أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

عدم جريانه كما هو الشأن في كلّ أصلين ، أحدهما سببيّ والآخر مسبّبي.

فعلى هذا لو قلنا بأنّ الشيء منصرف إلى الأشياء الوجوديّة فلا يدخل في عمومه الكيفيّات العدميّة المعتبرة في الصلاة مثل عدم التكفير وعدم التكلّم وعدم الحدث ، إلى غير ذلك ، فلا مجرى للقاعدة باعتبار الشكّ في نفس هذا الأمر العدمي للانصراف ، ويكون لها المجرى باعتبار الشكّ في المكيّف به ، لأنّه أمر وجودي.

فنقول حينئذ : لو شكّ في تحقّق التكفير في صلاة الظهر مثلا وعدمه ، فإن كان الوقت ماضيا ، كان الشكّ باعتبار المكيّف مشمولا للأخبار ، وإن كان باقيا فلا يشمله هذه الأخبار ، أمّا باعتبار نفس العدم فلانصراف الشيء عنه ، وأمّا باعتبار الصلاة المقيّدة به فلعدم مضيّ وقته ومحلّه ، نعم التمسّك بعموم التعليل المتقدّم له وجه.

كما يصحّ التمسّك بقوله في رواية محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ، والمقصود نفي إمكان التمسّك بالأخبار العامّة المتضمّنة للشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه.

فإن قلت : صلاة الظهر متى شكّ فيها بعد الدخول في العصر فقد مضى محلّها ، ولا حاجة إلى مضيّ الوقت بأجمعه.

قلت : كلّا ؛ فإنّ الترتيب شرط في العصر دون الظهر ، ألا ترى أنّه لو صلّى الظهر ولم يصلّ العصر كانت صلاته صحيحة؟ فبعديّة العصر ليست من قبيل الشرط المتأخّر للظهر ، بل يكون شرطا في العصر فقط ، هذا.

ولكن يمكن لنا التشبّث بذيل الأخبار العامّة المذكورة في الشكّ في العدميّات أيضا بتقريب أنّ الشيء وإن كان منصرفا إلى الوجودي ، ولكنّ الحكم بعدم الاعتناء في هذه الأخبار ليس عبارة عن البناء على الوجود ، بل أعمّ منه ومن البناء على العدم ، ففي ما كان المعتبر وجود ذلك الأمر الوجودي مثل الأجزاء والشروط كان معناه البناء على الوجود ، وفي ما اعتبر عدمه كالموانع ، كان معناه البناء على عدمه.

٦٨١

فنقول : إذا فرغنا عن الصلاة وشككنا في شيء من العدميّات المعتبرة فيها فنقول : هنا شيء وجودي وهو الحدث ، أو الاستدبار ، أو التكلّم ، أو التكفير ، وقد وقع الشكّ فيه بعد مضىّ محلّه الذي اعتبر فيه عدمه وهو الصلاة ، فهذا الشكّ بحكم الأخبار ليس بشيء ، ويكون غير معتنى به.

وبالجملة ، لا نسلّم انصراف قولك : إذا شككت في شيء وقد جاوزته فليس شكّك بشيء إلى الوجوديّات المعتبر وجودها ، بل المراد من الموضوع هو الشكّ في تحقّق الأمر الوجودى ولا تحقّقه وفي المقام هذا الموضوع متحقّق ؛ إذ المفروض هو الشكّ في تحقق الأمر الوجودي ولا تحقّقه ، وأمّا المحمول فهو قوله : ليس شكّك بشيء ، وما هو إلّا مثل قوله في أخبار كثير الشكّ : لا شكّ لكثير الشكّ ، فكما أنّ المراد به هناك هو البناء على الوجود في ما اعتبر فيه وجود المشكوك ، وعلى العدم في ما اعتبر فيه عدمه ، فكذلك هاهنا بلا فرق ، فلا وجه لدعوى الانصراف لا موضوعا ولا محمولا.

نعم هذا كلّه بالنسبة إلى ما إذا شكّ في تحقّق المانع أو القاطع بعد الفراغ من الصلاة ، وأمّا لو شكّ وهو في الركعة الثانية مثلا في تحقّق المانع أو القاطع في الركعة الاولى ، فإن كان المانع اعتبر عدمه في فعل مخصوص من أفعال الصلاة مثل ما لو اعتبر عدم التكفير في قيام الصلاة ، فهذا الشكّ شكّ في الشيء بعد محلّه ؛ لأنّه مضى القيام الأوّل بدخوله في الركوع ، وأمّا إن اعتبر في تمام الصلاة من أوّلها إلى آخرها من دون تخصيص بجزء دون جزء فمحلّه ما دام في الصلاة باق ، وليس هذا مخصوصا بالموانع ، بل يجرى في الشرائط أيضا.

مثلا لو شكّ وهو في الركعة الثانية في تحقق الاستقبال في الركعة الاولى كان شكّا في الشيء مع بقاء محلّه ، إذ محلّ الاستقبال هو الصلاة ، وهو بعد في الصلاة ، وليس حاله حال ما لو شكّ وهو في آخر القراءة في الجهر بالنسبة إلى أوّلها ؛ فإنّ محلّ الجهر هو الكلمات والحروف ، فكلّما مضت كلمة فقد مضى محلّ الجهر الذي اعتبر فيها.

٦٨٢

وهذا بخلاف ما اعتبر وجوده أو عدمه في الصلاة من حيث إنّها صلاة ، فعدم التكلّم من حيث إنّه في الركعة ، أو في القراءة ، أو في الركوع غير معتبر في الصلاة ، وإنّما المعتبر عدمه في الصلاة ، وهذا لا يمضي محلّه إلّا بعد لخروج عن الصلاة.

والحاصل أنّه يشكل الحال في عامّة الشرائط والعدميّات المعتبرة في الصلاة لو شكّ فيها في أثناء الصلاة ؛ لعدم اندراجها في عموم أخبار الشكّ بعد مضيّ المحلّ ، وكذا في عموم التعليل المتقدّم ؛ إذ المفروض أنّه لم يمض حين العمل ما دام في الصلاة ، فهو في هذا الشكّ مثله لو شكّ في أصل وجود الصلاة والوقت باق ، فإنّه لا يشمله الأخبار ولا التعليل قطعا ، وكذا لا يستفاد حكمه من الرواية المتقدّمة : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك الخ ، فإنّ كلمة «من» بيانيّة لا تبعيضيّة ، لئلّا يلزم خلاف الإجماع بالنسبة إلى أجزاء الوضوء لو شكّ في واحد منها وقد دخل في الآخر ، ولا أقلّ من الإجماع المسقط عن الاستدلال.

المقام الثاني : هل المراد بالمحلّ الذي يعتبر التجاوز عنه هو المحلّ الشرعي أو العادي النوعي ، أو العادي الشخصي؟ الظاهر عدم العبرة بالأخير ، فإنّه لا ينصرف عنوان المضيّ عن محلّ الشيء بقول مطلق إلى الأخير ، فلو اعتاد شخص التوضؤ عقيب الحدث بلا فصل أو إتيان عمل بعد الصلاة كذلك ، فشك في الوضوء بعد مضيّ زمان عن الحدث ، أو شكّ في الصلاة وقد رأى نفسه في ذلك العمل ، لا يصدق أنّه جاوز عن محلّ الصلاة أو الوضوء بقول مطلق.

نعم يصدق مع الإضافة إليه ، كأن يقال : [جاوز] عن محلّهما بحسب اعتياد هذا الشخص ، وظاهر الخبر صدق ذلك بلا قيد ، والصدق كذلك أعني على وجه الإطلاق إنّما يتحقّق مع مجاوزة المحلّ الشرعي ، كما لو شكّ في الحمد بعد الدخول في السورة ، أو العادي النوعي ، كما في اعتبار نوع الناس على إتيان أجزاء الغسل متوالية في مجلس واحد ، وإتيان الظهرين والعشاءين كذلك ، فشكّ في إتيان العصر أو العشاء مع القطع بإتيان الظهر أو المغرب ، ومضى الزمان المعتاد فيه إتيان العصر أو العشاء ، أو شكّ في غسل الجانب الأيسر مع تخلّل الفصل المخلّ بالموالاة العاديّة.

٦٨٣

أو شكّ في غسل مخرج البول مع تخلّل الفصل المخلّ بالموالاة العاديّة بينه وبين غسل مخرج الغائط.

وبالجملة ، فالمعيار صدق هذا العنوان بلا إضافة إلى شخص خاص عادة خاصّة ، ولا شبهة في استواء ذلك بين الموضعين ، أعني مورد التجاوز عن المحلّ الشرعي وعن المحلّ العادي النوعي.

فإن قلت : كما يصدق المجاوزة عن المحلّ بملاحظة عادة النوع ، يصحّ إطلاق عدمها بملاحظة قرار الشارع ، مثلا يصحّ أن يقال : لم يمض محلّ غسل الجانب الأيسر بحسب الشرع.

قلت : قد عرفت من السابق جواب هذا ، فإنّ صدق الأوّل لا يحتاج إلى تقييد ، وصدق الثاني يحتاج إليه ، والمعيار هو الصدق المطلق ، وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى بملاحظة شمول موردي المحلّ الشرعي والنوعي ، وذلك لأنّ منشأ الصدق مختلف والمعنى واحد ، فالمجاوزة عن المحلّ أمر واحد تارة يكون منشأ صدقه جعل الشارع ، واخرى استقرار عادة النوع ، وإذا تحقّق الموضوع من أيّ منشأ كان تعلّق عليه حكمه.

ولا يرد أنّ العرف ليس لهم تعيين المحلّ ، وإنّما ذلك وظيفة الشارع ، فإنّه يجاب : نعم ليس لهم تبديل ما جعله الشارع ، وأمّا الموضع الذي جعل إليهم الخيار في ٧ تيان العمل فورا ، أو في وقت متراخ فجعلوا بنائهم على الإتيان متعاقبا ، فلا مانع عن ذلك ، ثمّ يصير هذا منشئا لصدق عنوان المضيّ عن المحلّ قهرا ، ومن المعلوم أنّ هذا العنوان إذا لم يلحظ فيه خصوصيّة ، ينصرف إلى مصاديقه العرفيّة ، وهي ما ذكرنا من الموردين.

نعم يعتبر في مورد تحقّق العادة النوعيّة عدم استقرار العادة من شخص الشاكّ على خلاف عادة النوع ، فإنّ في صدق عنوان المجاوزة عن محلّ العمل حينئذ بالنسبة إليه محلّ إشكال ، ولا يبعد دعوى تبادر أن يكون المضيّ عن المحلّ حاصلا حتى بالنسبة إليه ، لا أن يكون هو خارجا ، فلا يفهم الإنسان من العبارة عدم

٦٨٤

التفات الشاكّ إلى شكّه بمحض مضيّ المحلّ بحسب استقرار عادة نوع الناس غيره ، هذا.

ويظهر من شيخنا المرتضى الاستشكال في الاعتماد على العادة النوعيّة ، نظرا إلى أنّ فتح هذا الباب يوجب الالتزام بفروع يبعد التزام الفقيه بها ، ومثّل بأمثلة كلّها من قبيل العادة الشخصيّة ، وقال : إنّه يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة.

قال شيخنا الاستاد دام ظلّه : أمّا استبعاد الالتزام في الفقه بالموارد المذكورة أعنى موارد العادة الشخصيّة فمسلّم ، ولكنّه لا يضرّ بالمدّعى من العادة النوعيّة ، وقد ذكر هو قدس‌سره ان مسألة معتاد الموالاة في الغسل مذكورة في كلام جماعة من الأصحاب مع اختيار عدم الاعتناء إذا شكّ في الجزء الأخير.

وأمّا مخالفة الإطلاقات الكثيرة فالظاهر أنّ مراده إطلاقات أدلّة الوضوء والصلاة ، ولا يخفي أنّ تلك الإطلاقات غير متعرّضة لحال الشكّ في وجود العمل ، وإنّما المتكفّل له قاعدة الاشتغال واستصحاب العدم ، ومن المعلوم ورود قاعدة التجاوز على فرض الشمول على الاولى ، وتقدّمها لأجل الحكومة أو لزوم اللغوية على الثاني.

والحاصل : لم يعرف ما مراده قدس‌سره بهذه الإطلاقات الكثيرة ، فإن كان إطلاقات الصلاة والوضوء فشأنه أجلّ من حمل كلامه عليه ؛ لأنّ تلك الأدلّة غير متعرّضة لحال الشكّ في الوجود ، بل هي متعرّضة لأصل التكليف ، وهذا واضح ، وإن كان إطلاق دليل الاستصحاب فلا وجه له ، لما مرّ.

نعم قد يحتمل أن يكون مراده إطلاق ما دلّ على اعتبار الشكّ في الصلاة في الوقت، وفيه مضافا إلى أنّه إطلاق ، لا إطلاقات فضلا عن كونها كثيرة ، أنّه يكون بينهما عموم من وجه ، فمقتضى ذلك الاعتناء بالشكّ ، ومقتضى هذا عند تحقّق العادة المزبورة عدمه ، فلا وجه لتقديم ذلك ، والحاصل هو قدس‌سره أعلم بما أفاد.

المقام الثالث : هل الدخول في الغير معتبر في الحكم بالمضيّ ، أو يكفي مجرّد التجاوز، وتظهر ثمرة هذا البحث في القيود بناء على شمول الكبرى في الأخبار للأعمّ من الأجزاء والقيود لأعميّة الشيء منهما ، فإنّ الأجزاء ينحصر الشكّ بعد

٦٨٥

التجاوز فيها في الدخول في الغير ، فلا يتحقّق التجاوز فيها إلّا بذلك ، وأمّا القيود فيمكن تحقّق التجاوز من دون الدخول في شيء آخر ، فإذا خرج من الحمد ولو لم يدخل في السورة فهو قد جاوز عن الجهر المعتبر في الحمد وموالاة أجزائه وترتيبها ، وهكذا من سائر قيودها.

وتظهر في الشكّ في بعض أجزاء القراءة وقد حصل الفصل المخلّ بالموالاة على فرض عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه ، وفي الشكّ في السلام بعد حصول السكوت الطويل ، فان محل «غير المغصوب» مثلا قبل حصول هذا البعد عن «أنعمت عليهم» ومحل السلام قبل حصول هذا السكوت الطويل فالشكّ بعد تحقّق ذلك شكّ فيهما بعد مضيّ محلّهما ، مع أنّه لم يتحقّق الدخول في غيرهما.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا يخفى ندرة الموارد التي فرضناها للشكّ بعد التجاوز المنفكّ عن الدخول في الغير ، والغالب هو الشكّ في الأجزاء على نحو لا يتحقّق التجاوز إلّا بالدخول في الغير.

وحينئذ فمن المحتمل قريبا أن تكون النكتة في ذكر قيد الدخول في الغير الواقع في صحيحة زرارة ورواية ابن جابر هذه الغلبة ، فلا يضرّ بإطلاق أحد الموثّقين وذيل الآخر ، لما تقرّر في محلّه من أنّه يشترط في التقييد أن لا يكون لذكر القيد نكتة نحتمل وروده لأجلها ، فإذا كانت فلا يبقى له ظهور في التقييد ، وحينئذ فالمطلق المتّصل به أيضا لا يصحّ التمسّك بإطلاقه ، لانثلام مقدّماته فيه ، وذلك لاحتفافه بما يصلح للقيديّة ، وأمّا المطلق المنفصل فلا مانع من الأخذ به.

فإذا قال : جئني بماء عذب ، واحتمل كون القيد واردا مورد الغالب ، لا يبقي له ظهور في التقييد ، ولكن يوجب الإجمال في لفظ الماء المتّصل به في هذا الكلام ، وأمّا إذا كان هذا القائل قال في كلام منفصل له في مقام آخر جئني بماء ولم يقيّده هناك بالعذب فإطلاق ذلك الكلام مأخوذ به ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، كما هو واضح.

نعم قد يكون الغلبة بحدّ يوجب انصراف اللفظ إلى الغالب ، ولكنّه في هذا المقام ممنوع ، فالمقدّمات بناء على الحاجة إليها ، أو الظهور اللفظي الذي ادّعيناه في محلّه كلاهما تامّ بالنسبة إلى المطلق المنفصل في المقام ، أعني ذيل موثّقة ابن أبي يعفور : إنّما

٦٨٦

الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه ، وكذلك الموثّقة الاخرى : كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو.

إن قلت : الشكّ في القيود الذي هو أحد موارد ظهور الثمرة كيف يمكن إدراجه في ذيل الموثّقة ، فإنّه كيف يمكن الشكّ في جهر الحمد مثلا في محلّه ، فإذا لم يمكن إدراجه في المنطوق فالمفهوم تابع للمنطوق ، فهذا دليل اختصاص الذيل بالأجزاء.

قلت : مضافا إلى كفاية الموثّقة الاخرى أنّه فرق بين عقد المنطوق في شيء خاص ، فلا بدّ من تحقّق المصداق له في هذا الخاصّ ، وبين عقده في عام هذا الخاص أحد مصاديقه، فيكفي وجود المصداق للمنطوق في بعض أفراده في توسعة المفهوم لجميع أفراده.

فإذا قيل : الشيء المربوط بالصلاة إذا شككت فيه في محلّه يجب الاعتناء به ، لا في غير هذه الصورة ، فالشيء الصلاتي شامل للحمد ولكيفيّته ، والحمد وإن كان مشمولا لعمومي المنطوق والمفهوم ، إلّا أنّ الكيفيّة غير داخلة في المنطوق ، لعدم وجود المصداق له فيها ، ولكن لا يوجب ذلك عدم اندراجها في المفهوم ، وبالجملة ، إطلاق كلا الموثقين لما قبل الدخول وما بعده محكّم في القيود وغيرها من الموردين المتقدّمين.

لا يقال : ما ذكرت من احتمال ورود القيد لأجل الغلبة غير متمشّ في رواية ابن جابر ؛ وإذ يعلم منه علاوة على دخل الدخول في الغير أنّه لا يكفي كلّ غير ، بل لا بدّ أن يكون من الأشياء المعتبرة في الصلاة والمعدودة من أفعال الصلاتيّة ، فلا يكفى كونه من مقدّماتها ، وذلك لأنّه اعتبر فيها في عدم الاعتناء بالشكّ في الركوع الدخول في السجود ، وفي السجود الدخول في القيام ، ولا يجرى فيه احتمال الورود مورد الغالب ، وإلّا لكان الأنسب ذكر الهويّ في الأوّل والنهوض للقيام في الثاني ؛ لأنّهما أقرب بالركوع والسجود من غيرهما ، إلّا أنّهما من مقدّمات الأفعال الصلاتيّة ، فيعلم أنّ وجه الإعراض عنهما ذلك ، لا أنّ الغرض من ذكر السجود والقيام مجرّد التمثيل للمجاوزة.

٦٨٧

لأنّا نقول : يمكن دعوى غلبة اخرى ، وهي أنّ الشكّ في الركوع في الغالب لا يتحقّق في حال الهويّ ، وكذلك في السجود في حال النهوض ، وذلك لقرب عهدهما بالمشكوك ، فالشكّ إمّا لا يحدث فيهما ، وإمّا لا يستقرّ ، بل يزول ويرتفع ، فالشكّ الحادث الغير الزائل يكون أوّل أوقات إمكان حصوله بحسب الغالب ما إذا بعد عن الركوع بالدخول في السجود، وعن السجود بالدخول في القيام ، فذكر الدخول في الغير لأجل محقّقيّته للمجاوزة، وذكر الغير الخاصّ لأجل غلبة عدم وقوع الشكّ في الركوع والسجود في ما قبل هذا الغير.

كما أنّ هذا هو السّر أيضا في فرض زرارة الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة ، مع أنّ بينهما أيضا بعض الأدعية والأعمال.

وبالجملة ، فلا يبقى لهذه الرواية أيضا ـ كرواية زرارة ـ ظهور في التقييد ، حتّى يزاحم ظهور ذلك الإطلاقين المنفصلين.

هذا مع أنّه قد ورد في رواية اخرى الحكم بعدم الاعتناء ، مع أنّ السائل فرض الشكّ في الركوع في حال الهويّ ، وهذه عبارتها :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قالعليه‌السلام قد ركع».

وفي رواية اخرى : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أستتمّ قائما ، فلا أدري ركعت أم لا؟ قال عليه‌السلام : بلى قد ركعت ، فامض في صلاتك ، فإنّما ذلك من الشيطان.

والشيخ قدس‌سره وإن حمل هذه على القيام من السجدة إلى الركعة التالية ، إلّا أنّه لا داعي ولا شاهد على هذا الحمل ، فإنّ استتمام القيام كما يصدق بذاك ، كذلك بالقيام من الهويّ للركوع ثمّ شكّ في أنّه بلغ هويّه حدّ الركوع أو لا ، فالحقّ أنّ الدخول في الغير غير معتبر في جريان القاعدة ، نعم الشكّ في السجود خرج عن هذه الكليّة ، بواسطة ورود النصّ بعدم اعتبار الشكّ فيه إلّا بعد القيام.

المقام الرابع : قد خرج من هذه الكليّة باب الوضوء بواسطة النصّ بالاعتناء

٦٨٨

بالشكّ في بعض أجزائه ما دام مشغولا به ، وهذا ممّا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في أنّ ذيل الموثّقة المتقدّمة يدلّ على جريان القاعدة في باب الوضوء ؛ لأنّه قال في مقام الضابط : إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه ، ولا يخفى وحدة مضمونه مع ما ورد في الشكّ بعد تجاوز المحلّ.

وحينئذ يستشكل بأنّه أيّ مدخليّة في صدق التجاوز عن المحلّ للدخول في غير الوضوء بناء على عود ضمير «غيره» إلى الوضوء لئلّا يخالف الإجماع ، وإن قيل : لا مدخليّة ولكن خرج ما عدى هذا الفرد عن تحت العموم ، قيل : إنّه تارة تكون الكبرى واردة غير منطبقة على باب الوضوء ، فحينئذ يقبل هذا التخصيص ، وأمّا إذا كان تطبيقها على مورد الوضوء فحينئذ يكون التخصيص بشيعا.

ولأجل التفصّي عن هذا الإشكال اختار المحقّق الخراساني أعلى الله مقامه كون الذيل منزّلا على قاعدة الشكّ بعد الفراغ ، ثمّ استشكل عليه بلزوم التهافت حينئذ في ما لو شكّ في غسل جزء من اليد اليمنى بعد ما دخل في اليسرى ، فإنّه من حيث كونه شكّا في صحّة غسل اليمنى بعد الفراغ محكوم بالصّحة ، ومن حيث كونه شكّا في صحّة الوضوء قبل الفراغ محكوم بالاعتناء بحكم الضابط.

فأجاب عن هذا نقضا بما إذا شكّ في صحّة الحمد بعده قبل الفراغ من الصلاة ؛ فإنّ هذا التهافت موجود بعينه ، وحلّا بأنّ المراد بالشيء الامور التي لها عنوان مستقلّ ، وغسل اليمنى ليس له عنوان مستقلّ كالوضوء والصلاة.

ثمّ استشكل على ما ذهب إليه شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف في وجه التفصّي عن الإشكال من أنّ الوضوء لبساطة أثره نزّل منزلة الشيء البسيط الذي لا جزء له ، ولا أوّل له ولا آخر حتّى نفرض الشكّ الحادث بينه شكّا بعد المحلّ ؛ لأنّه فرع وجود الأجزاء ، وهو مناف مع نظر البساطة والوحدة.

فاستشكل عليه بأنّ بساطة الأثر غير مختصّة بباب الوضوء ، بل في كلّ مركّب امر بها بغرض واحد ، كالصلاة بغرض الانتهاء عن الفحشاء والمنكر ، فإن كان بساطة الأثر مورثة لنظر البساطة إلى المؤثّر فلا بدّ منه في كلا المقامين ، وإن لم

٦٨٩

يوجب ذلك فلا بدّ أن لا يوجبه في شيء منهما ، فلا وجه للتفكيك.

قال شيخنا الاستاد دام ظلّه : الإنصاف عدم ورود هذا الإشكال على شيخنا المرتضى أعلى الله مقامه ؛ لأنّه إنّما جعل المصحّح لنظر البساطة في السبب وحدة المسبّب الذي وقع بنفسه تحت الأمر ، كما هو الحال في باب الوضوء ، حيث وقعت الطهارة التي هي مسبّبة منه مأمورة بها ، وأين هذا من بساطة مسبّب لم يقع تحت أمر أصلا ، قال شيخنا الاستاد دام ظلّه : قد مضى التحقيق في رفع الإشكال هنا ، والإنصاف عدم ارتفاعه بشيء ممّا اختاره شيخنا المرتضى ، ولا ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سرهما اللطيف.

أمّا الأوّل : فلأنّ نظر البساطة والوحدة كيف يجتمع مع الإتيان ب «من» التبعيضيّة في قوله : شيء من الوضوء ، وأمّا حملها على كونها للتبيين فبعيد غايته ، بحيث يكون الكلام معه خارجا عن قانون المحاورة ، وبالجملة ، بعد ما هو ظاهر فيه لو لا النصوصيّة من تبعيضيّة «من» لا نعلم كيف يجتمع في نظر المتكلّم لحاظ الوحدة والبساطة.

وبعبارة اخرى : إمّا نفرض هذا البسيط أمرا تدريجي الحصول كالخطّ المستطيل ، فإنّه بسيط بناء على بطلان الجزء الذي لا يتجزّى ، وإمّا آنيّ الحصول ، فعلى الأوّل يكون فيه للشكّ بعد التجاوز مجال ، وعلى الثاني كيف يتصوّر الشكّ في بعض منه ، كما هو مفاد قوله عليه‌السلام : إذا شككت في شيء من الوضوء؟

وأمّا الثاني : ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا من عدم نفعه في التخلّص عن الإشكال ما لم يضمّ إليه ـ أنّ الشارع نظر إلى الوضوء بنظر البساطة ، كما عرفته من شيخنا المرتضى قدس‌سره ، فإنّه لو يضمّ إلى كلامه هذا لورد عليه الإشكال بأنّ الشكّ في جزء من غسل اليد اليمنى بعد الدخول في اليسرى من صغريات الضابط المذكور في الذيل ، وقد كان اختيار حمله على قاعدة الفراغ لأجل التخلّص من هذا.

وهذا غير إشكال التهافت الذي أشار إليه في كلامه ؛ فإنّه غير وارد بعد كون أحد الشكّين وهو الشكّ في الكلّ مسبّبا عن الآخر وهو الشكّ في الجزء ؛ لأنّ

٦٩٠

الشيء المذكور في الذيل عبارة عن الشيء المذكور في الصدر ، وقد كان هو جزء من أجزاء الوضوء ، فتكون المجاوزة أيضا معتبرة بالنسبة إليه ، وهذا عين قاعدة التجاوز.

وأمّا حمل الشيء في الذيل على الوضوء ففي غاية البعد والمخالفة للظاهر ، كما عرفت أنّ حمل «من» في الصدر على التبيينيّة كما في الرواية الاخرى : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ، يكون أيضا في غاية البعد ومخالفة الظاهر.

فالحقّ في المقام أحد الأمرين ، إمّا الحمل على قاعدة التجاوز والتزام التخصيص بالنسبة إلى الشكّ في أجزاء الوضوء في أثنائه ـ كما مرّ تقريبه ـ وإمّا القول بمخالفة الرواية مع روايات الاعتناء بالشكّ في أثناء الوضوء ومع الإجماع ، ولكن مجرّد ذلك لا يوجب إلّا طرح صدره دون ذيله ، فيكون كتلك الكبريات الغير المنطبقة على باب الوضوء ، ومثله غير عزيز ، وعلى هذا فيبقي قاعدة الفراغ غير ممكن الاستفادة من هذه الأخبار.

نعم في خصوص بابي الصلاة والوضوء ورد أخبار بعدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ ، مثل صحيحة زرارة في باب الوضوء ، ومثل ما روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما‌السلام : كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ، ومثل قوله عليه‌السلام : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكّرته تذكّرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ، بناء على جعل «من» بيانيّة ـ كما هو الظاهر ـ لا تبعيضيّة ، وإلّا كان دليلا على قاعدة التجاوز.

ثمّ إنّه قد يستشكل في هذا المقام بأنّ الشكّ المسبّبي أصله محكوم لأصل الشكّ السببي ، فإن كان الأصلان مفادي دليل واحد ، فلا إشكال ، وأمّا إذا ورد دليل بالخصوص في الشكّ المسبّبي والمفروض ورود الدليل المستقلّ في السببي ، كان الدليل الأوّل لغوا دائما.

لكن ندفع هذا الإشكال بأنّ التسبّب فرع تعدّد الشكّ ، فإن جعلنا موضوع إحدى القاعدتين هو الشكّ فى الجزء وموضوع الاخرى هو الشكّ في الكلّ لزم ما

٦٩١

ذكر ، وأمّا إذا جعلنا الموضوع في كليهما هو الشكّ في الجزء ، غاية الأمر في إحداهما بقيد كونه بعد الفراغ عن الكلّ فلا إشكال ، ولا يخفى أنّ هذا هو مفاد صحيحة زرارة في باب الوضوء ، وكذا رواية محمّد بن مسلم : كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ الخ ، واحتمال كون الفراغ محقّقا لمصداق عنوان التجاوز خلاف الظاهر ؛ لأنّ ظاهر العناوين هو الموضوعيّة.

نعم موضوع الرواية الثالثة هو الكلّ ، فينحصر مورده في الشكّ في الجزء الأخير قبل الفصل الطويل إذا رأى نفسه منصرفا ، فإنّه لا مجرى لقاعدة التجاوز حينئذ لبقاء المحلّ ، وكذا في الشروط إن قلنا بعدم شمول قاعدة التجاوز إيّاها ، وعلى كلّ حال لا إشكال في الخبرين الآخرين أصلا.

فإن قلت : لكن ينقدح المعارضة في الشكّ بعد المحلّ قبل الفراغ بين القاعدتين ، لأنّ مقتضى قاعدة التجاوز هو المضيّ ، ومقتضى قاعدة الفراغ بمفهومها عدمه.

قلت : أوّلا لا نسلّم كون كلمة «إذا» و «كلّ ما» مثل كلمة «إن» في إفادة الإناطة والعليّة الانحصاريّة ، وإنّما مفادها العموم الزماني ، وثانيا : سلّمنا ذلك لكن في خصوص المقام لم يسق القضيّة لأجل المفهوم ، فإنّ التعبّد إنّما هو في المنطوق ، وأمّا المفهوم فهو مطابق لقاعدة الاشتغال ، وثالثا : سلّمنا ذلك ، لكنّه حينئذ كقضيتى إذا خفي الأذان، وإذا خفي الجدران.

المقام الخامس : قد عرفت ممّا ذكرنا سابقا أنّ حكم الشكّ في الشرط حكم الجزء في عدم الاعتناء إذا كان بعد المحلّ ، لعموم لغويّة الشكّ في الشيء بعد تجاوز محلّه ، والكلام هنا في أنّه هل يكفي الشرط المحرز بهذه القاعدة لمشروط آخر محلّه باق بالنسبة إليه أو لا؟ مثلا إذا شكّ في الطهارة بعد صلاة الظهر ، فلا شبهة في صحّة صلاة الظهر ، ولكن هل يحكم بصحّة العصر أيضا ، أو لا بدّ من تجديد الطهارة؟

قد يقال بالكفاية نظرا إلى أنّ الشرط ليس إلّا حقيقة الطهارة من دون دخل شيء آخر ؛ إذ قيد المقارنة أيضا وارد على تلك الحقيقة ، ولا شبهة أنّ الحقيقة الواحدة إذا كان لها محالّ متعدّدة ومضى بعضها وبقي الآخر ، فإمّا أن يقال بصدق

٦٩٢

القاعدة ، فلا بدّ من عدم التكليف بين الصلوات في الصحّة ، وإمّا أن يقال بعدم الصدق إلّا بعد مضيّ الجميع ، فلا بدّ من عدم التفكيك في البطلان ، فما وجه التفكيك؟

نعم لا يرد هذا الإشكال في قاعدة الفراغ ؛ لأنّ الحكم بالصحّة يكون على مجموع العمل المفروغ منه بلحاظ الخلل المحتمل ، ولا ربط لهذا بعمل آخر لم يشرع فيه ، وأمّا هنا فالمفروض جريان الحكم بالوجود في المحتمل العدم وهو نفس الطهارة ، فاللازم الكفاية في كلّ مشروط بالطهارة ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال بأنّ الحكم وإن كان بوجود الطهارة ، ولكن حيث إنّ اعتبار المحلّ لها إنّما هو بالإضافة إلى أشخاص الصلوات فالقدر المتيقّن من الحكم هو الثبوت لهذا المركّب الذي فرض انقضاء المحلّ بالنسبة إليه ، ولا يمكن التعدّي إلى غيره ، لكن هذا بناء على كون القاعدة من قبيل الأصل.

وأمّا بناء على الطريقيّة فلا شبهة في الكفاية لفرض القطع بالبقاء على تقدير الحدوث ، فاللازم التكلّم في هذا المجال ، فنقول وبالله المستعان في كلّ حال : مطلقات الأخبار ظاهرة في كون القاعدة من قبيل الأصل ، إلّا أنّ رواية الوضوء الواردة في من يشكّ بعد ما يتوضّأ ، حيث قال في مقام القاعدة : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» ربّما يستظهر منه الطريقيّة ، بمعنى أن يكون المراد بذلك رفع شكّ الشاك المذكور ، فإنّ الطريقيّة قائمة بالكشف بالنوعي مع عناية كون الحكم بعنوان الواقع ورفع الشكّ عنه.

ولكن يمكن الخدشة بأنّه مع فرض حفظ الشكّ حكم بعدم الاعتناء بهذه العبارة ، فالغلبة الكاشفة علّة لتشريع الحكم على الشكّ ، لا محكومة بنفسها بالاعتبار.

وحاصل الكلام في المقام أنّ الاحتمالات هنا ثلاثة ، الأوّل : أن يكون المطلقات باقية بإطلاقها ، وتكون الرواية المذكورة بمقام الحكمة والتقريب ، والثاني : أن تكون الرواية بمقام التعليل ، فيوجب تضييق دائرة الإطلاق بما إذا كان احتمال الخلل ممحّضا في السهو على ما سيأتي من عدم شموله للخلل العمدي ، والثالث : أن يؤخذ بإطلاق المطلقات وتكون الرواية أيضا مفيدا لحكم طريقي في موارد احتمال الخلل

٦٩٣

السهوي ، بأن يقال : إنّ من المسلّم المستمرّ عليه سيرة العقلاء حمل أفعال العاقل وأقواله على الصدور لا عن سهو وعدم تحقّق ترك شطر أو شرط سهوا ، ولهذا لو سمعنا القائل يقول: رأيت أسدا ، واحتملنا أنّه أراد ذكر «يرمي» وسها ، كان غير معتنى به ، وهكذا في أفعاله.

وعلى هذا فالكلام المذكور إمضاء لهذه الطريقة ، فتكون قاعدة الشكّ بعد المحلّ محكوما في موارد احتمال السهو بهذا الطريق العقلائي الممضى نظير قاعدة الطهارة في موارد وجوب البيّنة على الطهارة ، ولعلّ الاحتمال الأخير سالم عن ارتكاب مخالفة ظاهر شيء من الدليلين ، هذا حاصل تقريب الطريقيّة.

ولكنّه مع ذلك محلّ الخدشة بملاحظة أنّه ليس من المسلّم استمرار السيرة على عدم السهو عند احتمال ترك شيء في مقام إتيانه ، وبعبارة اخرى : عند الشكّ في الوجود ، وإنّما المسلّم هو الأخذ به عند مفروغيّة صدور عمل من العاقل ، ونشكّ في أنّه بتمامه أو ببعض أجزائه وكيفيّاته اتى به سهوا أو عمدا.

فإذا علمنا صدور عمل مشتمل على تسعة أجزاء مثلا واحتملنا أنّه أراد عشرة فنقص واحدا سهوا ، أو ثمانية فزاد واحدا كذلك ، ندفع الاحتمالين بالأصل ، وأمّا إذا لم نعلم المأتيّ به ما ذا حدّه ، هل العشرة أو التسعة مع العلم بأنّ ما أراده هو العشرة فلا أصل هنا يعول عليه في نفي احتمال التسعة ونقصان الواحد.

فالمقام نظير أصالة الحقيقة حيث إنّه عند تميّز المعنى الحقيقي عن المجازي مع الشبهة في المراد جارية ، وأمّا مع تميّز المراد والشبهة في المعنى الحقيقى غير جارية ، والدليل على عدم الجريان في المقام عند تردّد المأتي بين الزائد والناقص ، وبعبارة اخرى : في مطلق موارد الشكّ في الوجود أنّه إذا علمنا أنّ زيدا يريد اشتراء دار عمرو ، والعمرو أيضا يريد شرائه منه ، وعيّنا لذلك يوما كذا ، وعلمنا بعدم حصول البداء وأنّ ترك البيع على فرضه مستندا إلى سهوهما عن إيقاعه ، فنحن في هذا الفرض بعد انقضاء اليوم الكذائي هل نعامل مع تلك الدار معاملة ملك زيد؟ لا نرى من وجداننا المساعدة لذلك.

٦٩٤

وإذن فالحقّ في المقام أن يقال : إنّ الرواية المذكورة في مقام التعليل بأمر غير ارتكازي، نظير تعليل حرمة الخمر بالإسكار.

وحينئذ فهل الرواية في مقام التعليل حتّى يضيّق تلك الإطلاقات ، أو بمقام التقريب والحكمة ، يشهد للثاني أمران.

الأوّل : كثرة الإطلاقات الواردة بمقام البيان مع عدم ذكر القيد فيها.

والثاني : ما رواه ثقة الإسلام عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن على بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء «قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال : حوّله من مكانه ، وقال في الوضوء : تديره ، فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا امرك أن تعيد الصلاة».

وربّما يجاب بأنّه إنّما حكم بصحّة الصلاة من باب قاعدة الفراغ ، فلا ربط له بقاعدة التجاوز في الوضوء.

وفيه مع عدم جريانه على ما نقلناه من قوله : «حتى تقوم في الصلاة» وإنّما يصحّ بناء على ما نقل عن الصدوق من نقل «حتى تقوم من الصلاة» بدل «في الصلاة» أنّ التعليل المذكور كما يجرى في قاعدة التجاوز ، يجرى بعمومه في قاعدة الفراغ أيضا ، بل يمكن أن نقول بوروده في مورد قاعدة الفراغ في باب الوضوء ، كما في بعض روايات قاعدة الفراغ أيضا.

والحاصل تظهر ثمرة التقييد والإطلاق في ثلاث صور ، الاولى : صورة تمحّض الترك المحتمل في العمدي ، والثانية : صورة تردّده بين السهوى والعمدي ، والثالثة صورة القطع بالغفلة حال العمل واحتمال حصول الانغسال اتّفاقا ، كما هو مورد الرواية المذكورة.

فبناء على الإطلاق يجرى الحكم في الجميع ، وعلى التقييد يختصّ بصورة تمحّض الخلل في السهوي ، وذلك بناء على استظهار كون المقدّمة الاخرى المطوية

٦٩٥

في كلام الإمام عبارة عن مفروغيّة عدم الترك العمدي عمّن يريد إتيان الصلاة وإطاعة مولاه ، فلو وقع الخلل منه فلا محالة كان عن سهو ، وفي هذا الفرض تمّ قوله عليه‌السلام : «إنّه حين العمل أذكر» فلم يصدر عنه سهو ، فوقع المشكوك في محلّه ، فالتعبّد إنّما هو في عدم السهو ، لا فيه وفي عدم العمد ، كما ربّما يدّعي ، فإنّه خلاف الظاهر.

وكيف كان فالحقّ في مسألتنا المتقدّمة عدم الاكتفاء بالطهارة المحرزة بالقاعدة لصلاة الظهر مثلا في صلاة العصر ، لما ذكرنا من عدم الطريقيّة ، هذا في ما إذا اجري بعد الفراغ من العمل.

وأمّا لو اجريت في اثناء عمل واحد فهل يكتفى به لبقيّة العمل أو لا؟ ومجمل الكلام في المقام أنّ كيفيّة اعتبار قيد وجودي أو عدمي في الصلاة مثلا يتصوّر على نحوين ، الأوّل : أن يعتبر ذلك الوجود أو العدم مقارنا لأوّل أجزاء المركّب إلى آخرها ، كما في الاستقرار وعدم التكلّم ، غاية الأمر أنّ الأوّل في الاحوال المتخلّلة غير معتبر ، والثاني معتبر.

والثاني : أن يعتبر أمر واحد متّصل من أوّل الأجزاء إلى آخرها في جميع الأجزاء ، ويلاحظ ذلك الأمر المستمرّ ملاك ارتباط تلك المتشتتات واتّصال بعضها ببعض ، وذلك مثل وجود الطهارة الحدثيّة وعدم الحدث ، ويسمّي الأوّل في العدمي بالمانع ، والثاني فيه أيضا بالقاطع.

ولازم النحو الأوّل أنّه لو فقد بعض الأجزاء ذلك الأمر الوجودي أو العدمي لا يوجب ذلك نقصا في الأجزاء السابقة على تلك الأجزاء التي هي واجدة له ، بل هي باقية على صحّتها التأهليّة ، يعني هي بحيث لو انضمّ إليها باقي الأجزاء واجدة للشرط المذكور صلحت للانضمام معه ويلتئم المركّب من المجموع ، فلو فات الاستقرار في السورة سهوا فاعيدت مع الاستقرار انضمّت مع الحمد السابق.

٦٩٦

ولازم النحو الثاني عدم قابليّة السابق أيضا كاللاحق الفاقد ، فلو فاتت الطهارة الحدثيّة في السورة لا يمكن تجديد الطهارة وإتيان سورة اخرى ؛ لأنّ الحمد السابق خرج عن القابليّة ؛ إذ كما كانت السورة المأتيّ بها أوّلا مشروطة بالطهارة حالها ، كان الحمد أيضا مشروطا بتلك الطهارة ، والحاصل أنّ الطهارة في حال التسليمة شرط للتكبيرة ، كما أنّ الطهارة في حال التكبيرة شرط للتسليمة ، وبعبارة اخرى الطهارة في حال الكلّ شرط في الكلّ.

وحينئذ نقول : لو شككنا في القسم الأوّل لا شبهة في جريان القاعدة بالنسبة إلى ما مضى من الأجزاء ، كما لا بدّ من الإحراز بالنسبة إلى ما يأتي ، فيبني عند الشكّ في الاستقرار حال الحمد بعد مضيّة على ثبوته ، ونأتي بالاستقرار في بقيّة الأجزاء.

نعم لا يأتي هذا في الطهارة التي يحتاج إحرازها إلى المحصّل ولو في فرض عدم الإخلال في الصلاة بالفعل الكثير لو اتى بالوضوء في الأثناء ، وذلك للقطع باللغويّة ، إذ هو إمّا طاهر واقعا ، وإمّا محدث ، وعلى كلّ حال نقطع باللغويّة ، أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلفوات الترتيب بين الأجزاء بفساد السابقة.

نعم يمكن إتمام الكلام في الطهارة أيضا بناء على كونها من هذا القسم بتقريب آخر ، وهو أن يقال : إنّ المحصّل محلّه الشرعي إنّما هو قبل الصلاة ، لقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) الخ ، وإذا اجريت القاعدة بالنسبة إلى المحصّل ارتفع الشكّ بالنسبة إلى المحصّل ؛ لأنّ الشكّ فيه حيث إنّ المقطوع عدم مجيء الناقص إنّما هو ناش عن الشكّ في وجود المحصّل ، فإذا حكم بمقتضى القاعدة بوجوده ارتفع الشكّ عنه تعبّدا.

لا يقال : فلم لا يكتفى في صلاة العصر بهذه الطهارة المحرزة بالقاعدة في محصّلها.

لأنّا نقول : وجه عدم الاكتفاء أنّ محلّ محصّلها بالنسبة إلى العصر ما مضى ، وبعبارة اخرى كلّ فرد من أفراد الصلاة له اقتضاء إيجاد الغسلتين والمسحتين قبله ،

٦٩٧

فإذا كان إيجادها قبل الصلاة السابقة على هذه الصلاة محرزا وجدانا كان هذا كافيا عنه ، وأمّا إذا لم يحرز وجدانا والتعبّد إنّما أثبته من حيث اضافته إلى الصلاة السابقة ، ومن المعلوم أنّ الغسلتين بهذه الإضافة لا يكفي للاحقة ، وأمّا بالنسبة إلى أجزاء صلاة واحدة ، فمحلّ محصّل طهارة الكلّ جعل قبل الصلاة وقد انقضى.

فالذي يحرز بالقاعدة ليس له إضافة بخصوص بعضها دون بعض ، وإنّما له إضافة إلى الكلّ ، فيفيد الطهارة للكلّ حدوثا وبقاء أمّا حدوثا فواضح ، وأمّا بقاء ، فللقطع بعدم الناقض ، وحكم الشرع على موضوع وجود الغسلتين والمسحتين وعدم الناقض بالبقاء ، هذا.

ولكن هذا التقريب لا يجيء في مثل ما إذا شكّ في أثناء العصر أنّه توضّأ له وللظهر قبل الظهر أو لا ؛ إذ لا يحتمل الوضوء قبل العصر ، وقاعدة التجاوز مثبتة للوضوء بالنسبة إلى الظهر ، هذا كلّه في القسم الأوّل.

وأمّا القسم الثاني فلو شككنا في وجوده وعدمه في أثناء الصلاة فقد انقضى المحلّ بالنسبة إليه حتّى بالإضافة إلى الأجزاء الآتية ؛ لأنّ قوام هذا المعنى الوحداني بالحدوث من أوّل الصلاة ، فلو لم يحدث لما تحقّق هذا المعنى ، فبانقضاء محلّ الحدوث يصدق أنّ محلّ هذا المعنى قد انقضى ؛ إذ لا يمكن في الأثناء تحصيل هذا المعنى لا بالنسبة إلى الماضية ولا بالنسبة إلى اللاحقة ، بحيث يقطع بلغويّة الوضوء في الأثناء على كلّ حال.

وبالجملة نقول : إنّ المحلّ بالنسبة إلى المجموع المركّب الممتدّ من أوّل الصلاة إلى آخرها من الطهارة قد انقضى بانقضاء أوّل جزء الصلاة ، إذ لا يمكن بعده إحراز هذا الأمر الوحداني الملحوظ على نحو البساطة ، هذا.

مضافا إلى إمكان تقريبين آخرين في هذا القسم في خصوص الطهارة أيضا ، الأوّل : ما مرّ من الإجراء في المحصّل ، لكن عرفت عدم جريانه في جميع الأمثلة ،

٦٩٨

الثاني : وهو عامّ لجميع الأمثلة وهو أن يقال : سلّمنا عدم إفادة القاعدة في نفس هذا المعنى الوحداني البسيط إلّا إحراز الحدوث ، وأمّا البقاء فمحلّه باق ولم يمض ، وإثباته محتاج إلى تعبّد آخر ، لكن نقول : يثبت البقاء بتعبّد آخر غير قاعدة التجاوز بعد إثبات أصل الحدوث بالقاعدة بضميمة القطع بعدم طروّ الناقض وحكم الشرع بثبوت الطهارة عند حدوثها إلى أن يرفعها الرافع.

وبعبارة اخرى : كما أنّه لو احرز بالقاعدة حدوث الطهارة على وجه الإطلاق يحكم بالبقاء ـ كما إذا شكّ بعد الوضوء في بعض أجزائه أو شروطه حيث تجري القاعدة في نفس الوضوء ويحرز بسببها حدوث أصل الطهارة على وجه الإطلاق المفيد لجميع الصلوات ، مع أنّ الكلام المذكور جار فيه بعينه ؛ إذ يمكن أن يقال : إنّ غاية ما أثبته القاعدة هو تماميّة الوضوء الموجبة لحدوث الطهارة ، وأمّا بقائها فبم يثبت؟ فيحتاج إلى ضميمة القطع بعدم طروّ الناقض وتعبّد الشارع ببقاء الطهارة عند حدوثها حتّى يجيء الرفع ـ كذلك لو احرزت الطهارة على وجه التقييد وبالإضافة إلى جميع أجزاء الصلاة المخصوصة أيضا يحكم بالبقاء لهذا الموضوع الخاص أيضا ؛ إذ التعبّد الشرعي بالملازمة بين الحدوث والبقاء لا فرق فيه بين كون الحدوث ثابتا على نحو الإطلاق أو لموضوع خاص.

مثلا لو قلنا : إنّ التيمّم سبب للطهارة في موضوع فاقد الماء لكان اللازم الحكم بالبقاء في هذا الموضوع أيضا ما لم يرفعها رافع ، كذلك نقول في المقام : إذا ثبت الحدوث لأجزاء الظهر بتمامها يثبت البقاء أيضا لتلك الأجزاء ما لم يحصل الناقض ، هذا تمام الكلام في أصالة الصحّة في فعل النفس.

* * *

٦٩٩

أصالة الصحّة في فعل الغير (١)

استدلّ عليها بالأدلّة الاربعة ، فمن الكتاب.

بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) بناء على جواز التمسّك بالعام في الفرد المشتبه أنّه من أفراد المخصّص ، ولكنّه قد حقّق في الاصول فساده ، مع أخصّيته من المدّعى ، فإنّه يعمّ المعاملات والعبادات.

وقوله تعالى : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)

و (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) بناء على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول في الآية للاولى ، فيصير المحصّل من الآيتين وجوب حسن الظنّ في حقّ الغير وحرمة ظنّ السوء به ، وحيث إنّ نفس الصفة النفسانيّة غير قابلة للتكليف لخروج أسبابه عن حيّز الاختيار ـ بخلاف الاعتقادات الراجعة إلى اصول العقائد ، فإنّ أسبابها وبراهينها محقّقة في محلّها ويمكن لكلّ أحد المراجعة إليها وتحصيل القطع ـ فاللازم إرجاع التكليف إلى مقام الإظهار بالجوارح وترتيب الآثار ، يعني لا تظهروا آثار سوء الظنّ ، وأظهروا آثار حسن الظنّ ، فاحتمال فساد المعاملة أو العبادة الصادرة من الغير سوء الظنّ ، واحتمال الصحّة حسن الظنّ ، فيحرم ترتيب آثار الأوّل ، ويجب ترتيب آثار الثاني.

ومنه يظهر تقريب الاستدلال بالأخبار الدالّة على وجوب وضع أمر أخيك على أحسنه ، وتكذيب السمع والبصر ، وتكذيب خمسين قسامة وتصديقه لو شهدوا أنّه قال قولا وقال : لم أقله ، وحرمة اتّهام المؤمن.

وفيه أنّ هذه الآيات والأخبار في مقام تبرئة الفاعل عن القبيح وانه مجتنب

__________________

(١) راجع ص ٣٩٧

٧٠٠