أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

جعل السببيّة ، حيث تلقّوا الأوّل بالقبول ، والثاني بالإنكار الشديد ، وترقّبوا فيه حصول السببيّة العقليّة ، مع أنّه فيها أيضا يجيء نظير ما ذكروه في جعل الوجوب ، وهو أن يقال : إنّ المولى قد جعل في نظره لزوم وجود فعل كذا عقيب وجود أمر كذا ، بحيث رأى الترتب لوجود الأوّل على الثاني لا لوجوبه. كما لو جعل بالعناية والبناء القلبي هذا المعنى بين وقوع الكلب في البئر ونزح أربعين دلوا ، وأثر هذا الجعل وفائدته أنّه يلزم عقلا على العبد أن يصير خادما لهذا السبب الجعلي بترتيب مسبّبه عليه ، كما صار فائدة جعل الوجوب لزوم أن يصير خادما للوجوب النظري بإعطاء الوجود للفعل.

ولشيخنا المرتضى في بحث منزوحات البئر في تقريب الأصل على عدم تداخل الأسباب كلام يظهر منه تسليم هذا فراجع.

وبالجملة ، فكما اكتفوا في جعل الوجوب بحصول الوجوب النظري الشرعي وقالوا : هو أمر اعتباري نفس أمري منشائه هذا الجعل والعناية ، فلا بدّ أن يكتفوا بمثله في هذا المقام، ولا يترقّبوا حصول الربط الواقعي العقلي ، ويقولوا أنّ هذا أيضا أمر اعتباري نفس أمري منشائه هذا الجعل والعناية.

ثمّ هذا جعل للسببيّة بالاستقلال وللوجوب الشرعي بالتبع ؛ إذ بواسطة قول الشارع : جعلت الملازمة بين وجود الكلب في البئر وتعقّب نزح الأربعين ، ينتزع الوجوب للنزح ويقال: إنّه واجب شرعي.

والعكس أيضا ممكن ، بأن يتعلّق الجعل بالاستقلال بالتكليف وينتزع منه السببيّة لشيء حتّى في السببيّة العقليّة ، وهذا كما إذا علّق وجوب الفعل على حصول أمر ، كما لو قال : أكرم زيدا إن جاءك ، فإنّ هذا جعل ابتدائي للوجوب المشروط ، ولازمه صيرورة المعلّق عليه وهو المجيء الذي علّق عليه وجوب الإكرام علّة عقليّة لمحرّكيّة الأمر المشروط ؛ فإنّ إناطة الأمر بفرض حصول المجيء أن يكون مؤثريّة

٥٢١

هذا الأمر ومحرّكيته متوقّفة على حصول المجيء في الخارج ، ولا يكون له تحريك في غير حاله.

وليس هذا منافيا لما قدّمنا من استنكار كون العليّة العقليّة قابلة للجعل ، فإنّ المراد هناك أن يصير ذات الشيء بواسطة جعل السببيّة فيه سببا وعلّة من غير أن يصير موضوع السببيّة هو الشيء المجعول ، بل ذاته ، والمراد هنا أن يكون الشيء المجعول عنده الوجوب من لوازمه الذاتيّة عقلا هو التأثير في محرّكية ذلك الوجوب بحيث يكون هذا له بوصف الجعل ، فشأن الجاعل إيجاد موضوع هذه الكبرى العقليّة وجعله متعلّقا بالوجوب لا بالسببيّة ، لكن اللازم منه عقلا تحقّق السببيّة العقليّة للمجيء.

وهذا هو المراد بالجعل التبعي ، كما هو المتحقّق في جعل الشرطيّة والجزئية للمأمور به عند من يقول بكونهما مجعولتين بتبع جعل التكليف ، فلم نعلم ما وجه إنكاره لمثله في السببيّة للتكليف مع أنّه بعينه جاء في السببيّة.

وأمّا إشكال الدور ـ بتقريب أنّه لا يعقل تأثير ما هو المتأخّر عن المعلّق عليه وهو التكليف في إعطاء السببيّة للمعلّق عليه بالنسبة إلى نفسه ، كما لا يعقل تأثيره في وجوده ، فإنّه دور محال ـ فغير لازم ؛ لأنّ هنا وجودين ، أحدهما الوجوب المشروط وهو حاصل قبل المجيء ، والآخر الوجوب المطلق وهو معلول المجيء ، وإن شئت فعبّر عنهما بفعليّة الوجوب وفاعليّته ، كما عبّرنا آنفا.

فتعليق المرتبة الاولى على المجيء صار سببا لصيرورة المجيء سببا للمرتبة الاخرى ، فلم يؤثّر المعلّق في المعلّق عليه ، وإنّما أثّر في سببية المعلّق عليه.

نعم لو كانت السببيّة هي المعلّق عليه لزم الدور ، ولا أثّر المعلّق في المعلّق عليه سببيّته لنفس المعلّق حتّى يلزم الدور أيضا ، وإنّما أثّر في سببيته لشيء آخر ، هذا تمام الكلام في السببيّة ، ويعلم منها الحال في الشرطيّة والمانعيّة للتكليف.

٥٢٢

وأمّا الشرطيّة والجزئيّة للمأمور به فالحقّ عدم كونهما قابلتين للجعل أصلا لا استقلالا ولا تبعا.

أمّا الأوّل فواضح ، فإذا أمر بالصلاة مثلا مطلقا ، ثمّ جعل الطهارة شرطا لها ، فهذا غير معقول ؛ لأنّه تصرّف في مرحلة الامتثال ، وهو محال ، فلا يعقل جعل امتثال الأمر بالصلاة هي الصلاة مع الطهارة.

وأمّا الثاني فلأنّ مفهوم الصلاة مع الطهارة قبل تعلّق الأمر بها مفهوم يتوقّف وجوده على وجود الطهارة ، فلا تأثير في الأمر في حصول الشرطيّة ، وليس مجرّد تصوّر هذا المفهوم جعلا للشرطيّة ، وإلّا لزم أن يكون تصوّر الإنسان أيضا جعلا للجزئيّة في الحيوان والناطق.

وبالجملة ، ليس شأن التصوّر إلّا رؤية المفهوم ، لا جعل الشرطيّة والجزئيّة لشرطه وجزئه ، بل هما ذاتيتان للمتصوّر لا يعقل انفكاكهما عنهما ، كما أنّ المفهوم الخالي عن الجزء والشرط لا يعقل إثباتهما له.

وحينئذ فالأمر إذا تعلّق بهذا المتصوّر لا يؤثّر شيئا إلّا إضافة تلك الشرطيّة والجزئيّة المحققتين إلى عنوان المأمور به ، لا أنّه يصير منشئا لانتزاع نفسهما كما هو المقصود بالجعل التبعي.

فإن قلت : ما ذكرته في المقيّد تامّ ، وأمّا المركّب فالتركّب فيه لا بدّ له ، حيث إنّه ذاتا كثرات من ملاك ، وهو أحد من ثلاثة امور : وحدة الأمر ، ووحدة اللحاظ ، ووحدة الغرض ، وانتزاع الكليّة والجزئيّة إنّما هو فرع رؤية ما به الوحدة ، وحيث إنّ الوحدة اللحاظيّة ولا العرضيّة ليستا بملحوظتين للأمر فلا يعلّق أمره بما اخذ فيه احدى هاتين الوحدتين ، وإنّما تعلّقه بنفس الكثرات ، فينحصر أن يكون ما به الوحدة هو الأمر ، فليس الجامع لشتات الأجزاء إلّا الأمر ، وهذا معنى كون الجزئيّة مجعولة بتبع الأمر والتكليف.

٥٢٣

قلت : ما هو متعلّق للحاظ الواحد أيضا واحد وليس بكثرات ، وتوضيح ذلك أنّ الحالات والصفات التي تتولّد وتنشأ للملحوظ بتوسّط اللحاظ ، مثل آليّة الابتداء مثلا واستقلاليّته ، وتجريد الإنسان مثلا عن الخصوصيّات إذا قطع النظر عن اللحاظ ولم يلاحظ على وجه الاستقلال ، فتلك الحالات كيفيّات ثابتة للملحوظ في ظرف التقرّر ، أعني ظرف التجريد عن الذهن والخارج.

فنقول في مقامنا : العشرة المتكثّرة الوجود في الخارج إذا لوحظت بلحاظ واحد فقد وجدت في الذهن بوجود واحد ، ولا ينسلب عنه هذه الوحدة بواسطة عدم رؤيتنا الوجود الذهني استقلالا ، بل تبعا ومرآتا ، فعدم الروية الاستقلاليّة لا ينافي مع الثبوت الواقعي ، فالملحوظ واقعا ذو عشرة أجزاء ولو لم يمكننا في هذا اللحاظ الحكم بالكليّة والجزئيّة ، ولهذا لا يقبل إلّا إشارة واحدة ، كما أنّ وصف التجريد حالة ثابتة للإنسان حتّى مع تجريده عن اللحاظ ، مع أنّه ليس إلّا من قبله ، ولهذا يقبل الحكم بالكليّة دون الجزئيّة.

ومن الأحكام الوضعيّة الصحّة والفساد ، بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به ومخالفته له ، وهذا المعنى كنفس المأمور بهيّة من الامور المنتزعة عن التكليف ، ولو جعلناهما بمعنى التمام والنقص فحالهما حال الجزئيّة والشرطيّة في عدم الانتزاع عن التكليف.

ومنها : الحجيّة ، والمراد بها كون الشيء بحيث يعذّر العبد بسببه تارة ، ويعذّر المولى اخرى ، وهذا المعنى لا يمكن أن يكون له واقع مع قطع النظر عن العلم ، لا بمعنى أنّ العلم بهذا المعنى مقوّم لأصل المعنى ، كيف وهو الدور المحال ، بل بمعنى أنّ العلم بالتكليف هو المعذّر والمنجّز ، ولا يمكن حصول العذر والتنجيز مع الجهل بالتكليف وجعل الحجيّة رأسا ، ولو كانت الحجيّة بالمعنى المذكور قابلة للجعل يلزم وقوع الإنسان ـ مع عدم اطّلاعه بالواقع ولا جعل خبر الواحد مثلا حجّة ـ في محذور استحقاق العقوبة ، أو في استراحة المعذوريّة.

فإن قيل بتخصيص الحجيّة بظرف العلم بالجعل فإن اريد أنّ العلم كان مقوّما لها

٥٢٤

فهو الدور المحال ، وإن اريد كون العلم كاشفا فهو وإن سلم عن محذور الدور ـ بأن يكون الجاعل قد خصّص من الابتداء جعله بمن يعلم ـ لكنّه غير سالم عن المحذور الذي أشرنا إليه من عدم دخالة العلم في المعذورية وعدمها وكونه كالحجر المضموم.

نعم هنا معنى آخر نظير ما قلنا في جعل السببيّة والوجوب ، وهو سدّ باب عدم المعذوريّة أو المعذوريّة من قبل المولى ، فلا ينافي اشتراط حصوله وفعليّته عقلا بالعلم.

وبعبارة اخرى : العلم بهذا المعنى هو المعذّر الواقعي ، وخبر الواحد مثلا هو المعذّر الإنشائي ، فتكون الحجيّة كالملكيّة اعتبارا من الاعتباريّات خفيف المئونة قابلا للجعل والإنشاء ، وفائدة هذا الإنشاء أنّ العلم به يصير معذّرا كالعلم بالتكليف ، فلا ينحصر الأمر في الأمارات والطرق بجعل الأمر بالاتّباع ، بل يحصل المقصود بجعل الحجيّة كما ذهب إليه بعض الأساطين قدّس أسرارهم.

فإن قلت : بل لا محيص عن القول بجعل الحجيّة ، فإنّ الأمر الطريقي على فرض القول به ، معناه عدم الأمر في تقدير المخالفة وعدم الإصابة ، لا بمعنى تقييد الأمر بالإصابة، بل بمعنى إلغائه في الذهن عدم الإصابة والالتزام القلبي بكونه دائم المطابقة ، فلا يسري الأمر إلى حال عدم الإصابة ، فإذا صارت حال الإصابة والعدم مشكوكة فلا محالة يكون الأمر مشكوكا ، فلا علم بالأمر ولا بالحجيّة حسب الفرض.

قلت : يتمّ المقصود بجعل الطريقيّة كما قرّرته ، حيث انسدّ باب عدم الإصابة شرعا ، والتزم بالإصابة كذلك والأمر في فرض الإصابة مقطوع ، فالحاجة على هذا القول انّما هي إلى جعل الطريقيّة دون الحجيّة ، وبينهما بون بعيد.

ومنها : الملكيّة والزوجيّة والحريّة والرقيّة وهذه الأحكام غير قابلة للانتزاع عن التكاليف المتعلّقة بعناوينها ، للزوم تأخّر الموضوع عن الحكم ، نعم يمكن انتزاع الملكيّة عن الأحكام المتعلّقة بغير عنوانها ، كما لو ابيح جميع التصرّفات من الناقلة وغيرها للإنسان في مال ، فإنّه ينتزع من هذه الاباحة ، الملكيّة ، وأمّا في مثل : «الناس مسلّطون على أموالهم» فلا يمكن كون المحمول محقّقا لإضافة المال إلى الناس.

هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعيّة ، والله تعالى هو الهادي للصواب في كلّ باب.

٥٢٥

في ما يتعلّق باستصحاب الكلّي في القسم الأوّل منه. (١)

اعلم أنّه لا إشكال في عدم الاستغناء باستصحاب الكلّي عن استصحاب الفرد لو كان للفرد أيضا أثر ؛ لأنّه مثبت ، وإنّما الكلام في العكس وهو الاستغناء باستصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

والحقّ هنا هو التفصيل بين ما إذا اخذ الجامع بلحاظ وجوداته الخارجيّة السارية ، كما في عروض الحرارة لطبيعة النار فيغني ، وبين ما إذا اخذ بلحاظ صرف الوجود المجزي عن جميع الخصوصيات وعن الوحدة والكثرة ، كما في عروض الكليّة لطبيعة الإنسان مثلا فلا يغني.

أمّا الإغناء في الأوّل ؛ فلأنّ الطبيعة بطبعها يكون في الخارج مع كلّ فرد فرد متّحدة ، ومندمجا كلّ في الآخر ، بحيث لا ميز أصلا بينهما ، فإذا جاءت في الذهن محفوظا لها هذا الطبع ومن دون تصرّف من الذهن وتغيير في حالتها الأصليّة ، فكلّ عرض ألصق بها في هذا اللحاظ فهو يسري إلى كلّ فرد فرد.

وإن شئت قلت : كلّ فرد فرد على ما هو عليه من عدم الميز لخصوصيّته مع الطبيعة وكونه معها شيئا واحدا ملحوظ إجمالي ، فيتعلّق الحكم بكلّ فرد ابتداء ، غاية الأمر بعليّة الطبيعة ، فالطبيعة حيثيّة تعليليّة ، فالحكم في الحقيقة يلصق بذات الزيد والعمر والبكر لعلّة كونها إنسانا مثلا ، فيكون ذات الزيد مثلا ذا أثرين ، أحدهما ما رتّب عليه بعليّة الإنسانيّة ، والآخر ما رتّب عليه لخصوصيّة الزيديّة ، فيكون الاستصحاب في الفرد متكفّلا لكلا أثريه.

وأمّا عدم الإغناء في الثاني فلأنّ الذهن قد حلّل الخصوصيّات عن الطبيعة المندمجة فيها وأخذ الطبيعة ، وألغى الخصوصيّات ، فالطبيعة في هذا اللحاظ متّصفة بوصف التعرية والتجريد ، لا بمعني أنّها اخذت مقيّدة بالتجريد ، فإنّ الإنسان بقيد

__________________

(١) راجع ص ٣١٤

٥٢٦

التجريد عن الخصوصيّات الخارجيّة كلّي عقلي مباين مع الخارج ، بل بمعنى أنّها يكون من حالاتها واقع التجريد وما هو بالحمل الشائع تجريد ، وإذا كان هذا حاله فلا محالة يغاير مع ما ليس ذا بحاله ، كما أنّ الجسم الخارجي الأبيض يباين مع اللاأبيض.

ثمّ هذه الحالة العارضة في الذهن لها مدخليّة في عروض الحكم ، بمعنى أنّه لو تبدّلت بضدّها وهو حالة المحفوفيّة والاندماج مع الأفراد لا يتّصف بالمطلوبيّة ، كما لا يتّصف بالكليّة ، وكما لا يسري عرض الكليّة إلى الأشخاص ، فكذلك هنا أيضا الشخص الأوّل المنطبق عليه صرف الوجود لا يسري إليه عرض المطلوبيّة ، ولا يلزم عدم حصول الامتثال ؛ لأنّ المعروض وهو نفس الطبيعة المطلوبة منطبق على أوّل الوجود ؛ لفرض عدم تقييده بالتجريد ، وإنّما لا يسري عرضه ؛ لأنّ لحوقه في لحاظ التجريد.

فكما أنّ الإنسان بذاته ينطبق على الزيد لا بوصف الكليّة ، فكذا هنا أيضا الطبيعة بذاتها منطبقة على أوّل الوجود لا بوصف المطلوبيّة ، وهذا يكفي في صدق الامتثال ، وكما يقال : الكليّة خاصّة للإنسان لا ربط لها بالزيد ، والجزئيّة خاصّة الزيد لا ربط لها بالإنسان ، فكذلك يقال بالنسبة إلى العرض اللاحق شرعا للإنسان ـ مثلا ـ في لحاظ التجريد : أنّه خاصّته وغير مرتبط بالزيد ، كما أنّ حكم الزيد غير مرتبط بالإنسان بهذا اللحاظ ، فلهذا لا يكفي استصحاب الفرد في ترتّب أثر الجامع بهذا المعنى.

في ما يتعلّق باستصحاب الكلّي في القسم الثاني.

اعلم أنّه لا إشكال في تحقّق أركان الاستصحاب في الكلّي في هذا القسم ، كما هو واضح ، ولكن هنا تفصيلا ، وهو أنّ الجامع قد يكون عقليّا ، يعني ليس محقّقاته وتشخيص أنّه بم يتحقّق من وظيفة الشارع ، كالحيوان ، فلا إشكال في هذا القسم عند تردّد فرده الموجود بين الطويل والقصير في استصحابه والشكّ في بقائه لو قلنا

٥٢٧

بأنّه متسبب ومترتّب على الشكّ في وجود الفرد الطويل ، لكن استصحاب عدم ذلك الفرد بضميمة القطع من الخارج بانتفاء سائر الأفراد ليرتّب عليه نفي أصل الجامع لا إشكال في كونه من الاصول المثبتة ؛ لأنّ ترتيب عدم الحيوان مثلا على انعدام جميع أفراده عقلي لا شرعي.

وقد يكون شرعيّا ، يعني بيان محقّقاته وأنّه بم يتحقّق يكون من وظيفة الشرع ، وحينئذ أيضا قد يكون البيان الوارد من الشرع متكفّلا لبعض محقّقاته مع عدم التعرّض لنفي غيرها ، كما إذا علمنا منه أنّ الحدث يتحقّق بالبول والغائط والمني ، ولم نعلم الانحصار ، فلا شبهة أنّه عند القطع بانتفاء هذه الثلاثة أيضا ليس لنا الجزم بانتفاء أصل جامع الحدث الذي فرضناه مانعا عن الصلاة ، إذ هذا القطع لا يفيدنا أزيد من انتفاء هذا الجامع من قبل هذه الأشياء ، ونحن نحتمل وجوده من قبل أشياء أخر كالمذي ونحوه ، فمع إحراز عدم هذه الأشياء كلّا أو بعضا بالأصل لا يمكن الحكم بانعدام الجامع كليّا بطريق أولى.

وقد يكون البيان الواصل متكفّلا لكلي طرفي القضيّة من الثبوت عند الثبوت ، والانتفاء عند الانتفاء ، كما لو فرض في البيان اللفظي أنّه اقتصر على الثلاثة ، وقال : إذا حدث أحد هذه الامور فأنت محدث ، وكان في مقام البيان ، فإنّ المفهوم منه أنّه إذا لم يحدث أحدها فلست بمحدث.

ففي هذه الصورة هل الحكم بانتفاء أصل جامع الحدث مرتّبا على استصحاب عدم هذه الامور كلّا أو بعضا مع إحراز عدم الباقي وجدانا يكون مبنيا على الأصل المثبت أو لا؟.

غاية تقريب الأوّل أنّ الشارع بيّن عليّة هذه الأشياء للحدث وانحصار العليّة بها أيضا ، وأمّا الحكم بأنّ المعلول عدم عند عدم علّته المنحصرة فمن وظيفة العقل ليس إلّا.

وهذا مدفوع بأنّ الذي تكفّله الشرع نفس تطبيق الجامع عند الوجود ، ورفعه عند العدم ، لا بيان العليّة المنحصرة بما هي هذا العنوان ، فكما لا يتوقّف في طرف

٥٢٨

الوجود في ترتيب وجود الجامع على الأصل المنقّح لوجود أحد الأشياء ، فكذلك في جانب العدم.

فكما أنّا لو كنّا قاطعين بخروج البول وعدم خروج المني ، ثمّ توضّينا فنحكم بارتفاع أصل الحدث عنّا بحكم الشارع ، كذلك لو قطعنا بخروج البول وشككنا في خروج المني بعده، فنحن نجري استصحاب عدم خروج المني فإذا توضّينا كان الحكم بعدم المحدثيّة من شأن الشارع.

فإن قلت : سلّمنا أنّ حكم الشارع ليس على عنوان العليّة ، بل بتطبيق ذات المعلول عند وجود ذات العلّة ، لكن نقول : كلّ من هذه الأشياء إنّما يتعقّبه حصّة من جامع الحدث ، غاية الأمر أنّ الحصّة مشتملة على أصل الجامع ، وحينئذ فالمتحصّل من نفيها نفي الحصص ، وترتيب نفي الجامع بنفي الحصص عقلي.

قلت : وإن كان الجامع لا يتحقّق إلّا في ضمن الفرد ، ولكنّ الشيء يؤثّر في حقيقة الأثر ، مثلا النار إنّما يؤثّر في حقيقة الإحراق ، لا في الإحراق الخاص بخصوصيّة كونه من قبل هذه النار الشخصيّة ، وكذلك مفاد القضيّة اللفظيّة أو اللبيّة في مقامنا ترتيب أصل حقيقة الحدث على كلّ واحد من الامور.

فإن قلت : هذا لا يتأتّى في ما إذا كان المسبّب من هذه الامور مختلفا بالشدّة والضعف ولو كان حقيقة واحدة ، وذلك مثل الدم والبول ، حيث إنّ الأوّل مؤثّر في الحدّ الضعيف من النجاسة المرتفع بالغسل مرّة ، والثانى في القويّ منها المتوقّف رفعه على الغسل مرّتين ؛ فإنّ نفي أصل الحقيقة بانتفاء مراتبها عقليّ.

قلت : ليست المراتب منتزعة من أمر خارج عن أصل الحقيقة ، فالنور الشديد ليس ما به الامتياز فيه عن النور الضعيف إلّا من جنس النور ، لا أنّه نور وشيء آخر ، فزيادة التأثير لا يخرجه عن التأثير في أصل الحقيقة.

فإن قلت : سلّمنا كلّ ذلك ، ولكن استصحاب عدم موجب الحدث الأكبر مثلا بضميمة القطع بأنّه لو لم يحدث الأكبر في الموارد الخاص بحدث الأصغر وارتفع يفيد الحكم بانتفاء حقيقة الحدث ، ولكنّه غير قاض بارتفاعها ، وقد كان الموضوع

٥٢٩

للاستصحاب في جانب الكلّي أعني حقيقة الحدث هو الشكّ في البقاء والارتفاع ، أعني منشأ انتزاعهما ، وهو الوجود بعد الوجود والعدم بعد الوجود ، لا هما بما هما.

وهذا مراد شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف حيث قال : وتوهّم عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث محكوم الانتفاء بحكم الأصل ، مدفوع بأنّه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه وارتفاعه.

كتوهّم كون الشكّ في بقائه مسبّبا عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترك ، لأنّه من آثاره ، فإنّ ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر ، نعم اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ، انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

وبالجملة ، الحاكم المتوهّم هنا لا يرفع التحيّر عن الواقع في مورد المحكوم ، فإنّ مورد استصحاب بقاء أصل الحدث الذي هو المحكوم هو الشكّ في بقاء وارتفاع أصل الحدث ، ويحكم في هذا الموضوع بالبناء على البقاء وعدم الانقطاع.

والحاكم على هذا الأصل لا بدّ أن يرفع التحيّر عن أحد الأمرين من بقاء حقيقة الحدث أو ارتفاعه ناظرا إلى إلغاء الشكّ في بقائه وارتفاعه ، بأن يكون واردا في موضوع الشكّ في سبب البقاء والارتفاع ، وهو الأصل المحرز ؛ لكون الحادث موجب الأصغر ، فإنّه رافع للشكّ في الارتفاع بعد الوضوء.

وأمّا ما جعلته حاكما وهو استصحاب عدم حدوث موجب الأكبر ، فغاية ما يرفع التحيّر عنه هو عدم وجود ما في ضمن الأكبر من حقيقة الحدث ، هذا لو لوحظ بنفسه.

ولو ضمّ إليه الوجدان الخارجي أعني أنّه لو لم يحدث هو لحدث الأصغر وارتفع ، فكلاهما يرفع التحيّر عن عدم وجود أصل حقيقة الحدث ، وهو أعمّ من

٥٣٠

ارتفاعه ، فالشكّ في بقاء وارتفاع أصل الحقيقة باق بحالة لم يتكفّل لرفعه حاكم ، ومجرّد كون هذا الأصل ليس في موضوع الشكّ في بقاء وارتفاع الكلّي ، وإنّما هو في موضوع الشكّ في حدوث وعدم حدوث الفرد الأكبر ، ويحكم بعدم الكلّي لا ينفع في الحكومة.

نعم لازم عدم الحقيقة في خصوص المورد ارتفاعها ، لكن هذا إثبات لأحد المتلازمين بالآخر ، ويخرج عن باب الانتقال من السبب إلى مسبّبه.

والحاصل أنّا سلّمنا السببيّة والمسببيّة شرعا بين عدم الأسباب الخاصّة وعدم الحدث بتقريب ذكرت ، وسلّمنا أنّ أصالة عدم موجب الأكبر في المثال ، أعني ما إذا خرج من المتطهّر عن الحدثين رطوبة مردّدة بين البول والمني يترتّب عليها عدم أصل الحدث لا الحدث في ضمنه ، بملاحظة ما ذكرت من ضمّ الوجدان إلى هذا التعبّد ، لكن لا يلزم منها رفع الشكّ في البقاء والارتفاع الذي هو الموضوع للأصل في جانب الكلّي.

وهذا بخلاف الحال في مثل استصحاب الطهارة في الماء المغسول به الثوب النجس ؛ فإنّه يرفع موضوع الاستصحاب في الثوب ، وهو الشكّ في بقاء النجاسة وارتفاعها بواسطة الحكم بارتفاعها.

قلت : بعد تسليم كون المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء والارتفاع ، والغضّ عن أنّه ليس المعتبر إلّا الشكّ في الوجود والعدم في زمان بعد القطع بالوجود قبله ، سلّمنا اعتبار البقاء ، لكن ليس المعتبر أن يكون عدله هو الارتفاع ، بل يكفي الشكّ في البقاء وعدم البقاء أنّ الأصل المنقّح لعدم أصل الكلّي كاف لرفع الشكّ في البقاء والارتفاع ؛ لأنّ العدم في الزمان الثاني لا شبهة أنّه نقيض البقاء ، والأصل المحرز لأحد النقيضين رافع للشكّ في النقيض الآخر ، وإذا ارتفع الشكّ في البقاء يرتفع موضوع الاستصحاب في جانب الكلّي ؛ لأنّه الشكّ في البقاء والارتفاع ، وهو يرتفع بارتفاع أحد عدليه ولو مع بقاء التحيّر بالنسبة إلى العدل الآخر وهو الارتفاع ، فتدبّر.

٥٣١

في ما يتعلّق باستصحاب الكلّي في القسم الثالث.

اعلم أوّلا أنّ محلّ الكلام ما إذا رتّب الأثر في الدليل على صرف وجود الطبيعة المعرّى عن خصوصيّة جميع الأفراد ، وعن خصوصيّة الحدوث والبقاء ، كما إذا ورد : إذا كان الإنسان موجودا في الدار فافعل كذا.

وحينئذ نقول : لا يمكن الاستشكال في أنّه في صورة القطع بوجود زيد وارتفاعه واحتمال حدوث عمرو في الدار مقارنا لارتفاعه قد وقعت قضيّة «الإنسان موجود» في الزمان الأوّل مقطوعة ، وفي الزمان الثاني المتّصل بالأوّل والغير المتخلّل بينهما بزمان مشكوكة.

ولا يمكن القول بأنّ ما قطع بحدوثه وارتفاعه حصّة من وجود الإنسان ، وما يحتمل حدوثه في الآن المقارن لارتفاع الأوّل حصّة اخرى ، وليس لنا معنى واحد محفوظ في كلا المقامين موجود في الخارج.

نعم هذا المعنى عند التحليل الذهني يكون موجودا في الذهن ، وأمّا الخارج فحيث إنّ الوجود فيه مساوق مع التشخّص فلا محالة تكون الطبيعة فيه مرهونة بالتشخّص ، وليس لها وراء وجود التشخّصات وجود آخر لم يكن مرهونا بالتشخّص ، فإذا ارتفع فرد خارجي فقد انعدم بما فيه ، وإذا حدث فرد فقد حدث بما فيه ، فلم يجتمع اليقين بالحدوث والشكّ في الارتفاع بأمر واحد في الخارج.

وذلك لأنّا نقطع بأنّ بين تلك الوجودات جامعا وليست متباينة بالكنه ، وهو أمر خارجي متّحد معها منطبق عليها ، فالذي ينتزعه العقل بذاته موجود في الخارج ، نعم بوصف تجرّده غير موجود.

وعلى هذا فذلك المعنى إذا انعدام أحد تلك الوجودات لا ينعدم ولا يصحّ نسبة العدم المطلق إليه إلّا بعد انعدام تمام تلك الوجودات ، وإذن فإذا قطع بوجود زيد في الآن الأوّل وارتفاعه في الثاني ووجود عمر ومكانه في الآن الثاني ، فالقطع بوجود الإنسان قد تعلّق بشيء واحد في كلا الآنين ، فكذلك لو شكّ في وجود عمر ومقارنا

٥٣٢

لارتفاع زيد ، فالقطع والشكّ بملاحظة الزمانين قد تعلّقا بأمر واحد خارجي ، وإنكار هذا لا يليق صدوره من العالم.

نعم هنا مطلب آخر وهو أن يدّعى أنّ موضوع الأثر الواقعي وإن كان نفس وجود الطبيعة المعرّى من جميع التشخّصات ، ومن القلّة والكثرة ومن الحدوث والبقاء ، ولكن قد اخذ في موضوع الاستصحاب كون الشكّ متعلّقا ببقاء ما كان في السابق.

وفي المثال المفروض أعني ما إذا قطع بوجود زيد في زمان وارتفاعه بعده ، واحتمال حدوث عمرو مقارنا له مع عدم تخلّل زمان بين الزمانين وإن كانت هنا قضيّة واحدة تحت اليقين والشكّ بملاحظة الزمانين ، بمعنى أخذ الزمانين ظرفا لمتعلّق اليقين والشكّ ، لا لنفسهما ، لكن ليس هذا ملازما مع الشكّ بعنوان بقاء الكلّي.

وجه العدم أنّه لا يمكن انتزاع الشيء من وجود أمرين كلاهما ضدّان منافيان له ، وفي المقام ، المفروض أنّ زيدا قد ارتفع ، وعمروا على فرض الوقوع قد حدث ، وكلّ من الارتفاع والحدوث أمر منافر مع البقاء ، فكيف يؤخذ من هذين المنافرين عنوان البقاء ويسند إلى الطبيعة.

فإن قلت : فإذا لم يسند البقاء فلا بدّ من صحّة إسناد الارتفاع إليها ، وهذا التزام بانتفاء الطبيعة مع عدم انتفاء جميع أفرادها.

قلت : فرق بين الارتفاع والانتفاء ، فإنّ الأوّل صفة وجوديّة ؛ إذ هو عبارة عن انعدام الوجود السابق في الآن اللاحق ، فخصوصيّة الوجود السابق مأخوذ فيه ، وأمّا الثاني فهو مطلق الانعدام في مقابل أصل الوجود.

بقي أنّا نرى صحّة إطلاق البقاء في أمثال هذه الموارد ، ألا ترى صحّة قولنا : نوع الإنسان باق من لدن خلقة آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام إلى يومنا هذا؟.

ويمكن الجواب بأنّه مبنيّ على المسامحة ، وتنزيل تلك الوجودات المتغايرة بمنزلة وجود واحد ممتد ، نظير المسامحة في بقاء الزمان مع كونه غير قارّ الذات.

وعلى هذا فتفصيل شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف ـ بين ما إذا احتمل حدوث الفرد الآخر مقارنا لزوال الفرد المقطوع ، فلا يجرى استصحاب الكلّي ، وبين ما إذا احتمل وجود فرد آخر مقارنا لوجود ذلك المقطوع ، واحتمل بقائه بعد

٥٣٣

ارتفاعه ، فيجري استصحابه ـ يكون متوجّها ، هذا.

ولكنّ الحقّ خلاف الدعوى المذكورة ، فإنّ تعريف القوم بأنّ الاستصحاب إبقاء ما كان وإن كان يساعدها ، ولكن ليس في الأخبار ما يستظهر منه هذا القيد ؛ فإنّ المستفاد منها ليس بأزيد من توارد اليقين والشكّ على أمر واحد ولو لم ينطبق عليه في الآن الثاني البقاء ، كما في الزمان والزماني ، إذ لو لم يعامل في الآن الثاني حينئذ معاملته في الآن الأوّل يصدق أنّه نقض يقينه عملا.

وهذا هو المعيار في جريانه ، وهو مطّرد مع وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ولو لم يكن في البين بقاء ، هذا هو الكلام في جريان الاستصحاب بحسب الذات.

وأمّا فعليّته فمبنيّ على عدم محكوميّته باستصحاب عدم حدوث الفرد المحتمل الحدوث مقارنا لوجود مقطوع الزوال أو لزواله وقد عرفت أنّ هذا الاستصحاب حاكم في الجوامع الشرعيّة.

وعلى هذا فلو غسل الثوب المتنجّس بالدم مرّه ، واحتمل ملاقاته مع البول في حال تنجّسه بالدم أو مقارنا للغسل مرّة ، فاستصحاب أصل النجاسة ليرتّب عليه المانعيّة للصّلاة وإن كان جاريا ذاتا ، ولكن استصحاب عدم ملاقاة البول يرفع هذا الشكّ ، ويترتّب عليه بعد وجدان حدوث الدم أنّ الغسل مرّة كاف لطهارة المحلّ وارتفاع نجاسته ، وهذا واضح من التقرير السابق ، فراجع.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى بعد ما اختار التفصيل المتقدّم قال : ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ما يتسامح فيه العرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل ما لو علم السواد الشديد في محلّ وشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد أضعف من الأوّل ، فإنّه يستصحب السواد ، إلى أن قال : وبالجملة ، فالعبرة في جريان الاستصحاب عدّ الموجود السابق مستمرّا إلى اللاحق ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق ، انتهى المقصود من كلامه الشريف.

وقال المحقّق الخراساني في ما علّقه هنا : بل يجري في مثله مع ابتنائه (أي الاستصحاب) على المداقّة ، بناء على ما هو التحقيق من أصالة الوجود ، لما حقّق في

٥٣٤

محلّة من أنّ الوجود عليه في جميع المراتب المتبدّلة شدّة وضعفا واحد شخصي ما دام متّصلا ولم يتخلّل العدم في البين وإن انتزعت عنه ماهيّات مختلفة وأنواع متفاوته ، انتهى كلامه الشريف.

قال شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة : حال الشدّة والضعف في الأعراض بعينها حال الزيادة والنقصان في الجواهر ، مثل البحر والقطرة ، ولا يخفي أنّ ما هو المادّة لتلك المراتب المتكثّرة ، ممّا دون القطرة إلى ما فوق البحر ليس له فعليّة الوجود إلّا في حال تلبّسه بإحدى تلك الصور ، وإلّا فإن لم يكن مرهونة في فعليّة الوجود بها فاللازم أن يكون البحر فعليّات ووجودات غير متناهية ، غير أنّها متّصفة باتّصال كلّ منهما بالآخر ، فإذا فرق بينهما فلم يتبدّل إلّا الوصف العرضي هو الاتّصال ، وإلّا فعين الوجودات السابقة باقية بحالها ، وهذا هو محلّ التشاجر بين المشّائيين والإشراقيين.

قال المحدّث الأسترآبادي في كلامه الذي نقله شيخنا المرتضى في بحث حجيّة القطع : ومن الموضحات لما ذكرنا من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطاء في مادّة الفكر ، أنّ المشّائيين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والإشراقيين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وفي أنّ الشخص الأوّل باق ، وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال، انتهى.

فتحصّل أنّ الهيولى موجودة ، لكن بعين وجود البحر أو القطرة ، وليس لها وجود منحاز ، نعم هي بالقوّة موجودة بوجود القطرة ، والوجود الفعلي خاصّ بالبحر ، وكذا العكس ، نظير وجود العلقة في ضمن النطفة بالقوّة.

وبالجملة ، فعليّة الوجود بالحدّ ، فما لم ينضمّ إليه الحدّ الكذائي فلا وجود ولا فعليّة ، نعم له شأنيّة الوجود واستعداده وقوّته ، فإذا ارتفع الحدّ ارتفع ذلك الشخص من فعليّة الوجود وحدث مقارنا لزواله شخص آخر من الفعليّة المتقوّمة بالحدّ الآخر الحادث.

ثمّ لا فرق في ذلك بين الجواهر والأعراض ، لاشتراك الملاك في البابين ، كما هو واضح.

٥٣٥

في ما يتعلّق باستصحاب الزمان

والزماني والمقيّد بالزمان. (١)

اعلم أنّه لا شبهة في ما إذا قطع بوجود السير والحركة المبتدئة من مكان كذا مثلا إلى مكان كذا ، وشكّ في وصولها إلى غايتها وعدمه ، وبعبارة اخرى : شكّ في أنّ الفاعل أعطاها الحدّ أولا ، فهناك قضيّتان ، متيقّنة ومشكوكة متّحدتان ؛ لأنّ متعلّق اليقين والشكّ أمر واحد شخصي وهو وجود الحركة ، ولا شبهة أنّ هذه الحركة المتوسّطة بين الحدّين ـ ما لم يعرضها حدّ ـ واحد شخصي بالدقّة وعند العرف.

أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلأنّه لو كان هنا وجودات متلاصقة يلزم الانتهاء إلى الجزء الذي لا يتجزّى ، أو الانتهاء إلى ما لا يتناهى ، فينحصر الأمر في أنّ هنا حدّا واحدا خارجيّا ، نعم يفرض له حدود كثيرة غير متناهية ، لكن لا واقعيّة لها غير الفرض.

وبالجملة ، لا شبهة في وحدة القضيتين ، وبعد ذلك فإن شئت سمّ الشروع حدوثا وما بعدها بقاء ، وإن شئت فسمّ التمام حدوثا وقل : إنّه أمر واحد يحدث شيئا فشيئا وعلى التدريج.

كما أنّه لا شبهة في أنّه لو كان موضوع الأثر قطعة خاصّة من الحركة محدودة بالحدّين فلا يفرض فيه القطع بالحدوث والشكّ في البقاء عقلا ؛ لأنّه أمر آنيّ الحصول ؛ إذ ما لم يحرز الجزء الأخير منه لا نقطع بالحدوث ، وإذا احرز لا يمكن الشكّ في البقاء ؛ لأنّه مقرون بالقطع بالارتفاع.

ثمّ الزمان كلّه من هذا القبيل ؛ فإنّ أقسامه من الدقيقة والساعة ونصف الساعة والنهار والليل ، إلى غير ذلك أسام لقطعات خاصّة محدودة بحدود معيّنة من حركة

__________________

(١) راجع ص ٣٢٨.

٥٣٦

الفلك ، نعم هذا القسم المسمّى بالحركة القطعيّة مع الأوّل المسمّى بالتوسّطية كلاهما يجريان في الزماني ، مثل حركة زيد ، كما هو واضح ، هذا بحسب الدقّة.

وأمّا عرفا فمن الممكن حصول اليقين والشكّ ؛ فإنّ العرف يسامحون ، فيرون هذا المجموع المركّب حاصلا بحصول أوّل جزء منه ، ألا ترى أنّ الليل مع أنّه اسم لمجموع ما بين الحدّين ـ ولهذا يطلق نصف الليل وليلة واحدة وليلتان ـ يرونه داخلا بمجرّد دخول أوّله ، فيقولون : دخل الليل ، وكذلك يطلقون البقاء فيقولون : كم بقي من الليل ، وعلى هذه المسامحة فرض اليقين والشكّ في غاية الإمكان.

نعم استصحاب الزمان على هذا الوجه لا يفيد تطبيق عنوان الليل أو النهار مثلا على الجزء الموجود فعلا ، فالذى يفيده الاستصحاب إنّما هو مفاد كان التّامة وهو وجود الليل مثلا ، دون مفاد كان الناقصة وهو وجود الليليّة لهذا.

وعلى هذا فاستصحاب عدم دخول رمضان ليرتّب عليه عدم إيجاب الصوم واستصحاب بقائه ليرتّب عليه حرمة الإفطار لا ينطبق على القاعدة ، إذ لا يثبت به رمضانيّة هذا اليوم حتّى يكون الإفطار إفطارا في رمضان ، ولا عدم رمضانيّته حتّى يكون الصوم صوما في غير رمضان.

نعم لو كان المستفاد من الأدلّة أنّ وجود رمضان سبب لإيجاب الصوم لا أن يكون المسبّب الصوم المتقيّد بكونه في رمضان أمكن الاستصحاب ؛ إذ لم يرتّب الأثر إلّا على مفاد كان التامّة ، كما أنّه يمكن إجراء الاستصحاب على فرض جعل الأثر لمفاد كان الناقصة بنحو آخر وهو إجرائه في نفس الفعل المقيّد ، بأن يقال : لم يكن الصوم على فرض تحقّقه في اليوم الماضي صوما في رمضان ، فالآن كما كان ، وكذا كان الإفطار في اليوم الماضي على فرض تحقّقه إفطارا في رمضان ، فالآن كما كان.

فإن قلت : هذا استصحاب تعليقي في الموضوع ، وقد تقرّر في محلّه بطلانه.

قلت : ما تقرّر بطلانه غير هذا ، وهو ما إذا رتّب الأثر في الأدلّة على الوجود

٥٣٧

الفعلي ، كوجود الكرّ الفعلي ، فاستصحاب وجوده التعليقي لا ينفع ـ على ما قرّر في محلّه ـ وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الأثر قد رتّب على نفس الملازمة ، فإنّ الوجوب مرتّب على الصوم الذي لو تحقّق كان في رمضان ، والحرمة على الأكل الذي لو تحقّق كان في رمضان ، وذلك لعدم إمكان ترتّبه عليهما على نحو فعليّة الوجود ، للزوم الأمر بالحاصل والزجر عن الحاصل ، فالمقام نظير استصحاب المضريّة في الصوم.

ومن هنا يظهر الحال في القسم الأخير أعني المقيّد بالزمان إذا كان الشكّ من جهة الشكّ في انقضاء قيده ، إذ استصحاب نفس المقيّد بعد كون الزمان بالمسامحة العرفيّة ممّا يقبل البقاء لا مانع منه.

نعم لو كان الشكّ من جهة الشكّ في حدوث حكم آخر في المقيّد بما بعد ذلك الزمان أو في المطلق على نحو تعدّد المطلوب فالاستصحاب الموضوعي لا وجه له أصلا ، للقطع بالارتفاع بسبب القطع بانقضاء القيد ، كما لا مجرى لاستصحاب شخص الحكم ، وأمّا استصحاب الجامع فمبنيّ على جريان استصحاب الكلّي في القسم الثالث ، هذا.

ولشيخنا المرتضى في هذا القسم كلامان متدافعان ، لأنّه قدس‌سره في صدر المبحث بعد أن نقل عن جماعة جريان الاستصحاب في نفس الزمان قال : فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ، ثمّ عند ذكر القسم الأخير في مقام التفصيل قال : وأمّا القسم الثالث وهو ما كان مقيّدا بالزمان فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه ، فإن كان القسم الثالث في كلامه عبارة عمّا كان الشكّ فيه من جهة الشكّ في تقضّي الزمان صحّ كلامه الأوّل ، كما عرفت ، ولكن لا يصحّ كلامه الأخير.

وإن كان عبارة عمّا كان الشكّ بعد القطع بتقضّي الزمان من جهة الشكّ في بقاء الحكم بأحد النحوين المذكورين كان كلامه الثاني صحيحا ، ولكن لا يصحّ الأوّل ، كما هو واضح ، وكون المقصود به متعدّدا في المقامين ممّا يأباه العبارة ؛ لأنّ القسم

٥٣٨

الثالث متّحد مع ما ذكره في صدر البحث ، وإذن فلا محيص عن وقوع سهو من قلمه قدس‌سره أو قلم النسّاخ.

بقي الكلام في ما تنظّر فيه شيخنا المرتضى من كلام المحقّق النراقي قدس‌سرهما ، وحاصل ما ذكره المحقّق المذكور أنّ الامور المجعولة الشرعيّة كالوجوب والطهارة الحدثيّة والخبثيّة إذا علم وجودها في قطعة خاصّة من الزمان ، كوجوب الجلوس يوم الجمعة ، إلى الزوال وشكّ فيها في ما بعد تلك القطعة فهنا استصحابان متعارضان ؛ لأنّ هنا شكّا ويقينين ، أمّا الشكّ ففي الوجوب في ما بعد زوال يوم الجمعة ، وأمّا اليقينان ، فلأنّ المفروض هو اليقين بالوجوب في ما قبل الزوال من يوم الجمعة ، ومقتضاه استصحاب وجود هذا الوجوب ، وكذا اليقين بعدم مجعوليّة الوجوب من الأزل في ما بعد ظهر يوم الجمعة ، ومقتضاه استصحاب بقاء هذا العدم الأزلي.

وحاصل إشكال شيخنا قدس‌سره عليه أنّه : لا يخلو الأمر من شقّين ، إمّا نفرض الزمان قيدا لهذا الأمر المجعول أو لمتعلّقه بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بما قبل الزوال شيئا مغايرا للجلوس المقيّد بكونه بعد الزوال ، وإمّا نفرض ظرفا له ، بأن لوحظ ما قبل الزوال ظرفا للتكليف ولوحظ الجلوس أمرا واحدا مستمرّا في الأزمنة.

فعلى الأوّل يجري استصحاب عدم وجوب هذا المقيّد ، ولا مجال لاستصحاب الوجود ؛ للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، بل لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان من مقوّماته.

وعلى الثاني يجري استصحاب الوجود ، ولا مجال لاستصحاب العدم ؛ لأنّ العدم انتقض بالوجود المطلق ، وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلّه الاستصحاب.

وانتصر شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة للمحقّق المذكور على شيخنا المرتضىقدس‌سرهما بأنّا نختار الشقّ الأوّل تارة ، ونقول بأنّ استصحاب عدم المقيّد معارض باستصحاب جامع الوجوب المحتمل بقائه بحدوث فرد آخر له بعد زوال فرده الأوّل بلا فصل زمان ، كما في كلّ استصحاب جار في الكلّي في القسم الثالث ، فإنّه معارض باستصحاب عدم الفرد المشكوك الحدوث إذا كان أمرا مجعولا.

٥٣٩

نعم هذا الإشكال لا يرد على مذاقه (قدس‌سره) المتقدّم من اختيار عدم الجريان في القسم الثانى من القسم الثالث مع عدم المسامحة العرفيّة الذي مقامنا من قبيله ، لكن كلام المحقّق قابل للحمل عليه.

ونختار الشقّ الثاني اخرى ونقول : المفروض وإن كان ظرفيّة الزمان للوجوب ، لكن لنا شكّ ويقين بالنسبة إلى المقيّد بالزمان ، وعموم «لا تنقض» يشمله ، وهو معارض لاستصحاب الوجوب.

ألا ترى أنّه لو كان دليلان اجتهاديّان مفاد أحدهما أنّ الجلوس واجب في ما بعد زوال الجمعة ، ومفاد الآخر أنّ جلوس ما بعد زوال يوم الجمعة غير واجب ، كانا متعارضين، فإنّ الحكم في الأوّل وإن كان على المطلق ، وفي الثاني على المقيّد ، لكنّ المطلق أيضا مقيّد في اللبّ ؛ إذ ليس المراد أنّ ما بعد الزوال ظرف التكليف مع كون المكلّف به موسّع الزمان ، فكذا الحال في الاستصحابين.

وقد أجاب عن هذا شيخنا الاستاد دام ظلّه في الدرر بما لفظه : «وأمّا الشق الثاني فاستصحاب الوجوب ليس له معارض ، فإنّ مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيّد بالزمان الخاص أنّ هذا المقيّد ليس موردا للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيدا ، ولا ينافي وجوب الجلوس في ذلك الزمان الخاصّ على نحو لوحظ الزمان ظرفا للوجوب» انتهى كلامه الشريف.

واستشكل دام ظلّه على هذا الكلام في مجلس البحث بما حاصله أنّ المنافاة العرفيّة حاصلة بين قولنا : عتق الرقبة واجب ، وقولنا : عتق الرقبة الكافرة غير واجب ، وقولنا : العالم واجب الإكرام ، وزيد غير واجب الإكرام ، ضرورة أنّ المطلق والمقيّد لا يمكن عروض المتضادّين أو المتناقضين عليهما ، والمقيّد بما هو مقيّد وإن كان يصحّ سلب الوجوب عنه مع إثباته للمطلق ، لكن سلب الوجوب عنه بقول مطلق وبلا قيد ـ كما هو المستصحب في المقام ـ لا إشكال في عدم اجتماعه مع الإثبات للمطلق.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى إرجاع المطلق في المقام إلى المقيّد ، فإنّ الزمان ـ أعني ما بعد الزوال مثلا ـ وإن كان ظرفا للوجوب بحسب الصورة ، لكنّ الجلوس

٥٤٠