أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر الثاني :

اعلم أنّ في حجيّة الاستصحاب وعدم حجيّته والتفصيل أقوالا كثيرة شتّى ، ولا مهمّ لنا في عدّ تلك الأقوال ، وإنّما المهمّ التعرّض لبيان أنّه هل يكون دليل على حجيّة الاستصحاب مطلقا أو في بعض الموارد ، أو لا دليل على حجيّته أصلا ، فنقول : يظهر من المتقدّمين عدم تمسّكهم لحجيّته بأخبار عدم نقض اليقين بالشكّ ، بل تمسّكوا بوجوه أخر ، مثل أنّ العلّة الموجدة مبقية وأنّ ما ثبت يدوم ونحو ذلك ، والتمسّك بتلك الأخبار شاع بين المتأخّرين ، وأوّلهم ـ على ما حكي ـ والد شيخنا البهائي قدس‌سرهما حيث وقع التعبير عن الاستصحاب في كلامه بعدم نقض اليقين بالشكّ.

وكيف كان فقد ادّعى شيخنا المرتضى قدس‌سره حجيّة الاستصحاب في خصوص ما إذا كان الشكّ اللاحق ناشئا من الشكّ في الرافع مع إحراز المقتضي ، دون ما إذا كان ناشئا من الشكّ في المقتضي ، ولا يخفى أنّه لو كان المتيقّن من أدلّة الباب هو الحجيّة في مورد الشكّ في الرافع كان كافيا في إثبات هذا المدّعى ؛ لأنّ عدم الدليل على الحجيّة في مورد الشكّ في المقتضي يكفي في عدم الحجيّة كما هو واضح. (١)

وحاصل ما استدلّ به قدس‌سره لمدّعاه من أصل حجيّة الاستصحاب في الجملة وحجيّته في الشكّ في الرافع دون المقتضي وجوه ثلاثة :

الأوّل : ظهور الاتّفاق على أنّه متى كان يقين سابق وشكّ لا حق مع إحراز المقتضي يبنى على اليقين السابق ، ولا ينافي هذا مع ما صرّح هو به من أنّ الأقوال في مسألة الاستصحاب أحد عشر أو أكثر ؛ لأنّه يمكن حصول الحدس القطعي للفقيه من اتّفاق جماعة على المطلب وإن كان الباقون على خلافه.

__________________

(١) راجع هذا البحث فى ص ...

٢٨١

الثاني : الاستقراء أعني : تتبّع الجزئيات ، والفرق بين هذا وسابقه أنّه قد يتتبّع فتاوى الأصحاب بمقدار يبلغ حدّ الإجماع وهذا هو الوجه الأول ، وقد يتتبّع حكم الشارع في الموارد الجزئيّة على طبق الحالة السابقة مع قطع النظر عن الفتاوى ، وهذا هو المراد بالثاني ، وحينئذ فحاصل مرامه قدس‌سره من هذا الوجه أنّا إذا تتبّعنا كلّ مورد مورد من الموارد من أوّل الفقه إلى آخره ممّا حصل فيه الشكّ في شيء بعد اليقين به سابقا من جهة الشكّ في حصول الرافع لهذا الشيء وجدنا الشارع حكم فيه بثبوت هذا الشيء في اللاحق ، وهذا الاستقصاء يفيد القطع بالجامع بين جميع تلك الموارد وهو الاعتبار بالحالة السابقة على وجه الكليّة.

وأمّا بعض الموارد التي لم يحكم الشارع فيها على طبق الحالة السابقة كالحكم بنجاسة الرطوبة المشتبهة الخارجة قبل الاستبراء من البول أو المني وبعد تطهير المحلّ على خلاف أصالة الطهارة واستصحاب طهارة المحلّ ، فليس من باب إلغاء الحالة السابقة وعدم الاعتناء بها ، بل يكون من باب حجيّة الأمارة القائمة على الخلاف ؛ فإنّ الغالب في من بال أو أمنى ولم يستبرئ وجود البول والمني في المخرج ، فالحكم على خلاف الحالة السابقة يكون من جهة تقديم هذا الظهور على الكون السابق ، لا من جهة عدم الاعتناء بالكون السابق ، وإلّا فإن كان الوجه هو الثاني كان المتعيّن هو الحكم بالطهارة من جهة قاعدة الطهارة ، ويظهر منه قدس‌سره الركون إلى هذا الوجه ، ولهذا ذكر بعد ذلك ما حاصله أنّ هذا الاستقراء يكون أولى من الاستقراء الذي تمسّك به غير واحد منهم المحقّق البهبهاني وسيّد الرياضقدس‌سرهما ، لاعتبار شهادة العدلين على وجه الإطلاق.

الثالث : الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، ويجب ملاحظة كلّ واحد واحد من هذه الأخبار والتأمّل في مدلوله كمّا وكيفا ، ثم ملاحظة أنّ المستفاد من المجموع ما ذا ، ولكن قبل الاشتغال بذلك ينبغى التنبيه على مطلب ذكره شيخنا قدس‌سره وحاصله أنّه وإن كان لهذه الأخبار إطلاق بالنسبة إلى الموارد باعتبار أنّ نقض اليقين بالشكّ كما يصدق في مورد الشكّ في الواقع يصدق في الشكّ في

٢٨٢

المقتضي ، إلّا أنّ في اطلاقها بالنسبة إلى مورد الشكّ في المقتضي إشكالا فتح بابه المحقّق الخوانساري.

وحاصل الإشكال على ما نقله شيخنا قدس‌سره عن المحقّق المذكور رحمة الله عليه ويظهر منه قدس‌سره ارتضائه والركون إليه أنّ النقض بحسب اللغة عبارة عن إعدام الهيئة الاتّصاليّة للشيء، وهذا المعنى غير ممكن الإرادة في هذه الأخبار قطعا ؛ لوضوح انّه ليس في البين شيء كان له هيئة اتصاليّة حتى يرد فيه النقض وعدمه ، وبعد ذلك يدور الأمر بين إرادة رفع اليد عن اليقين السابق بالشكّ اللاحق على وجه أقرب المجازات إلى ذلك المعنى الحقيقي بطريق الاستعارة ، وبين إرادة رفع اليد عن اليقين السابق بالشكّ اللاحق مطلقا ، وإن لم يكن على هذا الوجه.

فلو كان لفظ النقض في هذه الأخبار واردا في الموارد التي يكون الشكّ فيها في الرافع كان من باب أقرب المجازات إلى ذلك المعنى الحقيقي ، لأنّ اقتضاء البقاء في ذات الشيء حينئذ قد نزل منزلة الهيئة الاتصاليّة ، فاطلق النقض على رفع اليد عن هذا الاقتضاء من باب الاستعارة ، وأمّا لو كان واردا في الأعم من تلك الموارد ومن الموارد التي يكون الشكّ فيها في المقتضي فيكون مستعملا في مطلق الرفع بعد الأخذ وإن لم يكن فيه ما يشبه بالهيئة الاتّصاليّة ، ولا يخفى أنّه إذا دارا الأمر بين هذين المعنيين كان الأوّل هو الأولى ، فيكون مفاد الأخبار حجيّة الاستصحاب في الشكّ في الرافع دون المقتضي.

فإن قلت : لفظ النقض وإن كان أخصّ بحسب اللغة كما ذكرت ، إلّا أنّ لفظ اليقين أعمّ بحسب اللغة ممّا إذا كان المتيقّن شيئا له مقتضى البقاء أو غيره ، وكذلك لفظ الشكّ أعمّ من صورة كون المشكوك ممّا له مقتضى البقاء وعدمه ، فيصرف ظهور لفظ النقض في التخصيص بواسطة ظهور متعلّقه في التعميم.

قلت : إذا كان الفعل أخصّ والمتعلّق أعمّ ، فالقاعدة رفع اليد عن ظهور المتعلّق في التعميم بقرينة ظهور الفعل في التخصيص ، لا رفع اليد عن ظهور الفعل في التخصيص بقرينة ظهور المتعلّق في التعميم ، ألا ترى إلى قولنا : لا تضرب أحدا ،

٢٨٣

حيث إنّه لا يشمل الأموات ، مع شمول لفظ الأحد للأحياء والأموات ووجهه أن حقيقة الضرب قد اخذ فيها معنى الإيلام المفقود في الأموات كسائر الجمادات ، هذا حاصل كلامهقدس‌سره في نقل الإشكال.

أقول : لا بدّ أوّلا قبل التكلّم في الأخبار من طيّ الكلام في الوجهين الأوّلين فنقول : أمّا ظهور الإجماع ففيه أنّ الإجماع المحقّق في مثل هذه المسألة ـ ممّا تتطرّق فيه الأدلّة الأخر ، ويشتمل كلمات المجمعين على التعليلات ـ لا يصلح للركون إليه فضلا عن حكاية الإجماع وحكاية ظهوره.

وأمّا الاستقراء وتتّبع حكم الشارع في الجزئيات ، فبعد تصديق هذا المعنى منه قدس‌سره نقول : من أين يثبت أنّ حكم الشارع في تلك الموارد بالثبوت يكون لأجل الكون السابق وبملاحظته ، وذلك لأنّ الموجود في تلك الموارد أمران :

الأوّل : وجود الكون السابق مع الشكّ اللاحق ، والثاني : وجود المقتضي مع الشكّ في الرافع ، فيجيء هنا ثلاثة احتمالات ، الأوّل : أن يكون الاعتبار بالحالة السابقة مع قطع النظر عن وجود المقتضي ، والثاني : أن يكون الاعتبار بالحالة السابقة مع دخالة وجود المقتضي ، والثالث أن يكون الاعتبار بوجود المقتضي مع قطع النظر عن الحالة السابقة.

فإن كان الأوّل كان الاستقراء دليلا على حجيّة الاستصحاب مطلقا ، حتّى في مورد الشكّ في المقتضى ، وإن كان الثاني كان دليلا على حجيّته في خصوص الشكّ في الرافع ، وإن كان الثالث كان دليلا على حجيّة قاعدة المقتضي والمانع ، ففي كلّ مورد ثبت وجود المقتضي وشكّ في وجود الرافع يبنى على وجود المقتضي ، سواء كان في البين يقين سابق أم لا ، والثالث وإن كان بحسب النتيجة شريكا مع المدّعى من حجيّة الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، فيفيد وجوب البناء على الثبوت في جميع موارد اليقين السابق والشكّ اللاحق مع إحراز المقتضي والشكّ في الرافع ، لكنّ الحكم بالثبوت يكون من جهة القاعدة لا من باب الاستصحاب ، فبعد دوران أمر الاستقراء بين هذه الثلاثة يخرج عن صلاحيّة

٢٨٤

كونه دليلا على حجيّة الاستصحاب.

نعم لو كان معلوما من حال الشارع أنّ الحكم بالثبوت في تلك الموارد يكون لأجل الكون السابق ، كان دليلا على المدّعى من حجيّة الاستصحاب في الشكّ في الرافع وتردّد الأمر مع ذلك بين الاعتبار بحيثيّة وجود المقتضي ، والإلغاء لها حتّى يكون دليلا على حجيّة الاستصحاب حتّى في مورد الشكّ في المقتضي غير مضرّ ؛ لما أشرنا إليه سابقا من أنّه لو كان المتيقّن من الدليل حجيّة الاستصحاب في الشكّ في الرافع كفى في عدم الحجيّة في الشكّ في المقتضي ، ولا يحتاج إلى إثبات عدم الحجيّة في الثاني بالدليل.

هذا مع إمكان أن يقال : إنّ معنى التمسّك بالاستقراء أن يكون بنفسه مفيدا للقطع بالمدّعى ، وذلك لا يتمّ في المقام إلّا بوجود الدليل الخاصّ على الثبوت في كلّ مورد مورد من الموارد المذكورة ، ونحن إذا راجعنا الفقه وجدنا الأمر على خلاف ذلك ؛ فإنّ أغلب الموارد المذكورة ليس فيها سوى فتوى الأصحاب اتكالا على الاستصحاب ، فإن اتّكلنا نحن في تلك الموارد على فتواهم كان ذلك اتّكالا في حجيّة الاستصحاب على إجماعهم ، ويخرج عن باب التمسّك بالاستقراء وإن اتّكلنا على عموم أخبار عدم النقض كان أيضا خارجا عن هذا الباب ؛ لأنّ القطع بحجيّة الاستصحاب حينئذ حاصل من العلم بورود هذه الكليّة من الشرع لا من الاستقراء.

وأمّا ورود الدليل الخاص فنحن بعد التتبّع لم نعثر عليه إلّا في موارد ثلاثة ، الأوّل : عروض الخفقة والخفقتين بعد الوضوء والثاني : إعارة الثوب الطاهر للذميّ ، والثالث : عروض الشكّ في الطهارة عن الخبث المعلومة في السابق ، وحصول القطع من مجرّد هذه الموارد بعيد في الغاية.

وكيف كان فالمهمّ الآن التصدّي لبيان أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ على وجه الكليّة يمكن استفادته من الأخبار أولا؟ وهل يكون ناظرا إلى الاستصحاب أو إلى شيء آخر ، وعلى فرض الاستفادة يكون بأيّ مقدار.

٢٨٥

فنقول وعلى الله الاتّكال :

من جملة الأخبار صحيحة زرارة «قال قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال : لا حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، ولكن تنقضه بيقين آخر».

ولا يقدح إضمارها ؛ لأنّ زرارة لجلالة قدره وكثرة علمه لا يسأل عن كلّ أحد ، فيمكن دعوى القطع بأنّ مسئوله أحد الصادقين صلوات الله عليهما ، هذا مع قوّة احتمال عروض التقطيع على الرواية بأن يكون أصل الرواية طويلة واسم الإمام المسئول عنه مذكورا في صدرها ، وحيث كان قطعاتها في مطالب متفرّقة ذكر كلّ قطعة في باب يناسبها ، فعرض الإضمار من جهة التقطيع ، هذا هو الكلام بحسب السند.

وأمّا بحسب فقه الحديث ، فالفقرة الاولى من كلام السائل سؤال عن الشبهة الحكميّة ، بمعنى أنّه بعد الفراغ عن أصل ناقضيّة النوم للوضوء وقع السؤال عن مفهوم النوم الناقض وأنّه يكون بحيث يشتمل الخفقة والخفقتين أو لا ، والشبهة المفهوميّة داخلة في الحكميّة ؛ لأنّ معيار الحكميّة أن يكون رفع الشبهة من وظيفة الشرع ، وكما يكون رفع الشبهة من حيث الحكم وظيفة له ، كذلك رفعها من حيث المفهوم ، فكما أنّ بيان حرمة الغناء مثلا من شأن الشارع فكذلك بيان مفهومه ، وبالجملة ، فرفع الإمام عليه‌السلام الشبهة من الجهة المذكورة ، ببيان أنّ مطلق النوم ليس ناقضا للوضوء وأنّ الناقض هو النوم المستولي على العين والاذن.

ثمّ بعد رفع الجهالة من المفهوم وقع السؤال في الفقرة الثانية عن حكم الشبهة الموضوعيّة لهذا المفهوم الناشئة من الاشتباه في الامور الخارجيّة ، بمعنى أنّه بعد معلوميّة عدّ النوم الناقض ومفهومه وأنّه النوم المستولي على العين والاذن وقع

٢٨٦

الشكّ في حصول هذا المعنى وعدم حصوله ، ومنشأ هذا الشكّ عدم الالتفات إلى تحريك شيء في جنبه وعدم العلم بأنّ عدم الالتفات إليه كان من جهة استيلاء النوم على الحاستين، أو من جهة أمر آخر مع عدم استيلائه عليهما ، فأجاب الإمام عليه‌السلام في هذا المقام بقوله: «لا حتّى يستيقن أنّه نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن» يعني لا يجب الوضوء حتى يعلم بحصول ما هو الناقص ويتّضح عنده ذلك.

فانقدح من هنا أنّ الرواية سليمة عن الخدشة فيها باحتمال كونها واردة لبيان حكم الشكّ الساري إلى حال اليقين ، فتكون ناظرة إلى قاعدة اخرى غير الاستصحاب ، وذلك لما عرفت من تمحّض مورد السؤال للشكّ الغير السارى ، ثمّ قوله : «وإلّا» قضيّة مشتملة على الشرط ؛ لأنّ معناه : إن لم يستيقن أنّه نام أو إن لم يجئ من ذلك أمر بيّن ، وجواب هذا الشرط يحتمل أن يكون محذوفا ويكون المذكور علّة للجواب المحذوف ، لا أن يكون الجواب نفس المذكور ؛ فإنّ من الشائع حذف الجواب وإقامة علّته مقامه ، كما في قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) والتقدير في الأوّل : فلا يضرّ كفركم بالله ؛ غني عن العالمين ، وفي الثاني : فلا عجب لأنّه قد سرق أخ له ، والتقدير في المقام : فلا يجب الوضوء لأنّه على يقين من وضوئه ، وعلى هذا يكون قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» في مقام الصغرى ، وقوله : «ولا تنقض اليقين بالشكّ» في مقام الكبرى ، ويكون الإتيان بهذه الصغرى والكبرى لأجل كون نتيجتهما جوابا للشرط.

ويحتمل أن يكون الجواب نفس المذكور في الكلام أعني قوله : فإنّه على يقين من وضوئه ، بأن يكون المعنى أنّه على يقين فعلا بحكم التعبّد وإن كان على شكّ ، يعنى يجب أن يعامل معاملة اليقين ويجري على وضوئه ، وعلى هذا يكون قوله : ولا تنقض اليقين بالشكّ تكرار للفقرة الاولى للتأكيد ، فإنّ مفاده على هذا أيضا وجوب البناء على اليقين السابق وكونه في اللاحق على يقين تعبّدا.

والفرق بين الوجهين أنّه على الأوّل يستفاد القاعدة الكليّة من الكبرى كما هو

٢٨٧

واضح ، وعلى الثاني لا يمكن استفادة الكليّة أصلا ؛ لأنّ الكلام يفيد وجوب البناء على اليقين السابق في هذا المقام الشخصي الذي وقع موردا للسؤال أعني عروض الخفقة والخفقتين بعد الوضوء مع الشبهة الموضوعيّة ، فلا يمكن التعدّي عن هذا المقام الشخصي إلى المقامات الأخر في باب الوضوء فضلا عن سائر الأبواب.

والظاهر منهما هو الوجه الأوّل ، ووجهه أنّ الظاهر من قوله : فإنّه على يقين من وضوئه ، عدم كونه في مقام التعبّد وكونه للكشف عن الواقع ، وكذلك الظاهر من قوله : ولا تنقض اليقين بالشكّ عدم كونه تكرارا للفقرة السابقة وكونه تأسيسا لمطلب جديد.

وعلى هذا يكون المعنى أنّه إن لم يستيقن أنّه نام فلا يجب عليه الوضوء ؛ لأنّه يكون فعلا على يقين من وضوئه السابق ولا ينقض اليقين بالشكّ ، وهذا منطبق على الاستصحاب ؛ إذ يعتبر في الاستصحاب أيضا فعليّة اليقين بالمتيقّن السابق في حال الشكّ وعدم سراية الشكّ إلى حال اليقين.

فإن قلت : غاية ما يلزم بعد اختيار الوجه الأوّل استفادة القاعدة في خصوص باب الوضوء أو الطهارات الثلاث دون سائر الأبواب ، وذلك لأنّ استفادة الكليّة بالنسبة إلى سائر الأبواب متوقّفة على كون «اللام» في لفظ اليقين للإشارة إلى الجنس ؛ إذ حينئذ يكون المعنى : لا تنقص جنس اليقين بالشكّ ، وأمّا إذا كانت راجعة إلى خصوص اليقين بالوضوء فيكون المعنى : لا تنقض اليقين بالوضوء بالشكّ ، فيكون الكلام مفيدا للكليّة في خصوص الوضوء أو مع التعدّى إلى سائر الطهارات ، ولكن لا يمكن التعديّ إلى سائر الأبواب ، والأصل في اللام وإن كان كونها للجنس ، لكن ذلك إنّما يكون حيث لا عهد ، وحيث ذكر قبل الكلام قوله : فإنّه على يقين من وضوئه صار المعهود هو اليقين بالوضوء ، فالظاهر كون اللام في كلمة «اليقين» إشارة إلى هذا المعهود.

قلت : إنّ أهل العرف يفهمون في بعض المقامات اعتبار القيد الزائد الغير

٢٨٨

المذكور في الكلام بمعونة المناسبات المقاميّة ، وفي بعض آخر إلغاء القيد المذكور في الكلام من جهة تلك المناسبات ، ففي قوله عليه‌السلام : الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء ، يفهمون اعتبار قولنا : بالملاقاة ، مع عدم ذكره في الكلام أصلا ، فكذلك في مقامنا هذا يفهمون إلغاء خصوصيّة كون اليقين متعلّقا بالوضوء من جهة المناسبة المقاميّة. ووجه ذلك أنّه بعد جعل اليقين مقابلا للشكّ والحكم عليه بعدم انتفاضه بالشكّ يصير الحكم بعدم الانتفاض مناسبا لجنس اليقين ، ولو كان خصوصيّة تعلّقه بالوضوء مذكورة في الكلام يفهم العرف عدم دخالة هذه الخصوصيّة من جهة هذه المناسبة ، وحينئذ تكون الرواية مفيدة لقاعدة كليّة هي حجيّة الاستصحاب في جميع الأبواب من أوّل الفقه إلى آخره.

بقي الكلام في الإشكال المتقدّم الذي ارتضاه شيخنا المرتضى قدس‌سره في شمول الرواية للشك في المقتضي ، وقد سدّ بابه الاستاد الأكبر ومجدّد المذهب في رأس المائة الرابعة عشر الميرزا الشيرازى قدّس الله تربته الزكيّة ، كما فتح بابه المحقّق الخوانساري أعلى الله مقامه الشريف ، وشرح ما أفاده قدس‌سره في تقريب دفع الإشكال أنّ مادّة النقض ضدّ الإبرام ، ومعنى الإبرام أن يكون للشيء أجزاء شتات ، فجمع تلك الأجزاء على وجه التداخل والاستحكام، ومعنى النقض أن يجعل تلك الأجزاء المتداخلة المستحكمة شتاتا منفصلا بعضها عن بعض.

فالنقض رفع الإبرام والاستحكام ، فنقض الغزل والحبل ضدّ إبرامهما الذي هو عبارة عن جمع أجزاء الحبل والغزل وجعلها مستحكمة ، ونقضهما جعل تلك الأجزاء شتاتا ، وليس النقض عبارة عن رفع الهيئة الاتصاليّة الطولانيّة ، وإلّا فقطع الحبل من وسطه لا يسمّى نقضا ، بل قطعا.

وحينئذ نقول : المعنى الحقيقي لمادّة النقض غير ممكن الإرادة في الرواية ؛ لوضوح أنّه ليس فى البين شيء له أجزاء محسوسة خارجيّة حتّى يرد فيه الإبرام والنقض ، ولكن يمكن أن لا يكون للشيء أجزاء محسوسة وكان استعارة مادّة النقض فيه مناسبة ، وذلك كما في نقض العهد والبيعة ، وجه المناسبة أنّ العهد عبارة

٢٨٩

عن بناء القلب على الفعل أو الترك ، وما دام لم يحصل البناء فكأنّما أجزاء القلب متشتّتة ، تذهب تارة جانب الفعل واخرى جانب الترك ، وإذا حصل البناء يجتمع أجزاء القلب وتصير مستحكمة وواقفة على جانب واحد.

وكذلك البيعة عبارة عن بناء القلب على مساعدة الغير ، فما دام لم يحصل البناء فكأنّما أجزاء القلب متشتّتة دائرة بين المساعدة وعدمها ، وإذا حصل البناء اجتمع أجزاء القلب وصارت مستحكمة واقفة على جانب المساعدة ، فنقض العهد والبيعة عبارة عن جعل أجراء القلب متشتّتة كالأوّل ودائرة بين الفعل والترك أو المساعدة وعدمها.

ومن قبيل ما ليس له أجزاء محسوسة ، ولكن يناسب استعارة مادّة النقض فيه وصف اليقين ؛ فإنّه ما دام لم يحصل هذا الوصف فكأنّما أجزاء القلب متشتّتة تذهب تارة إلى جانب الوجود والوقوع ، واخرى إلى العدم واللاوقوع ، فإذا حصل هذا الوصف اجتمعت الأجزاء وصارت مستحكمة وواقفة في جانب واحد ، فنقض اليقين عبارة عن جعل أجزاء القلب شتاتا كالأوّل.

وحينئذ نقول : بعد مناسبة هذه المادّة مع وصف اليقين لا داعي إلى صرف لفظ اليقين عن ظاهره وحمله على إرادة المتيقّن حتّى يحصل الإشكال من جهة أنّ المتيقّنات مختلفة، ففي بعضها شبيه الهيئة الاتّصاليّة الدواميّة موجود وفي بعضها مفقود فنختار اختصاص الرواية من باب الإلجاء ، بل يحمل على ظاهره من نفس اليقين ويراد به الأعمّ ممّا إذا كان للمتيقّن مقتضى البقاء ، وما إذا لم يكن ؛ إذ لا فرق في المناسبة بين الصورتين.

فإن قلت : إذا كان للمتيقّن مقتضى البقاء كانت هذه المادّة مناسبة ، وأمّا إذا لم يكن له المقتضي للبقاء فلا مناسبة ، ألا ترى أنّه لو كان للعهد أجل محدود فبعد انقضاء الأجل لا يناسب إطلاق نقض العهد؟ فكذلك بعد انقضاء المقتضى للبقاء لا يناسب إطلاق اليقين ، فيلزم اختصاص الرواية على هذا أيضا بالشكّ في الرافع.

قلت : إن أردت أنّ مادّة النقض غير مناسبة مع انقضاء المقتضي فلا إشكال في

٢٩٠

أنّ الانتقاض مع عدم المقتضي مناسب ، وإن أردت أنّ الهيئة المفيدة للتحريم غير مناسبة مع الانتقاض القهري وإنّما يناسب مع النقض الاختياري ، فهذا مشترك الورود بين نفس اليقين وبين المتيقّن مع وجود المقتضي ، ألا ترى أن حياة زيد لا يصحّ النهي عن نقضها لاحتمال حصول انتقاضها قهرا بغير اختيار المكلّف؟ فكما تقول هناك في توجيه الهيئة بأنّ المراد هو النقض العملي ، نقول هنا بذلك.

وبالجملة فلا فرق بين نفس اليقين وبين المتيقّن لا في مناسبة المادّة ولا في عدم إمكان إبقاء الهيئة على ظاهرها ، وتعيّن توجيهها بإرادة النقض العملي ، وحينئذ فلا يكون رفع اليد عن ظاهر لفظ اليقين وتخصيص الرواية بالشكّ في الرافع إلّا أكلا من القفاء.

فإن قلت : نعم ، ولكن لا بدّ من حمل اليقين على المتيقّن ؛ إذ على تقدير حمله على وصف اليقين كان عدم نقضه عملا عبارة عن ترتيب الآثار العمليّة الثابتة لوصف اليقين ، وهو خلاف المراد في مورد الرواية قطعا وأجبني عن الاستصحاب أيضا ؛ فإنّه عبارة عن ترتيب آثار المتيقّن ، فلو كان لليقين بالوضوء أثر عملي كالتصدّق بدرهم فاستصحاب الوضوء عبارة عن ترتيب أثر نفس الوضوء من جواز الدخول في الصلاة بلا وضوء ، لا عن ترتيب أثر اليقين به.

قلت : إذا نسب شيء إلى اليقين فذلك يمكن بوجهين ، الأوّل : ملاحظة اليقين على وجه الصفتية ، والآخر ملاحظته على وجه الطريقيّة ، فإن لوحظ على الوجه الأوّل كان متمحّضا في آثار نفس اليقين ، فلو قيل : عامل معاملة من هو على يقين من وضوئه ، ولوحظ اليقين بهذا الوجه كان المعنى : تصدّق بدرهم إذا كان أثر اليقين بالوضوء ذلك ، وإن لوحظ على الوجه الثاني كان متمحّضا في آثار المتيقّن ، فلو قيل الكلام المذكور ولوحظ اليقين بهذا الوجه كان المعنى : ادخل في الصلاة بلا وضوء.

وحينئذ فحيث إنّ ظاهر لفظ اليقين ملاحظة على وجه الطريقيّة ، وقرينة مورد الرواية أيضا شاهدة بذلك كان لفظ اليقين في الرواية متمحّضا في آثار المتيقّن ، فتحصّل من مجموع ما ذكرنا تماميّة دلالة الرواية الصحيحة على حجيّة الاستصحاب

٢٩١

في تمام الأبواب ، سواء كان الشكّ في المقتضي أم في الرافع ، والحمد لله على كلّ حال.

ومنها صحيحة ثانية (١) لزرارة مضمرة أيضا ، قال : «قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا ، وصلّيت ، ثمّ إني ذكّرت بعد ذلك؟ قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله ، قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليه‌السلام تغسله وتعيد ، قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم اتيقّن ذلك فنظرت ولم أر شيئا فصلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبعي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قلت : فإنّى قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال : لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع من نفسك ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّة شيء اوقع عليك ، فليس ينبعي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» الحديث.

وموضع الاستدلال منها قوله في الموضعين : وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ ، والكلام في تقريب الاستدلال به عين ما تقدّم في الصحيحة الاولى ؛ لاشتراكه معها في لفظ النقض واليقين والشكّ.

ولكن يرد هنا على فقه الحديث إشكال وهو أنّ قول السائل في الفقرة الاولى : فإن ظننت أنّه أصابه ولم اتيقّن ذلك فنظرت ولم أر شيئا فصلّيت فيه فرأيت فيه يحتمل وجهين.

__________________

(١) راجع ص ٥٠١

٢٩٢

الأوّل : أن يكون المراد بقوله : فرأيت فيه ، أنّه رأى النجاسة بعد الصلاة واحتمل وقوعها بعدها ، وحينئذ لا إشكال أن يكون المراد من قوله : فرأيت فيه ، أنّه رأى بعد الصلاة النجاسة التي خفيت عليه قبل الصلاة كما هو ظاهر الكلام ، وحينئذ يرد الإشكال بأنّ الظاهر من قول الإمام عليه‌السلام في مقام التعليل للحكم بعدم إعادة الصلاة : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك كون قوله : وليس ينبغي الخ كبرى لإعادة الصلاة ، ويكون المعنى : إنّك كنت متيقّنا بالطهارة قبل الظنّ بالنجاسة وشاكّا فيها في حال الشروع في الصلاة ، فالإعادة بعد الصلاة نقض لذاك اليقين بهذا الشكّ ، والحال أنّه ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ.

وأنت خبير بأنّ هذه الكبرى غير منطبقة على تلك الصغرى ؛ فإنّ المفروض أنّه بعد الصلاة كان متيقّنا بوجود النجاسة من أوّل الصلاة إلى آخرها ، والإعادة مع هذا اليقين نقض لليقين السابق باليقين لا بالشكّ ، نعم ما دام الشكّ باقيا فالامتناع من الدخول في الصلاة وعدم إتمامها بعد الشروع فيها وإعادتها بعد الإتمام كلّ ذلك نقض لليقين بالشكّ ، فيصحّ أن يقع الكبرى المذكورة كبرى لهذه الامور.

وأمّا بعد انقلاب الشكّ باليقين فإعادة الصلاة الواقعة في حال الشكّ بالطهارة ليس إلّا نقضا لليقين باليقين ، فلا يصحّ إجراء حكم الكبرى المذكور فيه ، وذلك أنّه يعتبر في جريان حكم الكبرى في الصغرى صدق عنوان الموضوع في الكبرى على الصغرى مع قطع النظر عن الحكم ، مثلا حكم الحرمة في قولنا : كلّ خمر حرام إنّما يجرى في المائع المخصوص بعد صدق عنوان الخمر عليه مع قطع النظر عن جريان الحرمة فيه ، وبعد صدق العنوان يجري عليه حكم الحرمة بتبع ذلك ، فكذلك الإعادة في المقام لا بدّ أن يكون مع قطع النظر عن حكم الشرع على عنوان نقض اليقين بالشكّ بعدم الجواز مصداقا لعنوان نقض اليقين بالشكّ حتّى يجري فيها حكم هذه الكبرى ، وأمّا إذا لم يكن هذا العنوان صادقا عليه لم يكن هذا الحكم جاريا فيه.

٢٩٣

وحينئذ فلا محيص عن رفع اليد عن ظهور الكلام في كون قوله : وليس ينبغي الخ ، كبرى للإعادة والالتزام بأنّ هذه القاعدة محقّقة لموضوع كبرى اخرى تكون صحّة الصلاة مستندة إلى تلك الكبرى ، لا إلى هذه القاعدة ، وهذه الكبرى يحتمل أن يكون إجراء امتثال الأمر الظاهري ، ويحتمل أن يكون كفاية إحراز الطهارة في صحّة الصلاة ، سواء كان باليقين أم بحكم الشرع وعدم اشتراطها بالطهارة الواقعيّة.

وعلى الأوّل (١) يكون المعنى أنّ حكم الشرع قد استقرّ في حقّ هذا الشخص

__________________

(١) وتظهر الثمرة بين الوجهين في صورة المعذوريّة العقليّة كما لو صلّى في النجس معتقدا بأنّه طاهر بالجهل المركّب أو غافلا عن أنّه نجس ، فإن قلنا بأنّ المعتبر هو الحكم الشرعي بالطهارة الخبثيّة فهذا خارج عن عموم التعليل ، لعدم وجود الحكم الشرعي فيه ، وإن قلنا بأنّ المعتبر إحراز الطهارة الخبثية ولو انفكّ عن الحكم الشرعي بها والاكتفاء بالشكّ المسبوق بالعلم من باب أنّه إحراز بحكم الشرع لا من باب حكم الشرع عليه بالطهارة فهذا داخل ، لوجود الإحراز الوجداني فيه.

أمّا في صورة الجهل المركّب فواضح ، وأمّا في صورة الغفلة فلأنّ الغافل كالناسي يدخلان في العمل باعتقاد أنّه صحيح تامّ الأجزاء والشرائط وإن لم يكن لهما إحراز تفصيلي لطهارة خصوص هذا الشخص من اللباس ، فكما أنّ الغافل أو الناسي عن كون هذا الشيء حيّة مستريح النفس عن إضرار الحيّة ، فكذلك هذا المصلّي أيضا مستريح النفس عن مانعيّة النجاسة.

وبالجملة ، فهذا المقدار أيضا مرتبه من الإحراز ، غاية الأمر على نحو الإجمال.

فإن قلت : لا يمكن حمل التعليل على الوجه الثاني ، وذلك لما تقرّر في محلّة من أنّ اليقين إذا اخذ طريقا موضوعا للحكم ولم يكن للواقع مدخليّة في الحكم أصلا فلا يمكن استفادة تنزيل الشكّ منزلة اليقين بالنسبة إلى هذا الحكم من دليل التنزيل مثل قوله : لا تنقض اليقين بالشكّ ، وعلى هذا الفرض يكون موضوع الشرطيّة نفس اليقين من دون مدخليّة للطهارة الواقعيّة فيه.

قلت : يمكن فرض الطهارة الواقعيّة بحيث لا تخلو عن الأثر رأسا بفرضها موضوعا في الطول ، بأن يكون المعتبر أوّلا هو الطهارة الواقعيّة ، وعلى فرض عدمها كان المعتبر إحرازها.

ثمّ الظاهر من الرواية هو الوجه الثاني ، وذلك لما يستفاد من الأخبار وكلمات الأخيار من أنّ المعتبر مجرّد عدم سبق العلم بالنجاسة ، وهذا يشمل صورة الجهل المركّب والغفلة.

٢٩٤

بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ ووجوب الجري على اليقين السابق ، ولازم استقرار هذا الحكم في حقّه كون صلاته شرعيّة وواقعة بحكم الشرع ، وكلّ صلاة كانت شرعيّة ومطلوبة للشرع في زمان وقوعها تكون مجزية ، أو أنّها مجزية في هذا المقام وإن لم يكن كذلك في سائر المقامات.

وعلى الثاني يكون المعنى أنّ حكم الشرع قد استقرّ في حقّه بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ ووجوب الجري على اليقين السابق ، ولازم استقرار ذلك في حقّه كون صلاته واقعة مع إحراز الطهارة بحكم الشرع ، وكلّ صلاة كانت واقعة مع إحراز الطهارة بحكم الشرع صحيحة وإن صادفت مع النجاسة الواقعيّة ؛ لأنّ الشرط نفس الإحراز وهو لم ينكشف خلافه بعد.

وبعبارة اخرى : يكون المعنى على الأوّل أنّ تحقّق اليقين بالطهارة سابقا والشكّ فيها لاحقا موجب للأمر الظاهري بالصلاة في حال الشكّ ، وامتثال الأمر الظاهري موجب للإجزاء ، وعلى الثاني أنّ تحقّق اليقين بالطهارة سابقا والشكّ فيها لا حقا موجب للأمر الظاهري بالصلاة في حال الشكّ ، فإجراء الطهارة حاصل

__________________

فإن قلت : نحن نقول إنّ المعتبر إمّا الطهارة الواقعيّة ، وإمّا حكم الشرع بالطهارة الخبثيّة من طريق الاستصحاب ، فلا يجوز التعدّي إلى صورة المعذوريّة العقليّة ، بل ولا إلى صورة وجود الحكم الشرعي بالطهارة الخبثيّة من غير طريق الاستصحاب كصورة وجود البيّنة أو إخبار ذي اليد أو أصالة الصحّة في عمل الغير على الطهارة.

قلت : لا وجه للاقتصار بعد فهم العرف إلغاء خصوصيّة الاستصحاب ، نعم لو ادّعي انصراف الرواية عن الشبهة الحكميّة ونسيان الحكم كان له وجه ، بأن يدّعى انصرافها إلى صورة الجهل بما هو النجس مع الفراغ عن النجاسة ، كالجهل بوجود الدم ، في الثوب بعد الفراغ عن نجاسة الدم دون صورة الجهل بأصل النجاسة مع الفراغ عن وجود الموضوع في الثوب ، فلو اعتقد بأنّ فضلة الخفّاش طاهرة لقيام خبر ثقة على ذلك فتبيّن خلاف ذلك وخطاء الطريق فلا تشمله الرواية.

ولا يخفي أنّ الجهل بالحكم ونسيانه خارجان عن سائر الأخبار الخاصّة كما يظهر بمراجعتها وعن عموم خبر لا تعاد أيضا ، كما مرّ تحقيقه فراجع.

٢٩٥

بهذا الأمر الظاهري وهو كاف في صحّة الصلاة.

وعلى كلا التقديرين يكون الحكم بعدم الإعادة معلّلا بنفس حكم عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، لا يصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ بأن يكون المراد إجراء حكم عدم الجواز بتوسّط صدق هذا العنوان ، فافهم لكي لا يشتبه عليك صدق العنوان بنفس الحكم ، بمعنى أنّ الإعادة في مفروض الرواية يكون معاملة مع حكم لا تنقض معاملة العدم ومخالفة لهذا الحكم باعتبار الكبرى الثابتة فوقه ، لا أنّها تكون نقضا لليقين بالشكّ.

والعجب من بعض الأساتيد قدس‌سره حيث إنّه لمّا تخيّل بعض جعل إفادة امتثال الأمر الظاهري للإجزاء كبرى مطويّة في الكلام عدل عن ذلك ؛ لكونه مخالفا لما هو الظاهر من الكلام من استفادة عدم وجوب الإعادة من نفس قاعدة لا تنقض وحدها بلا حاجة إلى وساطة كبرى مطويّة ، واختار هو قدس‌سره تصحيح الاستدلال بهذه القاعدة بجعل الطهارة شرطا علميّا يعتبر إحرازها ، لا واقعيّا يعتبر نفسها.

وأنت خبير بأنّه على هذا أيضا لا يمكن استفادة عدم وجوب الإعادة من نفس قاعدة لا تنقض ، بل يكون الاستدلال بحكم التحريم الثابت لعنوان نقض اليقين بالشكّ باعتبار كبرى مطويّة هي كون الطهارة شرطا علميّا ، فيشترك هذا مع ما ذكره المتخيّل في الاحتياج إلى الكبرى المطويّة.

وكيف كان ، فالاستدلال بالرواية للمدّعى من حجيّة الاستصحاب تامّ على كلّ حال؛ لإنّها على كلّ تقدير تدلّ على أنّ تحقّق اليقين السابق والشكّ اللاحق موجب للأمر الظاهري بالعمل على طبق الحالة السابقة.

توهّم ودفع ، أمّا الأوّل : فهو أنّه لا يمكن جعل قوله عليه‌السلام : وليس ينبغي الخ كبرى لعدم وجوب الإعادة بناء على الوجه الأوّل أيضا من حمل قوله : فرأيت فيه ، على رؤية النجاسة بعد الصلاة مع عدم العلم بكونها هي النجاسة السابقة ، وذلك لأنّ وجوب الإعادة وعدم وجوبها من الآثار العقليّة ، لتماميّة الصلاة شطرا أو شرطا ونقصانها ، فوجود الطهارة في حال الصلاة أثره العقلي عدم وجوب

٢٩٦

الإعادة ، ووجود النجاسة في حالها أثره العقلي وجوبها ، فاستصحاب الطهارة بلحاظ هذا الأثر العقلي أصل مثبت.

وأمّا الدفع ، فهو أنّ وجوب الإعادة وعدم وجوبها وإن كانا حكمين عقليّين ، إلّا أنّ منشأهما بيد الشرع ؛ إذ للشارع أن يعتبر شيئا في المأمور به حتى تجب الإعادة بدونه ، وله أن لا يعتبره فيه حتّى لا تجب الإعادة بدونه ، فإذا حكم الشارع في حال الشكّ في الطهارة والنجاسة لاحقا مع العلم بالطهارة سابقا لعدم نقض اليقين بالشكّ ، فمقتضى ذلك رفع اليد عن اعتبار الطهارة في حال الشكّ ، ولازم ذلك عقلا عدم وجوب الإعادة ، فيكون هذا الأثر ثابتا لنفس الحكم الاستصحابي ، وقد حقّق في محلّه أنّ الأثر الثابت لنفس الحكم الاستصحابي مترتّب وإن كان عقليّا كوجوب الامتثال.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى قدّس سرّة بعد ذكر عدم إمكان جعل قوله عليه‌السلام : وليس ينبغي الخ ، كبرى لعدم وجوب الإعادة بناء على الوجه الثاني من حمل قوله : فرأيت فيه على رؤية النجاسة السابقة بعد الصلاة ، ذكر إشكالا حاصله أنّ مقتضى عدم نقض اليقين الحاصل قبل ظنّ الإصابة بالشكّ الحاصل حال الشروع في الصلاة أمران ، جواز الدخول في الصلاة، وعدم وجوب إعادتها بعد الإتيان ، فالإعادة بعد اليقين بالنجاسة نقض لليقين الأوّل بالشكّ المذكور ، فيصحّ الاستدلال على عدم وجوبها بقاعدة عدم نقض اليقين بالشكّ.

فأجاب عن هذا الإشكال بأنّ عدم وجوب الإعادة أثر عقليّ لصحّة الصلاة ، فلا يمكن إثباته بالاستصحاب ، ثمّ ذكر الوجه الأوّل بعد ذلك بأسطر قليلة وحكم بأنّه سالم عمّا يرد على الوجه الآخر ، فمقتضى حكمه قدس‌سره بالسلامة في هذا الوجه اندفاع إشكال كون عدم وجوب الإعادة أثرا عقليّا بما ذكرنا من كون منشائه بيد الشرع ، ومقتضى جوابهقدس‌سره عن الإشكال المذكور يكون عدم وجوب الإعادة أثرا عقليّا عدم سلامة الوجه الأوّل عن هذا الإشكال أيضا ، فبين كلاميه قدس‌سره تهافت واضح.

٢٩٧

والحقّ اندفاع هذا الإشكال عن كلا الوجهين بما ذكرنا من كون المنشأ بيد الشارع ، واندفاع الإشكال المذكور بما عرفته سابقا من أنّ الإعادة في حال اليقين بالنجاسة نقض لليقين باليقين لا بالشكّ ، فلا يمكن الاستدلال على عدم وجوبها بقاعدة عدم نقض اليقين بالشكّ.

ومنها صحيحة ثالثة (١) لزرارة ، والمرتبط بالمقام فقرة منها ، وهي قوله : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشك باليقين ويتمّ على اليقين فيبنى عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات.».

والتكلّم يقع تارة في تقريب الاستدلال واخرى في معنى الحديث ، أمّا تقريب الاستدلال فاعلم أنّ قوله : لا ينقض اليقين بالشكّ في هذه الرواية ليس مثله في الروايتين الأوّلتين ، وذلك لأنّه فيهما كان مسبوقا بإثبات اليقين والشكّ مثل قوله : فإنّه على يقين من وضوئه ، وقوله : فإنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وهو عند مسبوقيّته بذلك يصير ظاهرا في الكليّة والكبرويّة ، وهذا بخلافه هنا ؛ فإنّه غير مسبوق بذلك ، فمن المحتمل أن يكون تكرارا وتأكيدا لقوله : قام فأضاف إليها اخرى.

وحينئذ لا يمكن استفادة الكليّة منه إلّا أن يتشبّث في استفادة الكليّة منه بقوله في الذيل : ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات ، فإنّه لا إشكال في استفادة الكليّة من هذه العبارة ، غاية ما في الباب أنّه يدور الأمر بين اختصاص الكليّة بباب الصلاة ، وبين عدم اختصاصها بباب ، وقد عرفت في الصحيحة الاولى أنّ خصوصيّة المقام ملقاة بنظر العرف.

__________________

(١) راجع ص ٥٠٦.

٢٩٨

وأمّا معنى الحديث فيشكل بأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : قام فأضاف إليها اخرى اتّصال الركعة المضافة بأصل الصلاة ، وهذا أيضا ظاهر من التعبير عن إتيانها بعدم نقض اليقين بالشكّ ؛ فإنّ الركعة الأخيرة كانت معلومة العدم في السابق ، ومقتضى معاملة اليقين بعدمها في اللاحق هو الإتيان بها متّصلة ، فإنّ ذلك عمل من يتيقّن بعدم الركعة الأخيرة ، وهذا مخالف لما عليه العلماء الخاصّة رضوان الله عليهم من انفصال الركعة عن أصل الصلاة.

وقد يجاب بأنّ الرواية صدرت على وفق مذهب العامّة تقيّة ، فإنّ مذهبهم في الشكوك المتعلّقة بركعات الصلاة هو البناء على الأقلّ.

وفيه أنّ هذا بعيد من جهة أنّ صدر الرواية وهو قوله : قلت له : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين ، قال : يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، ظاهر في انفصال الركعتين بقرينة تعيين فاتحة الكتاب ، ومن البعيد مراعاة التقيّة في الفقرة الثانية من الرواية مع مراعاة خلافها في الفقرة الاولى.

وأجاب شيخنا المرتضى قدس‌سره بأنّ المراد باليقين في قوله : لا تنقض اليقين بالشكّ هو الاحتياط الذي قرّره الشرع في حقّ الشاك في إتيان الركعة الرابعة ، فإنّ أمر المصلي بعد جعل هذا الاحتياط في حقّه يدور بين البناء على الأكثر وإتمام الصلاة ، والبناء على الأقلّ والإتيان بالركعة متّصلة ، وهو فيهما يشكّ في صحّة صلاته ، لاحتمال النقيصة في الصورة الاولى والزيادة في الثانية ، وبين أن يعمل بالاحتياط المزبور وهو البناء على الأكثر ثمّ الإتيان بالركعة منفصلة ، وهو حينئذ يقطع بعدم الزيادة والنقيصة في صلاته ، فالمراد بقوله : لا تنقض الخ أنّ اليقين بعدم الزيادة والنقيصة بإعمال هذا الاحتياط لا يترك بواسطة الشكّ فيهما بالبناء على الأقلّ أو الاكثر ، فمفاده تعيين قاعدة الاحتياط دون قاعدة الاستصحا ، وبعبارة اخرى مفاده وجوب إتيان الصلاة اليقينيّة وعدم جواز الاكتفاء بالصلاة الشكيّة.

٢٩٩

وفيه أنّه مستبعد من وجهين ، الأوّل : عدم ملائمته مع مادّة النقض كما لا يخفى ، والثاني : مغايرته مع ما اريد بهذه العبارة أعني : لا تنقض اليقين بالشكّ في سائر الأخبار ، فإنّ المراد بها فيها عدم نقض اليقين السابق بالشكّ اللاحق ووجوب البناء على اليقين السابق ، فمن البعيد أن يراد بها في خصوص هذه الرواية وجوب تحصيل اليقين بالبراءة وعدم جواز الاكتفاء بالشكّ فيها.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون المراد بها في كلا المقامين معنى عامّا شاملا لكلا هذين المعنيين ، فيكون استعمالها في موارد كلّ من المعنيين من باب اندراج هذا المعنى تحت ذاك المعنى العام.

قلت : لا يمكن جمع هذين المعنيين تحت ضابط واحد ، ووجهه أنّ أحدهما عبارة عن أنّ اليقين المفروض الوجود لا ينقض بالشكّ ، والآخر عبارة عن أنّ صرف اليقين يجب تحصيله من دون ملاحظة الوجود والعدم ، والجمع بين اليقين المفروض الوجود وصرف اليقين في استعمال واحد غير ممكن ، لتنافيهما في اللحاظ.

والحقّ في توجيه الرواية أن يقال : إنّ مقتضى عدم نقض اليقين بالشكّ وإن كان إتمام الصلاة بإتيان الركعة الأخيرة ، ولكن هنا قيدا آخر للصلاة لا بدّ من إحرازه وهو عدم كونها زيادة من أربع ركعات ، ولا يمكن إحراز هذا القيد بنفس هذا الاستصحاب كما هو واضح ، ولا باستصحاب آخر وهو استصحاب عدم الزيادة ، فإنّ الصلاة مقيّدة بهذا القيد العدمي مطلوبة ، فإثبات التقيّد بالأصل المثبت للقيد لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت ، فإنّ الحكم بأنّ هذه الصلاة مقيّدة بهذا العدم موقوف على وجود أصل الصلاة في السابق واللاحق وإحراز القيد في السابق والشكّ فيه في اللاحق ، ومن المعلوم أنّ الصلاة من أوّل وجودها مشكوك الحال.

فهذا القيد نظير قيد كون اللباس من غير جزء غير المأكول حيث إنّه إن كان راجعا إلى الصلاة لا يمكن استصحابه في حال الشكّ ؛ لعدم الحالة السابقة ، وأمّا القول بأنّ أصل الصلاة محرزة بالوجدان وعدم تلبّس الشخص لجزء غير المأكول محرز بالأصل ، فثبت كون الصلاة واقعة في غير جزء غير المأكول ، فداخل في

٣٠٠