أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

العلم بالحرمة إن كان بمعناها الفعلي كان العلم بالخمر موجبا للتنجيز ، وأمّا لو كان بالمعنى الإنشائي فلا يكون العلم بالصغرى منشئا لأثر أصلا كما هو واضح.

وإذن فنقول كما يقول هذا القائل في المقام الأوّل بأنّ ظاهر «لا تشرب الخمر» الذي هو الفعليّة يجب رفع اليد عنه بواسطة دليل الرخصة في المشكوك ، فكذا في المقام الثاني أيضا يجب أن يقول بذلك ، فيكون العلم بالخمريّة لغوا غير منجّز ، فيرتفع المانع عن إجراء البراءة في كلا الطرفين ، نعم لا بدّ أن يستثنى من هذا ما لو علم من إلهام أو جفر أو نحو ذلك بأنّ الحكم المعلّق على الواقع فعليّ.

وفيه أنّ ما ذكر حقّ لو لا ما يشتمل عليه هذه الأدلّة المرخّصة من جعل الغاية هو العلم الشامل للإجمالي ، فهي متعرّضة عند هذا القائل لحكمين شرعيين ، أحدهما الرخصة في المشكوك ، والآخر عدم الرخصة في المعلوم ، والثاني وإن كان على مبنانا تقريرا لحكم العقل ، ولكن على مذاق هذا القائل يكون حكما شرعيّا ؛ إذ كما أنّ الأوّل شارح لأدلّة الواقعيّات بعدم الفعليّة ، فالثاني شارح لها بالفعليّة ، ومن المعلوم أنّ جعل الفعليّة عند العلم من وظيفة الشرع ليس إلّا.

وعلى هذا ففي مورد العلم الإجمالي يقع التعارض بين صدر الروايات مع ذيلها ، حيث إنّ قضيّة الأوّل هو الرخصة في الأطراف ، ومقتضي الثاني عدم الرخصة فيها ، فيتساقطان ، فيكون المرجع بعد تساقطهما هو الاحتياط ؛ إذ يدور الأمر بين فعليّة الخطاب الواقعي كما هو قضيّة الذيل ، وبين عدم فعليّته كما هو قضيّة الصدر ، فيكون ظاهر دليله من مثل لا تشرب الخمر ونحوه مأخوذا بسلامته عن الحاكم والشارح ، وقد عرفت أنّ ظاهره الفعليّة ، فإذا صار فعليّا بقضيّة هذا الظاهر كان الاحتياط بحكم العقل لازما فتدبّر.

ثمّ إنّك عرفت عدم جواز التمسّك بالعمومات والإطلاقات المرخّصة ، بقي الكلام في الصحيحة الّتي رجّحنا سابقا ورودها في مورد العلم الإجمالي أعني قوله : «كلّ شىء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه» ولا يرد عليها ما ورد على غيرها ؛ لكونها ناظرة إلى خصوص مورد العلم بناء

١٢١

على ما فسّرناها من أنّ المراد الشيء الخارجي المشتمل على الحلال والحرام خارجا ولم يتميّزا ، والقرينة على عدم التمييز والاختلاط قوله في الذيل : بعينه.

ثمّ إطلاق الخبر شامل لما إذا ارتكب الجميع ، لكن يجب تقييده بغير هذا وهو الارتكاب بمقدار لا يلزم المخالفة القطعيّة ، ويمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الخبر هو الشيء الخارجي المشتمل على القسمين مع تعارف اختلاط أحد قسميه بالآخر ، كما هو الحال في النقود والأجناس السوقيّة ، فإنّ اللحم مثلا له المذكّى والميتة هما مختلطان نوعا ، والجبن مثلا له الطاهر والنجس ، ولا يتميّزان حسب العادة ، وهكذا كلّ جنس فيه السرقة وغيرها مثلا ولم يتميّزا نوعا.

والحاصل : اريد من «الشيء» العنوان الأوّلي الذاتي من مثل الدهن والجبن والنقد وغير ذلك ، واعتبر على نحو الكلّي في المعيّن ، فيشمل كلّ نوع يشار به إلى أفراده في الخارج وكان اختلاط القسمين فيها متداولا ، فيخرج ما لم يكن الاختلاط فيه كذلك ، مثلا الماء حلال والخمر حرام ، فيصحّ أن يقال : المائع ـ ويشار به إلى الأفراد الخارجيّة على نحو الكلّي في المعيّن ـ فيه حلال وحرام ، ولكنّ القسمين منه في الخارج متمايزان ، فإنّ مياه الدنيا ممتازة عن خمورها ، فإذا صار بالاتفاق ماء مشتبها بخمر فلا يشمله الحديث الشريف ، والدليل على ما ذكرنا هو التبادر والانصراف.

ثمّ لا فرق حسب إطلاق الخبر بين ما إذا كان الاشتباه المتعارف من قبيل المحصور أعني اشتباه القليل في القليل ، والكثير في الكثير ، وبين أن يكون من غير المحصور أعني اشتباه القليل في الكثير ، بل نقول مضافا إلى دلالة الخبر على ما ذكر : إنّا نرى العمل الخارجي والسيرة من المتديّنين على المعاملة مع الأجناس السوقيّة وما يشابهما مع حصول العلم بأنّ فيما بينها النجس والحرام معاملة الطهارة والحليّة ما لم يعلموا النجس والحرام بشخصها.

والقول بأنّ ذلك لا ينفكّ إمّا عن عدم انحصار الشبهة ، وإمّا عن لزوم الحرج في الاجتناب ، أو عن خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ، مدفوع بأنّ الاشتباه في هذه الامور من اشتباه الكثير في الكثير وهو من المحصور ، ولو كان

١٢٢

الملاك هو الحرج كان الواجب الاقتصار على مقداره ، ونراهم يتعدّون منه ، وأجناس البلد الواحد لا يعدّ بالنسبة إلى أهله خارجة عن محلّ الابتلاء ، لعدم استهجان التكليف كما لا يخفي.

فإن قلت : إنّا نرى العلماء في كتبهم يكونون بصدد بيان الضابط للمحصور وغيره ، فيعلم منهم أنّ كون المحصور لازم الاجتناب من المسلّمات ، فتكون الأخبار المذكورة معرضا عنها ، وهو يوجب وهنها سندا ، بل كلّما ازداد صحّة يزداد بذلك وهنا.

قلت : لو فرض استفادة ذلك من الكلمات ، لكن عمل الطائفة من العلماء وغيرهم استقرّ في الخارج على خلافه ، فلاحظ.

ومن هنا يعلم أنّ السوق واليد أيضا لا اعتبار بهما بواسطة هذا العلم الإجمالي ، ويدلّ على ما ذكرنا الأخبار الناهية عن السؤال مثل قوله عليه‌السلام : «ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك» وقوله في بعض الروايات : «والله إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون ، هذه البربر وهذه السودان».

وبالجملة ، ما ذكرناه من المعنى يمكن استظهاره من الخبر وأمثاله من هذه الأخبار ، ويمكن دعوى السيرة أيضا عليه ، فافهم وتدبّر.

١٢٣

وينبغى التنبيه على امور.

الأوّل : أنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي أن تكون شرائط توجّه الخطاب نحو المكلّف العالم موجودا على كلا التقديرين ، يعني سواء كان التكليف متعلّقا واقعا بهذا الطرف أم بذاك ، حتى يكون عالما إجمالا بتوجّه الخطاب نحوه ، وأمّا إن كان على تقدير تعلّقه بواحد غير متوجّه إلى المكلّف لفقد شرطه فلا علم بالتوجّه ، فلا تنجيز ، فإنّه بالنسبة إلى هذا الواحد فقد فقد الشرط ، فيكون التكليف على تقدير تحقّقه فيه معلوما عدم توجّهه ، وأمّا بالنسبة إلى الآخر فالشرائط وإن كانت مجتمعة ، ولكن وجود التكليف فيه مشكوك بدوي تجرى فيه البراءة.

والمثال الواضح لهذا صورة تعدّد الشخص ، كأن علم أحد الشخصين بتعلّق إلزام المولى إمّا به أو بصاحبه ، كمن يعلم بوجوب ردّ السلام إمّا عليه وإمّا على آخر معه ، لعدم العلم بأنّ المسلّم قاصد لأيّهما ، وكواجدي المني في الثوب المشترك ، وهذه الكبرى واضحة من المسلّمات إلّا أنّ لها مصاديق خفية لا بدّ من التكلّم فيها.

أوّلها : ما لو علم إجمالا بأنّه إمّا مكلّف بالتكليف الفعلي الحالي أو بالتكليف المشروط بالزمان الآتي كالزوج عند استمرار الدم بالزوجة تمام الشهر مع عدم العادة والتمييز ، حيث إنّه عالم إجمالا بكون عدّة أيّام غير معلومة من الشهر المبهمة في تمامها حيضا ، فيعلم إجمالا بحرمة وطي هذه الزوجة عليه إمّا في هذه العدّة التي في أوّل الشهر ، وإمّا مشروطا بما بعد عشرة أيّام وهكذا.

وتوضيح هذا الفرع يحصل بإعادة الكلام في الواجب المشروط ، فنقول : قد ذهب صاحب الفصول قدس‌سره إلى تثليث أقسام الواجب ، وهي المطلق والمعلّق والمشروط ، فالمطلق واضح ، والمعلّق هو ما كان القيد فيه قيدا للعمل دون الوجوب ، فقد وجب على المكلّف بالوجوب المطلق الفعل المقيّد مثل إيجاب

١٢٤

صوم الغد ، حيث إنّ الغد ظرف إيجاد الصوم ، وأمّا ظرف الوجوب فهو حال النطق ، مثلا كما لو قال : أطلب منك الآن الصوم في الغد ، وهذا على خلاف المشروط ، فإنّ القيد فيه قيد للوجوب ، فالوجوب متوقّف على حصول القيد ، وقبله لا وجوب ، وأمّا العمل فلا قيد له.

ففي المثال إذا دخل الغد يجب الصوم ، فالغد ظرف للوجوب والصوم معا ، وفرق بين هذين القسمين في التعبير ، فجعل مثل قولك : إذا دخل الغد فصم ظاهرا في الاشتراط ، ومثل قولك : صم في الغد ظاهرا في التعليق ، فيكون من ثمرات القسم الأوّل وجوب مقدّمات الفعل قبل حصول المقدّمة المتوقّف عليها على تقدير حصولها ؛ لأنّ الوجوب مطلق على هذا التقدير ، ومن ثمرات الثاني عدم وجوبها قبل حصول المقدّمة.

فعلى هذا المذهب لا بدّ في هذا المقام من الرجوع إلى دليل التكليف وأنّه ظاهر في أيّ القسمين ، فإذا كان ظاهره في المثال المتقدّم : لا تقربوا النساء إذا تلبّسن بالحيض ، فالعلم الإجمالي لا تنجيز له ، ويكون المقام من مصاديق الكبرى المذكورة ؛ إذ على أحد التقديرين يكون التكليف غير متوجّه إلى المكلّف ، وهو على التقدير الآخر مشكوك بدويّ ، وإذا كان ظاهره : اعتزلوهنّ في وقت الحيض ، فالعمل في المثال منجّز وليس المقام من أفراد الكلّية المذكورة ؛ إذ على هذا التقدير يعلم المكلّف إجمالا بتوجّه خطاب إليه فعلا ، غاية الأمر لا يعلم أنّ متعلّقه هو الفعل المطلق أو المقيّد بدخول الزمان الآتى.

ولكنّك عرفت في مبحث مقدّمة الواجب عدم تعقّل هذا التقسيم واختيار أنّ الواجب على قسمين لا ثالث لهما ، وهما المطلق والمشروط ، وأنّ القيد أبدا يكون راجعا إلى الهيئة دون المادّة ، فيكون مفاد القيد تقييد الوجوب والطلب بصورة حصول القيد ، فإذا قال : إذا دخل الغد فصم ، فمعناه أنّ الوجوب مشروط بدخول الغد بحيث لا طلب مع عدم دخوله، ولكن لو علم العبد بأنّ المقدمة المذكورة سيحصل فهو عند العقل مشغول الذمّة بالاشتغال بتهيئة أسباب الإتيان

١٢٥

بالعمل المأمور به لو كان له أسباب متقدّمة.

مثلا لو قال : إذا ورد عليّ الأمير فلا بدّ عليك من أن تضيفه بوجه أحسن ، وعلم العبد بشدّة إرادة المولى ذلك على تقدير وروده ، بحيث لو لم يضفه حصل المنقصة التامّة في رتبة مولاه وصار مفتضحا ، فهو مع علمه بهذه المرتبة من الحبّ والطلب بالإضافة لو علم بأنّ الأمير سيرد غدا على مولاه ويتوقّف ضيافته في الغد على تهيئة أسباب في اليوم يكاد يمتنع الضيافة في الغد بدونها ، فهو مع هذا العلم لو تكاهل في جمع هذه الأسباب فدخل الغد وقد صار الضيافة ممتنعة عليه فحصل بسببه انكسار درجة المولى وافتضاحه بوجه أتمّ ، فهل هذا العبد إذا أنصفت من عقلك يعدّه العقل معذورا من جهة تعذّر العمل عليه في الوقت وعدم الإلزام عليه قبله ، أو لا؟ بل يعدّه في غاية درجة من العصيان ومخالفة المولى ومستحقّا لأنواع النكال والعذاب.

فعلم أنّه لا فرق في التنجيز ووجوب الامتثال الذي هو من مستقلّات العقل بين الواجب المطلق والمشروط الذي علم حصول شرطه في المستقبل ، فهو حينئذ يكون كالمطلق في جميع الآثار.

نعم فرق بينه وبين المطلق من حيث إنّ الطلب فيه مقصور على تقدير خاص ، بحيث يمكن تبدّل الطلب في غير هذا التقدير ومع عدم حصوله بالبغض التامّ ، كما لو كان المولى في المثال مبغضا غاية البغض لضيافة الأمير من حيث هو ، ولكن يصير في تقدير وروده عليه في غاية المحبوبيّة بالعرض ، ولهذا لو أحدث العبد عملا منع من حصول هذا التقدير كما لو سعى في إيجاد المانع عن ورود الأمير على مولاه فأوجد المانع ، فهو لم يفعل حينئذ قبيحا ، بل ربّما فعلا حسنا لدى مولاه وصار بذلك ممدوحا غايته.

وبالجملة ، فعلى هذا المبنى يكون العلم الإجمالي في المقام منجّزا مطلقا ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون تكليف تحريم الوطي في المثال متوجّها على وجه الإطلاق ، وإمّا أن يكون على وجه الاشتراط بالزمان الآتي ، والمكلّف أيضا عالم بتحقّق

١٢٦

الزمان الآتي ، فمن هذا الحين يصير مكلّفا بحكم العقل بالخروج عن عهدة التكليف لو كان له مقدّمة في الحال ، ولا شكّ أنّ المقدّمة العلميّة للفراغ عن كلا التكليفين المعلوم تحقّق أحدهما إنّما هو البناء على ترك الوطي في العدّة الحاضرة ، وعلى تركه في العدّة الآتية عند حضورها ؛ إذ بدون ذلك لا يحصل الامتثال العلمي للأحد من التكليفين الذين كليهما واجد لآثار التكليف المطلق في حكم العقل ، وقد عرفت أنّ المقدّمة السابقة للواجب المشروط عند العلم بتحقّق شرطه واجبة فعلا ، فلا فرق بين المقدّمة الوجوديّة مثل الزاد والراحلة في الحجّ وبين العلميّة مثل الاجتناب عن الوطي في جميع أجزاء الزمان المحتمل تحقّق التكليف في كلّ منها هنا ، فتدبّر.

وثانيها : صورة الاضطرار إلى واحد معيّن من الطرفين ، فقد يحصل الاضطرار إلى ارتكاب هذا المعيّن قبل العلم بالحرام فيهما ، كما لو اضطرّ إلى شرب هذا الإناء المخصوص، ثمّ علم إجمالا بأنّ هذا الإناء أو ذاك الإناء الآخر الذي عنده خمر ، وهذا لا إشكال في عدم تنجيز العلم فيه ؛ إذ لم يعلم بالتكليف الفعلي ، لاحتمال كونه في الإناء المضطرّ إليه ، وعلى تقديره فلا شبهة في جواز الارتكاب أو وجوبه ، وبالنسبة إلى الآخر يكون شكا بدويّا ، فيجري فيه البراءة. (١)

__________________

(١) الحكم بالبراءة في الاضطرار السابق أو المقارن إلى المعيّن إنّما يتمّ في ما إذا لم يعلم بعد الاضطرار بتوجّه الخطاب نحوه قبل حدوث الاضطرار ، بأن علم حدوث نجاسة هذا الإناء مثلا في أزمنة الاضطرار إلى شربه أو ذاك مع عدم الاضطرار إليه ، وأمّا لو علم بأنّ الخطاب كان قبل حدوث الاضطرار متوجّها [إليه] ، كما لو علم في السبت أنّه صار في الخميس أحدهما نجسا واستمرّ إلى الآن وكان حدوث اضطراره في الجمعة ، فإنّه يجب حينئذ الاحتياط ، لأنّه يعلم بتوجّه الخطاب ويشكّ في سقوطه ، فهو كمن يعلم بعد مضيّ شطر من الوقت بتوجّه خطاب «صلّ» نحوه ولا يعلم أنّه امتثله أولا.

والحاصل ليس معيار الاشتغال اجتماع وصف اليقين مع الاشتغال في زمان واحد ، بل يكفي ثبوتهما ولو في زمانين ، منه قدس‌سره الشريف.

١٢٧

وهكذا الحال لو حصل العلم والاضطرار دفعة ومتقارنين ، فإنّه حينئذ أيضا لا يورث العلم التنجيز ، ففي هاتين الصورتين يكون الاضطرار المذكور من أفراد الكليّة المذكورة ، وأمّا لو حصل العلم بخمريّة هذا الإناء أو ذاك أوّلا ، ثمّ حصل الاضطرار إلى شخص هذا فحينئذ أيضا قد يقال بأنّه من أفراد تلك الكليّة ، ويقال في تقريب ذلك : إنّ التكليف مقيّد بعدم الاضطرار ، فحرمة الخمر مثلا ليست متعلّقة بذات الخمر ، بل به مع قيد عدم الاضطرار.

وبعبارة اخرى قوله : «إلّا ما اضطررتم» قيد شرعى ، فمتعلّق المبغوضيّة والحرمة هو العنوان الخاص المقيّد ، بحيث لو انتفى القيد فقد تبدّل العنوان الذي كان فيه ملاك التحريم وانقلب إلى عنوان آخر مغاير له ، مثلا الخمر الغير المضطرّ إليه عنوان ويكون ذا مفسدة ذاتيّة يوجب التحريم ، والخمر المضطرّ إليه عنوان آخر ليست فيه تلك المفسدة ، بل المتحقّق فيه إمّا اللامفسدة ، وإمّا المصلحة ، وعلى هذا فنقول : قبل حدوث الاضطرار كان عنوان المحرّم محفوظا ، وحيث فرض تعلّق العلم به إجمالا أورث تنجيزه ووجوب امتثاله ، وأمّا بعد طروّ الاضطرار فمن هذا الحين ينتفي العلم بذاك العنوان ؛ لعدم محفوظيّة القيد على كلّ تقدير ، فلا علم بتحقّق ما هو الموضوع للحرمة في البين.

والحاصل أنّ قوام تنجيز العلم الإجمالي بتعلّقه بالموضوع المقيّد ، فما دام هذا الموضوع محرزا بحدوده وقيوده كان العلم منجّزا ، وإذا انتفى ولو بقيده انتفى وصف التنجيز من العلم ، وأمّا الفرق بين حدوث الاضطرار وبين فقد الموضوع وإتلافه ـ حيث إنّ المسلّم أنّه لو أتلف أحد الإنائين المشتبهين بالخمر مثلا أو أراقه بعد العلم الإجمالي فوجوب الاجتناب عن الآخر باق بحاله ـ أنّ فقد الموضوع ليس حدّا للتكليف ، فليس معنى واحد من التكاليف الشرعية إنشاء الحكم في موضوع إلى غاية وجود هذا الموضوع.

مثلا ليس معنى «لا تشرب الخمر» أنّ حكم الحرمة موجود ما دام وجود الخمر ، بل هو معلّق على ذات الخمر من غير نظر إلى وجود وعدمه ، وانتهاء التكليف عند

١٢٨

انتهاء وجود موضوعه إنّما هو بدلالة العقل وحكمه ؛ لأنّ التكليف بالاجتناب عن المعدوم تكليف محال. (١)

__________________

(١) اعلم أنّه لا مجال لهذا البحث على تقدير أن يكون النهي في «لا تشرب» مثلا متعلّقا بصرف الوجود ، فإنّه بعد الاضطرار سواء إلى المعيّن أو غيره قبل العلم أم بعده يجب الاجتناب عن الآخر ، فإنّ غاية الأمر كونه شبهة بدويّة ، وعرفت أنّ الشبهة الموضوعيّة من هذا القسم واجب الاجتناب وإن كانت بدويّة ، فالبحث إنّما هو على تقدير كون النهي متعلّقا بالوجود الساري ، فكلّ فرد فرد من الخمور الخارجيّة موضوع لنهي مستقلّ وله إطاعة ومعصية مستقلّتان.

وحينئذ نقول : إمّا نفرض العموم الاستغراقي بالنسبة إلى الزمان في النهي في كلّ فرد ، فهو في كلّ فرد أيضا ينحلّ إلى نواهي عديدة بعدد الازمان ، وإمّا لا نفرض كذلك ، بل نقول : إنّ النهي في كلّ ممتدّ بامتداد الزمان ، فلا تحصل إطاعة كلّ فرد إلّا بعد فقدانه أو موت المكلّف ولم يشربه ، وأمّا مع وجودهما وإن مضى على ذلك سنون فلا إطاعة ولا معصية.

وعلى هذا قد يفرض الاضطرار قيدا للتكليف ، فلو علم المكلّف بأنّه سيضطرّ في أحد أزمنة عمره إلى شرب هذا الفرد جاز له شربه من هذا الحين ، فإنّه علم بأنّ هذا التكليف الواحد غير ممكن الإطاعة ، وقد يفرض قيدا للفعل أو متعلّقه فنقول : الشرب أو الخمر المضطرّ إليه لا نهي عنه ، ومورد النهي هو الشرب أو الخمر الغير المضطرّ إليه ، وعلى هذا فلا يجوز الشرب قبل حدوث الاضطرار وإن على بحدوثه في ما بعد.

ثمّ المتعيّن من هذين هو الثاني ، لأنّا نعلم بالضرورة أنّ من يعلم باضطراره في الغد إلى شرب الخمر لا يجوز له قبل الغد.

وأمّا الوجهان الأوّلان أعني ملاحظة العموم بالنسبة إلى الأزمنة في كلّ فرد وعدمه فكلّ ممكن. فإن قلت : يمكن استظهار الأوّل بملاحظة حال الغصب ، فإنّ المقدار الواحد منه يزداد عصيانه قطعا بازدياد مدّته.

قلت : لا دلالة فيه على ذلك ، فإنّ النهي المتعلّق بالوجود الساري كما يتعدّد بتعدّد الوجودات ، يختلف شدّه وضعفا باختلاف الوجودات كذلك ، فالقطرة من الخمر فرد والحبّ منه أيضا فرد ، وكلّ منهما تعلّق به نهي واحد. لكنّ النهي في الثاني أشدّ من الأوّل بمقدار أشديّة الحبّ من القطرة. وبالجملة ، حال النهي على هذا حال البرودة العارضة للوجود الساري للماء ، فكما يتعدّد بتعدّد الماء يختلف شدّة وضعفا على حسب اختلافه كذلك، وعلى هذا فالغاصب المذكور يكون في أثناء ـ

١٢٩

وبالجملة ، ففقد الموضوع حدّ ومنتهى للتكليف عقلا ، لا شرعا ، وأمّا الاضطرار إلى ترك المكلّف به فهو حدّ وغاية للتكليف شرعا لقوله : «إلّا ما اضطررتم» ففي الأوّل الاشتغال اليقيني بالتكليف المطلق يقتضي الفراغ اليقيني ، وأمّا في الثاني فالاشتغال اليقيني وإن حصل ، ولكن بالتكليف المحدود ، وقضيّة ذلك أن يكون اليقين بالاشتغال أيضا أمده محدودا بهذا الحدّ ، فإذا تحقّق هذا الحدّ في أحد الطرفين فلا يقين بعد ذلك بالاشتغال ، بل ينقلب بالشكّ البدوي ، وأمّا في الصورة فبعد ما تحقّق وثبت اليقين بالاشتغال بالتكليف نشكّ في مجيئي حدّه العقلي أولى ، ومن المعلوم اقتضاء اليقين السابق الفراغ اليقيني حتّى يعلم بحصول الحدّ العقلي.

هذا غاية تقريب ما يقال ، ولكنّه بعد محلّ نظر ، بل منع ، وتوضيح المقام بتقديم مقدّمة وهى : أنّه لو كان أحد الطرفين فردا واحدا والآخر أفراد متعدّدة غير الفرد

__________________

ـ المعصية ولم يتمّ معصيته بعد.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن لم يعتبر العموم الأزماني في كلّ فرد ، بل اعتبر الزمان ظرفا ، فإن كان الاضطرار قيدا للتكليف لم يجب الاجتناب في الاضطرار إلى الواحد المعيّن ، سواء حدث قبل العلم أم بعده ؛ لأنّه في الثاني أيضا يعلم بعدم التكليف من الابتداء على تقدير كون المضطرّ إليه هو الخمر ، والآخر مشكوك بدوىّ ، لكن هذا مقطوع العدم كما مرّ ، فيدور الأمر بين ظرفيّة الزمان مع كون الاضطرار قيدا منوّعا للموضوع ، وبين العموم الأزماني في كلّ فرد ، وعلى كلّ حال فالقاعدة مع حدوث الاضطرار إلى المعيّن بعد العلم هو الاشتغال.

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّه يعلم بتوجّه خطاب «لا تشرب» إليه ، ولكن يتردّد في أنّ مدّته هل كانت ساعة مثلا أو أكثر منها ، فيكون من باب الدوران بين التكليف القصير والتكليف الطويل في موضوعين ، ومن المعلوم أنّ القاعدة فيه الاشتغال.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّه أيضا يعلم بتوجّه الخطاب المزبور إليه ، لكن يتردّد في عدده بين عشرة خطابات مثلا في هذا الإناء أو أكثر في تلك ، فيكون من قبيل الدوران بين التكليف الأقلّ والأكثر في موضوعين ، والقاعدة فيه أيضا هو الاشتغال ، هذا. وقد ذكر استادنا الأعظم دام ظلّه بأنّه قرّر هذا التقريب في مجلس بحث الاستاد الخراساني طاب ثراه فارتضاه ونقل أنّه ذكر ذلك في حاشية الكفاية. منه قدس‌سره الشريف.

١٣٠

الأوّل ، كأن علم بوجوب إكرام زيد أو وجوب إكرام عمرو وبكر وخالد ، أو كان أحد الطرفين هو الزمان القصير والآخر الطويل لكن في غير موضوع القصير ، كأن علم بوجوب إكرام زيد ساعتين ، أو وجوب إكرام العمر وما دام العمر ، فلا شبهة أنّه ليس من باب الأقلّ والأكثر الذي يكون الأكثر فيه موردا للبراءة ، ويختصّ التكليف بالأقلّ من باب القدر المتيقّن.

نعم لو كان في الصورة الاولى الفرد الواحد داخلا في الأفراد المتعدّدة في الطرف الآخر، وكان في الثانية موضوع القصير والطويل شيئا واحدا ، كانا من هذا الباب ، ولكنّ المفروض خلاف هذا ، وعلى هذا فهما من باب المتباينين فيجب الاحتياط بالإتيان بكلا الطرفين وإن قلنا بالبراءة في الأقلّ والأكثر.

إذا عرفت ذلك فنقول : الشخص الذي يعلم أوّلا بخمرية أحد الإنائين إجمالا ، ثمّ يضطرّ إلى واحد منهما لو حصل له العلم من طريق في أوّل زمان حصول العلم الإجمالي المذكور بأنّه سيصير مضطرّا إلى هذا المعيّن في اليوم الثالث من يوم حصل العلم الإجمالي مثلا ، فيكون محصّل علمه الإجمالي بخمرية هذا أو ذاك العلم بكونه إمّا مكلّفا بالاجتناب عن هذا المعيّن إلى غاية يومين آخرين ، وإمّا مكلّفا بالاجتناب عن ذلك الإناء الآخر ما دام العمر مثلا ، فلا اشكال أنّه حينئذ يجب عليه الاجتناب عن كلا الطرفين ، ومعنى ذلك أن يجتنب في مقدار يومين عن كليهما ، وبعد مضيّ هذا المقدار عن الإناء الآخر إلى آخر العمر.

وإذا تبيّن ذاك فلا فرق بينه وبين ما لو لم يحصل له العلم بالاضطرار الطاري مقارنا للعلم بالخمرية إجمالا ، بل حصل مقارنا لطروّ نفس الاضطرار ، فإنّه في هذه الصورة أيضا متى لاحظ الزمان المتقدّم فهو الآن عالم بأنّه كان في علم الله في ذلك الزمان الماضي مكلّفا إمّا بالتكليف في هذا المعيّن إلى غاية يومين ، أو بالتكليف في الآخر إلى غاية العمر ، والمعيار في تنجيز العلم الإجمالي على ما سيأتي ليس هو بقاء طرفي الإجمال والترديد بحالهما في كلّ جزء جزء من الأزمنة حتى يقال : نعم ، ولكن قد حصل الاختلال في أركان هذا الإجمال في

١٣١

الزمان اللاحق أعني ما بعد حدوث الاضطرار ، فإنّ ذلك غير معتبر في تنجيز العلم قطعا ، بل المعتبر هو كونه في كلّ جزء جزء من الأزمنة بحيث متى لاحظ الحال في الزمان المتقدّم أعني زمان حدوث العلم الإجمالي كان الإجمال والترديد في النفس باقيا ، فبقاء العلم الإجمالي في الأزمنة المتأخّرة معتبر في تنجيزه فيها بهذا المعنى لا بالمعنى السابق ، ولا إشكال في تحقّقه هنا ، فلا إشكال في بقاء أثره وهو التنجيز بالنسبة إلى الطرف الغير المضطرّ إليه.

وهكذا الكلام بعينه توهّما ودفعا بالنسبة إلى الخروج عن الابتلاء الطاري بعد العلم في أحد الطرفين فإنّ الكلام فيه من هذه الجهة عين الكلام هنا حرفا بحرف وإن كان فيه لنا كلام مستقلّ يأتي إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه هو الكلام في الاضطرار إلى الواحد بعينه ، وأمّا الاضطرار إلى واحد لا بعينه فالحقّ على ما هو الحقّ من عدم المراتب للحكم الواقعي وكونه ذا مرتبة واحدة وبالغا حدّ الفعليّة وعدم نقص في ما يكون من قبل المولى هو كون العلم معه منجّزا بالنسبة إلى المخالفة القطعيّة مطلقا ، سواء حصل الاضطرار قبل العلم أم معه أم بعده.

وجه ذلك يعلم بالمقايسة إلى صورة حصول العلم التفصيلي بالخمريّة في الواحد المعيّن من الإنائين مع الاضطرار على النحو المذكور ، فإنّه لا إشكال حينئذ في أنّه يتعيّن على المكلّف بحكم العقل أن يدفع ضرورته بالإناء الذي ليس بخمر ، ويجتنب عن الذي يعلم أنّه خمر ، ولا يجوز له مجرّد الاضطرار إلى الأحد لا بعينه ارتكاب الخمر ، فإنّ مقتضي الجمع بين الغرضين هو تعيين ما ذكر عليه ، فإنّ الاضطرار لا يجوّز أو لا يوجب عليه سوى ارتكاب الواحد من هذين بدون تعيين للخصوصيّة ، وأمّا الخمريّة فمقتضية للاجتناب عن هذا بخصوصيّته ، وهذا واضح.

فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي ، فإذا حصل العلم الإجمالي بالخمريّة مع الاضطرار المزبور فإمّا أن يقال : إنّه يجب عليه أيضا دفع ضرورته بخصوص الذي ليس بخمر واقعا مع الاجتناب عمّا يكون خمرا واقعا ، ولا يخفي أنّ تعيين هذا عليه

١٣٢

مع فرض عدم علمه بالتمييز وعدم اقتداره عليه يكون تكليفا بما لا يطاق ، وإمّا أن يقال بأنّه مرخّص في ارتكاب أحدهما على سبيل التخيير وبعبارة اخرى : رفع اليد هنا بسب هذا الاضطرار عن المخالفة الاحتماليّة للعلم الإجمالي ، وحينئذ يبقى الكلام في أنّ العلم الإجمالي أيضا متعلّق على ما هو المبنى بالحرمة الفعليّة المقتضية للامتثال ، فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل يمكن الجمع بين فعليّة حرمة الخمر الموجود في البين ، وبين الترخيص في ارتكاب أحدهما على وجه التخيير ، أو يكون بينهما تناف؟.

والحقّ بناء على ما قرّر في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري هو إمكان الجمع هنا ، لاختلاف رتبة الحكمين وكون أحدهما في طول الآخر ، بمعنى أنّه بحسب مرحلة الواقع ليس هنا إلّا الحكم بوجوب اجتناب ما هو الخمر واقعا ، ووجوب أو رخصة دفع الاضطرار بما ليس بخمر واقعا ، وأمّا في موضوع الشاكّ المتردّد بين الإنائين فالشارع قد رخّصه في ارتكاب أحدهما ، فهذا الترخيص مع الحرمة الفعليّة ثابتان في رتبتين ، وإذا فاقتضاء الحرمة الفعليّة لحرمة المخالفة القطعيّة حيث تعلّق العلم به باق بحاله ، وبالجملة ، فهذا الترخيص إنّما هو إذن في المخالفة الاحتماليّة لهذا التكليف دون القطعيّة ، لعدم إمكان صدور الإذن فيها من الحكيم.

وأمّا على مذهب من يقول بثبوت المراتب للحكم الواقعي ، لعدم إمكان الجمع عنده بين المنع الفعلي الواقعي والترخيص الظاهري فحيث حدث الاضطرار إلى الواحد لا بعينه وأوجب الترخيص على وجه التخيير ، فلا محيص عن كونه قادحا في العلم بالحكم الواقعي بفعليّته ؛ إذ لا يجتمع بين الحكم بحرمة الخمر الموجود بين الإنائين فعليّا لو كان موجودا في ما يختاره المكلّف في علم الله وبين ترخيص المكلّف في ارتكابه لأيّهما شاء ، فلا بدّ من صرف الحكم الواقعي عن مرتبته الفعليّة إلى سائر المراتب ، ولا إشكال أنّه بعد ذلك لا اقتضاء للعلم بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة أيضا ، فلم يبق مانع عن إجراء الرخصة ـ على تقدير ثبوته في الطرف المختار ـ في الطرف الآخر غير الذي اختاره المكلّف وارتكبه.

١٣٣

والحقّ كما مرّ سابقا عدم الفرق بين المذهبين في وجوب الاحتياط في الباقي عند الاضطرار إلى غير المعيّن ، ووجهه أن المفروض أنّ الغرض الواقعي لم يتبدّل ولم يتغيّر عمّا هو عليه بواسطة هذا الاضطرار ، ولهذا لو علم تفصيلا كان اللازم رعاية جانبه ، فنحن وإن قلنا : إنّ فعليّة التكليف تصير مقصورة على تقدير مشكوك التحقّق وهو كون المختار غير الخمر ، لكن نقول : الغرض الفعلي محرز والعقل عند ذلك لا يرخّص في تضييع جانبه بلا جهة.

وبعبارة اخرى : يتصوّر هنا ثلاثة وجوه ، الأوّل : أن يرفع اليد عن الغرض الموجود الواقعي فيرخّص في كلا الطرفين ، والثاني : أن يغضّ العين عن الغرض الحادث ، فيوجب الاحتياط على العبد وإن أوجب هلاكته ، والثالث : أن يرفق بعبده ويحفظ غرضه بقدر الإمكان أيضا فيرخّصه في واحد وأوجب عليه الاحتياط في الآخر ، ومن المعلوم أنّ العقل يحكم بتعيين الأخير.

وإن شئت فقايس ذلك بحال نفسك لو كان لك عبد ووقع ابن لك في البحر في ما بين مائة نفر لم يعرف بينهم بشخصه ، فلا محالة يتعلّق غرضك بإنقاذ العبد ابنك ، ولكن حيث يتوقّف على إنقاذ جميع المائة وهذا يوجب انكسار ظهر العبد وسقوطه عن الفائدة فهل ترى نفسك يجوز عن إنقاذ الابن بمحض إيجاب ذلك لهذه الحالة في العبد ، أو يجوز عن العبد ويحكم بإنقاذ الجميع ، أو يراعي الجانبين؟ فيلزم عليه السعي بمقدار لا يبلغ انكسار فقرات ظهره.

وبالجملة ، ففعليّة الغرض في هذا الباب يكفينا وإن لم يكن التكليف فعليّا.

فإن قلت : هذا التقريب بعينه جار في الاضطرار إلى المعيّن قبل حدوث العلم ، وقد قلت فيه بالبراءة ، فإنّه يعلم بغرض من المولى ، غاية الأمر احتمال مزاحمته بغرض آخر.

قلت : وإن كان يعلم أصل الغرض ، لكن فعليّته وإطلاقه غير معلومة ؛ إذ لعلّه كان في الطرف المضطرّ إليه ، وأمّا في الاضطرار إلى غير المعيّن فإنّه قبل الاختيار مطلق وفعليّ ، ولهذا لو علم تفصيلا كان لازم الرعاية ، نعم بعد الاختيار يصير الحال كتلك الصورة.

١٣٤

وثالثها : صورة خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء قبل العلم الإجمالي أو معه ؛ إذ لا تكليف مع الخروج عن محلّ الابتلاء ، وليس معياره الخروج عن حيطة الاقتدار ، بل المعيار كون الخطاب به هجنا (١) ولو كان مقدورا ، فلو كان فعل مقدورا للمكلّف ومبغوضا للمولى، ولكنّه بحيث لا ينقدح في نفس العبد داع إلى فعله مثل تقبيل السقف ، فحينئذ نهي المولى عن هذا القبيل على وجه الإطلاق وعدم التقييد بالابتلاء به قبيح ؛ لأنّه منترك بنفسه، والغرض من النهي إيجاد الداعي للعبد إلى الترك لو لم يكن في نفسه داع آخر ، فإذا فرض أنّ الفعل منترك أبدا فلا محالة يكون النهي عنه هجنا ولغوا ، وكذلك ترخيصه ، نعم لا استهجان في إيجابه إذا اقتضت المصلحة ذلك ، ومن موارد الخروج عن الابتلاء عدم قدرة المكلّف بالفعل.

ثمّ مع الغضّ عن الكلام الآتي لا إشكال في الفرق هنا بين صورتي التقدّم والمقارنة وبين صورة تأخّر الخروج عن العلم في أنّ في الصورة الأخيرة قد حصل العلم وأثّر أثره من التنجيز في كلا الطرفين ، ومقتضى الشغل اليقيني هو الفراغ اليقيني ، فإذا طرأ الخروج على أحد الطرفين فمقتضى هذه القاعدة وجوب الاحتياط في الطرف الباقي في محلّ الابتلاء بخلاف الصورتين الاوليين ، حيث لا يحصل فيهما العلم بالتكليف ؛ إذ لا يكون شرائطه موجودة على كلّ تقدير ، والقائل في الفرع المتقدّم ـ أعنى الاضطرار الطاري ـ بعدم وجوب الاحتياط يقول هنا بوجوبه ، والفرق أنّ الاضطرار كان قيدا شرعيّا مذكورا في الأدلّة ، والابتلاء قيد عقلي غير مذكور فيها ، فهو نظير بقاء الموضوع.

نعم هنا كلام آخر لم أر التعرّض له في كلمات شيخنا المرتضى قدس‌سره و

__________________

(١) سواء كان ترخيصا أم تحريما أم إيجابا كما في غير المقدور ، أم كان المستهجن خصوص التحريم والترخيص دون الإيجاب كما في مورد انصراف الدواعي. منه قدس سرّه الشريف.

١٣٥

هو أن يقال : إنّه ربّما يكون القيد مذكورا في اللفظ ، وبعبارة أخرى : الشارع يصنّف موضوع طلبه وإلزامه إلى صنفين ويجعل أحدهما تحت الطلب والإلزام ويرفعهما عن الآخر ، وهذا نظير قيد الاضطرار حيث إنّه ذكر في ذيل الآية العادّة لجملة من المحرّمات الاستثناء بقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ).

فيعلم من هذا أنّ موضوع الزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك من العناوين المحرّمة تكون منقسمة إلى قسمين : المضطرّ إليه وغيره ، والحرمة معلّقة بخصوص الثاني بحيث يكون القسم الآخر وهو المضطر إليه خاليا بحسب ذاته عن المفسدة المحرّمة ، بل إمّا مشتمل على المصلحة ، أو لا عليها ولا على المفسدة ، (١) وربّما يكون القيد مستفادا من العقل ودخيلا في حسن الطلب والخطاب ، لا مذكورا في اللفظ ودخيلا في المصلحة أو المفسدة الكامنة في ذات الشيء الموجبة لمحبوبيّته أو مبغوضيّته.

__________________

(١) يعني بعد الكسر والانكسار ، فالمفسدة الذاتية في شرب الخمر موجودة حتى بعد الاضطرار ، ولكنّها بملاحظة المصلحة الطارئة من قبل الاضطرار ولو كانت هي الامتنان على العباد والتسهيل عليهم صارت مضمحلّة وشأنيّة وساقطة عن التأثير ، وهذا بخلاف الحال في العجز والخروج عن محلّ الابتلاء ، فإنّ الخمر المعجوز عنها أو الخارجة عن محلّ الابتلاء مبغوضيّة شربها فعليّة لا نقصان فيها من هذه الجهة عن الخمر المقدورة الداخلة في محلّ الابتلاء ، وهكذا الحال في الاضطرار إلى الأحد لا بعينه ، أو الحرج في رعاية الاحتياط في تمام الأطراف كما في حال الانسداد ، فإنّ الاضطرار والحرج وإن كانا مغيّرين للغرض الفعلي ومقيّدين لإطلاق المادّة ، لكن ذلك في خصوص صورة عروضهما على نفس العمل المورد للتكليف بخصوصه ، لا صورة عروضهما على الأحد لا بعينه من أشياء هو أحدها ومشتبه بينها ؛ فإنّ ذلك لا يوجب تقييد الغرض ، بل فعليّته وإطلاقه بعد باق بحالها ، بخلاف عروضهما على الأحد المعيّن من هذه الأشياء المشتبه بينها محلّ التكليف ، فإنّ إطلاق الغرض وفعليّته حينئذ غير محرزين ، فلا بيان على الغرض الفعلي الذي كان هو معيار الاشتغال عند العقل.

١٣٦

وذلك مثل القدرة على متعلّق التكليف حيث إنّه لا دخل له في مصلحة أو مفسدة ذات الفعل كما هو واضح ، مع عدم أخذ الشارع إيّاها في دليل من أدلّه الواجبات أو المحرّمات قيدا مذكورا في الكلام ، وإنّما الثابت هو حكم العقل بعدم حسن توجيه الخطاب نحو غير القادر وقبحه.

ثمّ الفرق بين هذين القسمين من القيود هو تبدّل إطلاق مادّة أدلّة التكاليف في القسم الأوّل إلى التقييد ، بمعنى أنّ ظاهر الكلام دخل القيد في ما هو المطلوب ومتعلّق الغرض الواقعي ، بحيث لولاه لما كان في البين مفيض للطلب ، وبقاء هذا الإطلاق بحاله في القسم الثاني ، بمعنى أنّه يحكم بأنّ متعلّق غرض المولى ومراده اللبيّ ومحبوبه الجدّي هو الفعل على وجه الإطلاق من دون دخل لشيء آخر فيه وإلّا لذكره ، فحيث لم يذكره مع كونه بصدد بيان تمام ما هو مرتبط بهذا المراد اللبيّ كان قضيّة ذلك عدم دخل شيء آخر وكون تمام الدخل لذات الفعل وحده ، نعم غاية الأمر أنّ العقل حيث يقبح توجيه الخطاب نحو فاقد القيد يلزم من ذلك التقييد في هيئة تلك الأدلّة ، فتحصّل أنّ في القسم الثاني يكون الفعل أو الترك مطلوبا مطلقا حتى بالنسبة إلى من يقبح الخطاب نحوه.

إذا عرفت ذلك فنقول : الشكّ في القسم الثاني لا يكون مجرى للبراءة ؛ إذ هو في الحقيقة شكّ في حسن توجيه الخطاب مع العلم بأصل المطلوبيّة ، وحكم العقل فيه الاشتغال؛ لكون البيان من قبل المولى تامّا ، مثاله : ما لو رأى العبد أنّ ابن المولى صار مشرفا بالغرق ، فعند هذا يعلم بأنّ المبادرة إلى إنقاذه مطلوبة لمولاه طلبا شديدا لا يرضى بتركه أبدا ، ولكنّه شكّ في كونه قادرا على إنقاذه أو لا ، للشكّ مثلا في وصول حبله إلى الغريق وعدمه ، فهو لأجل شكّه في وجدانه شرط صحّة الخطاب وهو القدرة شاكّ في توجّه تكليف المولى نحوه فعلا ، لكنّ العقل بالبداهة لا يحكم بمعذوريّته بمجرّد ذلك ، بل يوجب عليه الدخول في العمل وإلقاء الحبل.

١٣٧

والحاصل أنّ العقل لا يجوز له الإهمال والاستراحة بمجرّد هذا الشكّ ؛ فإنّ التنجيز ووجوب الإطاعة ليس إلّا من أحكام العقل ، بل ربّما يستكشف القدرة من نفس أمر المولى، وهو في ما إذا كان حكيما عالما بالغيب ووجّه الخطاب نحو الشاكّ في القدرة ؛ فإنّه يعلم بهذا الخطاب كونه قادرا وإلّا لما توجّه نحوه الخطاب. وإذن فنقول : من قبيل هذه الشروط أيضا قيد كون متعلّق التكليف والنهي من موارد ابتلاء المكلّف ، فإنّه مثل القدرة ممّا يستقلّ العقل بأنّ الخطاب بدونه قبيح مع عدم تعرّض له في شيء من الخطابات اللفظيّة ، فيكون إطلاق المادّة في تلك الخطابات محفوظا ، ومعناه أنّ المفسدة المقتضية للنهي في ذات الفعل موجودة في جميع الأحوال حتى بالنسبة إلى حالة خروجه عن محلّ ابتلاء المكلّف.

ولازم ذلك أنّه لو شكّ المكلّف في حسن الخطاب في حقّه من هذه الجهة لعدم علمه بأنّ متعلّقه صار خارجا عن محلّ ابتلائه أو لا؟ لا يكون هذا لشكّ محلّا للبراءة ، فلو علم إجمالا بخمريّة الإناء الموجود عنده أو الإناء الآخر الموجود عند سلطان الإفرنج فهو يعلم بوجود مطلوب تامّ لمولاه إمّا في هذا أو في ذاك ، ولكن يشكّ في أنّ المولى هل يصحّ له البعث نحو هذا المطلوب أو لا؟ فإذا بنينا كما هو المفروض على تنجيز العلم الإجمالي كالتفصيلى وتبيّن في مثال القدرة عدم قدح الشكّ في حسن الخطاب في حكم العقل بالتنجيز والاشتغال ، يلزم الحكم بوجوب الاحتياط هنا أيضا بالنسبة إلى الإناء الموجود عنده، فيلزم عدم الفرق بين الخروج الطاري والسابق والمقارن من هذه الجهة ، وهذا بخلاف عدم الاضطرار ، فإنّه من القيود المذكورة في اللفظ كما نبّهنا عليه ، فالشكّ فيه شكّ في أصل المطلوبيّة فيكون مجرى للبراءة.

هذا كلّه في الشبهة المصداقيّة وهي ما إذا علم بخروج أحدهما عن محلّ الابتلاء وشكّ في أنّ الخمر أيّهما.

١٣٨

وأمّا الشبهة الحكميّة وهي الشبهة في مفهوم الخروج عن محلّ الابتلاء حيث يشكّ في بعض الموارد في تحقّق هذا المفهوم مثل الإناء الموجود في منزل من لا يكون أجنبيّا بالمرّة مثل السلطان ، ولا يكون صديقا في الغاية ، فإنّه يشكّ في صدق هذا المعنى عليه ، ولهذا يشكّ في حكم العقل والعرف بحسن الخطاب واستهجانه ، والمراد بالشبهة الحكميّة ما كان وظيفة رفعه بيد الشرع.

وبالجملة ، فقد يقال بأنّ المرجع في هذه الشبهة هو إطلاقات الأدلّة ، مثلا قوله : لا تشرب الخمر ، لم يقيّد بالفرض بقوله : إن ابتليتم به ، وإنّما ورد التقييد به منفصلا من جهة حكم العقل بقبح الخطاب ، فأصالة العموم والإطلاق إنّما هي مرتفعة بالنسبة إلى مورد تيقّن هذا الحكم ، وأمّا في غيره فهي محكّمة ، كيف وقد ذكروا في التقييد بالمنفصل المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر أنّ الحقّ عدم سراية الإجمال من القيد إلى المطلق ، وأنّ أصالة إطلاقه محكّمة في غير القدر المتيقّن ، فإذا كان هذا هو الحال في التقييد بالمنفصل اللفظي ففي اللبيّ يكون بطريق أولى كما هو المتحقّق في المقام.

بل ربّما يقال : إنه يستكشف من الأصل المذكور ضابط المفهوم ويتبيّن إجماله ويحكم بأنّه غير صادق في المقام كما هو الحال عند التنصيص مثلا لو نصّ المولى الحكيم بخطاب إلى خصوص عبد وكان هذا العبد شاكّا في قدرته على متعلّق هذا الخطاب ، فنفس حكمة المولى مع علمه بالغيب كافيان في استكشاف القدرة ، فكذلك هنا أيضا بعد إحراز الحكم والخطاب بأصالة العموم يستكشف عدم كون المقام من أفراد الخارج عن محلّ الابتلاء الذي هو موضوع حكم العقل.

هذا ما يمكن أن يقال في المقام ، ولكنّه مخدوش ، والحقّ هو الفرق بين مثل هذا القيد ممّا يكون قيدا لحسن الخطاب وصحّة البعث والطلب بحكم العقل وبين القيود لأصل المطلوب ، فالتمسّك بأصالة العموم في الشبهة المفهوميّة في القسم

١٣٩

الثاني يمكن أن يكون جائزا دون الأوّل ، ووجهه أنّ منشأ عدم جزم المكلّف في القسم الأوّل بالحكم الواقعي وشكّه فيه إنّما هو عدم جزمه باجتماع شرائط تنجيز الخطاب ، والتمسّك بأصالة العموم لا يصحّح في حقّه إلّا حكما ظاهريّا ، فإنّه أمارة معمولة لرفع الشكّ ، فجوازه مختصّ بمورد فرغنا عن شرائط توجيهه إلى المكلّف من القدرة وغيرها.

مثلا إذا ورد : أكرم العلماء ، فحصل الشكّ في عمومه للزيد العالم من خصوصيّة خارجيّة فحينئذ وإن لم يحصل العلم بالحكم الواقعي ، لكن يحصل بالحكم الظاهري الجائي من قبل الأمارة ؛ إذ المفروض عدم المانع من قبل المكلّف لتوجيه الخطاب نحوه ، لكونه عاقلا ، وقادرا إلى غير ذلك من شرائط حسن الخطاب ، فإنّه لا فرق في اعتبارها بين الخطاب الواقعي والظاهري كما هو واضح.

وإذن ففي مثل المقام الذي يكون الشكّ في أصل واجديّة المكلّف لشرائط حسن الخطاب كما لم يحصل من أجله العلم بالخطاب الواقعي ، كذلك لم يمكن تحصيل الجزم فيه بالحكم الظاهري أيضا ، فعند إجراء أصالة العموم لا بدّ من إحراز شرائط التكليف ، والمفروض الشكّ فيها.

وبالجملة ، المقصود من التمسّك بهذا الأصل الانتهاء إلى الجزم ولو في مرتبة الظاهر ، وفي هذا المقام لا يمكن الانتهاء إلى الجزم ، بل الشكّ والترديد باق بحاله في مرتبتي الواقع والظاهر جميعا ، وأمّا الفرق بين التنصيص والعموم فلا يكاد يخفي ، حيث إنّ الحاكم في الأوّل لا بدّ وأن يكون متعرّضا لاجتماع المكلّف للشرائط ، وأمّا في العموم فلا نظر له فيه إلى وجود تلك الشرائط في جميع الأفراد ، ولهذا يتمّ الاستكشاف المذكور في التنصيص دون العموم.

فإن قلت : إذا كان وجه عدم التمسّك بالعموم أو الإطلاق عدم كون الأدلّة الشرعيّة ناظرة إلّا إلى الجهات الراجعة إلى الغرض دون الجهات الراجعة إلى

١٤٠