إمّا محقّقا أو مقدّرا يتعلّق بها طلب ترك الشرب ، وهكذا سائر الموضوعات.

١٨٧

فالكلام في مبحث الاجتماع حيث إنّه في الأفعال وعرفت أنّ الوجود الخارجي بالمعنى الثاني غير معتبر فيها فاختار السيّد هناك الجواز ، وإلّا فلو كان موضوع ذلك المبحث في الأعيان والموضوعات لتعيّن القول بالامتناع ، لما عرفت من أنّ الوجود المعتبر فيها هو ما كان الخارج ظرفا لوجود الملحوظ لا لنفسه ، وأمّا في مقامنا أعني الشبهة الموضوعيّة في الطبيعة المعتبرة بنحو صرف الوجود مانعا في المأمور به ، فحيث إنّ موضوع البحث هو الأعيان مثل جزء غير المأكول والمحمول النجس وغير ذلك فلهذا اختار قدس‌سره هنا البراءة ، وإلّا فلو كان موضوعه هو الأفعال لتعيّن القول بالاشتغال ، وذلك لأنّ لازم أخذ الوجود بالنحو المعتبر في الأفعال عدم سراية الغرض من الطبيعة إلى أفرادها الخارجيّة ، ولازم هذا هو القول بالجواز في مبحث الاجتماع والاشتغال في هذه الشبهة الموضوعية ، ولازم أخذ الوجود بالنحو المعتبر في الموضوعات سراية عرض الطبيعة إلى الأفراد ولازمه القول بالامتناع في مبحث الاجتماع ، والبراءة في هذا المقام.

وأمّا الدفع فبعد عدم اختصاص كلّ من المبحثين بما ذكره ـ بل يجري الكلام في كلّ منهما في الأفعال وفي الموضوعات كما هو واضح ـ نقول : وإن كان ما ذكره من الفرق بين الأفعال والموضوعات في أخذ الوجود المعتبر فيها حقّا لا محيص عنه ، ولكن ما فرّعه على هذا الفرق ممنوع غاية المنع.

تفصيل الكلام في المقام أن يقال : اعلم أنّه فرق بين الفعل الصادر من المكلّف الواقع مركبا ومحلّا للأوامر والنواهي ، وبين موضوعات تلك الأفعال مثل أمّهاتكم في قوله تعالي : «حرّمت عليكم أمّهاتكم» بعد تقديره بالنكاح وكذلك الخمر وسائر الموضوعات ، والفرق أنّ الفعل يكون في ذهن المريد عاريا عن الوجود والعدم ، وإنّما يكون إعطاء الوجود له في ما يستقبل ملحوظا للمريد ، إمّا محبوبا وإمّا مبغوضا ، بمعنى أنّ هذا داخل في مفاد هيئة الأمر والنهي.

ولا ينافي ذلك ما قرّر في محلّه من لزوم اعتبار الوجود الخارجي مع الطبيعة

١٨٨

لتصحيح وقوعها تحت الطلب ، حيث إنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، ولا يعرضه شيء من الأشياء ولا يتّصف بوصف من الأوصاف ، وذلك لأنّ اعتبار الوجود الخارجي غير الفراغ عنه ، فلا يلزم طلب إيجاد الموجود أو طلب عدم إيجاد الموجود ، بل الطبيعة التي نراها في الخارج ، وبعبارة اخرى يوجد في الذهن على وجه الحكاية عن الخارج.

وإن شئت قلت : إنّ الخارج في هذا اللحاظ ظرف نفسها ، لا أنّ الخارج يرى ظرف وجودها قد يتعلّق بها طلب الايجاد في الخارج وقد يتعلّق طلب عدم الإيجاد ، فإنّ الطبيعة على الوجه المزبور يكون قابلا لعروض الوجود الخارجي والعدم الخارجي.

هذا في الفعل ، وأمّا الموضوع فينظر إليه بالنظر الحكائي عن الخارج ، ومع الفراغ عن الوجود والتحقّق في الخارج ، وينشأ الطلب بعد هذا اللحاظ ، فيكون منوطا ومشروطا بوجود الموضوع ، فلو لم يكن في الدنيا خمر مثلا فلم يتحقّق طلب لعدم تحقّق اللحاظ الذي صار الطلب منوطا به ، والحاصل أنّ الخمر المرئي موجودا في الدنيا إمّا محقّقا وإمّا مقدّرا يطلب من المكلّف عدم شربه ، فهنا يرى الخارج ظرفا لوجود الموضوع لا لنفسه فقط.

ثمّ اعلم أنّ هذا الفرق لا يوجب فرقا في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ولا في البراءة في الشكّ الموضوعي من الأقلّ والأكثر أو الحكمي في الفعل أو في الموضوع والاشتغال.

ووجه ذلك أنّ ملاك جواز الاجتماع هو تمايز موردي الأمر والنهي ، فإن كان تمايز حتّى في صورة كون المورد فردا بحيث أمكن حفظ الفرديّة مع التمايز والتعدّد في الذهن فلا فرق بين أن يكون الوجود الخارجي مفروغا عنه أو لم يكن ، وملاك البراءة والاشتغال هو تعدّي الطلب من الجامع إلى الفرد وعدمه.

فإن قلنا بالتعدّي إلى الفرد فهنا مورد البراءة ، وإن كان ذلك في الفعل الذي ليس الوجود فيه مفروغا عنه كما في العبادة على القول بالوضع للصحيح ووجود

١٨٩

القدر الجامع لدى الشكّ في الأجزاء والشرائط ، وإن قلنا بعدم التعدّي كما هو الحقّ كان المجرى للاشتغال وإن كان ذلك في الموضوع الذي فرغ عن وجوده ، وحاصل الكلام أنّ هنا ستّة أقسام ، ثلاثة في الفعل وثلاثة في الموضوع ، اعتبار مجموع الوجودات من حيث المجموع في الفعل ، واعتبار الوجود الساري فيه ، واعتبار صرف الوجود فيه ، واعتبار هذه الثلاثة في الموضوع.

فالتمايز الذي هو ملاك جواز الاجتماع موجود في كلّ هذه الأقسام حتى في اعتبار الوجود الساري في الموضوع ، فإنّ الموضوع حينئذ وإن اعتبر الوجودات الخارجيّة المتعيّنة الخاصّة المفروغ عن وجودها في الخارج ، إلّا أنّه يمكن تعرية الفرد في الذهن عن بعض الخصوصيّات مع بقاء كونه فردا ، فالمانع الشخصي يمكن الإشارة فى الذهن إليه بشخصيّته ، لكن بعنوان أنّه خمر وهو مغاير عن الإشارة إليه بعنوان أنّه مائع أو أحمر أو غير ذلك من الخصوصيّات.

ومن ذلك يعلم جريان ملاك الجواز في جميع الأقسام الستّة ، واعتبار صرف الوجود في الفعل أو الموضوع إن قلنا بتعدّي حكمه إلى الوجودات المتعيّنة الخاصّة كما هو خلاف التحقيق لا يزيد عن ذلك أيضا.

وكذلك لا فرق بين الأقسام في الأصل العقلي عند الشكّ الموضوعي أو الحكمي في الأقلّ والأكثر ، لأنّه إن كان موضوع الحكم مجموع الوجودات الخاصّة فالأصل في الشكّ الموضوعي أو الحكمي يقتضي البراءة في جانب الأمر من غير فرق بين الفراغ عن الوجود الخارجي كما في موضوع العمل وبين عدمه كما في نفس العمل ، ويقتضي الاشتغال في جانب النهي في الفرد المشكوك من غير فرق بين القسمين ، وإن كان الموضوع للحكم هو الوجود الساري كان الأصل البراءة في الفرد المشكوك في طرف الأمر والنهي سواء في الأفعال أم في موضوعاتها.

وإن كان هو صرف الوجود المنتزع من الوجودات الخاصّة عند التحليل فعلى المبنيين في المسألة لا يختلف الحال بين الفعل والموضوع أيضا ، فإن بنينا على أنّ الطلب إذا تعلّق بالوجود الجامع بين الوجودات الخاصّة وهو في ظرف التحليل

١٩٠

مغاير للخصوصيّات ، فلا وجه لعروض العارض الذي يعرضه في هذا الظرف على الخصوصيّات مع وجود التغاير ، فالأصل الاشتغال في كلا المقامين كما هو الحقّ.

وإن بنينا على أنّ هذا الوجود الجامع لمكان انطباقه على الأفراد وكونها تعيّنات وتشخّصات وتحصّلات لها فلا محالة يعرض عرضها على تلك التعيّنات لمكان العينيّة ، فالعرض الذي يكون للإنسان الذي هو الجامع يكون لزيد وعمرو وبكر ، لأنّها أفراده وليس له تشخّص غيرها ، نعم المعروض يكون هذه الأشخاص بما هم إنسان لا بما هم تعيّنات لعنوان آخر ، فالأصل يكون البراءة من غير فرق بين المقامين أيضا ، فعلم أنّ العمدة في المقام أعني في مقام تشخيص الأصل العقلى هو تحقيق الحال في هذين المبنيين ، وحيث رجّحنا المبنى الأول فالأصل هو الاشتغال حتى في الموضوعات.

فعلم أنّه لا مفرّ عن الاشتغال في بحث الصحيح والأعمّ على تقدير القدر الجامع للصحيح لدى الشكّ في الشرط والجزء ، ومن هنا يعلم عدم إمكان ذبّ الإشكال عن السيّد قدس‌سره ، ويظهر تحقيق الحقّ في مقامنا أيضا بعد اتّحاد الملاك في هذا المقام ومبحث الاجتماع.

فنقول توضيحا لما هو الحقّ في هذه المسألة من الاشتغال أنّ الانطباق غير مجد في صيرورة نفس الأشخاص محلّا للطلب ، ووجه ذلك ما مرّ في بحث الاجتماع ، ومحصّله أنّ الحكم باتحاد شيء مع شيء لا يمكن الّا مع التغاير بينهما ولو في مجرّد المفهوم كما في الحمل الذاتي مثل «الإنسان إنسان» حيث لا يعقل الحكم بالاتحاد بدون التغاير رأسا ، ولا منافاة بينهما حيث إنّهما بنظرتين ، غاية الأمر في الحمل الذاتي لا تغاير سوى في المفهوم ، وأمّا في الصناعي فلا بدّ من ملاحظة تفصيليّة تشريحيّة تحليليّة ، بأن ينتزع شيء وحداني بسيط من أمر آخر كانتزاع أصل الإنسانيّة من زيد وعمرو وبكر ، ثمّ اتباع هذه الملاحظة باللحاظ الاندماجي الإجمالي ، وبدون هاتين الملاحظتين المترتبتين الطوليتين لا يصحّ الحمل الصناعي أصلا.

١٩١

وحينئذ فإذا عرض على الطبيعة في لحاظ انفكاكها عن الفرد عارض فلا وجه لسرايته إلى الفرد ، لمكان التغاير بينهما في هذا اللحاظ ، وبهذا يسهّل الخطب في كثير من المواضع ، ألا ترى أنّ وجود الإنسان بما هو وجود الإنسان متّصف بالتعدّد والكثرة ، وبالنوعيّة والكليّة، مع أنّ شيئا من أفراده لا يتّصف بالتعدّد والكليّة؟ وعلى هذا يبتني حكمهم في بيع الصاع الكلّي من الصبرة بأنّه لا يملك شيئا من الخصوصيّات ، بل تمامها باق في ملك البائع، وعليه فرّعوا كون التلف في مال البائع ما بقي في الصبرة ما اشترى المشتري.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا تعلّق الأمر بإكرام العالم وانحصر أفراد العالم في عشرة معلومة وواحد مشكوك ، وعلم أنّ المراد أصل الإكرام لطبيعة العالم باعتبار صرف وجودها الغير القابل للوحدة والتعدّد فمقتضى العلم بالاشتغال بهذا المعنى الجزم بإتيانه بإكرام واحد من معلومي العلم ، ولا يكفي في حكم العقل الإتيان بذاك الواحد المشكوك ، وكذلك في النهي لو قال : لا تشرب الخمر ، وعلم أنّ غرضه أصل طبيعة الخمر بلحاظ صرف وجودها الناقض للعدم ، فلا محالة يتوقّف على ترك جميع ما يحتمل كونه فردا لهذه الطبيعة ، لأنّه مقتضى مأخوذيته ومشغوليّته بنفس الطبيعة ، فلا بدّ من القطع بعدم حصولها في الخارج ، كما لا بدّ في الأمر من القطع بحصولها فيه ، غاية الأمر في طرف الوجود يكفي وجود واحد من الأفراد ، وفي طرف العدم لا بدّ من عدم تمام الأفراد ، فكما لا يجوز في طرف الوجود الاكتفاء بوجود الفرد المشكوك فلا يجوز الاكتفاء في طرف العدم بعدم ما عداه ، بل لا بدّ من تحصيل الجزم في كلا المقامين بالاقتصار على الفرد المعلوم دون المشكوك في الأوّل وترك المعلوم والمشكوك معا في الثاني.

والقول في الثاني بأنّه مع ترك المعلوم يشكّ في أنّه مكلّف بترك المشكوك أيضا وأنّ تكليفه هل تعلّق بالعشر أو بأحد عشر ، فلا يجب عليه سوى القدر المتيقّن وقد أتى به ، والحادي عشر مشكوك بدوي والأصل البراءة منه ، فاسد بما عرفت من أنّه لا يستقيم مع ما ذكرنا من عدم ارتباط الطلب بعالم الخصوصيات و

١٩٢

الأفراد وأجنبيّتها عنه بالمرّة.

فالمطلوب شيء آخر وهو الإيجاد المتعلّق بأصل الطبيعة أو الترك المتعلّق بها ، فلو أتى بالفرد المشكوك في الثاني وكان في الواقع فردا ، فللمولى أن يؤاخذه بأنّه قد طلبت منك ترك شرب تلك الطبيعة وقد علمت بذلك ، فلم أتيت بها؟ وليس للعبد أن يقول : إنّي علمت منك تحريم شرب هذا وهذا وهذا وقد تركتها ، وأمّا هذا المائع الذي شربته فلم يصل إلىّ حرمته ؛ لأنّه يقول : ما ذكرته وعددته أجنبيّ بالمرّة عمّا تعلّق به إرادتي ونهيي وإنّما نهيتك عن شرب طبيعة الخمر وهي مفهوم مبيّن ، وعلمت بصدور هذه الإرادة منّي ، فلم يكن عقابي عقابا بلا حجّة ؛ إذ طبيعة الخمر وإن كانت يتّحد مع الخصوصيّات لكن وقع تحت إرادتى عند التحليل والتفصيل ، وفي هذا اللحاظ ميز واضح بينها وبين الخصوصيّات ، فكما يتّصف في هذا اللحاظ بالمحموليّة من دون سرايتها إلى الخصوصيّات فكذلك اتّصفت في هذا اللحاظ أيضا بإرادتي فلا ربط لإرادتي أيضا بالخصوصيّات ، فليس الخصوصيات سوى محصّلات لما هو المراد دون أنّها نفس المراد.

فالشكّ الموضوعي والشكّ بين الأقلّ والأكثر إنّما هما في محصّل المراد ، والمراد معلوم لا شبهة ولا إجمال فيه ، فليس هنا مقام الأخذ بالمتيقّن وطرح ما زاد ، وأظنّ أنّ هذا بمكان من الوضوح وإن خفي على الأساتيد قدّس الله تربة ماضيهم وأطال عمر باقيهم.

هذا كلّه بحسب الأصل في المسألة ، وقد عرفت أنّه في صورة يكون البراءة وفي اخرى يكون الاحتياط.

وأمّا تحقيق أنّ الواقع أيّ من هاتين الصورتين أعني تعلّق النهي بالوجود السرياني أو بصرف الوجود ، فالحقّ أنّ صيغة «لا تفعل» ظاهرة في الوجود السرياني من غير فرق في ذلك بين النهي النفسي والغيري ، ولعلّه في النفسي ممّا لا ينكر ، ولهذا نرى أنّ محرّمات الشريعة من الزنا والغناء والربا وغيرها كلّها من هذا القبيل ولا يوجد فيها ما كان النهي فيه صرف الوجود بحيث لو اضطرّ إلى

١٩٣

ارتكابه لم يتفاوت دفع الضرورة بالزائد والناقص ، ولا فرق ظاهرا بينه وبين النهي المسوق لبيان المانعيّة.

فإذا قيل : لا تفعل كذا في صلاتك يفهم منه أنّ كلّ وجود منه مضرّ بالصلاة ، لا بمعنى أنّه لو كرّره المصلّي فقد أتى بمبطلات بقدر ما كرّر ، بل المبطل هو الوجود الأوّل ، والبقيّة ليست متّصفة بالمبطليّة الفعليّة ، لأنّ الصلاة الواحدة لا تتّصف بأزيد من بطلان واحد ، بل بمعنى أنّ ملاك المانعيّة والمبطليّة موجود في جميع وجوداته حتى تظهر ثمرته في ما ذكر من الاضطرار ؛ إذ يلزم الاقتصار حينئذ على قدر ما يندفع به الضرورة.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكم في المسألة الماهوتية بعد كون النهي عن لبس جزء غير المأكول في الصلاة ظاهرا في الوجود الساري وكون الأصل في الشكّ الموضوعي من هذه الكبرى هو البراءة هو جواز الصلاة في الماهوت وأمثاله ، هذا.

وربّما يمنع ذلك في خصوص هذه المسألة مع تسليم أصل المطلب ، فيمنع كون جزء غير المأكول من جملة الموانع للصلاة ويقال : بل كون اللباس عن جزء المأكول من جملة الشرائط ، وذلك لأنّ الأصل في هذا الباب موثّقة ابن بكير وفي ذيلها بعد بيان فساد الصلاة في أجزاء غير المأكول قال : «لا يقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله» وهذا مفيد للشرطيّة بظاهره.

نعم ليس ذلك من الشرائط المطلقة بحيث تبطل الصلاة بفقدانه مطلقا ، بل في خصوص حال إرادة لبس الحيواني فشرطيّة المأكوليّة معلّقة على ذلك ، فيكون الحاصل أنّ المصلّي لو أراد لبس الحيواني فيعتبر كون لباسه من جزء مأكول اللحم ، وإذن فبعد ما احرز من حال المصلّي أنّه لابس الحيواني في الصلاة فلا بدّ له من إحراز هذا الشرط الذي كون اللباس من المأكول كما في سائر الشرائط التي لا بدّ من إحرازها ، وتبطل الصلاة بالشكّ فيها ، فيصير المحصّل بطلان الصلاة في الماهوت وسائر المشكوكات.

ولكنّ لإنصاف أنّ المستفاد من الرواية المذكورة خلاف ما توهّم وذلك لأنّه

١٩٤

قد ذكر في صدرها أنّ الصلاة في وبر وشعر وجلد وبول وروث وكلّ شيء ممّا لا يؤكل لحمه فاسد ، ثمّ ذكر بعد هذه الفقرة على وجه التفريع عليه والمتمّم له لا على وجه الاستيناف والإتيان بجملة مستقلّة أنّه : «لا تقبل الصلاة حتّى يصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله» ولا يتوهّم العرف في أمثال ذلك إلّا تتميما للحكم السابق لا تأسيسا لمطلب جديد ، وإذن فالحكم تابع لما يستفاد من الصدر وهو المانعيّة.

والحاصل أنّا نسلّم أنّ العبارة المذكورة في الذيل لو خلّي وطبعها ظاهرة في شرطيّة المأكوليّة ، ولكن نقول : إنّ ظهور الصدر فى مانعيّة عدم المأكوليّة ووضوح كون الذيل تتمّة للصدر وتفريعا له يمنع عن أخذ هذا الظاهر بجعل ظهور الصدر مقدّما عليه.

وإن أبيت إلّا عن كون الذيل حكما برأسه من دون ربط له بالصدر فنقول حينئذ : لا بدّ من الأخذ به وبظاهر الصدر أيضا ، فيتحصّل من الرواية بمقتضى الصدر والذيل شيئان : مانعيّة غير المأكول ، وشرطيّة المأكول ، فمن كان عليه الأوّل فقط كان واجدا للمانع وفاقدا للشرط ، ومن كان عليه الثاني فقط كان واجدا للشرط فاقدا للمانع ، ومن كان عليه كلا الأمرين كان واجدا للشرط والمانع معا.

وحينئذ فنقول في مورد الشكّ في مأكوليّة اللباس الخاص وعدمها : إنّه أمّا من حيث مانعيّة غير المأكول فقد ذكرنا أنّ الأصل يقتضي البراءة وجواز الصلاة ، وأمّا من حيث شرطيّة المأكول فيكفي في إحراز هذا الشرط أخذ المصلّي معه شيئا من أجزاء المأكول في حال الصلاة مع ذلك اللباس المشكوك ، فلا يلزم من ذلك عدم جواز الصلاة في المشكوك، بل عدم الاكتفاء به في حصول الشرط ولزوم إضافة ما علم كونه من المأكول إليه ؛ إذ بعد ذلك تصير الصلاة فاقدة للمانع بالأصل ، وواجدة للشرط بالوجدان ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّه لم يكن الشرط إلّا أنّ المصلّي لو أراد أن يلبس ما كان حيوانيا فيلزم عليه أن يلبس ما كان من المأكول.

١٩٥

إلّا أن يأبى المتوهّم عن ذلك أيضا ويدّعي خلاف إنصاف آخر ويقول بأنّ الظاهر من الرواية أنّ ذلك شرط في كلّ ما يلبسه المصلّي حال الصلاة ، فمحصّل الشرط يرجع إلى أنّه لا يستصحب معه من جنس الساتر الحيواني شيئا إلّا ويعتبر كونه من المأكول ، وعلى هذا فلا بدّ من نزع المشكوك حال الصلاة ، لعدم إحراز الشرط في خصوصه وإن كان محرزا في خصوص شخص آخر ؛ إذ الشرط على هذا ينحلّ إلى شروط عديدة بقدر ما مع المصلّي من خصوصيّات الجنس المذكور ، وأنت خبير بأنّ هذا خلاف إنصاف في خلاف إنصاف.

والحقّ ما ذكرناه أوّلا ، ومعه لا يبقى إشكال في جواز الصلاة.

ثمّ إنّ ما يعتبر قيدا في الصلاة سواء كان من باب الشرط واعتبار الوجود أم المانع واعتبار العدم يمكن اعتباره بحسب التصوير على نحوين :

الأوّل : أن يعتبر قيدا للمصلّي نظير الطهارة ، حيث إنّ الصلاة المطلوبة صلاة من كان على وضوء ، ويمكن ذلك أيضا في عدم الكون من غير المأكول فيعتبر في الصلاة المأمور بها أن يصدر ممّن لا يكون في لباسه شيء من أجزاء غير المأكول.

الثاني : أن يعتبر قيدا لنفس الصلاة ، فتكون الصلاة المطلوبة هي الصلاة المأتي بها في حال الطهارة ، أو المقيّدة بعدم وقوعها في أجزاء غير المأكول ، هذا بحسب التصوير ، فنتكلّم في المقام تارة بحسب الاستظهار من الدليل ، وأخرى في الأصل العملي المنقّح للموضوع على كلّ من التقديرين.

ونقدّم الكلام في الثاني فنقول : لا إشكال في ما اعتبر من القيود على النحو الأوّل أي حالة في الفاعل في أنّه لو كان الفاعل متلبّسا بهذه الحالة في زمان ثمّ شكّ بعده في وجدانه لهذه الحالة وبقائها فيه يكون مقتضى الاستصحاب هو البقاء.

ألا ترى أنّ من كان على طهارة فشكّ في الحدث كان مستصحب الطهارة وتكون صلاته صحيحة ، فكذلك لو اعتبر كون الفاعل غير مستصحب لشيء من غير المأكول وكان هو كذلك في الزمان السابق وهو قبل ليس اللباس المشكوك فصار في اللاحق أي بعد لبسه مشكوكا كونه بذلك الوصف ، فمقتضى الاستصحاب

١٩٦

بقاء الوصف فيه ويترتّب على ذلك جواز الصلاة مع هذا اللباس ، لأنّه مثل الشكّ في بقاء الطهارة بعد العلم بها.

وإنّما الإشكال في ما اعتبر من القيود على النحو الثاني أي حالة في الفعل المأمور به ، فيشكل حينئذ أن يقال : كانت الصلاة قبل هذا مأتيّا بها في حال الطهارة أو متّصفة بعدم الوقوع في شيء من غير المأكول ، فالأصل بقائها على الوصفين.

لكن ربّما يقال بجواز الاستصحاب في هذا أيضا وينظّر هذا باستصحاب عدم مضريّة الصوم في اليوم السابق مع الشكّ فيها في اليوم الحاضر فإنّه لا إشكال في جريانه وجواز الإتيان بصوم اليوم الحاضر ، ولا يلزم في جريان هذا الأصل وقوع الصوم في الأمس ، بل لا يجدي ، فإنّه يقال : إنّ طبيعة الصوم كانت في اليوم السابق غير مضرّة ، فالأصل بقاء هذا المعنى فى هذا اليوم ويرتّب عليه جواز الصوم في هذا اليوم ؛ إذ ليس الشرط إلّا عدم مضريّة الصوم ، وهو محرز بالأصل ، ومثل ذلك نقول بعينه في المقام : إنّ طبيعة الصلاة فى الزمان السابق كان فى حال الطهارة أو فى غير أجزاء غير المأكول ونشكّ الآن فى بقاء هذا المعنى والأصل يقتضي بقائه.

أقول : هذا من الاستصحاب التعليقي وهو يصير فعليّا عند فعليّة المعلّق عليه ، ويمكن الخدشة فيه ، وتوضيح الخدشة ، أن يقال : إنّ هنا فرقا بين الحكم الشرعي والموضوع الخارجي ، ففي الحكم الشرعي يصير المعلّق فعليّا عند فعليّة المعلّق عليه ، لأنّ الحكم أمر موجود واقعي ، سواء كان واقعيا أم ظاهريّا ، فالحكم الظاهري فرد حقيقي للحكم الشرعي ، فكما أنّ الحرمة المعلّقة على الغليان المترتّبة على العصير الواقعي تصير فعليّة عند فعليّة الغليان، فكذلك الحرمة المعلّقة على الغليان الجائية من قبل الاستصحاب المترتّبة على العصير المشكوك أيضا تصير فعليّة بفعليّة الغليان ، فهذه الفعليّة من الآثار العقليّة المترتّبة على نفس الحكم الاستصحابي مثل وجوب الامتثال ، وهي مترتّبة على الاستصحاب بلا إشكال ، وليس هذا من الأصل المثبت الممنوع.

وأمّا الموضوع الخارجي لو كان معلّقا على موضوع خارجي آخر فلا يوجب

١٩٧

التعبّد بالمعلّق فعليّته عند فعليّة المعلّق عليه ، مثلا الماء الذي يكون على نصف الكرّ لو صبّ عليه نصف كرّ آخر يصير كرّا ، فلو شكّ فى الزمان اللاحق فى بقائه على نصف الكرّ ونقصانه عنه لا يمكن استصحاب ذلك المعنى التعليقي فيه وصبّ نصف كرّ عليه ثمّ الحكم بكونه كرّا فعلا ؛ لأنّ التعبّد بكريّته التقديرية لا يكون تعبّدا بكريّته الفعليّة عند فعليّة التقدير، بل يحتاج إلى تعبّد آخر من الشرع بكريّته الفعليّة في فرض فعليّة التقدير.

وكذلك عدم وقوع الصلاة فى جزء غير المأكول على تقدير وجود الصلاة لا يوجب استصحابه بهذا النحو فعليّته عند فعليّة وجود الصلاة ، بل يحتاج إلى تعبّد آخر من الشرع بوجوده الفعلي فى هذا الفرض.

والفرق بين الحكم والموضوع أنّ الحكم الظاهري المجعول فى مورد الشك كما عرفت فرد واقعي للحكم ، والشيء لا يعقل أن لا يصير فعليّا مع فعليّة ما هو معلّق عليه ، وأمّا الموضوع المتعبّد به فى مورد الشكّ فلا تحقّق له واقعا ، وليس التعبّد به تكوينا له ، فالتعبّد به راجع إلى التعبّد بآثاره ، فيجوز أن يتعبّدنا الشارع بموضوع تعليقي ومع ذلك لا يلزم من فعليّة المعلّق عليه فعليّة الموضوع المتعبّد به لأنّه يحتاج إلى التعبّد بالفعليّة ، فالحكم بترتّب الموضوع المتعبّد به الفعلي بواسطة التعبّد بالموضوع التعليقي يكون من الأصل المثبت.

وأمّا تنظير الاستصحاب فى المقام باستصحاب عدم مضريّة الصوم فمع الفارق ؛ لأنّ وجوب الصوم قد رتّب شرعا على نفس عدم مضريّة الصوم على تقدير الوجود ، لا على الصوم الغير المضرّ الفعلي ، وأمّا الوجوب فى المقام فقد رتّب على الصلاة فى جزء غير المأكول بما هي مقيّدة بهذا القيد العدمي ، لا على الصلاة التي لو وجدت كانت في جزء غير المأكول.

ولو شئت توضيح ذلك فى ضمن المثال فنقول : قد يجعل المتكلّم وجوب صلاة ركعتين معلّقا على قيام زيد لدى طلوع الشمس بوجوده التعليقي ، وقد يجعله معلّقا على قيامه المقرون بالطلوع ، ففي الأوّل لو علم المخاطب قبل الطلوع بتحقّق

١٩٨

القيام لديه يصير الحكم فعليّا بمجرّد ذلك ، وفى الثاني لا يصير فعليّا إلّا بعد تحقّق الطلوع والقيام ، فوجوب الصوم من القبيل الأوّل ، ووجوب الصلاة من الثاني ، ولهذا يكفي الاستصحاب التعليقي لإثبات وجوب الصوم ، ولا يكفي هنا فى الحكم بأنّ هذه الصلاة هي ما أمر بها الشارع إلّا إحراز أنّها مقيّدة بالقيد العدمي ، والاستصحاب التعليقي لا يثبت ذلك وليس له أيضا حالة سابقة ؛ لأنّ هذه الصلاة من أوّل وجودها مشكوكة الحال.

والحاصل أنّ الاستصحاب التعليقي مفيد للأثر المترتّب على نفس التعليق وغير مفيد للأثر المترتّب على فعليّة المعلّق ، فافهم ما ذكرنا فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ويمكن توجيه الاستصحاب التعليقي هنا بناء على أحد المباني فى القضايا التعليقيّة وتوضيحه ببيان الحال فى تلك القضايا ، فنقول : أمّا القضيّة التعليقيّة التي يكون المعلّق فيها الحكم مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» فقد اختلف الآراء فى تعيين ما ينشئه المتكلّم فيها ، ومن جملتها ما ذهب إليه المحقّق الطوسي قدس‌سره وهو أنّه ينشئه الوجوب المعلّق ، فكما أنّ الوجوب المطلق له وجود اعتباري فالوجود المعلّق أيضا له وجود اعتباري قابل للإنشاء جدّا ، ولازمه الفعليّة لدى فعليّة المعلّق عليه.

والمختار أنّه ينشأ فى تلك القضايا نفس الوجوب بدون التعليق ، لكن مبتنيا على فرض وجود المعلّق عليه ، فكما أنّه لو كان المجيء المعلّق عليه محقّقا في الخارج ينشأ وجوب الإكرام بدون التعليق ، كذلك إذا فرضه موجودا ونظرا إلى وجوده الخارجي بالنظر الفراغي ينشأ أيضا وجوب الإكرام بدون التعليق ، وإذن فالإنشاء في القضايا التعليقيّة يكون كالإنشاء في الخالية عن التعليق بلا فرق ، غاية الأمر أنّ الوجوب المنشأ في القضيّة التعليقيّة لما يكون مبتنيا على فرض وجود المعلّق بالفرض الحاكي عن الخارج توقّف تأثيره في نفس المخاطب على وجود هذا الفرض في الخارج.

وأمّا القضيّة التعليقيّة التي يكون المعلّق فيها الموضوع فهي إمّا إخباريّة وإمّا

١٩٩

إنشائيّة ، أمّا الإخباريّة مثل «إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» فإخبار المتكلّم وجزمه وتصديقه الذي أظهر هل تعلّق بما ذا؟ لا إشكال في عدم تعلّقه بطلوع الشمس ، لأنّه ربّما يكون مقطوع العدم ، ولا بوجود النهار ؛ لأنّه أيضا قد يكون مقطوع العدم ، وأمّا الملازمة بين الطلوع ووجود النهار فليست أيضا متعلّق جزمه ، للفرق الواضح وجدانا بين تلك القضيّة وبين قولنا الملازمة بين الطلوع ووجود النهار موجودة ، لاختلافهما بحسب المفاد اللفظي المطابقي ، لأنّ الموضوع فى الأوّل هو النهار ، وفي الثاني هو الملازمة ، والمحمول في الأوّل هو وجود النهار وفي الثاني وجود الملازمة ، فتعيّن أن يكون متعلّق الجزم هو وجود النهار لا مطلقا ، بل مقيّدا بوقوعه عقيب الطلوع ، فهي مساوقة مع قولنا : وجود النهار المقيّد بالوقوع عقيب الطلوع متحقّق ، وحينئذ نقول : حال الجزم فى القضايا الإخباريّة حال الوجوب في القضايا الطلبيّة.

وتوضيح ذلك أنّ من المسلّم عقلا أنّ الوجوب إذا تعلّق بموضوع ذي قيود بحيث كان الطلب محيطا بهذا الموضوع بتمام قيوده ، وهذا الموضوع بجميع قيوده واقعا في حيّز ذلك الطلب ، فاللازم ترشّح هذا الوجوب إلى كلّ قيد من قيود هذا الموضوع ، وإلّا لم يكن متعلّقا بالحاوي لهذا القيد ، بل بالخالي عنه ، فلو اريد عدم ترشّح الوجوب إلى قيد فلا بدّ من إخراج هذا القيد عن حيّز الطلب وجعله قيدا لنفس الوجوب لا للواجب.

مثلا إذا تعلّق الوجوب بإكرام زيد الجائي فكما يجب تحصيل الإكرام يجب تحصيل المجيء أيضا فلو اريد عدم ترشّحه إلى المجيء لا بدّ من إخراجه عن حيّز الأمر وجعله قيدا للأمر لا للمأمور به.

ومن هنا ذكرنا فى مبحث الواجب المشروط ردّا على صاحب الفصول : أنّ القيد إذا رجع إلى المادّة التي وقعت تحت الهيئة وجب عقلا سراية الطلب إليه ، ولا يمكن عدم سرايته عقلا إلّا بإخراجه عن حيّز الهيئة وجعله قيدا للهيئة لا للمادّة.

فنقول : الجزم إذا تعلّق بموضوع ذي قيود بحيث كان بتمام قيوده واقعا في حيّز

٢٠٠