أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

والثانية : أن يكون لكلّ منهما أثر آخر غيره ، ويكون أثراهما كعمريهما قصيرا وطويلا ، فيكون أثر قصير العمر قصيرا وأثر طويل العمر طويلا ، والثالثة : أن يكون لكلّ منهما أثر آخر مباين للأثر الثابت للآخر.

ففي الصورة الاولى عدم معارضة أصالة عدم الطويل بأصالة عدم القصير مسلّم ، لعدم الأثر الشرعي لعدم القصير بالفرض ، وكذلك في الصورة الثانية كما لو تردّد نجاسة الثوب بين نجاسة الدم المحتاجة إلى الغسل مرّة ، وبين نجاسة البول المحتاجة إلى الغسل مرّتين ، فإنّ وجوب الغسل مرّة حينئذ متيقّن على أىّ حال ، وإنّما الشكّ في وجوب الغسلة الثانية ، فأصالة عدم النجاسة بالدم غير جارية ؛ لعدم الأثر الشرعي لها ، فيبقى أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض.

والسببيّة والمسببيّة في النجاسة والحدث غير مبتنية على السببيّة والمسببيّة بين الكلّي والفرد ؛ فإنّ الأشياء الخاصّة أسباب لحصول الحدث وملاقاة الامور العشرة أسباب لحصول النجاسة بلا كلام.

ثمّ القول بأنّ أصالة عدم الملاقاة بالدم لا أثر لها لتيقّن وجوب الغسل مرّة مخدوش ؛ إذ ليس من أثر هذا الأصل عدم وجوب الغسل مرّة بالمرّة ، بل من جهة النجاسة الدميّة ، ألا ترى أنّه في الشبهة البدويّة ليس من أثر هذا الأصل عدم نجاسة المحلّ بالمرّة ، بل المكلّف بعد القطع بعدم ملاقاة سائر الامور وتكفّل هذا الأصل لعدم ملاقاة الدم يحكم بعدم مطلق النجاسة.

وحينئذ فالعدم من جهة لا ينافي أصل الثبوت الذي هو المتيقّن ، فتكون أصالة عدم القصير مطلقا جارية ومعارضة لأصالة عدم الطويل ، فيبقى استصحاب أصل النجاسة الذي هو الأصل المسبّبي سليما عن الحاكم ، فافهم واغتنم.

وأمّا في الصورة الثالثة كما لو كان أثر الحدث الأصغر في المثال المتقدّم وجوب التصدّق بدرهم ، وأثر الأكبر وجوب الصوم ، فأصالة عدم الطويل معارضة بأصالة عدم القصير بالنسبة إلى هذين الأثرين المتباينين ، فإذا سقط أصالة عدم الطويل بالنسبة إلى هذا الأثر تسقط بالنسبة إلى أثره الآخر الذي هو نفي الكلّي ،

٣٢١

فإنّ وجه عدم إمكان العمل بكلا الأصلين لزوم المخالفة القطعيّة ، وبعد رفع اليد عن العمل بكليهما يدور الأمر بين حفظ أصالة عدم الطويل في أثر نفي الكلّي مع طرحها في أثرها الآخر ، وطرح أصالة عدم القصير في أثرها ، وبين حفظ أصالة عدم القصير في أثرها مع طرح أصالة عدم الطويل في كلا أثريها ، وبين حفظ أصالة عدم القصير في أثرها وحفظ أصالة عدم الطويل في أثر نفي الكلّي مع طرحها في أثرها الآخر ، وترجيح واحد من هذه الثلاثة على الباقى ترجيح بلا مرجّح.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ استصحاب الكلّي القسم الثاني في الجوامع الغير الشرعيّة جار بلا إشكال ، وكذلك في الجوامع الشرعيّة مطلقا ، بناء على استواء أصالة عدم الطويل وأصالة عدم القصير في أثر نفي الكلّي وفي خصوص ما إذا كان لكلّ منهما أثر مباين لأثر الآخر بناء على عدم الاستواء.

وأمّا القسم الثالث فإمّا أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي مستندا إلى احتمال وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم الحال ، كما لو علم بوجود زيد في الدار وخروجه عنها ، ولكن احتمل وجود عمرو معه فيها وبقاؤه فيها بعد خروج زيد إلى الآن.

وإمّا أن يكون الشكّ فيه في بقاء الكلّي مستندا إلى احتمال حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، وهذا على قسمين ؛ لأنّ الفرد الآخر إمّا مباين للفرد المعلوم الحدوث والارتفاع ، كما لو علم بوجود زيد في الدار وخروجه منها ، ولكن احتمل دخول عمرو فيها مقارنا لخروج زيد ، وإمّا مرتبة ضعيفة للفرد المعلوم حاله ، وهو مرتبة شديدة للفرد الآخر ، فيحتمل تبدّل الشديد بالضعيف ، كما لو علم بوجود السواد الشديد وزواله بوصف الشدّة ، ولكن تردّد الأمر بين زواله بالمرّة ، أو تبدّله بالسواد الضعيف.

وكيف كان فقد ذهب شيخنا المرتضى إلى جريان الاستصحاب في الصورة الثاني من القسم الثاني وعدم جريانه في الصورة الاولى منه.

٣٢٢

وحاصل ما يستفاد من كلامه قدس‌سره في تقريب ذلك أمّا في وجه الجريان في الثاني فهو أنّ الشدّة والضعف عند العرف من عوارض الموضوع ، فالشديد المتبدّل بالضعيف متّصلا من دون تخلّل عدم في البين يراه العرف أمرا واحدا مستمرّا قد تبادل فيه الحالتان ، فهو كالماء الزائد إذا صار ناقصا ، حيث أنّه عندهم أمر واحد مستمرّ قد تبادل فيه الزيادة والنقصان.

نعم بالدقّة العقليّة ، الشديد بمرتبته موضوع مغاير للضعيف كذلك ، والزائد بمرتبته موضوع مغاير للناقص كذلك ، ولكن الاعتبار في باب الاستصحاب بالمسامحة العرفيّة لا بالمداقّة العقيلة ، فيجوز استصحاب الوجود ولو كان الشديد معلوم العدم والضعيف مشكوك الحدوث ، كما يجوز استصحاب الكريّة مع العلم بانتفاء الزائد وحدوث الناقص.

وأمّا في وجه عدم الجريان في الأوّل فهو أنّ المعتبر في باب الاستصحاب أن يكون الشكّ متعلّقا بنفس المتيقّن سابقا ؛ إذ بدونه لا يصدق الشكّ في البقاء ، والمتيقّن سابقا في المقام وجود الإنسان مثلا في ضمن الزيد ، والمشكوك لا حقا وجوده في ضمن عمرو ، ومتعلّق كلّ من اليقين والشكّ غير متعلّق الآخر ، فلا يصدق تعلّق الشكّ ببقاء موضوع اليقين ، بل بوجود موضوع آخر ، هذا ما يستفاد من كلماته قدس‌سره.

والحقّ جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضا وأنّه يصدق تعلّق الشكّ بالبقاء ، وذلك لأنّ خصوصيّة الفرد غير ملحوظة في استصحاب الكلّي بالفرض ، وقد عرفت أنّ تعلّق الحكم بالطبيعة الكليّة يتصوّر على نحوين ، الأوّل أن يكون باعتبار الوجود الساري ، والثاني أن يكون باعتبار صرف الوجود ، وفي القسم الأوّل يكون الموضوع في الحقيقة هو الأفراد ، غاية الأمر من طريق انطباق الكلّي عليها ، فاستصحاب الكلّي الغير الملحوظ فيه خصوصيّات الأفراد لا يتمّ إلّا في القسم الثاني الذي يكون الموضوع فيه نفس الكلّي من دون دخالة للأفراد.

وحينئذ نقول : إنّ وجود الإنسان باعتبار صرف الوجود يصدق أنّه باق ، ولا

٣٢٣

يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون المحقّق له فردا واحدا أو أفرادا متعدّدة بأن يكون المحقّق لحدوثه فردا ولبقائه فردا آخر ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال : إنّ نوع الإنسان باق من أوّل زمان خلقة آدم عليه‌السلام إلى زماننا هذا ، مع كثرة تبدّل الأفراد والأشخاص حسب اختلاف القرون والأعصار؟ ، هذا.

مع أنّه لا دليل على اعتبار الشكّ في البقاء في باب الاستصحاب ؛ إذا الدليل على حجيّة الاستصحاب وهو أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ لا إشعار فيه باعتبار ذلك ، نعم يستفاد منه اعتبار وحدة متعلّق اليقين والشكّ بحسب الذات ، وهذا المعنى متحقّق في المقام قطعا ؛ فإنّ اليقين بوجود زيد سابقا يقين بوجود الإنسان قطعا ، والشكّ في وجود عمرو في اللاحق شكّ في وجود الإنسان بلا إشكال ، فقد صدق اتّحاد متعلّقي اليقين والشكّ سواء صدق الشكّ في البقاء أم لا ، ولهذا نقول بجريان الاستصحاب في الامور التدريجيّة الغير القارّة التي توجد فتوجد ، من دون أن يكون لها بقاء حتّى يتعلّق الشكّ ببقائها ، فيستصحب جريان الماء وحركة الزيد وتكلّمه وغير ذلك.

ومن هنا يظهر ما في تفصيل شيخنا المرتضى بين القسم الأوّل من القسم الثالث وهو ما إذا احتمل وجود عمرو مقارنا لوجود زيد ، وبين القسم الثاني منه ، وهو ما إذا احتمل وجود عمرو مقارنا لذهاب زيد بالجريان في الأوّل وعدمه في الثاني.

وحاصل تقريبه أنّه لا بدّ من تعلّق البقاء بالأمر الخارجي ، فلا بدّ من تعلّق الشكّ ببقاء أمر في الخارج ، ومن المعلوم أنّ قضيّة ذلك أن يكون في البين أمر واحد خارجي ، وهذا مفقود في القسم الثاني ، والجامع وإن كان واحدا لكنّه تعرضه الجامعيّة والوحدة في الذهن عند التعرية من الخصوصيات لا في الخارج ، وموجود في القسم الأوّل كما هو واضح.

وفيه أنّ الجامع الذي ينتزعه العقل من الأفراد ويجرّده عن الخصوصيّات يكون موجودا بعينه وذاته في الخارج ، غاية الأمر على نحو الاندكاك في

٣٢٤

الأفراد ، لا على نحو الاستقلال كما في الذهن ، والعرف أيضا قد يرى الأثر لهذا الأمر المجرّد في بعض الأحيان ، فيرى رفع العطش من آثار نفس الماء من غير دخل لخصوصيّة الكون في آنية مخصوصة في ذلك.

وكذلك قد يرى الصلاح في صرف وجود الإنسان في الدار من غير فرق بين الواحد والمتعدّد والشخص الخاصّ في ذلك ، وهذا المعنى لا ينثلم وحدته بتبدّل الأفراد المتعدّدة ، فلو دخل الزيد في الدار في اليوم الأوّل وخرج منها ، وقارن خروجه دخول عمرو فيها في اليوم الثاني ، صدق أنّ الدار لم تخل في هذين اليومين عن وجود الإنسان ، فاليقين بذلك يقين بعدم الخلوّ المذكور ، والشكّ فيه بعد اليقين بالوجود الأوّل شكّ في عدم الخلوّ ، فإذا صدق الإبقاء بنظر العرف كفى ذلك في جريان الاستصحاب ، مع أنّك عرفت عدم دليل على اعتبار البقاء في الاستصحاب ، ومعه يصير الأمر أوضح كما ذكرنا.

نعم لا مجال لاستصحاب بقاء الكلّي إذا كان الحكم متعلّقا بالطبيعة السارية ، بل المستصحب حينئذ عدم حدوث الفرد المشكوك حدوثه عند زوال الفرد الآخر ، أو وجوده عند وجود الفرد الآخر ، فإذا تلطّخ الثوب بالتراب المتنجّس ونفض المقدار المتيقّن وشكّ في بقاء شيء منه ، فلا بدّ من ملاحظة دليل مانعيّة المحمول المتنجّس في الصلاة وأنّ المستفاد منه مانعيّة صرف الطبيعة أو الطبيعة السارية.

وتظهر الثمرة فيما لو اضطرّ إلى حمل المتنجّس في الصلاة ، فعلى الأوّل لا فرق بين القليل والكثير ، وعلى الثاني يجب الاقتصار على مقدار الضرورة ، فإن كان على الوجه الأوّل فيجب النفض في المثال ما دام الشكّ بمقتضى استصحاب بقاء الكلّي ، وإن كان على الوجه الثاني لا يجب نفض الزائد على المقدار المتيقّن بمقتضى استصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك ، فافهم ذلك واغتنم.

ومن هنا يظهر منع ما ذكره بعض الأساتيد قدس‌سره من منع جريان الاستصحاب في كلا القسمين بتقريب أنّ وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده إلّا أنّ وجوده في ضمن أفراده متعدّدة ليس نحو وجود واحد له ، بل وجود كلّ فرد

٣٢٥

منه نحو وجود له عقلا وعرفا ، فإذا شكّ في أنّه في الزمان الأوّل كان موجودا بوجود واحد أو اثنين وفي ضمن فرد أو فردين لم يكن الشكّ في نحو وجوده ، بل الشكّ في وجوده بنحو آخر غير ما علم من نحو وجوده ، فما علم من وجوده فقد علم ارتفاعه ، وما شكّ فيه فقد شكّ في أصل حدوثه ، فاختل أحد ركني الاستصحاب فيه على كلّ حال ، ومنه يظهر الحال في القسم الثاني ، بل الأمر فيه أظهر.

وجه المنع أنّا لو أغمضنا عن الكلام الأوّل من عدم ابتناء صدق البقاء على عدم تعدّد أنحاء الوجود فلا محيص عن القول بجريان الاستصحاب في القسم الأوّل وعدم جريانه في القسم الثاني ، كما ذكره شيخنا المرتضى قدس‌سره ، وذلك لتماميّة أركانه في القسم الأوّل وعدم تماميّتها في القسم الثاني ، فإنّ القطع بوجود أصل الإنسان قد حصل بواسطة القطع بوجود الزيد ، والشكّ في وجود عمرو في الزمان الثاني شكّ في بقاء أمر واحد خارجي واستمرار وجود واحد كذلك حقيقة ، وبذلك يتمّ الشكّ في بقاء أصل الإنسان الذي قد فرض القطع بأصل وجوده.

وهذا بخلاف القسم الثاني ، لوضوح أنّه ليس لنا في البين أمر واحد مستمر خارجي ، وإنّما نشكّ في حدوث وجود آخر مقارنا لزوال الوجود الأوّل ، فالقطع بحدوث أصل الإنسان وإن كان حاصلا ولكنّ الشكّ في بقائه غير حاصل ، نعم لو قيل باعتبار كون الشكّ متعلّقا ببقاء ذاك الوجود الخاص المتيقّن سابقا ، كان الأمر كذلك في القسم الأوّل أيضا ، ولكن لا دليل على اعتبار ذلك.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا أنّ استصحاب الكلّي لا مانع منه في كلا القسمين من جهة اختلال الأركان.

نعم هو محكوم لاستصحاب عدم الفرد المشكوك ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوثه ، وترتّب عدم الكلّي على عدم أفراده وإن كان ترتّبا علقيّا ، ولكنّه غير مسلّم في مثل النجاسة من الجوامع الشرعيّة ، فإنّ الحكم غير معلّق على عنوان الكلّي والجامع ، وإنّما ذلك مفهوم ينتزعه العقل ، والأثر ثابت

٣٢٦

لنفس ذات النجاسة ، وليس للعقل حكم بأنّ هذه الذات في أىّ موضع يتحقّق وفي أيّ موضع ينعدم وإن كان له حكم بأنّ الكلّي ينعدم بانعدام أفراده ، لكن هذا غير مربوط بموضوع الحكم.

وحينئذ فإذا قطع بملاقاة الثوب للدم وشكّ في ملاقاته للبول مقارنا لملاقاته مع الدم فبعد الغسل مرّة واحدة يشكّ في بقاء أصل النجاسة ، وهذا الشكّ مسبّب عن الشكّ في حدوث نجاسة البول ، فإذا أجرينا أصالة عدم حدوثها والمفروض حدوث النجاسة بالدم وجدانا كان من أثره شرعا رفع أصل النجاسة عقيب الغسل مرّة واحدة ، وهذا حكم استفدناه من الشرع وليس للعقل سبيل إليه.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى قدس‌سره استثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ما إذا كان الشكّ في تبدّل المرتبة الشديدة إلى المرتبة الضعيفة ، كما إذا شكّ في تبدّل الشديد من السواد إلى الضعيف منه أو انقلابه إلى البياض ، فإنّ العرف يعدّون السواد الضعيف مع السواد الشديد شيئا واحدا وإن كانا بنظر العقل شيئين متغايرين.

وذكر بعض الأساتيد قدس‌سره في حاشيته أنّا لو قلنا بأصالة الماهيّة فالسواد الضعيف والشديد ماهيّتان مختلفتان ، وإن قلنا بأصالة الوجود فالوجود واحد وإن صار منشئا لانتزاع ماهيّتين مختلفتين حسب اختلافه شدّة وضعفا. فالموضوع حينئذ واحد حتّى بالدقّة العقليّة.

أقول : إن قلنا في الجسم الواحد أنّه مركّب من أجزاء صغار كثيرة مجتمعة متلاصق بعضها مع بعض ، فلا شبهة في أنّه لو انفصل بعض تلك الأجزاء عن الباقي فوجود الأجزاء عين وجودها السابق ، لكن هذا قول بالجزء الذي لا يتجزّى ، وإن قلنا بأنّه موجود بوجود واحد وليس لكلّ جزء منه وجود فعلي ، نعم له وجود تقديري بمعنى أنّه لو انفصل يكون موجودا فحينئذ أيضا لا شبهة في أنّه لو انفصل بعض الأجزاء عن الباقي كان كلّ من المنفصلين موجودا غير الموجود المشار إليه في الأوّل ، وهذا الكلام بعينه جار في السواد الشديد والضعيف.

٣٢٧

الأمر الرابع : فى استصحاب الزمان والزمانى (١)

هل الاستصحاب جار في الامور التدريجيّة الغير القارّة كنفس الزمان والحركة والطيران والجريان والتكلّم وأشباه ذلك من الزمانيات لإثبات ما لها من الآثار والأحكام أو لا؟.

تحقيق المقام أنّ إشكال الجريان أمران.

أحدهما : أنّ من أركان الاستصحاب الشكّ في البقاء ، والأمر التدريجي يتجدّد شيئا فشيئا ، ويتصرّم كلّ جزء منه بتجدّد لا حقه ، فليس له قرار في آنين متّصلين ، فلا يتّصف بالبقاء حتّى نفرض له الشكّ في البقاء.

والثاني : أنّ من أركان الاستصحاب وحدة متعلّق اليقين والشكّ بأن يكون الموجود في الآن الثاني المشكوك ، مع الموجود في الآن الأوّل المعلوم شيئا واحدا ، والأمر التدريجي وجودات متبادلة متغايرة ، فالموجود في الآن الثاني المقصود إثباته بالاستصحاب مغاير مع الموجود في الآن الأوّل المعلوم.

والحقّ اندفاع كليهما ، أمّا الثاني فلأنّ التحقيق أنّ الأمر التدريجي ما دامت أجزائه متّصلة ولم يحصل الوقفة موجود واحد شخصي عقلا ـ كما حقّق في محلّه ـ وعرفا ، فالتدريجيّة والقرار نحوان من الوجود ، فالموجود الثانى متّحد مع الموجود الأوّل شخصا ، نعم لا يندفع بذلك الإشكال الأوّل ؛ لأنّ هذا الموجود على التدريج ليس له قرار في آنين متّصلين حتّى يتّصف بالبقاء ، بل هو ما دام موجودا يكون في التجدّد والحدوث ، فكلّ من اليقين والشكّ متعلّق بمرحلة حدوثه.

لكنّه يندفع أيضا بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب سوى صدق نقض اليقين بالشك

__________________

(١) راجع ص ٥٣٦ وص ٦٢٦

٣٢٨

وعدم نقضه به ، ولا يعتبر في ذلك سوى وحدة الموجود في الآن الثاني مع الموجود في الآن الأوّل ، غاية الأمر ينطبق على ذلك في الامور القارّة البقاء ، فلا ضير في عدم انطباقه في غير القارّة.

لكن هذا كلّه إنّما يتمّ في الحركة التوسطيّة التي هي عبارة عن الآن السيّال بين المبدا والمنتهى ، وأمّا الحركة القطعيّة التي هي عبارة عن مجموع ما بين الحدّين كالليل إذا قلنا بأنّه عبارة عن مجموع ما بين الغروب والفجر ، فلا يمكن تحقّق اليقين والشكّ فيه عقلا ؛ لأنّ العلم بالمجموع يتوقّف على اليقين بجزئه الأخير ، وهذا لا يجتمع مع الشكّ في أنّه هل بقي منه جزء أولا؟.

فلا بدّ حينئذ من دعوى المسامحة العرفيّة التي ذكرها شيخنا المرتضى ـ إن صحّت ـ بأن يقال : إنّ العرف يرى هذا المجموع متحقّقا بتحقّق أوّل جزء منه ، فيقول بعد تحقّق الغروب قد تحقّق الليل ، وبعد طلوع الشمس قد تحقّق النهار ، مع أنّهما اسمان لمجموع ما بين الحدّين ؛ إذ حينئذ يفرض الشكّ في البقاء حقيقة فيقال : إنّ الليل الذي قد علم بحدوثه بتحقّق الغروب نشكّ الآن في بقائه وارتفاعه.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الليل عبارة عن الآن السيّال فيما بين الغروب والفجر ، ويكون كلّ من الآنات المتوسطة ليلا حقيقة لا بعضا من الليل ؛ إذ يمكن على هذا تحقّق اليقين والشكّ فيه حقيقة من دون حاجة إلى المسامحة العرفيّة بناء على ما عرفت من اتّحاد الوجود الشخصي وإن كان لا يفرض له البقاء.

وحاصل الكلام في الزمان والزماني أنّهما إن اعتبرا في موضوع الحكم على نحو الحركة التوسطيّة ، فلا إشكال في تحقّق اليقين والشكّ فيهما على وجه الحقيقة ، وإن اعتبرا على نحو الحركة القطعيّة فلا بدّ في تحقّق الشكّ في (١) اليقين فيهما من دعوى المسامحة العرفيّة.

__________________

(١) كذا ، والصحيح ظاهرا : الشكّ واليقين.

٣٢٩

نعم يشكل هذا الاستصحاب في خصوص الزمان في كلا الموردين فيما إذا اريد تطبيق العنوان على الجزء الموجود في حال الشكّ كما إذا لوحظ في موضوع الحكم كون الأجزاء الخارجيّة نهارا مثلا ، فإنّ استصحاب وجود النهار لا يفيد لإثبات كون الجزء الموجود نهارا ، اللهمّ إلّا أن يقال بكون الواسطة خفيّة ، نعم إذا لوحظ في موضوع الحكم وجود العنوان لا اتّصاف الأمر الخارجي به كما هو الحال في الزماني فليس لهذا الإشكال مجال ، هذا هو الكلام في الزمان والزمانيّات.

وأمّا المقيّد بالزمان كالجلوس والإمساك الواجب ايقاعهما في النهار على وجه التقييد لا على نحو الظرفيّة كما إذا قيل : اجلس ، أو صم في النهار ، لا ما إذا قيل : اجلس أو صم ما دام النهار موجودا ، فلو شكّ في بقاء حكمه من جهة الشكّ في انقضاء القيد فالأنحاء المتصوّرة من الاستصحاب ثلاثة.

أحدها : استصحاب نفس المقيّد كأن يقال : إنّ الجلوس كان في السابق في النهار ، والآن نشكّ في كونه في النهار ، فنستصحب ، وهذا ممّا ينبغى القطع بجريانه بعد ما فرغنا عن إشكال استصحاب نفس الزمان ، فإنّ الجلوس مثلا واحد شخصي وثبت كون النهار أيضا كذلك ، وحينئذ فهذا الاستصحاب نظير استصحاب مضريّة الصوم بلا فرق.

ثانيها : استصحاب الحكم ، أعني حكم العمل المقيّد بالنهار مثلا ، وهذا ممّا ينبغي القطع بعدم جريانه ؛ لأنّه فرع إحراز الموضوع ، والمفروض الشكّ فيه.

والثالث : استصحاب القيد وهو أيضا كذلك ؛ لعدم إمكان إثبات التقيّد بسببه.

هذا وشيخنا المرتضى قدس‌سره ذكر في أوّل كلامه أنّه إذا جرى الاستصحاب في القسمين الأوّلين أعني الزمان والزماني فهو يجري في القسم الثالث أعني المقيّد بالزمان بطريق أولى ، وكأنّه أراد أنّ عيب هذا القسم ناش من ذينك

٣٣٠

القسمين ، فإذا ارتفع العيب منهما كان هذا بلا عيب.

ولكنّه قال في أواسط كلامه : وأمّا القسم الثالث فممّا ينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه ، ومراده ثمّة وإن كان صورة القطع بانتفاء القيد والشكّ في بقاء الحكم ، لكن في تعبيره بهذه العبارة ما لا يخفى ، فانّها موهنة لاتّحاد هذا مع ما حكم في السابق بجريان الاستصحاب فيه.

وكيف كان فالشكّ في بقاء الحكم المعلّق على الفعل المقيّد بزمان تارة يكون من جهة الشكّ في انقضاء هذا الزمان ، واخرى يكون مع القطع بانقضاء هذا الزمان من جهة احتمال ثبوت هذا الحكم للفعل المقيّد بما بعد هذا الزمان لا على نحو تعدّد المطلوب بأن يكون المقيّد بما بعد هذا الزمان مطلوبا مستقلّا ، وثالثة يكون مع القطع بانقضاء هذا الزمان من جهة احتمال ثبوت الحكم لذات المقيّد على نحو تعدّد المطلوب ، بأن يكون الفعل المقيّد بهذا الزمان مطلوبا أتمّ ، ونفس الفعل في ما بعد هذا الزمان مطلوبا أدون بالغا حدّ الوجوب، وهنا صورة رابعة وهو أن يؤخذ الزمان ظرفا للفعل ، فشكّ في بقاء الحكم بعد انقضاء الظرف.

فلا إشكال في جريان الاستصحاب في الصورة الاولى في نفس المقيّد دون حكمه ، كما لا إشكال في عدم الجريان في الصورة الثانية ؛ لأنّ الفعل المقيّد لا بقاء له مع ارتفاع قيده ، مثلا لو قيل : الجلوس في النهار واجب ، فشكّ في ما بعد النهار في أنّ الجلوس في الليل هل هو واجب أيضا أو لا؟ فليس هذا مقام استصحاب الوجوب ؛ فإنّ الجلوس الذي جعل موضوعا للوجوب يكون النهار مقوّما له ، فيرتفع بارتفاع النهار لا محالة ، والجلوس المقيّد بكونه في الليل مباين معه كمباينة العمرو مع الزيد.

وأمّا الصورة الثالثة ، فالظاهر جريان الاستصحاب فيها ، فيقال بأنّ الجلوس في ما بعد النهار وإن علم بارتفاع مطلوبيّته بتلك المرتبة ، ولكن يحتمل بقاء مطلوبيّته

٣٣١

بما دونها ، فيستصحب ، كما أنّه لا إشكال في الجريان في الصورة الرابعة ، كما إذا قيل : الجلوس واجب في النهار ، فشكّ في ما بعد النهار في بقاء وجوب الجلوس وارتفاعه.

وعلى هذا يبتنى اعتراض شيخنا المرتضى قدس‌سره على بعض معاصريه وهو النراقيقدس‌سرهما في مثال ما إذا كان الجلوس واجبا إلى الزوال ، حيث إنّه نقل عنه أنّه لو شكّ في بقاء الوجوب في ما بعد الزوال فمن حيث إنّ جلوس ما بعد الزوال لم يكن واجبا في السابق كان المستصحب عدم الوجوب ، ومن حيث إنّ الجلوس واجب في ما قبل الزوال يكون المستصحب هو الوجوب ، فيتعارض استصحابا الوجود والعدم في جلوس ما بعد الزوال.

ثمّ اعترض عليه بأنّه إن اعتبر الزمان في الدليل قيدا للجلوس كما لو قيل : الجلوس من الصبح إلى الزوال واجب ، فحينئذ لا يجرى إلّا استصحاب العدم دون الوجود ؛ لأنّ الجلوس بهذا النظر يتعدّد أشخاصه وافراده عرفا بتعدّد الأزمنة ، فالجلوس في ما قبل الزوال فرد ، والجلوس في ما بعده فرد آخر مباين للأوّل ، وكذلك الوجوب على تقدير تعلّقه بالثاني وجوب آخر مغاير للوجوب المتعلّق بالأوّل ، وحينئذ فانتقاض العدم بالوجود في أحد هذين الفردين لا يدلّ على انتقاضه بالوجود في الفرد الآخر ، بل هو باق بحاله من دون انتقاضه بالوجود.

وإن اعتبر الزمان في الدليل ظرفا للجلوس كما لو قيل : الجلوس واجب من الصبح إلى الزوال فحينئذ لا يجري إلّا استصحاب الوجود دون العدم ؛ لأنّ الزمان بهذا الاعتبار ليس معدّدا لأفراد الجلوس عرفا ، بل هو أمر واحد في جميع الأزمنة فإذا فرض انتقاض عدم هذا الأمر الواحد بالوجود في زمان من الأزمنة فهو في الأزمنة المتأخّرة محكوم ببقاء وجوده بحكم الاستصحاب.

أقول : ويمكن انتصار المحقّق النراقي بأن يقال أوّلا : إنّا نختار الشقّ الأوّل وهو

٣٣٢

أن يكون الزمان قيدا للجلوس ، قولكم : لا يجري حينئذ إلّا استصحاب العدم دون الوجود غير مسلّم ؛ لأنّ الطبيعة المهملة أعني أصل الجلوس متّحدة مع المقيّد أعني الجلوس في ما قبل الزوال ، ضرورة كونها مقسما له ولغيره ، والمقسم متّحد وجودا مع كلّ واحد من أقسامه ، وعرض كلّ واحد منها يصحّ إضافته إليه على وجه الحقيقة من غير فرق بين الوجود والوجوب ، فكما إذا صار زيد موجودا يصحّ إضافة الوجود إلى أصل الإنسان ، كذلك لو اتّصف الجلوس المقيّد بكونه في ما قبل الزوال بالوجوب يصحّ إضافة الوجوب إلى أصل الجلوس ، ولا يعتنى مع ذلك بعدم وجود سائر الأفراد أو عدم وجوبها ، فلا يقال بواسطة ذلك : إنّ الطبيعة متّصفة بعدم الوجود أو عدم الوجوب ، وهذا واضح.

وعلى هذا يبتنى القول بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

وحينئذ فنقول : إذا حصل الزوال فالوجوب المتشخّص بكون منتهاه هو الزوال وإن علم بارتفاعه ، لكن يحتمل مقارنا لارتفاعه حدوث فرد آخر من الوجوب متشخّص بكون مبدئه ما بعد الزوال ، فإذا جاء هذا الاحتمال يصحّ أن يقال : إنّا نشكّ في بقاء أصل الوجوب فيكون مقتضى الاستصحاب بقائه ، وهذا من أفراد القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المقيّد بكونه في ما بعد الزوال.

نعم لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلّي كما اختاره شيخنا المرتضى كان الاستصحاب الثاني بلا معارض ، فيستقيم كلام شيخنا في هذا الشقّ بناء على مختاره ثمّة.

وثانيا : نختار الشقّ الثاني أعني كون الزمان ظرفا ، قولكم : لا يجري حينئذ إلّا استصحاب الوجود دون العدم ، مخدوش بأنّ اعتبار الزمان في لسان الدليل ظرفا للجلوس لا يوجب إلّا عدم كون أثر الوجوب مرتّبا شرعا على الجلوس المقيّد

٣٣٣

بالزمان ، لكن لو فرض تحقّق اليقين والشكّ في هذا الموضوع المقيّد باعتبار أثر عدم الوجوب فلا ينافي هذا أن يشمله أدلّة الاستصحاب.

مثلا الجلوس المقيّد بكونه في ما بعد الزوال وإن كان لم يرتّب الشرع عليه أثر الوجوب لما هو المفروض من اعتبار الزمان في موضوع الوجوب ظرفا ، وقد اعتبرناه في هذا الموضوع قيدا ، إلّا أنّ لنا بالوجدان قطعا سابقا وشكّا لاحقا متعلّقين بهذا الموضوع ، فإنّا نعلم بعدم وجوب هذا الجلوس المقيّد في السابق ونشكّ الآن في عدم وجوبه ، فيكون مقتضى الاستصحاب بقائه على عدم الوجوب وهذا معارض باستصحاب بقاء وجوب مطلق الجلوس إلى ما بعد الزوال.

وفيه أنّه لا معارضة بين مدلولي الاستصحابين ؛ فإنّ مقتضى أحدهما عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال ، ومقتضى الآخر كون مطلق الجلوس واجبا إلى ما بعد الزوال ، ومن الواضح عدم التناقض والتعارض بين هذين المضمونين ؛ لتعدّد الموضوع فيهما عقلا وعرفا ، نعم يقع الكلام بحسب مقام العمل ، فنقول : لا شبهة بحسبه أيضا في ترجيح جانب الوجوب وعدم مزاحمته لعدم الوجوب ، فإنّ الشيء الواحد المنطبق عليه عنوانان بأحدهما يكون فيه مقتضى الوجوب وبالآخر يكون فيه مقتضى عدم الوجوب لا يعقل مزاحمة الجهة المقتضية للوجوب فيه بالجهة المقتضية لعدمه ، بل لا بدّ من تقديم الاولى بلا كلام.

وبالمقايسة على هذا يعلم الحال في الصورة الاولي بناء على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، ففي كلتا الصورتين يكون الجاري استصحاب الوجود من دون معارضته باستصحاب العدم ، وعلى مبنى شيخنا المرتضى يكون الجاري في الاولى استصحاب العدم دون الوجود ، وفي الثانية استصحاب الوجود دون العدم ، كما ذكره قدس‌سره.

* * *

٣٣٤

الأمر الخامس : فى الاستصحاب التعليقى (١)

قد يكون المستصحب حكما فعليّا ومثاله واضح ، وقد يكون تقديريّا كما إذا علم بأنّ العنب محكوم بأنّ مائه إذا غلى يحرم ، ثمّ حصل الشكّ في ارتفاع هذا الحكم عنه بسبب تبدّل رطوبته بالجفاف وصيرورته زبيبا ، ويسمّى الاستصحاب في الثاني بالتقديري تارة وبالتعليقى اخرى.

وقد يشكل فيه بأنّ الأمر التقديري لا ثبوت له ، وإنّما يكون له مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، وهذا غير كاف في الاستصحاب.

أقول : ليس الأمر كما ذكر ، بل الأمر التقديرى له ثبوت حقيقة ، غاية الأمر إمّا أن نقول بأنّ الأمر المعلّق بوصف كونه معلّقا يثبت بالجعل ، وهذا نحو من الثبوت أيضا في قبال الثبوت الفعلي ، أو نقول : إنّه ثابت بالثبوت الفعلي ، غاية الأمر في فرض حصول شيء آخر ، ولهذا يتوقّف تأثيره وفاعليّته على حصول هذا الشيء المفروض في الخارج ، غاية ما هناك أن يقال : إنّه إن كان الغرض من هذا الاستصحاب إثبات نفس هذا المعنى في حال الشكّ فلا ثمرة له أصلا ؛ لأنّ المفروض أنّه بلا فعليّة على وجه ، وبلا تأثير على آخر ، وإن كان الغرض إثبات الفعليّة أو التأثير عند حصول المعلّق عليه أو الشيء المفروض ، فهذا من الأصل المثبت ؛ فإنّ هذا ليس من الآثار الشرعيّة للقضيّة التعليقيّة بأحد من النحوين ، وإنّما يحكم بترتّبه العقل.

ولكنّه مدفوع بأنّ الوجود المعلّق والوجود الفعلي في فرض حصول شيء لازمه

__________________

(١) راجع ص ٥٤٢ وص ٦٢١

٣٣٥

عقلا هو التبدّل بالفعليّة لدى حصول المعلّق عليه ، وحصول التأثير لدى حصول الشيء المفروض سواء تعلّقا بموضوع الواقع أم بموضوع الشكّ ، ولا يعقل تفاوت في ذلك بين الموضعين ، فكما يحكم بفعليّة حرمة العصير ومؤثّريتها عند الغليان في حال العنبيّة بنفس الدليل الاجتهادي ، فكذلك يحكم بالحرمة الفعليّة المؤثّرة لدى الغليان أيضا في حال الزبيبيّة بنفس دليل الاستصحاب ، فهذا من اللوازم العقليّة لنفس هذا القسم من الحكم واقعيّا كان أم ظاهريّا ، بحيث لا يعقل انفكاكه عنه ، وليس من اللوازم العقليّة لمستصحب حتّى يكون إثباته بالاستصحاب من الأصل المثبت.

بقي الكلام في إشكال معارضة هذا الاستصحاب بالاستصحاب الفعلي المخالف كاستصحاب الحليّة الفعليّة الثابتة في العصير الزبيبي قبل الغليان ، وقد يجاب بحكومة الاستصحاب التعليقي على الفعلي لكون الشكّ في أنّ العصير المذكور بعد الغليان حلال أو حرام مسبّبا عن الشكّ في بقاء حكم «لو غلى يحرم» فيه وعدمه ، وبعبارة اخرى عن الشكّ في سببيّة الغليان وموضوعيّته للحرمة وعدمها ، فالأصل الرافع للثاني رافع للأوّل ولا عكس.

أقول : لا إشكال في الحكومة في المقام من جهة عدم شرعيّة الأثر ؛ إذ لا شكّ في أنّ الحرمة الفعليّة بعد الغليان حكم الشرع ، ولا ربط له بالعقل ، ضرورة أنّ الشارع جعل حكما واحدا ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم الواحد تعليقي قبل المعلّق عليه ، وفعليّ بعده.

ألا ترى أنّ نجاسة الثوب مثلا بعد ملاقاة النجس من حكم الشرع ولا يرتبط بالعقل، مع أنّه لم يصل إلينا من الشرع إلّا الحكم بأنّ الثوب لو لاقى نجسا ينجس على نحو القضيّة التعليقيّة؟ ، نعم للعقل كبرى مسلّمة خارجيّة وهي أنّ كلّ معلّق على شيء يصير فعليّا بعد حصول هذا الشيء ، ولكن الذي نصيبه في هذا المقام ليس إلّا فهم حكم الشرع.

إنّما الكلام والإشكال في أنّ تقديم الأصل السببى على المسبّبي من باب الحكومة مبنيّ على أن يكون الشكّ المسببي مأخوذا في موضوع الأصل المسبّبي دون السببي ،

٣٣٦

بمعنى أن يكون الشكّ المأخوذ في موضوع السببي شكّا سببيّا لا مسببيّا ، مثلا استصحاب طهارة الماء قد اخذ في موضوعه الشكّ في طهارة الماء لا الشكّ في طهارة الثوب ، فمفاده أنّه إذا شككت في بقاء طهارة الماء فاحكم بطهارته السابقة وبطهارة الثوب المغسول به ، فحكمه بطهارة الثوب لم يؤخذ فيه الشكّ في طهارة الثوب ونجاسته ، وإنّما أخذ فيه الشكّ في طهارة الماء ونجاسته.

وهذا بخلاف استصحاب النجاسة في الثوب ، فإنّ مفاده أنّه إذا شككت في نجاسة الثوب فابن على نجاسة السابقة ، ولهذا يكون الأصل الأوّل ناظرا إلى الثاني ؛ لأنّ الثاني حكم في موضوع الشك في الحكم الواقعي بالنسبة إلى الثوب ، والأوّل حكم بعنوان الواقع بالنسبة إليه.

وبعبارة اخرى : مفاد الأوّل في الثوب واقع جعلي تنزيلي ، ومفاد الثاني بيان حال الشكّ في حكمه الواقعي ، ولو اخذ في موضوع الأصل الثاني الشكّ في الأعم من الحكم الواقعي والظاهري مع قطع النظر عن نفسه فالأوّل يرفع هذا الموضوع عن البين بالوجدان ، فيكون واردا على الثاني.

إذا عرفت ذلك فنقول : هذا المعنى غير موجود في المقام ، فإنّ الحكم التعليقي المستصحب إلى حصول المعلّق عليه المتبدّل بعده بالفعلي حكم واحد وارد في موضوع الشكّ في نفسه ، فإذا قال الشارع : إذا شككت في بقاء حكم «إذا غلى يحرم» فاحكم ببقائه ، فحكمه في هذا الحال «إذا غلى يحرم» لا شبهة في أنّه وارد في موضوع الشكّ ، والمفروض أنّ الحرمة الفعليّة بعد الغليان عين هذا الحكم ، وهذا بخلاف طهارة الثوب في المثال المتقدّم ، فإنّها مغايرة مع طهارة الماء حكما وموضوعا وشكّا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ السببيّة والمسببيّة وإن كانت مسلّمة في المقام ، لكن لا يتمّ فيه شيء من تقريبي الحكومة والورود.

٣٣٧

الأمر السادس

لا إشكال في جريان الاستصحاب في ما إذا كان المتيقّن السابق المشكوك لا حقا حكما ثابتا في الشريعة السابقة ، ولا مانع عنه سوى امور موهومة.

منها : أنّ الحكم في الشريعة السابقة كان ثابتا في حقّ أشخاص غير الأشخاص الذين قصد إثبات الحكم بالاستصحاب في حقّهم ، والمعتبر في الاستصحاب وحدة من تيقّن في حقّه الحكم ومن شكّ في بقاء الحكم في حقّه ، وبعبارة اخرى : وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

والجواب منع كون الموضوع لحكم الله في أيّ شريعة كان هو الأشخاص بخصوصيّاتهم، بل هو المكلّفون والعباد ، نظير ما هو الموضوع في الوقف على الفقراء والاولاد ، ومن المعلوم أنّ هذا الموضوع لا يتفاوت بتفاوت الأشخاص ، وحينئذ فنقول : قد كان حكم الله على العباد في السابق حكما كذا ، والآن نشكّ في ارتفاع هذا الحكم عنهم وبقائه في حقّهم ، فمقتضى الاستصحاب بقائه ، فأركان الاستصحاب تامّة ، ومن هنا أيضا يصحّ إطلاق النسخ على الشريعة اللاحقة مع أنّه يعتبر في النسخ أيضا وحدة الموضوع ، لأنّ معناه رفع الحكم الثابت في حقّ المكلّف في زمان عنه في زمان آخر ، هذا ملخّص ما أجاب به شيخنا المرتضى قدس‌سره ، وهو متين.

وقد أجاب قدس‌سره أيضا ـ بعد تسليم تعدّد الموضوع وكون الموضوع في الحكم السابق هو الأشخاص السابقين بخصوصيّاتهم ـ بأنّا نفرض شخصا مدركا للشريعتين ، فنقول : إنّ هذا الشخص قد تحقّق له اليقين السابق والشكّ اللاحق في

٣٣٨

تكليف نفسه ، فتمّ أركان الاستصحاب في حقّه ، فيثبت الحكم في حقّه بالاستصحاب ، وفي حقّ غيره بأدلّة الشركة في التكليف.

وردّ عليه بعض الأساتيد قدس‌سره بأنّ أدلّة الشركة إنّما تدلّ على الاتّحاد فيما إذا تحقّق العنوان الذي به ثبت الحكم في حقّ الموجودين في حقّ المعدومين أيضا ، وكان الاختلاف في صرف الوجود والعدم في حال الخطاب ، لا فيما إذا لم يتحقّق هذا العنوان ، فلا يدلّ على أنّ الحكم الثابت للموجودين بعنوان المسافريّة مثلا ثابت للمعدومين وإن لم يتلبّسوا بهذا العنوان ، فكذلك من تيقّن بحكم لنفسه فشكّ ، إذا جرى في حقّه إبقاء حكمه السابق بالاستصحاب فلا تدلّ أدلّة الشركة على ثبوت هذا الحكم في حقّ غيره ، سواء انطبق عليه عنوان من تيقّن بتكليف نفسه فشكّ ، أم لم ينطبق.

أقول : ليس غرض شيخنا أن يستصحب الشخص المتيقّن في تكليف نفسه الشاكّ في بقائه ، ويكون هذا الاستصحاب نافعا بحال من ليس له يقين وشكّ ، كيف وهذا الكلام لا يصدر من أصاغر الطلبة ، فكيف من مثل شيخنا الأعظم قدّس الله تربته الزكيّة.

فالمقطوع أنّ غرضه بعد عدم التعرّض لحال الشخص المدرك للشريعتين ـ فلعلّه كان قاطعا بالنسخ أو بعدمه ـ إنّ لنا يقينا وشكّا بالنسبة إلى تكليف هذا الشخص ، فنحن نستصحب التكليف في حقّه ، لأنّ إبقاء تكليفه في الزمان المتأخّر موجب لتعيين التكليف في حقّ أنفسنا بأدلّة الشركة ، وهذا كلام متين ، إلّا أنّه يرد عليه أنّه ليس لهذا الاستصحاب أثر عملي ، فإنّ التكليف الثابت في حقّ أنفسنا ليس أثرا للتكليف الثابت في حقّ غيرنا ، وإنّما هما من باب المتلازمين في الوجود بأدلّة الشركة.

ومنها : العلم الإجمالي بالنسخ في كثير من أحكام الشريعة السابقة ، وما وصل إلينا من موارد النسخ قليل يقصر عن عدد المعلوم بالإجمال قطعا ، فلا يوجب انحلالا في العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي في الموارد المشكوكة باق بحاله ، وقضيّته عدم جريان الاستصحاب في شيء من تلك الموارد ؛ للزوم المخالفة القطعيّة من جريانه

٣٣٩

في الجميع ، والترجيح بلا مرجّح من جريانه في البعض.

والجواب أنّ من المقرّر في محلّة إجراء الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي إذا لم يكن معارضا بجريان مثله في البعض الآخر ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ أحكام هذه الشريعة إذا لوحظت مع أحكام الشريعة السابقة يحصل هنا طوائف خمسة ؛ لأنّ الحكم إمّا معلوم في هذه الشريعة وغير معلوم في الشريعة السابقة ، وإمّا معلوم في هذه الشريعة وفي الشريعة السابقة معا مع موافقة الحكمين ، وإمّا معلوم في الشريعتين مع مخالفة الحكمين ، وإمّا مجهول في هذه الشريعة وفي الشريعة السابقة معا ، وإمّا مجهول في هذه الشريعة ومعلوم في الشريعة السابقة.

فالعلم الإجمالي بثبوت النسخ منتشر في ثلاث من تلك الطوائف من دون خروج فرد منها عن تحته ، وحينئذ فإجراء استصحاب عدم النسخ في خصوص الطائفة الأخيرة ليس فيه مخالفة عمليّة ؛ لاحتمال كون المعلوم بالإجمال بتمامه في تلك الطوائف الأخر ، وعدم تعلّق علم إجمالي آخر صغير بخصوص هذه الطائفة ، ولا يكون معارضا بالاستصحاب في تلك الطوائف الأخر ، لعدم المجرى له فيها إمّا لعدم أثر عملي يترتّب عليه ، وإمّا لاختلال أركانه.

ومنها : ما ذكره صاحب القوانين من أنّ جريان هذا الاستصحاب موقوف على القول بكون الحسن في الأشياء ذاتيّا ، وحيث إنّ التحقيق كونه بالوجوه والاعتبار لم يكن لهذا الاستصحاب مجال.

وتوجيهه أنّه على القول بكون الأشياء علّة تامّة للحسن أو القبح لا حاجة إلى الاستصحاب أصلا ، كما هو واضح ، وحينئذ إمّا أن يقال بكونها مقتضيات للحسن والقبح ، فيكون الشكّ راجعا إلى المانع ، فيكون الاستصحاب حينئذ جاريا ، أو يقال بكون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبار ، فيحتمل كون خصوص الزمان السابق

٣٤٠